الاثنين، 4 يناير 2021

طفل لم يجد ما ينتعل!

 طفل لم يجد ما ينتعل!


مذهبي إلى المسجد يوم الجمعة، وفي حرارة القيظ، وشدة الهاجرة، ولهب الصيف؛ أبصرتُ قدّامي صبياً -في العاشرة من عمره تقريباً- يصطلي بحرّ الشمس، ويكتوي برمل الأرض المحرق، وهو يتّبع الأفياء والظلال، ويتقفز تقفز الكنغر على أصابع قدميه، هروباً من حرَق الرمال!


اقتربت منه، وسألته: أين نعلك يا بني؟

أجابني: اتقطعت علي وأبي ما عنده فلوس يشتري لي! (هكذا بلهجته)


صكّ جوابه سمعي، وأدهش عقلي، وأزعج لُبّي.

حزن -والله- قلبي، ورقّ له فؤادي.

بمَ أجيبه .. ماذا أقول له؟

خجلت منه، وخفت من ربي، أن يعاقبنا في التفريط عن هؤلاء.. أن نواسيهم بما نستطيع، ونتفقد أحوالهم بما نقدر!


أيعجز أحدنا عن شراء نعل لمثل هذا بمبلغ حقير زهيد، ودراهم معدودة؟!

بلى، الكل أو الجل يستطيع، ولكنا لا نعبأ بالآخرين، ولا نهتّم بالمسلمين!


ريالات قليلة.. تبرّد أكباد، وتطفئ لوعات، وتخفف معانات!

ولكن أين المستشعرون؟!

لا أكاد أراهم إلا في كتاب، أو أسمع بهم تحت تراب!


ساءلت وتساءلت: تُرى، كم من رجل رأى هذا الصبي وهو يستوفز من لهب الأرض التي تسطعها الشمس المحرقة!

لم أجد مجيباً!

فأجبت نفسي بنفسي: إنهم كُثر، لكن مَن منهم رحِمه، وجعله كأحد أطفاله الذين يخاف عليهم من اللفح والنفح والطفح؟!


تذكرت قول الرحيم الكريم صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين؛ حين ترمَض الفصال) رواه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.


قال النووي في (شرح مسلم: ٦/ ٣٠): "هو بفتح التاء والميم، يقال: رمض يرمض، كعلم يعلم، والرمضاء: الرمل الذي اشتدت حرارته بالشمس، أي: حين يحترق أخفاف الفصال، وهي الصغار من أولاد الإبل، -جمع فصيل- من شدة حر الرمل". 


قال أبو نعيم: لا شك أن جلدها غليظ، وجسدها سميك، ولكنها لا تتحمل حر الرمضاء في الهاجرة، فتقوم متطلبة الظل.. فكيف بقدَم صغير، لا زالت بطن قدمه رهوة رطبة، لا تقوى على حرارة القيظ.


وفي هاته اللحظة؛ تذكرت حالي، وأنا صبي في سنّه -تقريباً- -وايم الله، إن كنت لأمشي في الغداة والعشي، وفي الرواح والبكور.. دون نعل يقيني، أو لباس كامل يحميني ويحويني!


تذكرت حينها، فعل ذلك الرجل، وتلك المرأة.. اللذان سقيا كلباً؛ فغفر الله لهما، أو قال: شكر الله لهما!


وهاك القصتان:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر: (أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار، يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها، فغفر لها).

رواه مسلم.


وعنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له! قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر).

رواه البخاري.

وكبد المسلم؛ خير الأكباد.. يا أيها العباد!


ولم يدُرْ بخلد الصحابة رضي الله عنهم؛ أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، عن الإنسان، هل لهم فيه خيراً وأجراً؛ لأن ذلك عندهم من المُسلّمات والبدهيات، وقد مثلوها واقعاً في حياتهم على أكمل الوجوه وأحسنها.

واليوم، وما أدراك ما اليوم، لا تجد إلا التحاسد والتحاقد والتجاحد والتبادد والتحادد والتخادد والتنادد والترادد، وأقول كلمة خفيفة؛ خشية الحنث -إلا من رحم الله، وقليل ما هم-! 


أقول: تذكرته، فناديتُني: أبا نعيم: ضع ولدك في موقف هذا الصبي؟!

نكست رأسي، استحياء من نفسي، ثم دمعت عيني دمعات الرحمة والشفقة!


وقلت: تذكر حالك يا وليد، "كذلك كنتم من قبل" -وإن لم تجد من يرحمك أو يشفق عليك-، لكن، افعل، لعل الله يغفر لك يا وليد.

و

من يفعل الخير، لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناسِ!


ذهبت من فوري، واشتريت له نعلاً بمبلغ زهيد -أستحي والله من ذكره-، لكن لا تدرون كم هي الفرحة التي غمرت قلبه، وعمرت فؤاده، وأطفأت لهبه!

رفض أولاً، فشددت عليه، وأقسمت إلا أن يقبل،

فرضخ بعد لأي، وكأني قدّمت له شيئاً ثمينا!


صلّيت الجمعة، ونسيت ما جرى، فإذا بصبي يصافحني ويشكرني، لولا أمعنت فيه النظر، لما عرفت أنه صاحبي الذي وجدته قبل الصلاة!


تعجبت من حالنا، وكيف قست قلوبنا تجاه أبنائنا وبناتنا، وإخواننا وأخواتنا في شرق العالم وغربه، وطوله وعرضه! 

وقلت: ألا يحاسبنا الله في تفريطنا نحوهم؟

ألا نخشى سوء المنقلب والعاقبة في إهمالنا لهم؟

ألا يخاف أقوام ودول؛ أن يغير الله أحوالهم، ويغِيْر ماءهم، ويغيّر عيشهم وحالهم؟!


الناس بالناس ما دام الحياء بهم *** والسعد لا شك تارات وهباتُ


وأفضل الناس ما بين الورى رجل *** تقضى على يده للناس حاجاتُ


لا تمنعن يد المعروف عن أحدٍ *** ما دمت مقتدراً، والعيش جناتُ


قد مات قوم، وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ


إخواني: كلنا قادر أن يعين، وجميعنا مقتدر أن يخفف معاناة المُعوِزين، كل بقدر وسعه، و"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" و"لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها" لكن المصيبة، أن نبخل بالذي نستطيعه، ونشح بما نطيقه، وقد حذرنا الله تعالى، فقال: "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" وقال: "فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث".


وإن من التحديث بنعمة ربك: أن تنفق مما أعطاك، وأن تري الله من نفسك إنفاقاً وبذلاً، فهو صاحب الفضل والعطاء:


الله أعطاك، فانفق من عطيته *** فالمال عارية، والعمر رحّالُ


وليجرب كل منا الإحسان إلى الغير؛ ليرى كيف السعادة تغمره، والرعاية تحفّه، والرحمن يكلؤه.

الله كريم وهاب، وأحب الخلق إلى الله، من اتصف بصفاته سبحانه وتقدس.


هذا ما رأيته بأمّ عيني، فسطرته يميني دون كلف أو تشدق، بل أملت أصبعي عن قلبي مباشرة في دقائق متصلة، وأولادي أمامي في هداية وكفاية ووقاية، أدام الله علينا هذه الثلاث، وأذاقنا لذة الإنفاق، وبرد اليقين.

وسامحوني على التكدير، فلم أُرد إلا التذكير.

وسلام الله عليكم بدءاً وختْما.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي،،

 اليمن السعيد ١٤٣٧/٧/٢٣

مكة المكرمة ١٤٤١/٥/٧

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق