الخميس، 30 أبريل 2020

الإعلام، يجرّ المرأة إلى الحرام! تعليق على حلقة، في قناة السعيدة، من برنامج "أتحداك في نص ساعة"!


الإعلام، يجرّ المرأة إلى الحرام!
تعليق على حلقة، في قناة السعيدة، من برنامج "أتحداك في نص ساعة"!
 
ذُهلت حينما سمعت وعلمت من البعض؛ أن حلقة في برنامج (أتحداك في نصف ساعة)! في هذا العام، عام ١٤٣٧، من شهر رمضان.. كانت وقِحة سمجة، جريئة وليست -والله- بريئة! -كما يزعم البعض-.

سمعت أن التحدي: قام على قارورة ضعيفة مسكينة، ضرها الفقر، وأضرها الكسر.. فغرّها المال!

كان هذا التحدي خائساً بائساً، وهو: أن قامت شابة، بغسل ثياب شباب وكيّها، وقد أحاطوا بها كإحاطة السوار بالمعصم، وإحاطة الهالة بالقمر!
وهم متجردون من الملابس- عارية صدورهم، مفتولة عضلاتهم، بين يدي هذا الحِمل الوديع الذي خدعتها الأضواء، وغرها المال الرخيص، وسوّل لها اللسان المعسول من المقدِّم -أصلحه الله-.

هالني هذا الموقف البئيس- الذي يشجع على الاختلاط، ويقطع حبال التقوى، ويصرم آصرة الدين، ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا!

قال المنفلوطي: "وإن هي (أي: المرأة) خالطت الرجال، فالطبيعي أنها تُخالط الشهوات"!

سألت نفسي وتساءلت: ما هو الهدف من هذا البرنامج، ومن هذا السخف؟
ثم أجبت: أن هذه هي أساليب العلمانيين والحداثيين، وأعداء الإسلام أجمعين، -والإعلام بأيديهم- الذين يريدون إخراج المرأة من خدرها، وانحدارها من علوّها، وإخراجها من قمقمها المصون؛ حتى يهترئ حياؤها، ويهي نقاؤها، فما تشعر بنفسها إلا وهي بين أيدي شباب لا قبل لها بهم!

يقول المنفلوطي: "فكل جرح من جروح الأمة له دواء، إلا جرح الشرف، فإن أبيتم إلا أن تفعلوا، فانتظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم الجديدة سعداء آمنين".

إذا ماتَ الحياءُ بقلبِ أُنثى؟ *** فتبّاً ثم تبّاً للجمـالِ
وإن عاش الفتى للعِرْضِ ذِئبٌ؟ *** فَعارٌ أن يُعدّ من الرجالِ


لا أرسل التهم على عاهنها، ولا أخص شخصاً معيناً، أو برنامجاً مخصصاً.. لأن هذه نوايا، لا يعلمها إلا رب البرايا، ولكني أتساءل أخرى: ما الهدف من هذه الحلقة؟! 
إن قلتم: التسلية؟ ففي التسلية مجالات لا تحد ولا تعد؛ فلمَ تحصروها في زاوية ضيقة؟! لمَ تتناولون فيها القيم؟! لماذا تخرجون المرأة من القمم إلى الرمم؟!

والحقيقة: أن قناة السعيدة، تقمصت لباس التدين، وفيها من الخبث ما العليم به عليم.
وذلك؛ لتجرئها في بعض برامجها خطوط الحياء، وامتهان المهنة.

وليست هي فحسب؛ فإن إعلام العالم العربي والإسلامي -إلا القليل-؛ إعلام هابط ساقط حابط، يشجع الرذيلة، ويسرِع ويسرّع الخطى نحو فشو القذر!

إعلامٌ مشتراة ذممه للغرب الكافر الحاقد على الإسلام والمسلمين.
ولكن: "والله غالب على أمره".


أيها الإعلاميون: المرأة، هي أمي وأمكم .. وأختي وأختكم .. وعمتي وعمتكم .. وخالتي وخالتكم .. وقريبتي وقريبتكم.. فإذا سعينا لإفسادها؛ فقد أفسدنا أنفسنا وبيوتنا ونسلنا!

مَن يربي أبناءنا وبناتنا، وهي مشغولة بلقاء مسؤول، أو معها موعد مع المدير، أو لديها مقابلة تلفزيونية... وهكذا من التنزلات والتنازلات! 

أنريد أن نصل بالمرأة العربية، إلى حال المرأة الغربية، التي تعاني الأمَرّين؟!

اسألوا المرأة الغربية، واقرؤوا لها، وانظروا: هل هي في سعادة؟!
إنها قد نالت كل أنواع المسخ والوسخ، والحرية، ولكن بدون ذرية!

ذهبت، وخرجت، وصاحبت، وسافرت، وضاحكت، ومازحت، وعافست، ومازجت، بل ربما زنت، فماذا جنتْ؟!

اسألوها، إن كنتم صادقين؟! تخبركم، أن حالات الطلاق في ازدياد مستعر، وقضايا الانتحار في ازدياد مستجر، والعوانس بلغن الملايين، والعهر وصل أمده، واللقطاء لا يسعهم ظل سقف، والإيدز عم وطم وهكذا هي نتائجهم لا نتائجنا!

هذا ما وصلت إليه المرأة الغربية، فهل تريدون بناتنا وأخواتنا كذلك؟!

أختاة: إن دعاة الحرية والمساواة -زعموا-؛ لهمُ أداة بيد الغرب الكافر الحاقد اليهودي الصليبي، وهم مسيّرون "يخربون بيوتهم بأيديهم"، لكن أيديكن وأيدي المؤمنين، لهم بالمرصاد، وإن "يد الله فوق أيديهم" وإن "كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم".

ويستحضرني قصة ذلك الرجل المسكين المخدوع ببهرج أوربا، وزيف أمريكا.. فنصح له أصحاب الغَيرة، ومنهم الأديب الأريب: مصطفى لطفي المنفلوطي، فأبى إلا مسايرة الغرب على حساب الدين والعفة!
فكانت النهاية؛ أن وجد زوجته، في أحضان أصحابه المستغربين!
وهذه نهاية كل من أهمل دين الله، أو تهاون بالفضيلة!

قال أبو نعيم: وبعد هذه المأساة التي خطها يراع هذا الأديب الغيور- وإني لأكتبها ومدامعي منسكبة، وأناملي مرتعشة، وقلبي يرتجف، ولكني أحسّ بشيء من اليقين: أن أختي الفاضلة القارئة لسطوري هذه؛ تدرك بل وأدركت حجم المؤامرة الكبرى عليها؛ فتعود وتؤوب وتتوب إلى علام الغيوب، وغافر الذنب، وقابل التوب -لمن رجع- شديد العقاب -لمن أصر على نزع الحجاب، والتهاون بستر الثياب-.

فالله الله، بالنظر إلى ما يريده الله تعالى منا، ثم النظر إلى ما يريده أعداؤنا منا؟
والجواب: "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما"!

هذا مختصر القضية كلها، لخّصها الله العليم الحكيم، في آية واحدة.


وهنا، أسجّل كلمة شكر واعتلاء، وشرف واجتلاء.. للمرأة اليمنية خصوصاً، والمرأة المسلمة عموماً، وأقول لها:
فلا تبالي بما يُلقون من شبهٍ *** وعندك الشرع، إن تدعيه يستجبِ

أنت الكريمة يا كريمة .. يا ابنة الإسلام .. يا حفيدة المسلمين .. يا قريبة الأبطال- الذين فتحوا البلدان، وعمروا العمران، ومصروا الأمصار، وشقوا الأنهار.

أنت: الشريفة، والكريمة، والعزيزة، والنبيلة، التي تطيعين ربك، وتعصين شيطانك، وتذلين مغويك!

أنت المقتدية بنساء رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام، ونساء الصحب الكرام- الذين بذلوا الغالي والنفيس؛ لإيصال هذا الدين والعفّة إليك. والآن.. يريدون سلبها ونهبها؟! 


اللهم خذ بناصيتنا للبر والتقوى، ووفقنا لما تحب وترضى.
اللهم عليك بأعداء الدين، من اليهود والنصارى والملحدين والعلمانيين والحداثيين والليبراليين، وكل من صد عن سبيلك، وبغاها عوجاً.


وكتب: أبو نعيم، وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/٩/١٠
١٤٤١/٩/٨



المغتالون لرمضان!


المغتالون لرمضان!

يفرح المسلمون بحلول شهر رمضان المبارك ويستبشرون، ويأنسون ويبتهجون.
ولكن عند المحص والفحص في الأسباب الباعثة على الفرح؛ تجد الناس في ذلك أصنافاً.

فمنهم من يفرح برمضان؛ لأنه شهر القرآن والطاعة، ولما وردت فيه من الفضائل الفخيمة، والمزايا العظيمة،
وهذا هو فرح المؤمنين، الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه، قائلاً: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك).

فإن نفوسهم إليه مشتاقة، والقلوب إليه متلهفة، والعيون فيه باكية، والأنفس خاشعة؛ لأنهم يزدادون فيه من طاعة الرحمن، ويسابقون ليحوز الجنان، ويحظون بالنظر إلى الرحيم الرحمن.
كيف، وقد كان بعضهم: يقفل تجارته في رمضان؛ ليتفرغ التفرغ التام، للصلاة والصيام والقيام.

"أما بعد -عباد الله- فأوصيكم ونفسي بتقواه، فإنما الرابح في الدنيا والآخرة من اتّقاه. وأحذركم ونفسي معصيته، فإنما الخاسر في الدنيا والآخرة من عصاه.
هذا شعبان قد ودّعناه، وقد علمتم ما أودعناه، فكم من مَساوٍ وقبائح، ومخازٍ وفضائح!
وهذا رمضان قد حان نزوله، فبماذا نستقبله؟ أترانا نُصِرّ على مساوينا، ونستمر على مخازينا؟ فإن كان ذلك؛ فإنها لأجحف خسارة، وأخسر تجارة".
(مجموع آثار المعلمي: ٢٢/ ٩٢)

وهؤلاء، هم بالجائزة فائزون، وللفضائل حائزون، "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".


وفريق آخر: يفرح برمضان فرحاً دنيوياً؛ لما فيه من زيادة المطعومات، وأنواع المشروبات، وكثرة النوم، ومخالطة القوم، والإقبال نحو المسلسلات ونحوها من الغفلات!

وهؤلاء هم المغتالون لرمضان، والطاعنون له في خاصرته.
وهم -في الغالب- يدخل عليهم رمضان ويخرج؛ وهم هم، لا يغيرون أخطاءهم، ولا يبدلون سيئاتهم، بل ربما فقدوا بعضاً من حسناتهم، وضاعفوا آثامهم!

"فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان.. كان الذي تفوته المغفرة فيه؛ محروماً غاية الحرمان، وفي صحيح ابن حبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صعد المنبر، فقال: (آمين آمين آمين) قيل: يا رسول الله -إنك صعدت المنبر، فقلت-: آمين آمين آمين؟ فقال: إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له، فدخل النار؛ فأبعده الله! قل آمين؟ فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه، أو أحدهما، فلم يبرهما، فمات، فدخل النار؛ فأبعده الله! قل: آمين؟ فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده، فلم يصل عليك، فمات، فدخل النار؛ فأبعده الله! قل: آمين، فقلت: آمين).
(لطائف المعارف: ٢١١)

رمضان: يشكو هؤلاء الذين اتخذوه مطية لشهواتهم، ومنفذاً للذاتهم، يمرحون في لعبهم، ويسرحون في لهوهم.
نهارهم نائمون، وليلهم صاخبون، على أنواع الألعاب والأعطاب، من مسلسلات وأضحوكات، ونحوها من الأحبولات!

وأكثر ما يشغل هذا الصنف؛ هي القنوات الفضائية التي جعلت رمضان؛ ميداناً للمسابقات، ومرتعاً للمسلسلات، ومحطاً للأقصوصات!
حتى صار رمضان عندهم، مرتبطاً بهذه الملاهي، وذاك التلاهي، فإن فقدوها؛ فقدوا حلاوة رمضان!
وقد شهدت بنفسي، في زمن وبلد ما.. أن الكهرباء كانت منقطعة؛ فحزن هؤلاء وشجنوا!
حتى أن بعضهم: استلفوا المال؛ ليشتروا ما يقوم مقام الكهرباء!
وعند وقت القصة أو المسلسل؛ تراهم زرافات ووحدانا إلى بيت هذا المكهرب!


ويا للحسرة.. أن ترى القنوات الإسلامية(!) في هذا الشهر الفضيل: يكثفون من الأناشيد، والأغاني، والأشعار، مع ما يصحب كثيراً منه؛ من: اختلاط، وكشف عورات، وضياع أوقات: "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء"! ولا قوة إلا بالله.
ولم يسلم من هذا الدغل والدخل، إلا القليل، والله المستعان!

وكان "يجب لليالي رمضان؛ أن تكون حية عند المسلمين، لا بما هم عليه من السهرات الوقحة، واللهو الماجن، والشهوات القاتلة؛ فإن هذا النوع من الإحياء؛ هو في حقيقته: إماتة لحكمة الصوم، وقتل لِسرّه وخيره، ومحو لروحانيته، وآثاره النافعة".
(آثار العلامة محمد البشير الإبراهيمي: ٢ /٢٩٣).

يا هؤلاء، ارجعوا إلى باريكم، وعودوا إلى خالقكم، فهو يناديكم باسم الإيمان، ويبين لكم ثمرة الصيام، قائلاً: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".

اقرؤوها مرات، وأمعنو النظر فيها كرات، "لعلكم تتقون".. بالله عليكم، أيّ تقوى تكسبونها من هاته الغفلات الليلية، والنومات النهارية؟!
أين فائدة الصوم المؤثرة في أرواحكم؟!
أين ثمرة القيام المغيّرة من نفوسكم؟!
أين أين؟!

اقرؤوا في سيرة قدمائكم.. كيف كانوا يفرحون برمضان، ويكرمونه الإكرام اللائق به.. نهارهم صائمون لا نائمون، وليلهم قائمون لا لاعبون..

اقرؤوا سيرهم وحالهم مع القرآن الذي أنزل في رمضان؟
كم ختمة ختموها في رمضان بتدبر وخشوع، وبكاء وخضوع..

نفوسهم كنفوسنا، وقلوبهم كقلوبنا، وأجسامهم كأجسامنا، ولكنهم فاقونا بالجد والاجتهاد، والانتصاب بين يدي رب العباد، فطهروا قلوبهم؛ ونحن غششناها، وزكوا نفوسهم؛ ونحن دسسناها!

نسأل الله تزكية نفوسنا، والنأي بها عن ما يشغلها عن باريها، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
والله الموفق.


كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٨/٩/١
١٤٤١/٩/٧



الأربعاء، 29 أبريل 2020

شخصيتان متباينتان: "محمد خلف الله أحمد" و "محمد أحمد خلف الله"!

شخصيتان متباينتان: "محمد خلف الله أحمد" و "محمد أحمد خلف الله"!

هذان الرجلان تشابهت أسماؤهما، واختلفت أشخاصهما وأديانهما،(١) ووقع من الكثير خلط وخبط، وتساؤلات وتعاسفات.
فأردت المساهمة في الكشف عنهما، والتفريق بينهما؛ تمييزاً للحق، ونطقاً بالصدق.

وقد أطلت قليلاً في ذكر شيء من حياتهما، فالأول: ما في حياته من الغيرة الصادقة، والكلمة الصادعة، والثاني: ما في حياته من الفواقر البائقة، والفتن الناجمة النافقة، وهي قضية تولى كبرها، كما تولى من سبقه كبر فتنتهم: طه، وعلي، ومحمود.
وقد كان هذا، مراوغاً مناقضاً في كلامه، واغتر به بعض المتسمين، بالمفكرين، كـ محمد عابد الجابري وغيره، ولا زال بعض الأغمار إلى اليوم في الاغترار به والاجترار إليه.


أما الأول: فهو محمد خلف الله أحمد.
-أديب مصري، عالم باللغة العربية، وهو أحد أعلام سوهاج.

-حفظ القرآن الكريم صغيراً، إلى جانب طائفة كبيرة من الشعر قديمه وحديثه، كـ "المعلقات العشر"، و"مقصورة ابن دريد"، و"لامية العرب"، و"لامية العجم"، و"الألفية في النحو"، و"السلم في المنطق" وغيرها، وكان يحضر مجالس الحلقات في مساجد القرية في شهور الصيف.

-التحق بالمدارس الابتدائية والأولية، ثم القسم النظامي بالأزهر،

-تخرج في مدرسة دار العلوم العليا ١٩٢٨م، ثم درس الفلسفة وعلم النفس بـ جامعة لندن.
وعاد إلى مصر؛ ليشتغل بالتعليم، وتدرج في المناصب الجامعية حتى صار رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية الآداب، بجامعة الإسكندرية ١٩٤٧م، فعميداً للكلية ١٩٥١م، ثم وكيلاً لجامعة عين شمس ١٩١٦م.

-بعد بلوغه سن التقاعد، عيّن مديراً لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية.

-كان عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وعضواً في مجلس إدارة جمعية الشبان المسلمين، ووكيلاً لمجلسها بعد ذلك.

-عرف في شبابه، بنظم الشعر الجيد، والبراعة في الخطابة، وكان يستمع له، ويعجب به كبار العلماء والأدباء في حينه.

ويذكر العلامة عبد السلام هارون في تأبينه، من (مجلة المجمع العلمي: ٥٥/ ٢٥٤) أن كبار الشعراء، أمثال: شوقي، وإسماعيل صبري، ومطران، وحافظ إبراهيم، ومحمد عبد المطلب- إلى زعماء السياسة المصريين.. كانوا يعجبون بما يسمعون من إنشاده وخطابته في المحافل الأدبية والسياسية، ويعجبون بمقدرته، وثقافته الواسعة.

-كان من المنادين بلبس الزي المدرسي القديم دون الجديد.

-كان داعية إلى اللغة العربية الفصحى، على أن تكون هي لغة الحياة.

-نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب، سنة ١٩٧٠م.

-كان شديد الاعتزاز بدينه الإسلامي، ولغته العربية، وهويته الإسلامية.. فها هو ذا يهدي كتابه (دراسات في الأدب الإسلامي) إلى ولده أحمد كمال، ويقول له فيه: "أي بني، نشأ أبوك نشأة دينية، حبب إليه فيها بدرس القرآن وتدبره، والاهتداء بهدي الرسول الكريم وسننه، وقد دأب في كبره.. أن يتخذ من ذكريات الهجرة النبوية كل عام موسماً؛ لإطالة الفكر والتأمل في ناحية من النواحي الثقافية والإسلامية في أبطالها وأدبائها ومؤلفيها، وها هو ذا يهدي إليك بعض ثمار هذه الدراسات، لعلك واجد فيها في مرحلة شبابك غداء لروحك، وبعثاً لعزيمتك، وحثاً لقريحتك على الدرس والتفكير".
(مجلة المجمع العلمي: ٥٥/ ٢٥٨).

وتلحظ في هذه الوصية السامقة: الصلة بالقرآن، والائتساء بسيد ولد عدنان، والتشرب من الثقافة الإسلامية، والاقتداء بأبطالها وأدبائها.

بل يذكر في مذكراته عن نفسه: أنه كان في حالة من العبادة والتدين إلى درجة كانت تقلق والده وأهله؛ مخافة أن تشغله هذه الحال عن الاهتمام بشؤون الدنيا، والعمل لها!

ويقول من قصيدة له:
ولي همامة نفسٍ *** تجوز شأو السحابِ
ألزمتها في صباها *** مواقف المحرابِ
أوردتها سلسبيلاً *** من سنة وكتابِ

ويذكر في مقاله: "تجربتي مع الحياة": أنه نشأ حياة ذات نظام من السلوك الأخلاقي والاجتماعي، يستند إلى عاطفة قوية من الانتماء العربي الإسلامي، وأنها كانت ركناً هاماً في بناء شخصيته، ومسيرة حياته.

-تزوج في إنجلترا، بزميلة له هناك، ولا زال بها -رحمه الله- حتى اعتنقت الإسلام، وسجلت إعلانها في السفارة المصرية.
ولحبه وشغفه باللغة العربية؛ أقبلت الزوجة الإنجليزية على تعلم العربية.

-لزم في آخر عمره.. القرآن الكريم وتفسيره، يقول في مذكراته: "وبعد، فمنذ معتكفه في الإسكندرية مع أسرته، وجد صاحبنا راحته النفسية والروحية في ملازمته لتلاوة القرآن الكريم وتفسيره ... وقد اختار من بين مكتبته في القاهرة لمطالعاته في عزلته؛ (تفسير القرآن) لابن كثير، وأجزاء من (تفسير الإمام رشيد رضا)، ومجموعة أجزاء (البخاري) و(مسلم)، و(الإحياء) للغزالي، و (بداية المجتهد) لابن رشد، وكتاب (الأغاني) بأجزائه، للأصفهاني.

-جعل مكتبته بين يدي طلاب العلم في قريته، يقول: "وأما بقية مكتبته.. فقد عهد إلى إخوته ببقائها كلها إلى منزل العائلة، على أن تكون في متناول طلاب العلم في بلده (العمرة) وهو يذخر ثواب ذلك عند العليم بأسرار العباد ونواياهم، ويسأل الله من فضله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة".

-له تواليف وتحاقيق كثيرة، منها:
-الطفل من المهد إلى الرشد، وهو أول تواليفه.
-من الوجهة النفسية، في دراسة الأدب ونقده.
-دراسات في الأدب الإسلامي.
-معالم التطور الحديث في اللغة العربية وآدابها.

ومن أهم بحوثه:
-الثقافة العربية بين الثقافات العالمية الكبرى.
-نصيب العرب في تطوير دراسات البلاغة.
-وثائق من الأدب الإسلامي.
-وظيفة الشعر عند شوقي.
-رحلة طه حسين مع الشعر العربي.
-مجموعة القرارات العلمية من
الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين (أخرجها بالاشتراك مع محمد شوقي أمين، ١٣٨٢هـ/ ١٩٦٣م.
-التفسير الوسيط للقرآن الكريم، كان أحد لجنة التنسيق، سنة ١٣٩٣ه‍، وكان الانتهاء منه سنة ١٤١٢ه‍‍.

ومن تحاقيقه:
-التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية، للصغاني، تحقيق بالاشتراك مع عبد العليم الطحاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم)؛ راجعه: عبد الحميد حسن، محمد خلف الله أحمد، محمد مهدي علام - القاهرة: دار الكتب المصرية، سنة ١٣٩٩.
-المعجم الوسيط، إخراج: إبراهيم أنيس - عبد الحليم منتصر - عطية الصوالحي - محمد خلف الله أحمد، صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة - الطبعة الثانية.
-كتاب الجيم، لأبي عمرو إسحاق بن مرارا لشيباني، حقق الجزء الأول منه: إبراهيم الإبياري، وراجعه: محمد خلف الله أحمد.
-رسائل في إعجاز القرآن..
الأولى: للرماني، والثانية: للجرجاني، والثالثة: للخطابي؛ طبعت في القاهرة في دار المعارف، بالاشتراك مع الدكتور محمد زغلول سلام.
-كتاب في أصول اللغة، أخرجها وضبطها وعلق عليها، بالاشتراك محمد شوقي أمين ١٣٨٨هـ/ ١٩٦٩م.


وبعد هذه الحياة، المليئة بالعلم والدعوة والغيرة.. توفي صاحبنا، عام ١٤٠٤ه‍، ١٩٨٣م، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه جناته الشاسعة.(٢)


أما الآخر، فهو: محمد أحمد خلف الله.
-كاتب سياسي مصري، درس في كلية الآداب، ومعهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وتخرج من كلية الآداب بجامعة القاهرة.

-شغل منصب وكيل وزارة الثقافة المصرية، ومنصب نائب رئيس الحزب، ورئيس تحرير مجلة اليقظة.

-كان من مؤسسي حزب التجمع، يساري ماركسي شيوعي، كما يقول عنه سامي الذيب (في اليوتيوب).

-يعدُّ من المنظرين الأساسيين للفكر التوفيقي بين الماركسية والقومية العربية.

-ينتمي إلى الاشتراكية العربية، ولكنه يتجاوز تلك الشعارات الإطلاقية إلى الإعلان الحقيقي عن هويته (الاشتراكية العلمية) التي أراد أن يجعل منها هوية الاشتراكية العربية نفسها.

-له آراء شاذة، بل بعضها إلى الكفر مادة جادة خادة، منها، رسالته الأكاديمية البائرة: (القصص في القرآن)(٣) التي ردها الأحمدان(٤): أحمد أمين، وأحمد الشايب، الأول: لضعف منهجي، والثاني: لأمر ديني، وهو ما فيها من آراء كفرية.
منها: أن قصص القرآن ليس بالإلزام تصديقها، بل هي قصص فنية!
ويرى الطنطاوي -في ذكرياته-: أنها جمعت الأمرين معاً.
ينظر: (مذكرات الطنطاوي: ٦/ ٢١٧).

وقد قضى علماء الأزهر، بمنع تداولها؛ لإسفافها وإجحافها، ولكن -للأسف- دافع عنه، وعن رسالته، الأستاذ أمين الخولي -الذي كان مشرفاً عليها- بل كتب مقالاً، ذكر أنه مع الطالب، ومع كل لفظة في رسالته، مما حدا ببعض العلماء آنذاك، إلى تكفيره، أمثال: الشيخ عبد الفتاح بدوي، وتعجب الطنطاوي منه غاية!

وللأسف، فقد وافقت الأستاذة المحققة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) زوجها (أمين)، على إقرار ما في الرسالة!
ينظر: (مدخل إلى علم التفسير: ١٧٠)، للدكتور محمد بلتاجي.

قلت: (والمجالسة تقتضي المجانسة) و (الصاحب ساحب) فكيف إذا كان زوجاً أو زوجة، وما قصة عمران بن حطان عنا ببعيد!

ويلخص أحمد أمين، كتابه هذا، فيقول: "وقد وجدتها رسالة ليست عادية؛ بل هي رسالة خطيرة، أساسها: أن القصص في القرآن، عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أن محمداً فنان بِهذا المعنى"!
ثم قال: "وعلى هذا الأساس، كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب هذه الرسالة، وكيفية بنائها".
ثم أورد الأستاذ أحمد أمين، أمثلة منتزعة من الرسالة، تشهد بما وصفها به في هذه العبارة المجملة(٥).

وله مؤلفات وبحوث عديدة، منها:
-الفن القصصي في القرآن الكريم.
-القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة.
-القرآن والدولة.
-مفاهيم قرآنية.
-القرآن والثورة الثقافية.
-هكذا يبنى الإسلام.
-الأسس القرآنية للتقدم.
-محمد والقوة المضادة.
-صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية.

ومن أبرز أساتذته: طه حسين، ومصطفى عبد الرازق، وأحمد أمين، وأمين الخولي.

وتأثر به بعض الناس، أمثال: حسن حنفي، وخليل عبد الكريم، وسيد القمني وغيرهم من الأقماع.

وقد هلك ونفق، سنة ١٩٨٦، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم!(٦)


وبعد هذا التطواف، ندرك الفرق بين الشخصيتين المتناقضتين..(٧) فالأولى من أهل الصلاح والإصلاح، والثانية من حزب الكساح والانبطاح!
نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
(اللهم يا ولي الإسلام وأهله، مسّكنا بالإسلام حتى نلقاك به).


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/٦/٩
١٤٤١/٧/١٨



ح.........
(١) كان أول المنبهين لهذا الخلط، هو أول المُخَلَّطَيْن، وهو الأستاذ الفاضل: محمد خلف الله أحمد؛ فقد نبه على ذلك في (مجلة الرسالة، العدد ٧٤٦، يقول: "إن هذا التشابه في الاسمين؛ قد اضطرني أن أنبه إليه مراراً في الصحف اليومية، في
مناسبات سابقة، ولكنه في الموقف الحاضر، يوشك أن يشوه بعض ما يعرف القراء عني، من التزام لجادة الحق والعلم والدين في كتبي ومقالاتي".

(٢)وللمزيد عنه، ينظر:
-محمد خلف الله أحمد: محمد خلف الله أحمد بقلمه -مجمع اللغة العربية- مطبعة المختار الإسلامي- القاهرة.
-مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاماً -الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة ١٩٨٦م.
-مجلة المجمع العلمي: ٥٥/ ٢٥١- ٢٧٣).
(تكملة معجم المؤلفين: ٤٧٧)، للأستاذ محمد خير رمضان يوسف.
وبعض المراجع المتفرقة التي استفدتها من ثنايا اللقاءات أو التأبينات.

(٣)سبّب هذا الكتاب، في عام ١٩٤٧م، معركة، كمعارك سابقيه: طه حسين، في كتابه "الشعر الجاهلى" عام ١٩٢٦م، وعلي عبد الرازق، في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، الصادر عام ١٩٢٥م، ومحمود أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) ولم يخلو، من ردود مفحمة، وأجوبة معجمة من أهل العلم والفهم، فلله الحمد.

والجادة المتبعة: أن جميعهم عالة على غيرهم من الكفار، في آرائهم المعوجة!
وليس بعازب عنك، تعويلهم على غيرهم من المستغربين الكفرة، فلا أطيل عليك.

ينظر كتاب: (الطعن في القرآن الكريم و الرد على الطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري: ٣٤٤) للدكتور عبد المحسن بن زبن المطيري.

ومن جعل الغراب له دليلاً *** يمر به على جيف الكلابِ!

آخر:
إذا نطق الغرابُ، وقال خيراً *** فأين الخير من وجه الغرابِ

(٤)قال في مقال له، في الرسالة، العدد: ٧٤٨، بعنوان: الأسطورة والإعجاز القرآني! "والآن، أفلا يزال الأحمدان الفاضلان، عند رأيهما من أنا نستحق- أن نتهم بالكفر، ونرمى بالزندقة، ونوصم بالإلحاد".

(٥)ينظر، مجلة: (الهداية الإسلامية: الجزآن: السابع والثامن من المجلد العشرين، محرم وصفر عام ١٣٦٧هـ، والجزآن: الأول والثاني من المجلد الحادي والعشرين، رجب وشعبان عام ١٣٦٧هـ وفيه رد عليه للعلامة محمد الخضر حسين التونسي.
وينظر: (منهج المدرسة العقلية الحديثة: ٤٤٥) وكتاب (اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر: ٣/ ٩٥٧) للدكتور فهد الرومي.
وأيضاً: (مذكرات الطنطاوي: ٦/ ٢١٨).

(٦)وللمزيد عنه، ينظر:
-كتاب (أباطيل وأسمار: ٢٢٠ - ٢٣١) ضمن رده على لويس عوض وأمثاله)، للشيخ محمود محمد شاكر.
ويراجع ما كتبه الأستاذ أنور الجندي عنه:
-محمد أحمد خلف الله بناء الواجهة الشعوبية، في كتاب (مقدمات العلوم والمناهج: ٤/ ٤٣٥).
-دحض شبهات الدكتور محمد أحمد خلف الله، في كتاب (في مواجهة الحملة على الاسلام: ١٣٥).
-كتاب الفن القصصي في القرآن محمد أحمد خلف الله، في كتاب (مؤلفات في الميزان: ٦٥ - ٧٢)، و(كتاب إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام ٣٣ - ٢٤٦ - ٣٠٢).
-الفن القصصي في القرآن، عبد المتعال الصعيدي - أحمد أمين - محمد أحمد الغمراوي - عبد الفتاح بدوي - أحمد الشايب - محب الدين الخطيب، في (كتاب المساجلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة: ٤٠٢).
وراجع ما كتبه عنه، محمد المبروك في (الراصد).

(٧)تنبيه: هناك آخران، شبيهان باسميهما، وهما:
-أحمد محمد خلف محمد، صاحب رسالة الماجستير، بعنوان: (المجهولون ومروياتهم في كتاب الجامع للإمام الترمذي).
-والآخر: محمد خلف الله سليمان، لعله من كتّاب السودان.

رحيل الخطاط اليمني: "خميس هويدي"- للمصحف الشريف:

رحيل الخطاط اليمني: "خميس هويدي"- للمصحف الشريف:

#وفاة_علم
توفي الخطاط اليمني خميس بن محفوظ هويدي الشبامي الحضرمي، يوم الجمعة ١٤٤١/٩/١، بالمدينة النبوية، بعد إصابته بفيروس كورونا.
وهويدي، من من مدينة شبام العريقة، بمحافظة حضرموت اليمنية، ويقيم في المملكة العربية السعودية، منذ سنوات طويلة.
ويعدّ من خطاطي كتاب الله تعالى في المدينة المنورة، ويعكف منذ سنوات على كتابه المصحف الشريف.
وللأسف، هذا ما وجدته عن الفقيد -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار.

#أمالي_رمضانية
#أنفاس_يمانية
أنابيش_الكنانيش
https://t.me/walidabwnaeem

الثلاثاء، 28 أبريل 2020

حياك رمضان.. وعذراً إليك!

حياك رمضان.. وعذراً إليك!


رمضان: اسمك تحبه النفوس، وبحلولك: نلفظ  الكؤوس، طاعة للملك القدوس..

رمضان هلّ هلاله، فاستبشر يا عالم، وصفقي يا أيام، وابتهجي يا نفوس، وانتهجي سبل الهدى!

حياك الله يا رمضان .. وأهلاً بك يا شهر الطاعة والغفران، ومرحى بك يا شهر العتق من النيران..


فديتك زائراً في كل عام ***  تحيا بالسلامة والسلامِ

وتُقبِلُ كالغمام يفيض حيناً ***  ويبقى بعده أثر الغمامِ
(مصطفى صادق الرافعي)


رمضان: أنت الشهر الفرد، الذي بشر وهنأ بك الرسول الكريم: صحابته الكرام، وهي تهنئة تعمنا وتشملنا!
فيا فوز من قبل التهنئة، سيعيش في هناء ورخاء!


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد جاءكم -وفي رواية: أتاكم- رمضان؛ شهر مبارك؛ افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
أخرجه أحمد والنسائي، وصححه الألباني، في (صحيح الترغيب: ٩٩٩) 
والشيخ شعيب الأرناؤوط.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان.
كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟
كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟
كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين؟
من أين يشبه هذا الزمان زمان".
(لطائف المعارف: ٢٧٩).


حياك الله يا رمضان، خير ضيف، وأفضل قادم، وأحسن زائر.


هذا هلال الصوم من رمضان ***  بالأفق بان فلا تكن بالواني

وافاك ضيفاً فالتزم تعظيمه ***  واجعل قِراه قراءة القرآن

صمه وصنه واغتنم أيامه ***  واجبر ذما الضعفاء بالإحسان
(ابن الصباغ الجذامي)

هذه التهنئة والتحية..


وأما الاعتذار..
فأقول أولاً: يا رمضان.. سأبذل -إن شاء الله- في ضيافتك جهدي، وسأعمل في حسن استقبالك وكدي..
ولكن، أنى لي التمام!

كيف، وأنت لم تزرنا إلا غباً لماما، ولا تمكث عندنا إلا ليالي وأياما!


ثم ثانياً: أقدم لك هذه الاعتذارات:
-عذراً ومعذرة رمضان.. إن أساء البعض استقدامك، وأهمل الآخرين إكرامك، فإنك لست ضيفي لوحدي، بل ضيف عالَم بأسره!

-عذراً رمضان؛ فإني لا أستطيع أن أصنع لهم شيئاً، أو أقشر لهم عصاً، فإنهم قوم عتاة، وشرذمة جفاة، لا يراعون لغريب قدراً، ولا لعظيم نشراً!

-عذراً رمضان.. إنْ أفطرك رجال ونساء، ليس لهم عذر، بل تكبراً  واستهانة، أو تكاسلاً وامتهانة!

-عذراً رمضان.. إن عاشك رجال ونساء، على الشر والفحشاء، والبغي  والسوآء، ويحسبون، أنهم في هناء!
هم يحسبون!
ولكنهم -والله- في تعاسة تعساء، وظلمة ظلماء، وكرب كرباء، ولكنه التسويل والتهويل..

-عذراً رمضان، إن نام قوم نهارك، وضيع ساعاتك، وقتل أوقاتك؛ ليأتي مغربك، فتأذن له بالفطر والمباحات!

-عذراً رمضان، إن أسهر قوم ليلك، لا لصلاة ولا طاعة، بل للعب واللهو في الأسواق والقاعة، والتنقل بين المتاجر والباعة!

-عذراً رمضان، إن امتلأت في ليلك الأسواق، بالرجال والنساء والنفاق، وربما فعلوا شيْناً، تسيل لهوله المآق، وكأنهم في غيبة عن العليم الخلاق!

-عذراً رمضان، إن خلا في ساعاتك المباركة، قوم بالمحرمات، فانتهكوها، ولعبوا بالبنات وامتهكوها، وعشقوا المردان ولثموها!

-عذراً لك رمضان، واعتذاراً منك- من هؤلاء القوم الذين غلبوني وغالبوني، فلم يستمعوا نصحي ولا بياني، بل سخروا مني ونهروني!

-تُرى، ماذا صنعتَ لهم -أيها الضيف الكريم-، حتى عاملوك هذه المعاملة، ونازلوك هذه المنازلة؟!

*هل أثقلت عليهم زورتك؟!
*هل أضجرتهم دورتك؟!
*هل أمرتهم بما لا يسطيعون؟!
*هل كلفتهم ما لا يطيقون؟!
*هل وهل وهل؟!

-أشهد أنا عن نفسي، والصالحين من بني جنسي، أن هذه تهم وظلم، وما أكثرها على الصالحين؟!


ضيفي الكريم العزيز المبارك: أرحب بك -مرة أخرى- قبل طيّ صفحات الكاغد، ورفع شباة القلم!
بل، وأرحب بك كرات ومرات، وأهنئ بك أحبابي وصحابي، ورفاقي وأترابي، وأشياخي وطلابي، وجميع المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها، فأهلاً وسهلاً ومسهلاً..

وإلى العيش في كنفك، والتنسم بشذا عبيرك، والتروي بنميرك..

دمت بود وسلام، والسلام عليك وعليكم ورحمة الله وبركاته،،


محبك: أبو نعيم،،
وليد بن عبده الوصابي..
 ١٤٣٦/٨/٢٩
 ١٤٤١/٨/٢٩

وقفتان مع حديث الشرب عند الأذان!

وقفتان مع حديث الشرب عند الأذان!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم النداء- والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه).
رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والبيهقي، والطبري، والطحاوي، والحاكم وغيرهم.


هاتان وقفتان، حول هذا الحديث النبوي الشريف- الذي تناول مسألة مهمة من مسائل الصيام، التي كثر عنها الكلام، فأردت أن أنزل دلوي بين الدلاء، ولكني لم أكن معتبطاً، بل مغتبطاً؛ لأني لم أفتئت، ولا إلى غير الوحيين ألتفِت!


الوقفة الأولى: صحة الحديث:
قد صحح هذا الحديث؛ جمع من الأولين والآخرين، ومنهم:
-الدارقطني، قال: هذا حديث حسن.
-والحاكم، قال: هذا حديث صحيح، -والذهبي، فقد وافق الحاكم في تصحيحه.
-وعبد الحق الإشبيلي، في (الأحكام الوسطى: ٢/ ٢١٢).
-وابن حزم، ينظر (المحلى: ٤/ ٣٩٦) فقد أشبع الكلام حول الحديث: سنداً ومتنا.
-وابن تيمية، فقد جود إسناده.
ينظر: (شرح العمدة: ١/ ٥٢٦)


ومن المتأخرين:
-صححه الشيخ الألباني بشواهد كثيرة، لم يترك قولاً لقائل، إلا أن يشاء الله!
بل ذكر، أن إسناده صحيح على شرط مسلم.
ينظر: (التعليقات الجياد) و (الصحيحة: ١٣٩٤) و (صحيح أبو داود: ٢/ ٤٤٧).

-وصححه الشيخ أحمد شاكر، في تخريجه (تفسير الطبري: ٣/ ٥٢٦) ثم قال: "وانظر تعليقنا على الحديث، فيما كتبنا على (مختصر السنن للمنذري: رقم: ٢٢٤٩/ ٣/ ٢٣٣ - ٢٣٤).

-وصححه الشيخ شعيب في تحقيق (سنن أبي داوود: ٤/ ٣٥) وتحقيق (مسند أحمد: ١٦/ ٣٦٨).


قلت: وقد جاء ما يؤيد الحديث، من فعل الصحابة، وهم خير من يفهمون مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
عن أبي أمامة قال: (أقيمت الصلاة، والإناء في يد عمر، قال: أشرَبُها يا رسول الله؟ قال: نعم، فشربها).
رواه الطبري بإسنادين، وهذا الحديث صحيح الإسناد. ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري.
ينظر: تحقيق (تفسير الطبري: ٣/ ٥٢٧)


الوقفة الثانية: معنى الحديث: الرخصة في الأكل والشرب، عند أذان الفجر الثاني (الصادق) إذا كان الإناء في يد الصائم.

هذا هو المعنى الظاهر من الحديث، وهو ما أيدته أحاديث أخرى، وعضدته فعل الصحابة والتابعين.

لكن، قال البيهقي: "هو محمول عند عوام أهل العلم؛ أنه صلى الله عليه وسلم، علم أن المنادي، كان ينادي قبل طلوع الفجر؛ بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر".
(السنن الكبرى: ٤/ ٣٦٨)

والصحيح: أن المراد، أذان الفجر الثاني؛ بدليل الزيادة: (وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر).
رواه أحمد الطبري، والبيهقي، وابن حزم، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ينظر: تحقيق الشيخ شعيب، لـ (مسند أحمد: ١٦/ ٣٦٨)


فرع: قد ظُن.. وجود تعارض بين هذا الحديث، ونصوص أخر- تقضي بالإمساك حين سماع المؤذن؟
والحقيقة: ليس ثمة تعارض بين الحديث، وبين قول الله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" وما في معنى الآية الكريمة، من الأحاديث؛ لثلاثة أمور:

١-أن الآية، جاءت بلفظ "يتبين"، ومن أين لنا التبين الجازم عن دخول الفجر؟!
وكل ما في الأمر، أنه ظني الدخول، ويحتاط فيه بالمقاربة بين المؤذنين، والمقارنة بين التقاويم.

قال الشيخ ابن عثيمين: "إما أن يكون المؤذن يؤذن بالتحري، والذي يؤذن بالتحري قد يصيب، وقد لا يصيب، كالمؤذنين عندنا الآن".
(جلسات رمضانية: ١/ ٨٣)

وقال الشيخ ابن باز: "فإذا سمع الأذان، وعلم أنه يؤذن على الفجر؛ وجب عليه الإمساك، فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر؛ لم يجب عليه الإمساك، وجاز له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر.
فإن كان لا يعلم حال المؤذن- هل أذن قبل الفجر، أو بعد الفجر؛ فإن الأولى والأحوط له.. أن يمسك إذا سمع الأذان، ولا يضره لو شرب أو أكل شيئاً حين الأذان؛ لأنه لم يعلم بطلوع الفجر".
(فتاوى رمضان: ٢٠١) جمع أشرف عبد المقصود.


٢-إن الحديث جاء فيه إباحة مضيقة، وفي وقت يسير معلوم، لا تتجاوز اللحظات التي يتفاوت فيها المؤذنون ويختلفون.

وهي رحمة من الله تعالى بعباده بالمؤمنين، وتوسعة منه سبحانه على من كان حاله كذلك.

فهي إذن؛ "من باب الرخصة، لما كان الإنسان رفع الماء ليشرب، تعلقت به نفسه، ولهذا لو كان في الأرض لا تحمله، لا ترفعه من الأرض، بل لا بد أن يكون في يدك، وإلا كانت النفس قد تعلقت بهذا الماء الذي رفعه، كان من رحمة الله عز وجل أن يقضي الإنسان نهمته منه، كما لو حضر الطعام والإمام يصلي فإنك تأكل من الطعام، ولو فاتتك الصلاة، فتُسقط بذلك واجباً؛ لأن نفسك متعلقة بهذا الطعام الذي قُدِّم بين يديك".
جلسات رمضانية: ١/ ٨٣)

ونزّل الشيخ عبد المحسن العباد، هنا، قاعدة: يجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء.
يعني: أن الإنسان.. لا يجوز له أن يبدأ الشرب، ولكنه إذا كان قد بدأ يكمل، وليس معناه: أن الذي في فمه يقذفه ولا يشرب، بل يبلع الذي في فمه ويكمل أيضاً؛ لأن الذي جاء عنه التحديد جاء عنه استثناء هذه الحالة، فيجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء.
ينظر: (شرح سنن أبي داوود)


٣-يحمل الحديث، على التجاوز والعفو عن الأمور اليسيرة التي لا تؤثر، وهي مسألة مطروقة في الفقه وأصوله وقواعده، ولها مثيلات، مثل: العفو عن يسير النجاسة، وحل اليسير من الدم، وذلك ما يتبقى في اللحم والعظام.
قال الصنعاني: "وهو نظير: (إذا حضر العِشاء والعَشاء)".
(التنوير: ٢/ ٩٧)

"فهذه الصورة، مستثناة من الآية: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، من الخيط الأسود من الفجر"، فلا تعارض بينها، وما في معناها من الأحاديث، وبين هذا الحديث، ولا إجماع يعارضه، بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم: إلى أكثر مما أفاده الحديث، وهو جواز السحور إلى أن يتضح الفجر، وينتشر البياض في الطرق راجع  (الفتح: ٤/ ١٠٩- ١١٠)؛ لأن من فوائد هذا الحديث؛ إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة؛ لأنهم إنما يفعلون ذلك؛ خشية أن يدركهم أذان الفجر، وهم يتسحرون، ولو علموا هذه الرخصة، لما وقعوا في تلك البدعة، فتأمل".
(تمام المنة: ٤١٧ - ٤١٨)

قال أحمد -في الرجل يتسحر فيسمع الأذان؟ يأكل، حتى يطلع الفجر.
فهو دليل؛ على أنه لا يستحب إمساك جزء من الليل.
ينظر: (شرح العمدة: ١/ ٥٣٢)

ومما يعضد ما نحن فيه من تقرير المسألة؛ هو تسامح جماعة من السلف- في السحور عند مقاربة الفجر..
قال ابن كثير: "وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف: أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر.
رُوي مثل هذا عن: أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت.
وعن طائفة كثيرة من التابعين، منهم: محمد بن علي بن الحسين، وأبو مجلز، وإبراهيم النخعي، وأبو الضحى، وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود، وعطاء، والحسن، والحاكم، وابن عيينة، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإليه ذهب الأعمش ومعمر بن راشد.. وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد، ولله الحمد".
(تفسير القرآن العظيم: ١/ ٥١٤)

هذا، ما أردت بيانه وتبيانه، من جمع النصوص، والمواءمة بينها، والاعتماد على فهم الصحابة والتابعين والعلماء، في حلها، و"الحمد لله رب العالمين".


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٩/٥
وقت السحور.

الاثنين، 27 أبريل 2020

المَقامة الرمضانية، والمُقامة الرمضائية!

المَقامة الرمضانية، والمُقامة الرمضائية!


أقبلتَ يا رمضان، ومضيفُوك في أحزان!

قال لي صديقي الفهيم المزدان: هل لك -أبا نعيم- بكلمة عن رمضان؟

قلت له: إن صفوي معكّر، وخاطري مكدّر، وجسمي مخدّر، فلا أقوى على الحديث أو التحديث؛ لأن تشوش التفكير، يمنع من حسن التعبير!
فأصرّ حتى أضجر، وألحّ حتى أصحر!

فقلت هذا الكلام، من طرف الثمام، بعد استدعاء، وطول استجداء، "وعلى الله قصد السبيل"، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وهي آهات حرّى، وأنات جرّى، كتبتها مستقبلاً ضيفي، ومستنزلاً غيثي، ومعزياً نفسي، ثم بني جنسي:

رمضان مرحى وأهلا، ومرحباً وسهلا.
حيّاك الله وبيّاك، وأنعم بك وأكرم، وأشرف وأعظم.

حللتَ أهلاً، ونزلت سهلاً، وعلى الرحب والسعة، والراحة والدعة.


بشرى العوالم أنت يا رمضان ُ *** هتفت بك الأرجاء والأكوانُ

لك في السماء كواكب وضاءة *** ولك النفوس المؤمنات مكانُ

سعدت بلقياك الحياة وأشرقت *** وانهلّ منك جمالها الفتّانُ
(حسين عرب)

نحبك، ونحب مجيئك، ونأنس بك، ونرتاح معك، ونرغب إليك، ونبارك عليك..

نشكر زورتك، ونحمد دورتك، ونمدح بدرتك.

أفرحنا مأتاك رغم الجراح الدامية، وسهام الأعداء الرامية، ولم يكن في وسعك أن تتأخر لحظة، أو تتعقب غمضة؛ "ذلك تقدير العزيز العليم" "وهو العزيز الحكيم".

وأملنا في ربنا كبير وكثير، أن يكونَ مأتاك.. تخفيفاً لآلامنا، وتسليةً لأحزاننا، وتضميداً لجراحنا، ومداواةً لأمراضنا.
وأن يكون مجآك.. انتشالاً من وهْدتنا، وإيقاضاً من رقْدتنا، وتنبيهاً من غفْلتنا.


عام ونحن على الأشواق ننتظر *** لا السمع أدرك ما نرجوا ولا البصرُ

ولا الأماني في تجوالها نعمت *** برحلة لم يشوه حسنها كدر

ولا الصفاء بنا عادت محافله *** تجتاح ما بقلوب الحقد تستعرُ

ولا أمنّا بليل والمدى خطر *** ولا طربنا وبوح الملتقى ضجرُ
(ياسين الفيل)


نحبك يا رمضان، رغم الصعاب والخطوب، واحتدام الحروب، واشتداد الندوب، وتلاحق الكروب!

نحبك يا رمضان، رغم رمض الرمضاء، واعتلاء الرحضاء؛ ولا تخفيف لدينا من ذلك -والحمد لله-؛ فكهربتنا منقطعة، وخطوطنا مهترئة ممتنعة، وأخوّتنا متكهربة ممتزعة!
فلا بلاغ لنا إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.

أتيتنا يا رمضان، وعواصم العالم الإسلامي العربي الثلاث: دمشق، وبغداد، وصنعاء، بل وعواصم أخرى- تدمى وترعف، وتهمى وتنزف- تنكر منها وتعرف!

جئتنا يا رمضان، والبلاد التي تطلّ عليها، ويظهر بدرك فيها- في احتلال واختلال، بل هي مكلومة الجناب، ومهيضة الجناح، ومقطوعة الوريد، ومطعونة الخاصرة!
والعالم العربي والإسلامي.. ينظر إليها في تأرنح وتأرجح، وربما في تبجّح وتوقح!
وكأني بهم، بعد: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)!


رمضان ما أدري، ونورك غامر *** قلبي، فصبحي مشرق ومسائي

أأنال بعد مثالبي ومساوئي *** بك منهما بعد القنوط شفائي

وبأنني سأنال منك حمايتي *** ووقايتي من معضل الأرزاءِ

ما أنت إلا رحمة ومحبة *** للناس من ظلم قسا وعداءِ
(محمد حسن فقي)


نعلم يا رمضان، أنك كنت في قديم الزمان؛ زمن عز ومكنة، وفتح بلدانٍ وأمكنة.

كانت في أيامك؛ مواقع ساحقة، ومشاهد ماحقة للكافرين، ونحوهم من الأعداء، "والله يؤيد بنصره من يشاء".
وقد كان أولئك الأشاوس، وذياك القدامس.. هم من يتعرضون لنصر الله، ويعملون بأسبابه، بطاعة الله: "يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" فعل وشرط، فلما حصل الفعل، كان الشرط، "وعد الله لا يخلف الله الميعاد".
هذا السبب الإيماني، وهو الأهم والأعم.

والسبب الآخر: السبب المادي، لدحر الأعادي، وهو: إعداد القوة، ولو كان على أحدهم اللقوة، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". ولا بد من اجتماع السببين، وإلا صرنا في الجبين، وبين جببين!

ولم يُعلم أن معركة أو وقعة في رمضان؛ هزم فيها المسلمون، بل كان النصر طليبهم، والفتح رحيبهم.
ففي أكثر من عشر وقعات، كان فيها النصر والثبات، وكسر الجمائم، ونزع العمائم، حتى ولى الأعداء مدبرين، ورجعوا متقهقرين!


ظهر يا رمضان، بدرك عليهم، وهم: متآزرون متجاورون، ومتكاتفون متعاونون، وقد عملوا، بقول الله تعالى: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، فاجتمعوا واعتصموا، وتآخوا ولم يختصموا؛ فنصرهم الله تعالى وانتصفوا وانتقموا.


واليوم يا رمضان، بدوت علينا، وبدرت إلينا.. ونحن في تشردم وتدمدم، وانفصام واحتدام، يأكل بعضنا بعضا ... يقتل بعضنا بعضا ... ويكيد بعضنا لبعض، ويُسْلم بعضنا إلى بعض!
ورسولنا عليه الصلاة والسلام، يقول: (المسلم أخو المسلم؛ لا يكذبه، ولا يخذله، ولا يسلمه، ولا يحقره)!
رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

البلاد تسلب، والمتاع ينهب، والرجال تسحب، والنساء تنتطف، والأطفال تختطف، والأديان تغيّر، والشرائع تعيّر، وإخواننا يستغيثون، فلا يغاثون، ويستعينون فلا يعانون!

ماذا حلّ بنا ... ما الذي دهانا ... ما أصابنا؟!
لم هذا الخنوع والخضوع والركوع؟

لا أدري، سوى أني أقول: إن قومي طال بهم الأمد، "فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم"، فركنوا إلى الدنيا، ونسوا الأخرى (وحب الدنيا؛ رأس كل خطيئة)!

وصدق الحبيب عليه الصلاة والسلام، حين قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم -أو حتى ترجعوا إلى دينكم-)!
رواه أحمد وأبو داوود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وها نحن أتينا وجئنا، على ما أخبر به نبينا، صلى الله عليه وسلم، الذي "ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى".

هذا ما كان من الكلام الأرم، في العام المنصرم.. (١٤٤٠)
ولا زال الوضع الآن، ربما، أسوأ مما كان!


أما هذا العام (١٤٤١)؛ فالأمر في أوام وسوام، بل جاءنا رمضان، ونحن في مرضان!
المرض الأول: خاص ببلاد اليمن -أذهب الله عنها الحزن والشجن-؛ فقد جاء هذا الضيف، في بدو الصيف، ولا عجب من ذلك، ولا غرب، ولكن الأسى والقسى، أن بلادي الجريحة، لا زالت في حال غير مريحة!
فالأجواء حارة، والكهرباء قارة! هذا في أرض التهائم، وبلاد أولي العمائم!
ومواطن أخرى، نزل بهم من البلاء، ما أودى ببعضهم إلى البِلى، مع تهدم المنازل والبيوت، وتخرب المساكن والخبوت، حتى السيارات سحبت، والمركبات حبست!
فلا بلاغ إلا بالله الجبار الغفار.


والمرض الآخر: عام ببلاد العالَم؛ فقد أتاهم رمضان، وهم في وباء ومرضان.. أهلك المال، وقضى على العيال، وأودى بالصغار، وأردى الكبار!
حبس الناس في البيوت، حتى أصيب البعض بالوسواس والهموت، والمساجد خالية، والموارد فاغية، حتى الحرم المكتظ بالزحام، يشكو اليوم الهجر والصرام!
ولا بلاغ إلا بالله الغافر الغفار.


وأملنا العظيم الكبير، في ربنا الحكيم الخبير.. أن تنقشع الغمة، عن الأمة، وترفع الآثمة، وتدفع الجاثمة، وتستقر اليمن، وتزول عنها الفتن والإحن، ويذوب الشجن والحزن، وتحل الخيرات الكبيرة، على بلاد الإسلام الكثيرة، والله عند ظن العبيد، إذا أحسنوا الظن بالحميد المجيد، وأخلصوا له العبادة والتوحيد.


أطلتُ عليك ضيفي -الكريم العظيم الفخيم-، ولكن الحبيب يأنس بحبيبه، ويشكو لرحيبه!
فاعذرني على الإطالة، فلم أجدْ -سواك- من يسمع مني هذه الإطلالة؛ فلك شكوت، وإليك خطوت.

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


كتبه: من بك معنّا وإليك صابي: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/٨/٢٧
١٤٤١/٩/٤

السبت، 25 أبريل 2020

تصبير وإصبار للحبيب ياسر أبي عمار!


تصبير وإصبار للحبيب ياسر أبي عمار!

سلام الله عليك ورحمته وبركاته..
أخي الحبيب: ياسر.. سمعت نبأ مصابك، وخبر منابك؛ فحزنت وشجنت، وجشبت وشجبت.. فأردت مواساتك بما أقدر، علّ في كلماتي تكميداً لغمك، وتضميداً لهمك.

أقول لك -يا ياسر.. أيها الصابر-: إن خير ما أواسيك به وأؤاسيك، هو: ما ذكره الله سبحانه في كتابه الكريم، ورسولنا عليه الصلاة وأتم التسليم..

قال الله تعالى: "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".

قال القرطبي: (قالوا: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، جعل الله تعالى هذه الكلمات.. ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين؛ لما جمعت من المعاني المباركة.

فإن قوله: "إنا لله" توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: "وإنا إليه راجعون"، إقرار بالهلك، على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه، كما هو له.

قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: لم تعط هذه الكلمات نبياً قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب؛ لما قال: "يا أسفى على يوسف".


ثم ختم الله ذلك، بقوله تعالى: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".

قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان، ونعم العلاوة.
أراد بالعدلين: الصلاة، والرحمة. وبالعلاوة: الاهتداء.


واسمع أخي الكريم، إلى هذه القصة المطمئنة للنفس، والمسكّنة للروح..
قال أبو سنان: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج، أخذ بيدي فأنشطني، وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان؟ حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد؛ قال الله لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟! فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه "بيت الحمد").
رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

يالله، ما أعظمها من بشرى، وما أجمله من وعد، "وعد الله لا يخلف الله الميعاد".

وعن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعاً- وإن تقادم عهدها.. كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب).
رواه ابن ماجه.

وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول -ما أمره الله عز وجل-: "إنا لله وإنا إليه راجعون" اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها.. إلا أخلف الله له خيراً منها).

قلت: فهذا فعل وشرط، فإذا تحقق الفعل؛ كان الشرط، وفق ما يريد سبحانه وتعالى، وذلك: إما أن يكون العوض، حقيقياً ملموساً، وإما أن يكون مدخراً إلى يوم القيامة، وإما أن يكون راحة بال، وحسن حال، وقد يجمع الله كل ذلك لمن شاء من عباده.


ومما يخفف الوطأة، ويعيد الفيأة.. تذكر مصيبتنا في موت النبي صلى الله عليه وسلم..
عن عطاء بن أبي رباح ومكحول، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم مصيبة؛ فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب).
رواه الدارمي والسمرقندي في مسنده.

ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول:

اصبر لكل مصيبة وتجلدِ *** واعلم بأن المرء غير مخلدِ

أوما ترى أن المصائب جمة *** وترى المنية للعباد بمرصدِ

من لم يصب ممن ترى بمصيبة *** هذا سبيل لست فيه بأوحدِ

فإذا ذكرت محمداً ومصابه *** فاذكر مصابك بالنبي محمدِ


وفي هذا القول من هذا الإمام تسلية عظيمة..
قال القاضي شريح -رحمه الله تعالى-: "إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله تعالى عليها أربع مرات: إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني للاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني".

ويقول البستي:
كل الذنوب فإن الله يغفرها *** إن شيَّع المرء إخلاصُ وإيمانُ

وكل كسر فإن الله يجبُره *** وما لكسر قناة الدين جُبرانُ


ومما يعين على المصيبة ويخففها..
النظر إلى مصائب الغير، فإنك إذا نظرت إلى مصائب الآخرين.. واجد من هو أعظم منك مصاباً، وأشد ألماً، وأغزر دمعاً..

وخذ مثلاً: ذاك الرجل الذي أجد مصابه، يشبه مصابك، إلا أنه أشد إصابة، ومصابه أعظم!
فقد كان عنده المال والولد، وفي ليلة ليلاء، غدا عليهم سيل عارم، فأخذ كل ما عنده من ولد ومتاع ومال وزوجة!
ولما أصبح؛ رأى صبيه، وجمله.. فهرع نحو ابنه، فسبقه إليه الذئب!
وأسرع إلى دابته، فركلته في وجهه، فذهبت بعينيه، وشوهت وجهه!
هذا في الماضي.


وفي أيامنا هذه، وقبل سنيهات قليلة.. رجل اسمه عبد الحميد، كان في رحلة أو نزهة أو حاجة مع أولاده، فجرى لهم حادث أليم، مات كل أهله وأولاده، ولم يبقى إلا هو مع كسور ورضوض!
وأذكر، أني حينها، كتبت له، تسلية وتعزية.


وأخيراً.. يا حبيبي ياسر: نحن ضيوف في هذه الحياة النكدة التعسة القصرة، ولا بد لنا من العودة إلى مستقرنا، الجنة -إن شاء الله-، ولكن منا المستقدم، ومنا المستأخر، "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان".
فاللقاء والأنس واللذة هناك -بإذن الله سبحانه وتعالى-.

ويا صاحبي.. كلما جاشت نفسك، أو حزن قلبك، أو كرب صدرك.. تذكر، أن الله سبحانه وتعالى: حكيم عليم رحيم، ولا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير المحض، ولكن عقولنا تقصر عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى، فسلِّم لخالقك أمرك، وهدئ روعك، وفرح نفسك، وعلِّل روحك، ولا تذكر تفاصيل الحادثة، ولكن، اجعلها على ربك الرحمن الرحيم.. يسلو خاطرك، وتأنس نفسك، ويرتاح قلبك.

حبيبنا: أطلت عليك، وربما أمللت، ولكني أردت -والله-؛ التخفيف عنك، والتسلية لك، والتسرية عليك..
ربط الله على قلبك، وشرح صدرك، وآنس نفسك، وأبهج روحك، وعوضك كل خير.
ورحم الله أحبابك وأكبادك ومهجك وبهجك، وأنزل على قبورهم الضياء والنور، والفسحة والسرور.

وسلام الله عليك.


محبك: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٩/٣



الخميس، 23 أبريل 2020

قول: "رمضان كريم" من التهاني، وليست من المناهي!

قول: "رمضان كريم" من التهاني، وليست من المناهي!

يهنئ الناس بعضهم بعضاً، بشهر رمضان، بشتى الكلمات، وجم العبارات، وكلهم ينشد الفرحة، ويقصد السرور، وأكثر ما نسمعه ونراه، هو من هذا القبيل الذي لا يخرج عن المشروع والإباحة، ومن تلك التهاني والدعوات: رمضان كريم!

فإنهم يقصدون بها: إنشاء الدعاء للمقول له، كأنهم يقولون: جعل الله هذا الشهر، شهر كرم وكرامة.

أو أنهم يريدون: أن رمضان موطن الخير والكرم، لا أنه معطي بذاته الكرم!

وهو استعمال شائع في العربية، ناهيك عن وروده في القرآن الكريم، قال الله تعالى: "إنه لقرآن كريم"، وقال تعالى: "إني ألقي إلي كتاب كريم"، وقال تعالى: "إن هذا إلا ملك كريم"، ونحوها من الآيات في هذه البابة.

وهذا من باب نسبة الشيء إلى سببه، لا مُسبِّبه، ولا يفهم العربي من عبارة "رمضان كريم".. أنه يعطي الكرم بنفسه، وإنما الكرم كائن فيه، والمجاز: أسلوب شائع في لغة العرب!


وقد استدل بعض المُشنِّعين المُشغِّبين، بفتوى للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، وقد فهموها، على غير مراد الشيخ، وحملوها من النهي، ما لم يحمله الشيخ!

والبيان: إن فتوى الشيخ، كانت متجهة حول أمر كبار، وعمل فجار، وهو -على ما جاء في نص السؤال-: "حينما يقع الصائم في معصية من المعاصي، ويُنهى عنها، يقول: "رمضان كريم!
فما حكم هذه الكلمة‏؟‏ وما حكم هذا التصرف‏؟‏

هنا، غضب الشيخ -ومن لا يغضب لهذا الفهم الأعوج، بل العوج الأبلج، والترخص الأعرج-!

فكان من جواب الشيخ: "حكم ذلك، أن هذه الكلمة "رمضان كريم"؛ غير صحيحة، وإنما يقال: "رمضان مبارك" وما أشبه ذلك؛ لأن رمضان ليس هو الذي يعطي حتى يكون كريماً، وإنما الله تعالى هو الذي وضع فيه الفضل، وجعله شهراً فاضلاً، ووقتاً لأداء ركن من أركان الإسلام.
وكأن هذا القائل: يظن أنه لشرف الزمان، يجوز فيه فعل المعاصي، وهذا خلاف ما قاله أهل العلم: بأن السيئات تعظم في الزمان والمكان الفاضل، عكس ما يتصوره هذا القائل.
وقالوا‏:‏ يجب على الإنسان، أن يتقي الله عز وجل، في كل وقت، وفي كل مكان، لا سيما في الأوقات الفاضلة، والأماكن الفاضلة، وقد قال الله عز وجل‏:‏ ‏"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
فالحكمة من فرض الصوم؛ تقوى الله عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(من لم يدع قول الزور، والعمل به، والجهل.. فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه‏)، فالصيام عبادة لله، وتربية للنفس، وصيانة لها عن محارم الله، وليس كما قال هذا الجاهل‏:‏ إن هذا الشهر لشرفه وبركته.. يسوغ فيه فعل المعاصي‏"!
(مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين: ٢٠/ رقم السؤال: ٢٥٤)

فواضح هذا البيان، لكل إنسان؛ أن الشيخ أراد التغليظ على السائل، في اتخاذه رمضان، شهر عصيان؛ لأنه يعطي الكرم بنفسه -على ترخصه المهين-!

ولم يرد الشيخ؛ المنع من قول هذه الكلمة إطلاقاً.
وهذا معلوم في قواعد الفقه: أن المباح قد يمنع من باب سد الذرائع، وهذا ما فعله الشيخ في جوابه الرصين.

ودليلي على ذلك: أن الشيخ، قد استعمل هذا اللفظ "رمضان كريم" كثيراً، في كتبه وفتاويه، ومن ذلك:
(الضياء اللامع: ٢/ ١٦٥) وفي (٤/ ٤٥٧)
وفي (جلسات رمضانية، عام ١٤١٠)
وفي (مجموع فتاوه: ٢٠/ ١٩١)


وممن استعملها من المعاصرين:
-الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، كما في (الخطب المنبرية: ٢٦)
-والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، كما في (فتاواه ورسائله: ٤/ ٢٠٧)
-والشيخ عبد الرحمن المعلمي، كما في (آثاره: ٢٢/ ٨٠)
-والشيخ عبد العزيز ابن باز، كما في (فتاوى نور على الدرب: ١٦/ ٨) فقد كررها مرتين في صفحة واحدة.


وممن استعملها من المتقدمين:
-لسان الدين ابن الخطيب، كما في (الإحاطة: ٢/ ٢٣٤)
-والمقري، كما في (نفح الطيب: ٧/ ٤٣٩)
-وابن الجوزي، كما في (بستان الواعظين: ٢٣٣)


وأخيراً، أقول: لا شك، أن التقيد، باللفظ النبوي، في كل موطن أو مناسبة، ومن ذلك، قول: "شهر مبارك"؛ أولى وأجلى، ولكنا هنا، نتحدث عن جواز وحرمة.
وكل لفظ يؤدى به التهنئة، ولا يحمل محرماً؛ فالتهنئة به جائزة.


هذا غيض من فيض، ولولا ما حصل من تعنت البعض -هداهم الله- في التضييق على الناس، وتحريم ما أحل الله تعالى من الأقوال والأفعال- لولا ذلك؛ لما أطنبت وأسهبت، وأرجو أن لا أعدم خيراً وأجرا، "وعلى الله قصد السبيل".


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٩/١
رمضان الكريم، جعله الله شهر تأييد وتكريم.

الفرحة الرمضانية.. واجبة شرعية

الفرحة الرمضانية.. واجبة شرعية

رمضان: كلمة بهيجة، ولفظة مهيجة، تحبّها نفوس المؤمنين، وتأنسها قلوب المتقين، وترتاحها صدور الصالحين؛ لأن رمضان خير الشهور وأفضلها وأحسنها، وفيه من الفضائل والمزايا، والقرب من رب البرايا، ما يجعل المؤمن يزداد إيماناً: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون".
وهذا دليل على أصل الفرح والسرور، بمواسم الطاعة والخيور.

وإن الفرح بمواسم الطاعات والعبادات، والحزن على فواتها وفراقها؛ شأن معلوم، وحال مرسوم، لا يحتاج إلى إقامة الدلائل والبينات، ولا يكاد يختلف مسلم في تيك الميزات.

ومن لم يفرح بدخول رمضان وصيامه وقيامه، وتلاوة القرآن، والاستغفار بالأسحار؛ فليراجع نفسه، وليتفقد إيمانه، فإنه في خلل وخبل وخطل؛ لأن عدم الفرح بمواسم الطاعات والعبادات؛ يلزم منه كراهيتها، وحب أضدادها، وهذا دخل ودغل في النفوس -عافانا الله أجمعين-، "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم".

وإن الفرح بالطاعة، والحزن على السيئة؛ دليل على إيمان المرء؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرّته حسنته، وساءته سيئته؛ فهو المؤمن).
رواه أحمد، وصححه محققو (المسند: ١٤٤)

فالحذر من بغض هذه المواسم، أو الشعور بالخيبة، أو التنغص بها، أو الكراهة لها، أو التذمر منها، ولو في النفس والإسرار، ومن دون إعلان وإظهار؛ فإنها دسيسة يخشى على صاحبها من النكيسة، والحياة التعيسة -نسأل الله الثبات-.

وأنبّه، إلى أن البعض يفرح بمواسم الطاعات ليس لذاتها، وإنما لما فيها من قضاء مصالحه، وإنجاح مآربه،
فبعضهم: لبيع تجارته وربحها.
وبعضهم: لما فيه من زيادة المطعومات والمشروبات.
وبعضهم: لقضاء الحوائج.
وبعضهم: لما يروج فيها من المسابقات والجوائز.
وبعضهم: لما يكون فيها من الاجتماعات واللقاءات، والسهرات والسمرات.

وهكذا، كل يفرح بما يناسبه ويشاكله، وينسى المقصد الأعظم والأرشد، وهو الفرح لذات العبادة؛ لأن الله افترضها ووقّتها بهذا الوقت، فنفرح رمضان؛ للصلاة، والصيام، والقيام، وقراءة القرآن، والصدقات، والنفقات ونحوها من أنحاء البر والتقى.

قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
"قل بفضل الله" يعني: القرآن الذي أكرموا به "وبرحمته" يعني: الإسلام، "فبذلك" أي: فبمجيئهما "فليفرحوا" أي: لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع، "هو خير مما يجمعون" أي: من الأموال وأسباب الشهوات؛ إذ لا ينتفع بجميعهما ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون، والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء؛ فبهما فليفرحوا".
(تفسير القاسمي: ٩/ ٤٦)

وعن أيفع الكلاعي رضي الله عنه قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه، خرج عمر رضي الله عنه، ومولى له، فجعل يعدّ الإبل، فإذا هو أكثر من ذلك، فجعل عمر رضي الله عنه يقول: الحمد لله، وجعل مولاه يقول: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر رضي الله عنه: كذبت، ليس هذا، هو الذي يقول: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" وهذا مما تجمعون".
(تفسير ابن أبي حاتم: ٦/ ١٩٦٠).

فبيّن -رضي الله عنه- أن جمع الأموال، ليس مما يفرح به، بل هو مما استثنى الله من الفرح، بقوله: "هو خير مما يجمعون" وهذا من ورع الفاروق العظيم وزهده.

وقال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، ولا يكون اطمئنان القلوب إلا من فرح وسرور، ونيل مطلوب، ونجاة من مرهوب.

وقال تعالى: "فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم" فهؤلاء فرحوا بما رزقهم الله من الطاعة واليقين.

وأنت أيها الفرِح بطاعة الله، لا شك أنك تعيش هذا الفرح في طاعة ربك؛ لأن الفرح بالطاعة وحبها من لوازمه: العمل بها، وإلا كان التناقض.

تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس بديعُ

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيعُ

وأبشر بوعدِ الله لك أيها الفرح والطائع، قال الله: "أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه" يصدقها، قوله تعالى: "يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك قدحاً فملاقيه".

وأبشر بملازمة السرور لك، وأنت في الجنان، قال تعالى: "فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسرورا". فهنيئاً لك هذا السرور: الدنيوي والأخروي.

والفرِح بالطاعة؛ تجده مسروراً مرتاحاً منشرحاً منبسطاً، هاشّاً باشّاً، يحب الصالحين ويحبهم، ويثني عليهم، ويثنون عليه، ولذلك: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري.
وفي رواية: (ويحبه الناس عليه).

قال النووي في (شرح مسلم: ١٦/ ١٨٩): "قال العلماء: معناه: هذه البشرى المُعَجَّلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيُحَبِّبه إلى الخلْق ...، ثم يوضع له القَبول في الأرض...".

ولا شك أن من كان هذا حاله؛ عاش حياة هنيئة مريئة، ولو كان فقيراً مُعدما.

وقال ابن الجوزي، في: (كشف المشكل من حديث الصحيحين: ١/ ٣٧١): "والمعنى أن الله تعالى إذا تقبل العمل؛ أوقع في القلوب قبول العامل ومدحه، فيكون ما أوقع في القلوب مبشراً بالقبول، كما أنه إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، وهم شهداء الله في الأرض".


وهكذا كان السلف الصالح، يشعرون بالفرحة، ويحسون النعيم من أثر العبادة:
"فما في الطاعة من اللذة والسرور والابتهاج والطمأنينة وقرة العين.. أمر ثابت بالنصوص المستفيضة، وهو مشهود محسوس يدركه بالذوق والوجد من حصل له، ولا يمكن التعبير بالكلام عن حقيقته، والآثار عن السلف والمشايخ العارفين في هذا الباب كثيرة موجودة.
حتى كان بعض السلف يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: لو علموا ما نحن فيه لقتلونا ودخلوا فيه.
وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم، ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال: إنه ليمر على القلب أوقات، يضحك فيها ضحكا.
وقال ابن المبارك وغيره: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله.
وقال آخر: أوجدني الله قلباً طيباً حتى قلت: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، فإنهم في عيش طيب.
وقال مالك بن دينار: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله.
وهذا باب واسع جدا".
ينظر: (تفسير ابن رجب: ٢/ ١٣٤)

أرأيت إلى هذا النعيم المعجّل لهؤلاء الفرِحين بطاعة ربهم، والعاملين بها -رباه ارزقناه-.

وقد جاء موضَحاً في حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير؛ إن أصابه سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن). رواه مسلم.

وقال أبو الوفاء ابن عقيل: "الإعجاب ليس بالفرح، والفرح لا يقدح في الطاعات؛ لأنها مَسَرّة النفس بطاعة الرب عز وجل، ومثل ذلك مما سَرّ العقلاء، وأبهج الفضلاء، وإنما الإعجاب، استكثار ما يأتي به من طاعة الله عز وجل، ورؤية النفس بعين الافتخار.
وعلامة ذلك: اقتضاء الله عز وجل بما أتى الأولياء، وانتظار الكرامة، وإجابة الدعوة".
نقله عنه المفلح ابن مفلح، في (الآداب الشرعية: ١/ ١٣٢)

ورمضان خير ما يُفرح به ويؤنس، وينشرح له ويقبس؛ لما فيه من خصال البر والتقوى، ولا يعرف ذلك إلا المؤمن صادق الإيمان، وقد جاء منوهاً ومصرحاً.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مرّ بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه.
بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله؛ وذاك لأن المؤمن يعدّ فيه القوة من النفقة للعبادة، ويعدّ فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين، واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن، يغتنمه الفاجر).
وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن، ونقمة للفاجر).
أخرجه أحمد، في (مسند أحمد، رقم: ٨٨٧٠) وابن أبي الدنيا، في (فضائل رمضان: ٤١) البيهقي في (فضائل الأوقات، رقم: ٥٤)، والطبراني في (الأوسط)، وابن خزيمة، وسكت عنه المنذري، وفي (نضرة النعيم: ١١/ ٥٢٤٧) "وقال الشيخ أحمد شاكر (١٦/ ١٥٨): إسناده صحيح" ولم أجده، فالله أعلم.

وجاء عن  أبي مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم وأهّل رمضان، فقال: (لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان).
قال ابن حجر، في (المطالب العالية: ٦/ ٤٢): "أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وقال: إن صح الخبر فإن في القلب من جرير بن أيوب.
وكأنه تساهل فيه. لكونه من الرغائب".


بل قد جاء التصريح، بالفرح في رمضان، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه". رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن رجب: "أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر؛ فرحتْ بإباحة ما منعت منه؛ خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً، فإن كان ذلك محبوباً شرعاً، والصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام- تناول هذه الشهوات؛ فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها من أول الليل وآخره، فأحب عباد الله إليه؛ أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترم شهواته في النهار؛ تقرباً إلى الله وطاعة له، وبادر إليها بالليل؛ تقرباً إلى الله وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع في الحالين؛ ولهذا نهي عن الوصال، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله؛ فإنه ترجى له المغفرة، أو بلوغ الرضوان بذلك".
(لطائف المعارف: ١٥٦)

وقال -رحمه الله-: "وإن نوى بأكله وشرابه؛ تقوية بدنه على القيام والصيام؛ كان مثاباً على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار؛ التقوِّي على العمل؛ كان نومه عبادة.
ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه؛ لم يتوقف في معنى فرحه عند فطره، فإن فطره على الوجه المشار إليه؛ من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
(لطائف المعارف: ١٥٧)

وقال -رحمه الله-: "وأما فرحه عند لقاء ربه؛ ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخراً؛ فيجده أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا"، وقال تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا"، وقال تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره".
(لطائف المعارف: ١٥٧)

ولا تخفى قصة ذلكم الصحابي الذي توفي بعد صاحبه بسنة، ففضل على صاحبه؛ لأنه فعل خيرات، ومنها: أنه صام رمضان؛ فهذا مما يدعو المؤمن للفرح، واغتنام مواسم الطاعات.

قال ابن رجب: "بلوغ شهر رمضان وصيامه؛ نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في المنام سابقاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، فو الذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض"، أخرجه أحمد وغيره.
من رُحِم في شهر رمضان؛ فهو المرحوم، ومن حُرم؛ فهو المحروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده؛ فهو ملوم).
(لطائف المعارف: ١٤٨).


وحريٌ بالعاقل- الذي يسمع هذا الفضل العظيم، ويفرح بهذا الفضل العميم؛ أن يُفرح إخوانه وخلانه؛ بتفقدهم، والسؤال عن أحوالهم، ومواساتهم، والتخفيف عنهم بما يستطيع، ولا يكون أنانياً كزاً، جلفاً غليظاً، صلداً صلباً؛ فإن فرحه من فرحهم، وحزنه من حزنهم؛ لأن هذا شأن المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) رواه البخاري ومسلم، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.


هذا ما أقدرني الله عليه -وله الحمد والمنة-، وأسأل الله التوفيق والرشاد، والهداية والسداد، وعلى الله الكريم اعتمادي، وإليه تفويض أمري واستنادي.
وأسأله تعالى أن يرزقني الإخلاص والمتابعة في جميع الأقوال والأفعال والأحوال.

والله أعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
كتبته: ١٤٣٧/٩/١
وراجعته: ١٤٣٩/٨/٣٠
وراجعته: ١٤٤٠/٩/٣
وراجعته: ١٤٤١/٨/٢٩

ماذا يقول الإنسان عند دخول رمضان؟

ماذا يقول الإنسان عند دخول رمضان؟


اعتاد بعض الناس؛ أن يخصّوا شهر رمضان بشيء من خصائص الأدعية أو الأذكار؛ تعظيماً وتمييزاً له، عن غيره من شهور العام.

وبعض ذلك: مما ورد في الشرع الحنيف، والبعض الآخر: مما لم يرد في آية أو حديث.

وأنا ذاكر لك، بعض ما وقفت عليه من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة أو المقطوعة، وفيها الصحيح والضعيف؛ وذلك لأن هذا من باب الفضائل، وهو مندرج تحت أصل ثابت، ثم إنها بمجموعها، تعتضد وتعتمد.


وقد جاءت روايات كثيرة، هاك بعض ما وقفت عليه:
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهلّه علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام ربي وربك الله).
رواه الترمذي، برقم: (٣٤٥١)، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) وينظر: (سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم: ١٨١٦)

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأى الهلال قال: (الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب ربنا وترضى، ربنا وربك الله).
رواه الدارمي: ١/ ٣٢٦)، وصححه الألباني في (صحيح الكلم الطيب: ٩٠)، وينظر: (سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم: ١٨١٦)

وعن أبي حرملة قال: (خرجت مع سعيد بن المسيب، وهو آخذ بيدي، فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بالهلال، فقلت: الهلال يا أبا محمد؟ فرفع رأسه، فقال: آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول هذا).
رواه أبو داوود في (المراسيل، رقم: ٢٦)

وعن سعيد بن المسيب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا رأى الهلال قال: (آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك).
رواه معمر، في (الجامع: ٢٠٣٣٩) وعبد الرزاق، في (المصنف: ٧٣٥١).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلمنا هؤلاء الكلمات، إذا جاء رمضان: (اللهم سلِّمني لرمضان، وسلِّم رمضان لي، وسلِّمه لي متقبلا).
رواه الطبراني، في (الدعاء: ٩١٢) والديلمي، وسنده حسن.
ينظر: (كنز العمال، رقم: ٢٤٢٧٧)

وجاء عن يحيى بن أبي كثير، أنه كان يدعو حضرة شهر رمضان: (اللهم سلِّمني لرمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلا).
رواه أبو نعيم، في (حلية الأولياء: ٣/ ٦٩)

وجاء عن مكحول، أنه كان يقول إذا دخل رمضان: (اللهم سلِّمني لرمضان، وسلِّم رمضان لي، وتسلَّمه مني متقبلا). رواه الطبراني، في (الدعاء: ٩١٣)

وجاء عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا استهلَّ شهر رمضان؛ استقبله بوجهه، ثم يقول: (اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة، ودفاع الأسقام، والعون على الصلاة، والصيام، وتلاوة القرآن، اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّمه لنا، وسلِّمه منا، حتى ينقضي وقد غفرت لنا، ورحمتنا، وعفوت عنا).
رواه ابن أبي الدنيا، في (فضائل رمضان: ٤٦) وابن عساكر، في (تاريخ دمشق: ٥١/ ١٨٦)

وجاء عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: (كان المسلمون يدعون عند حضرة شهر رمضان: اللهم أظلَّ شهر رمضان وحضر؛ فسلِّمه لي، وسلِّمني فيه، وتسلَّمه مني، اللهم ارزقني صيامه وقيامه صبراً واحتساباً، وارزقني فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذني فيه من السآمة والفترة والكسل والنعاس، ووفقني فيه لليلة القدر، واجعلها خيراً لي من ألف شهر).
رواه الطبراني في (الدعاء، رقم: ٩١٤)

وعن أبي عقيل عن جده عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعلمون هذا الدعاء، كما يتعلمون القرآن، إذا دخل الشهر أو السنة: (اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وجوار من الشيطان، ورضوان من الرحمن).
ينظر: (معجم الصحابة: ٣/ ٥٤٣) للبغوي، و(الترغيب والترهيب: ٢/ ١٢٨) لقوام السنة.

وصححه الحافظ ابن حجر، في (الإصابة: ٤/ ٢١٨) في ترجمة عبد الله بن هشام، قال بعد ذكره الحديث: "وهذا موقوف على شرط الصحيح".

قلت: وهذا إن كان موقوفاً، إلا أنه في حكم المرفوع؛ لفعل الصحابة له، أو أكثرهم، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولم ينكر عليهم.

وعن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى الهلال؛ كبر ثلاثاً، ثم هلل كثيراً، ثم قال: هلال خير ورشد ثلاثاً، ثم قال: آمنت بالذي خلقك ثلاثاً، ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وكذا، وجاء بشهر كذا وكذا).
رواه عبد الرزاق، في (الجامع: ٢٠٣٣٨)

وجاء عن قتادة، بلفظ: أنه بلغه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى الهلال، قال: (هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك، ثلاث مرات، ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا)
رواه أبو داوود، رقم: ٥٠٩٢) و (المراسيل، رقم: ٥٢٧) وقال: روي متصلاً، ولا يصح.
وضعفه الألباني، في (ضعيف أبو داوود: ٥٠٩٢)

وقال محققو سنن أبي داوود: "حديث حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات لكنه مرسل. وهو عند المصنف في (المراسيل: ٥٢٧).
وأخرجه عبد الرزاق (٧٣٥٣)، ومن طريقه أخرجه البغوي في (شرح السنة: ١٣٣٦) عن معمر قال: عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى الهلال، كبر ثلاثاً، ثم قال: هلال خير ورشد، ثلاثاً، ثم قال: آمنت بالذي خلقك، ثلاثاً، ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وكذا، وجاء بشهر كذا وكذا.
وله شاهد من حديث رافع بن خديج عند الطبراني برقم (٤٤٠٩) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأى الهلال قال: (هلال خير ورشد، اللهم إني أسألك من خير هذا الشهر وخير القدر، وأعوذ بك من شره) ثلاث مرات. وإسناده ضعيف.
وعن عبادة بن الصامت عند أحمد (٢٢٧٩١) وسنده ضعيف.
وفي الباب عن طلحة بن عبيد الله عند أحمد (١٣٩٧)، والترمذي (٣٧٥٣)، والدارمي (١٦٨٨). وقال الترمذي: حديث حسن غريب. ولفظه: كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام- ربي وربك الله)
وله شاهد يصح به من حديث ابن عمر عند ابن حبان (٨٨٨)، والدارمي (١٦٨٧).
ينظر: (سنن أبي داوود: ٧/ ٤٢٣)


وقال محمد بن نصر المروزي: "قال الجريري: (كانوا إذا حضر شهر رمضان؛ يقولون: اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّم رمضان لنا، وسلِّم منا شهر رمضان، وتقبله منا)".
(مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر: ٢٣٥).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -بعد ذكره مجموعة أحاديث في الموضوع-: "فإذا جمع بين هذا كله؛ كبر ثلاثاً، ثم هلل ثلاثاً، ثم قال: هلال خير ورشد، ثلاثاً، ثم قال: آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك، ثلاثاً، ثم قال: الحمد لله الذي جاء بشهر كذا، وذهب بشهر كذا، اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام).
(شرح العمدة: ٣/ ١٧)

قلت: وإن زاد في جمعه: (اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب ربنا وترضى، ربنا وربك الله.
اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّم رمضان لنا، وسلِّم منا شهر رمضان، وتقبله منا.
اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وجوارٍ من الشيطان، ورضوانٍ من الرحمن)

والله تعالى أعلى وأعلم، وأولى وأكرم، وأعز وأحكم.


أبو نعيم،
وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/٩/١
١٤٤١/٨/٢٩

الأربعاء، 22 أبريل 2020

التهنئة بشهر رمضان.. سنة سيد ولد عدنان (عليه الصلاة والسلام)



سُنيّة التهنئة بشهر رمضان:

لا شك أن المسلم يفرح بمواسم الطاعات، ومواطن النفحات؛ ليتقرب بذلك إلى مولاه سبحانه وتعالى، بل يجد البهجة والسرور، والأنس والحبور؛ لما أولاه ربه سبحانه من النعمة- أن أبقاه حتى يشهد محافل الخير والبركات، والبر والنفحات.

وإن من أعظم مواسم الطاعات، هو شهر رمضان المبارك.

ففيه تأنس النفوس، وتفرح القلوب، وتنشرح الصدور، ويُزداد فيه من أعمال البر والخير، ويقصر عن أعمال الشر والضير.

قال الله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
فافرحوا أيها المؤمنون بشهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من خلقه، فاسألوا الله، أن تكونوا منهم. (١)


وإن من الأمور التي تكتمل بها الفرحة، وتتم بها النعمة: هو التهنئة بهذا الشهر الفضيل، الذي فيه من الفضائل والمزايا الجم الكثير، والغمر الوفير.

وإن الناظر إلى أصل التهنئة لا يخفى عليه حكمها، ولا يشتطّ في الحكم بالبدعة على من هنأ بها.

فالتهنئة: كما قرر غير واحد من أهل العلم، أنها (من العادات، وليست من العبادات) وينظر فيها إلى المعاني والمقاصد.

ولها أصل في الشريعة؛ فقد هنَّأ بعض الصحب، كعب بن مالك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وشرع سجود الشكر عند تجدد نعمة، أو دفع نقمة.

قال ابن القيم، في سياقه لفوائد قصة كعب بن مالك:
"وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته؛ فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال: يهنك بما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها".
(زاد المعاد: ٣/ ٥٨٥).

وأجاب شيخ الإسلام حافظ عصره، بعد اطلاعه على ذلك: بأنها مشروعة، واحتج له بأن البيهقي عقد لذلك باباً، فقال: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد: تقبل الله منا ومنك، وساق ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة، لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة؛ لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة بمشروعية سجود الشكر والتعزية، وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته، لما تخلف عن غزوة تبوك، أنه لما بشر بقبول توبته ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه طلحة بن عبيد الله فهنأه وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
ينظر: (حاشية الجمل: ٢/ ١٠٥)


وفي رسالة السيوطي: (وصول الأماني)، نقَل فيها عن القمولي في (الجواهر) أنه قال: "لم أرَ لأصحابنا كلاماً في التهنئة بالعيدين والأعوام والأشهر، كما يفعله الناس، ورأيت -فيما نقل من فوائد الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري- أن الحافظ أبا الحسن المقدسي: سئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين: أهو بدعة أم لا؟
فأجاب: بأن الناس لم يزالوا مختلفين في ذلك، قال: والذي أراه أنه مباح؛ ليس بسنة، ولا بدعة".


قلت: هذا التحقيق، يتنزل على التهنئة بأوائل الشهور عموماً.

أما التهنئة بشهر رمضان على وجه الخصوص؛ فهو سنة نبوية ثابتة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبشِّر به أصحابه رضي الله عنهم، ويهنئهم.

قال الحافظ ابن رجب: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يبشر أصحابه بقدوم رمضان..
كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبشر أصحابه، يقول: (قد جاءكم شهر رمضان- شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح
أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين- فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)".
(لطائف المعارف: ٢٧٩).


َعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (قد جاءكم -وفي رواية: أتاكم- رمضان؛ شهر مبارك؛ افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
أخرجه أحمد والنسائي، وصححه الألباني، في (صحيح الترغيب: ٩٩٩) 
والشيخ شعيب الأرناؤوط.

قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي: "قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان.
كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟
كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟
كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين؟
من أين يشبه هذا الزمان زمان".
(لطائف المعارف: ٢٧٩).

ويزاد على ذلك؛ لما في شهر رمضان المبارك؛ من تجدد النعم والطاعات، والقرب من رب البريّات، وتصفيد الشياطين والجان، وفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران.


وهنا نقل مفيد للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، قال -رحمه الله-:
"هذه المسائل وما أشبهها، مبنية على أصل عظيم نافع، وهو: أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية؛ الإباحة والجواز، فلا يحرّم منها، ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية.
وهذا الأصل الكبير: قد دلّ عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

فهذه الصور المسؤول عنها، وما أشبهها؛ من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد.

أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى: أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور، ويشوش الخواطر.

ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة، وهي: أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يُلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يُلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً".
انتهى كلامه -رحمه الله-، من (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي- الفتاوى: (٣٤٨).

وقد طبّق الشيخ -رحمه الله- هذا عملياً، حينما أرسل تلميذه الشيخ عبدالله ابن عقيل، خطاباً له في أوائل شهر رمضان من عام ١٣٧٠، وضمّنه التهنئة بالشهر الكريم؟
فردّ الشيخ عبدالرحمن -رحمه الله- بهذا الجواب في أول رده على رسالة تلميذه: "في أسرّ الساعات وصلني كتابك رقم ٩ / ١٩ فتلوته مسروراً، بما فيه من التهنئة بهذا الشهر، نرجوا الله أن يجعل لنا ولكم من خيره أوفر الحظ والنصيب، وأن يعيده عليكم أعواماً عديدة، مصحوبة بكل خير من الله وصلاح".
انتهى كما في (الأجوبة: ٢٨٠) وفي (٢٨٤) ضمّن الشيخ رسالته لتلميذه التهنئة بالعشر الأواخر.

وعلى جواز التهنئة بشهر رمضان:  الشيخ الأمين الشنقيطي، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، وأعضاء اللجنة الدائمة.

وعلى ما سبق من الاستنباطات والنقولات؛ فمن هنَّأ بشهر رمضان؛ فقد وافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية.

وإن قصد إدخال السرور على المسلمين، والتنبيه إلى التزوُّد من العمل الصالح، والتحذير من طول الأمل؛ فهذه مقاصد حسنة جليلة، يرجى له الأجر والثواب، من الله الكريم الوهاب. (٢)

هذا ما أردت قوله ونقله، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يوفقنا لاغتنام الفرص في مواسم الطاعات، ويعيننا على البعد عن المعاصي والسيئات.
والله أعلى وأعلم، وهو أعز وأكرم، و(سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).


كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٩/٨/٣٠
١٤٤١/٨/٢٩


ح...................
(١) وقد كتبت مقالاً، بعنوان: (الفرحة الرمضانية: واجبة شرعية).

(٢) وقد كتبت مقالاً عن التهنئة بالعام الهجري، بعنوان: (قبس من الذكر في جواز التهنئة بالعام الهجري).



الاثنين، 20 أبريل 2020

قول: كيف الحال.. هل حقيقة، أم مجرد سؤال؟!


قول: كيف الحال.. هل حقيقة، أم مجرد سؤال؟!


طبعيٌ أن يَسأل الصغير والكبير، ويُسأل الصغير والكبير أيضاً، -ومن عرف ومن لم يعرف- عن الحال، وربما زِيد، فسئل عن الأهل والعيال؟!

حتى صارت عادة معتادة لدى البعض، -وهي لا تعني شيئاً، سوى: مجرد السؤال والمجاملة، أو العادة العادية، ودليلي: أن السائل قد ينتقل مباشرة إلى حديث آخر، لا يمت للحال بصلة، بل ربما، خاصم بعدها وقاضم، وربما لم يترك الفرصة؛ ليسمع الجواب!

ولا أدري، ماذا يطلق على هذا القول العجيب، والفعل الغريب؟!

ويكون جواب المسؤول: الحمد لله، أياً كان حاله!
وينتهي الأمر، وكأن شيئاً ما كان، ويذهب كل لسبيله!

ويذكرني هذا؛ بذاك الأعرابي الكوفي، الذي كان له صديق، يظهر له مودة ونصيحة، فاتخذه الأعرابي من عُدده للشدائد؛ إذ نزل بالأعرابي أمر، فأتاه، فوجده بعيداً مما كان يظهر له، فأنشأ يقول:

إذا كان وُدُّ المرء ليس بزائدٍ *** على "مرحباً" أو "كيف أنت" وحالكا؟!

ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً *** فأفٍ لودٍ ليس إلا كذلكا

لسانك معسولٌ، ونفسك بَشّة *** وعند الثريا من صديقك مالَكا

وأنت إذا هَمَّت يمينك مَرَّة *** لتفعل خيراً قاتلتها شمالك


وقال آخر:
تودّ عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك، ليس النوك عنك بعازبِ

وليس أخي من ودني رأي عينه *** ولكن أخي من ودّني في المغائبِ

ومن ماله مالي إذا كنت معدماً *** ومالي له إن عضّ دهر بغاربِ

فما أنت إلا كيف أنت؟ ومرحباً! *** وبالبيض رواغ كروغ الثعالبِ


أقول: هذا حال الكم الكثير، والجم الوفير، حاشا بعض الكرام، الذي (إذا قال؛ فعل)!
ولا أعني بـ (إذا قال؛ فعل)؛ إعطاء المال، أو إنهاك الجسد، بل أعني: الانتباه لعظم هذا السؤال، فليكن بعده، حسن الإنصات والإعمال!

ولكن، أن يطرأ على صديق تغيّر، أو يحل به تحيّر، فلا يشعر به إلا: الصديق الصدوق، والمحب الشعور، الذي يهمه شأنه، ويغمه شينه!

فيسأل سؤالاً زائداً عن السؤال الزائف عن الحال؟
كأن يقول: ما لي أراك مهموماً، ولمَ أسمعك مغموماً... هل تشعر بأنغاص، أو  تعاني من أنقاص؟
فيكون جوابك: "الحمد لله رب العالمين".

فيأبى عليه، ويصرّ إليه، إلا ما أخبره بداخلة أمره، وخبي خبره، فيقول: نعم، الحمد لله، ولكن أنت صديقي، وأنا أشعر بك يا رفيقي.
ثم يضيف: ولا خير في صحبة بدون شعور!
فيكون جواب الصديق: نعم، أمرُّ ببعض الكروب، وزارتني بعض الخطوب، -والحمد لله-، وأرجو دعاء ربك الكريم، علام الغيوب.

فيمضي داعياً، ولشكواه شاكياً، ولبكاه باكياً، ولكن بعد أن عمل معه، ما يخفف الوطأة، ويقضي النسأة، ويروي الغلة، ويسد الخلة، بما يسطيع ويستطيع.

فيشعر بنفسه، وقد ارتاحت ولانت، وشعرتْ بالونيس والأنيس، وأيقنت أن الصاحب ليس مجرد جليس، بل له واجبات، وعليه مهمات.

ولكن.. ولكن: أين هؤلاء الشعورون، الذين يؤنسون ويونسون إخوانهم وأصدقاءهم، ومن يعرفون؟!
أين هم، لا تجدهم إلا في النزر النادر، والقليل السائر، فهم: أندر من الكبريت الأحمر، وأقل من الجمل الأحمر، وأعدم من البقر الأصفر، في القلة والندرة!
فإلى الله المشكى والملجى.

وصار الأمر، كما قال الحريري:
لا تغترر ببني الزمان، ولا تقل: *** عند الشدائد لي أخ ونديمُ

جربتهم، فإذا المعاقر عاقر *** والآل آلٌ، والحميم حميمُ


بل بعضهم، لا يسأل حتى عن زوجته، إذا رأى عليها تغيراً، أو لمس منها تنكرا!
وكأنه، أمر لا يعنيه، وشأن ليس شأنه!
وكأنه، يحسب أنه في يوم القيامة، لا لوم عليه ولا ملامة: "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه"!
والله المستعان.

لا يا أُخي، لا زلت في الدنيا، وأعيذك بالله أن تكون منهم يوم يقوم الناس لرب العالمين، فاعمل جميلاً، تلقه هناك.

وإذا نظرنا إلى هذا الخلق اللئيم.. رأينا أنه خلق وافد علينا من الغرب الكافر الغادر، الذي يؤمن بالماديات والمحسوسات، ولا يعرف معنى الإخاء، بل لا يعلم للقرابة معنى!


فيا أيها الأصدقاء: تفقدوا إخوانكم، واسألوا عن أحوالهم، وتلمسوا حاجتهم، فلا يخلو أحدهم من أمْر أَمِر.. كل على قدر أربه وغرضه.

فهذه تعاليم الإسلام، وأخلاق رسول الأنام -عليه الصلاة والسلام-، فقد كان دائماً ما يسأل عن أصحابه، بل كان يسأل عن الجميع، ويحرص على هداية الكافرين، بل كان يتلهف عليه الصلاة والسلام، ويتشوف لإخوانه المسلمين أجمعين، الذين لم يولودا بعد!
فـ لا إله إلا الله، أيّ قلب يحويه بين جنبيه، هذا الرسول العظيم، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.

ولم يكن سؤاله عليه الصلاة والسلام، مجرد سؤال فحسب، حاشاه بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم، بل كان يعمل بموجب السؤال..
فمن كان مريضاً؛ زاره، ومن كان محتاجاً؛ ماره، ومن يبغي مشورة؛ شاره..
وهكذا، يقضي لكل حاجته، ويسد فاقته، ويفتق خلته.

فأيّ خلق يحمله، وأيّ نفس كبيرة لديه، وأيّ صدر فسيح عنده؟!
لا ضير، فقد زكاه ربه: "وإنك لعلى خلق عظيم".

ويجدر بنا ويجمل، ويحسن ويفضل.. أن نتبع رسولنا الكريم، عليه الصلوات والتسليم، بل هذا هو الواجب علينا، قال الله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، إلا لصارف، ولا صارف.

ويا أخي: لا تقل، أنا لا أحتاج لأحد! بلى -وربي- أنت بحاجة إلى أصغر صغير، فكيف بالكبير، مصداق ذلك، قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان)، وهل رأيتم بنياناً يقوم دون تكاتف من بعضه؟!

وصدق من قال:
ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻣﺎﺩﺍﻡ ﺍﻟﻮﻓﺎﺀ ﺑﻬﻢ *** ﻭﺍﻟﻌﺴﺮ ﻭﺍﻟﻴﺴﺮ، ﺃﻭﻗﺎﺕ ﻭﺳﺎﻋﺎﺕُ

ﻭﺃﻛﺮﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺭﻯ ﺭﺟﻞ *** ﺗﻘﻀﻰ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻩ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺣﺎﺟﺎﺕُ


والدنيا، ليست دائماً مواتية لك ومؤاتية، بل هي دول، والرحمن: "كل يوم هو في شأن".

ولله ابن الوردي، حيث قال في (نصيحة الإخوان):
اترك الدنيا، فمن عاداتها *** تخفض العالي، وتعلي من سفلْ!

وقال:
كم جهول بات فيها مكثراً *** وعليم بات منها في عللْ

كم شجاع لم ينل فيها المنى *** وجبان نال غايات الأملْ

فاترك الحيلة فيها واتكل *** إنما الحيلة في ترك الحيلْ

فأحسن؛ يحسن إليك.

وأما قبل،، فهذه كلمات كتبتها؛ لأني عايشت أثرها ووجدته ولمسته، وعانيته وحسسته، وعاينته وجسسته.

ولكم أن تتخيلوا حجم القضية التي لم ننتبه لها، من آلاف الأصدقاء، لم يسأل عن الحال، إلا قلائل من الرجال!
وبمقدار ما لمتُ إخواني وألومهم؛ ألوم نفسي وأوبخها.

وعلى كل، هي ذكرى وزفرى لي ولكم، علّها تجد كريماً يقبلها بمعروف، ويجعلها من المألوف.
والله يمنّ علي وعليكم بالأخلاق النبيلة، والخصال الجميلة، فـ (إن الله جميل، يحب الجمال) فتجملوا بالجمال والجمال والجمال..

محبكم: وليد بن عبده الوصابي،،
١٤٣٧/٦/٢٦
١٤٤١/٨/٢١



السبت، 18 أبريل 2020

أمراض اليوم ومرض القوم!

أمراض اليوم ومرض القوم!


أشهر الطواعين خمسة:
قال أبو الحسن المدائني: "كانت الطواعين العظام المشهورة في الإسلام خمسة:
١-طاعون شيرويه بالمدائن، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، سنة ست من الهجرة.

٢-طاعون عمواس، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفا، وكان سنة ثماني عشرة.

٣-طاعون الجارف في زمن ابن الزبير، في شوال سنة تسع وستين، هلك في ثلاثة أيام، كل يوم سبعون ألفاً، مات فيه لـ أنس بن مالك رضي الله عنه؛ ثلاثة وثمانون ابناً، ويقال: ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لـ عبدالرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً.

٤-طاعون الفتيات؛ لأنه بدأ بالعذارى، في شوال سنة سبع وثمانين بالبصرة وواسط والشام والكوفة.

٥-طاعون في رجب، سنة إحدى وثلاثين ومائة، واشتد في شهر رمضان فكان يحصى في سكة المربد في كل يوم ألف جنازة أياماً، ثم خفّ في شوال".

(شرح مسلم: ١/ ٩٦) و (كتاب الأذكار: ١٥٥) كلاهما للإمام يحيى بن شرف الدين النووي.


قال أبو نعيم -كان الله له ومعه: الذي ينظر إلى هذا الوباء الجارف الحاصد.. يتسلى بالحاصل الآن، مع التفاؤل بالزوال؛ فإنه لا شيء مقارنة بأمراض من سلف.


وقد يقول قائل: كيف تصيب هذه الأمراض القاتلة، تلك القرون الفاضلة؟

أقول -والعلم عند الله تعالى-:
أولاً: إن الأمراض لا علاقة لها بالصلاح أو الفساد، وإن كان يستأنس بها، فللصالح؛ ابتلاء، وللطالح؛ بلاء.

‏‎‎عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الطاعون؟ فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد).
رواه البخاري.


ثانياً: إن الطاعون وباء معروف من قديم، ليس كأمراض العصر التي لم تكن تعرف في الزمن الماضي، بل كانوا يعدونه فضلاً من الله ونعمة؛ لأن المطعون شهيد.
وقد أُلِّفت في الطاعون، وفي فضله.. التواليف الكثيرة، حتى ناهزت المائة أو نافت!

ثالثاً: إن عدم مرض الكافرين، أو أخذ الظالمين، ليست رحمة بل هي نقمة.
ولا ننسى سنة الإمهال والاستدراج؛ لمن طغى وبغى؛ فحقت عليه كلمة العذاب..

قال تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون".
‏قال سفيان الثوري: "‏كلما أخطؤوا خطيئة؛ أنعمنا عليهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار".
(المخلصيات، رقم: ٢٣٥٢).

وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه من الدنيا؛ فاعلم أنه استدراج، وتلا قوله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون").
رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.

و‏‏قال الإمام الطبري: "وأصل الاستدراج: اغترار المستدرَج، بلطف من استدرجه، حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسن، حتى يورِّطه مكروهاً".
(تفسير الطبري: ١٣/ ٢٨٧)

رابعاً: إن الدنيا ليست موطناً للفوز والانتصار؛ لأنها دار ابتلاء واختبار، ومن المعلوم: أن الفوز أو الخسران، لا يكون إلا بعد الاختبار والامتحان؛فلذلك كان القوم (وهم القوم حقاً)؛ يأنسون بالأمراض، بل إن بعضهم: كان يتهم نفسه إذا لم يمرض!

وهذا أكرم الخلق، وقرين الحق؛ كانت تعتريه الأمراض والأسقام..
قال ابن رجب: "وكان صداع الرأس، والشقيقة.. يعتريه كثيراً في حياته، ويتألم منه أياماً- وصداع الرأس من علامات أهل الإيمان، وأهل الجنة".
(لطائف المعارف: ١٠٥)

بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدهش في ذلك!
عن أبي هريرة قال: (مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، أعرابي، أعجبه صحته وجلده، قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: متى أحسست أم ملدم؟ قال: وأي شيء أم ملدم؟ قال: الحمى، قال: وأي شيء الحمى؟ قال: سخنة تكون بين الجلد والعظام، قال: ما لي بذلك عهد! قال: فمتى أحسست بالصداع؟ قال: وأي شيء الصداع؟ قال: ضربان يكون في الصدغين والرأس، قال: ما لي بذلك عهد! قال: فلما قفا أو ولى الأعرابي، قال: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل النار؛ فلينظر إليه).
أخرجه أحمد في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان، وضعفه أحمد شاكر، وصححه الألباني، والوادعي.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك، بالطعن والطاعون).
رواه أحمد وصححه الألباني.

"قال العلماء: أراد -صلى الله عليه وسلم-: أن يحصل لأمته، أرفع أنواع الشهادة، وهو: القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم- إما من الإنس، وإما من الجن".
(فتح الباري: ١٠/ ١٩٠).

وقال ابن حجر: "والطاعون لمُؤمِني هذه الأمة.. رحمة، وشهادة".
(بذل الماعون في فضل الطاعون: ٧٨).

خامساً: كانوا يعدّون الأمراض؛ مواسم، للتوبة والأوبة!
قال أبو الوفاء ابن عقيل: "الأمراض.. مواسم العقلاء؛ يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم، إن كانوا من أرباب الزلات، ويستزيدون من طاعاتهم، إن لم يكونوا أرباب زلات، ويعتدونها، إن خلصوا منها بالمعافاة.. حياة بعد الممات، فمن كانت أمراضه كذا؛ اغتنم في الصحة صحة، فقام من مرضه: سليم النفس والدين.
والكافر.. ينفق على الأدوية، ويعالج الحمية، ويوفي الطب الأجر، وليس عنده من علاج دينه خبر.. فذاك ينصرع بالمرض انصراع السكران، ويفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثان".
(كتاب الفنون: ١/ ٤١٣).

والبلاء عندهم كالدواء.. يقول ابن القيم: "ابتلاء المؤمن، كالدواء له، يستخرج منه الأدواء، التي لو بقيت فيه، أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة".
(إغاثة اللهفان: ٢/ ٩٣٥).


وأخيراً: الواجب على الجميع: الثقة بالله تعالى، وصدق التوكل عليه سبحانه، والتوبة والأوبة إليه، ومراقبته في كل خلوة وجلوة، والإكثار من فعل الطاعات والقربات، والابتعاد عن المعاصي والسيئات.

ويتوجب على الجميع: أن يتكافلوا ويتآلفوا ويتقاربوا ويتعاونوا ويتآزروا.. فيما بينهم، وكل يتفقد قريبه وجاره، ولنبتعد عن الأثرة والأنانية.
وإن فرج الله قريب.


وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٧/٢٣

الخميس، 16 أبريل 2020

رحيل المسند المعمر محمد إدريس الكاغاني:


رحيل المسند المعمر محمد إدريس الكاغاني:
#وفاة_علم
توفي اليوم الخميس ١٤٤١/٨/٢٣، مجيزنا المعمر محمد إدريس بن الشيخ السيد رسول الكاغاني الهزاروي.. عن مائة سنة ونيف.

ولد الشيخ -رحمه الله- سنة ١٣٣٥هـ في قرية راجوال، من أعمال هزاره في باكستان.

وأخذ التعليم الابتدائي من أبيه الشيخ السید رسول، وسمع "صحيح البخاري" و"جامع الترمذي" على شيخ الإسلام حسين أحمد المدني، و"صحيح مسلم" على العلامة إبراهیم البلیاوي، و"سنن أبي داود" على الشيخ إعزاز علي الأمروهي، و"سنن النسائي" على الشيخ عبدالحق نافع، و"سنن ابن ماجه" على المفتي رياض الدين، والشيخ أبي الوفاء الشاهجهان فوري.

واستفاد من العلامة عبيد الله بن الإسلام السندي، وحضر لدى الشيخ أحمد علي اللاهوري في دورته التفسيرية.

وهو من الرواة عن الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي وغيره من أهل العلم والفضل والعلو.

واشتغل بالتدريس في مدرسة بـ "جهلم"، واستمر فيها مدة طويلة مع الإمامة في مسجد من مساجدها.

وقد أُجزت من الشيخ، بوكالة الشيخ ظهور أحمد الحسيني -كوفئ بالخير-، يوم الجمعة ١٤٤١/٧/١٨، عبر الماسنجر.

رحم الله الفقيد رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار.

ملاحظة: استفدت الترجمة من ترجمة منشورة للدكتور محمد أكرم الندوي لشيخه الكاغاني.

وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٨/٢٣

الاثنين، 13 أبريل 2020

دموع السَّحَر!

دموع السَّحَر!

بينا أنا في نوم متقطع (وكيف يهنأ المغترب بنوم؟)؛  وكنت على موعد مع عيش روحي، ولهو نفسي.. مع أهلي وولدي!

بينا أنا في هذا الجو المأزوم، إذ بي أسمع نشيجاً متهدجاً، لم أتبينه، ولم أكن أتحينه!
قلت: صاحبي مزكوم -شفاه الشافي، وعافاه المعافي، وداواه المداوي-!

انقلبتُ على جنبي الآخر؛ فسمعت حسيساً، وإذا به صاحبي، يقوم من فراشه الخشين، إلى الخلاء!

انتظرت، حتى رجع إلى مكانه؛ لأن جفني كان قد انفتح وأبى علي الإغماض!

قدّر البين بيننا فافترقنا *** وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا *** فعسى باجتماعنا سوف يقضي


عاد صاحبي، ففاتحته وحادثته، وتكلمت معه وإليه، وإذا بصوته مبحوح، ثم قال: ذكرت أولادي؛ فنزلت دموعي!

وإذا سمعت نشيج نفسي بالدجى *** أبكي شباباً ضاع في السفرانِ!

عند سماعي كلمة (الأولاد)؛ استوفزت، وقمت متكئاً على مرفقي، وتذكرت نفسي المثخنة، وروحي المتعبة، وعيني المقرحة:

كلانا مريضان في بلدة *** وكيف يعود مريض، مريضا؟!

لكني، لم أقف مكتوف الأيدي، واجم الفؤاد، مخروس اللسان.. بل استحضرت كل ما قدرت عليه، من: مواساة ومؤاساة، وقصص ومواقف، وتجارب وأخبار.. حتى سلا صاحبي قليلاً..
وكيف له السلاء جميعه، وهو مفرّق الجسد، ممزع القلب، "خالي الوفاض، بادي الأنفاض"!

أيها الراكب الميمم أرضي *** أقرِ من بعض السلام لبعضي

إن جسمي، كما علمت، بأرضِ *** وفؤادى ومالكيه، بأرضِ!


وكأني به حينها، يودّ- لو أن له أجنحة؛ لطار بدون مطار، ولكن، لا جناح، بل ولا معير جناح!

أسرب القطا، هل من يعير جناحه *** لعلِّي إلى قد من هويت أطيرُ؟!

فلما كانت الليلة الثانية؛ زارته أشجانه أخرى؛ فأسالت دموعه، وأتعبت فؤاده، وأجهدت روحه، وأقضّت مضجعه، وأبلّت مخدعه!


آه، أما آن لك أيتها الأحزان.. أن تغادري مخدعنا.. أما آن لك أيتها الأشجان.. أن تفارقي مجمعنا.. أما آن لك أيتها الأتراح.. أن تصارمي مرتعنا؟!

ألا تكفينا الغربة، التي تجلدنا بسياطها الذفيفة.. ألا يكفينا الحجر، الذي عطلنا عن أعمالنا الحفيفة.. ألا يكفينا الضجر، الذي يلهب نفوسنا الشفيفة.. ألا يكفي ... ألا يكفي؟!

رباه، طال الأسى، وزاد القسى، وأنت -وحدك- المعاذ والملاذ؛ فاكتب لنا حياة: هنيئة مريئة، مريحة فريحة، بديعة وديعة، يا رب يا رب.

و ع ي
١٤٤١/٨/١٩

السبت، 11 أبريل 2020

ليتك ما جيت، وقعدت بالبيت!

ليتك ما جيت، وقعدت بالبيت!

هكذا قال له كثير ممن قابله، عندما سافر من بلاده، إلى بلاد أخرى؛ للعمل والرزق؛ وذلك قبل تمدد هذا الفيروس المستطير! (كفى الله المسلمين شره وضره وحره وجره)
فلما جاء المسكين؛ لم يقدّر له عملاً؛ إذ كان الحجز والحجر!

فكان أصحابه، كلما قابلوه.. أسمعوه هذه العبارة المصمة المحمة المغمة (ليتك ما جيت، وقعدت بالبيت)!

ومعنى كلامهم: لو أنك قعدت في بلدك، وبين أهلك وولدك، وحجزت نفسك ثَم!

فكان يجيبهم برضى واطمئنان، وكلمات ملؤها الإيقان والإيمان: لو كان اختياري المحض؛ لكنت نادماً، لكني استخرت ربي سبحانه وتعالى، "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة"، و"والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

إن ربي جل وعلا، (العظيم، العليم، الحكيم، الرحيم، الحليم، الكريم)؛ لن يقدر لعبده المؤمن (وأنا أرجوه) إلا الخير والتيسير، واللطف والتدبير، وإن ظُنّ بدءاً، أنه ليس كذلك.
(والشر ليس إليك) سبحانك، ما أعظم شانك.

إن أفعال الله سبحانه.. دائرة بين الرحمة والحكمة، فالرحمة: تكون ظاهرة للعيان، أما الحكمة: فقد تخفى عن عقل الإنسان؛ لضعف كنهها وإدراكها، ولكنها قد تتبين بعد أمد.

حارتِ الأفكار في حكمة مَنْ *** قد هدانا سبْلنا عزّ وجلْ

"فإن كل ما فعله الرب ويفعله.. لا يخرج عن العدل والحكمة، والمصلحة والرحمة".
(مفتاح دار السعادة: ٢/ ١١٠)

وكنت أرى الناس، حين سماعهم هذا الثبات- التي تتكسر عليه جماجم الشكوك، ورؤوس الاعتراض، وزوابع الشيطان؛ يسكتون ويعجبون، ثم يقولون: صدقت والله، هذا قضاء الله وقدره. 

"اللهم إليك خرجت، وأنت أخرجتني، وإليك جئت، وأنت جئت بي، وبفنائك أنخت، وأنت حملتني..
اللهم قلبي وناصيتي بيدك، لم تملِّكني منهما شيئاً؛ فكن أنت وليي، واهدني سواء السبيل، واقدر لي الخير حيثما كان، ثم رضّني به".


وكتب: وليد أبو نعيم
١٤٤١/٨/١٨



الاثنين، 6 أبريل 2020

رحيل الأديب الغيور اللوذعي اليلمعي علي بن عبد الله الواسعي

رحيل الأديب الغيور اللوذعي اليلمعي علي بن عبد الله الواسعي:

وفاة علم

قرأت اليوم الاثنين ١٤٤١/٨/١٣، نبأ وفاة الأستاذ الصحفي الطبيب الأديب الغيور اليلمعي علي بن عبد الله الواسعي.

مات -رحمه الله وغفر له-، نئياً قصياً عن البلد والولد.. فقد مات في دولة تركيا، بهذا الوباء الحال، فيروس كورونا! فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون"، (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى).

والأستاذ علي، من مواليد عام ١٣٤٩ / ١٩٣٠م بمدينة آنس، محافظة ذمار، منطقة جهران، في الجنوب الغربي من العاصمة صنعاء الشماء.

سكن العاصمة صنعاء، ولبث فيها، حتى عام ٢٠١٤م، فسافر، ولا يريد السفر، ولكن (مكره أخاك لا بطل)!

متزوج، وأب.. لثلاثة أبناء، وثلاث بنات -حفظهم الله ورعاهم، وجعلهم خير خلف لخير سلف-.

كان -رحمه الله- متشوفاً للعلم والمعرفة من صغره، فقد دخل الكتاب، ثم المدرسة العلمية، الذي درس فيها: الفقه، والعربية، والتفسير، وأصول الفقه، وأصول الدين.

وكان -رحمه الله- متشوقاً؛ ليرى المدارس والجامعات العملاقة في بلده الذي عاش ردحاً من الزمن، في منأى عن العالَم الخارجي!
قلت: (وفي هذا خير وشر، ليس المكان محل تفصيله).

وكان يسعى بجده وكده؛ ليخرج بلده الحبيب (اليمن السعيد) من وهدة رقاده، والرجوع له إلى سالف مجده وأمجاده.

أسس مجلة الإرشاد؛ لتكون نبراساً وضاءاً، ومقباساً وقاداً، للجيل اليمني المثابر، وظل رئيساً لتحريرها مدة (١٢) اثني عشر عاماً.

ثم أسس مجلة النور، ثم مجلة التحرير؛ لنفس الهدف العلمي، والسمو الروحي.

وكتب مقالات أسبوعية متفرقة ومتنوعة، في بعض الصحف اليمنية، منها: الصحوة ـ الوحدة ـ الميثاق ـ ٢٦ سبتمبر.

ثم عمل بوازارة الصحة، مديراً عاماً للصحة الوقائية، بعد ابتعاثه عام ١٩٦٦م، لدوارت صحية، إلى دمشق الفيحاء.

ثم انتقل إلى العمل الإعلامي، فعمل في إذاعة صنعاء، فكان مشرفاً على البرامج، وكان يكتب ويقدم بعض البرامج، كبرنامج "أضواء على الدّستور" و "جريدة الصّباح" و "الأسرة" كما أنشأ برنامج "فتاوى".

ثم عمل في المجلس الوطني، ثم تسلم نائباً للأمين العام، لمجلس الشورى.

وخلّف تراثاً مطبوعاً ومخطوطاً، من ذلك:
-جمع مذكرات العزي صالح السنيدار، وطبعت، باسم (الطريق إلى الحرية).

-كتاب عن رحلاته إلى أوربا وأمريكا وأندونيسيا وباكستان.

-حوار مع ملحد.

-بحث عن المرأة.

-تأملات مجنون.
ويقول عن هذا الكتاب: "الإنتاج الذي أعتز به أكثر من غيره؛ هو "تأملات مجنون"؛ وذلك لأنني مررت بحالة فقدت فيها وعيي، وفي نفس الوقت كنت أشعر بأن حالتي غير طبيعية.. وبعد أن شفيت -والحمد لله- صوّرت كل ما مر بي في تلك الحالة".

أقول: ولكن، يلفّك العجب، ويحفّك الغرب.. حين أن تبحث عن ترجمة واسعة للعالم العامل؛ فلا تجد إلا نتفاً وأفتات، من مقالات ولقاءات!
ثم تتلفت أخرى، إلى تراثه- من مقالات ومؤلفات؛ فلا تظفر منها، ولو بلمظة ولا ومضة!

وللأسف، كم في بلدان العالَم من علماء فضلاء، وأشياخ نبلاء، ولكنهم في غياهب النسيان، وفي سباسب السهوان، لا سيما بلدي الحبيب، المسكين اللهيب، المغلوب على أمره: قبلاً وحالاً، فهم دوماً- في رزوح أو نزوح!
فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون"، و (لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم).

وكان - مترجمنا الفقيد-؛ يسوؤه ما يرى من تخلفات ومخالفات ما بعد الثورة اليمنية، فاسمعه يقول: "الذي تحقق من الآمال؛ "الثورة" على الوضع الذي كنا نعيش فيه.. أما الذي لم يتحقق بعد؛ فهو تنقية الثورة مما لحق بها.. وما زلنا نجاهد لكي يعود لها وجهها الإسلامي المشرق".

وكان صاحبنا؛ أديباً إسلامياً خالصاً، كارهاً للحداثة والتغريب، فانظره عندما سئل:
"كيف تنظرون إلى رافعي راية الحداثة في الأدب، وماذا تقولون لهم؟
فأجاب: يكفي في الرد عليهم:
-أن دعوتهم منقولة من الغرب حرفياً، وليس فيها من العربية غير الكلمات العربية!
-كما أنها، ليست مجرد مذهب في الأدب -كما يزعمون- بل إنها تُخفي وراءها، هدفاً لكل مقوماتنا.. إنها واحدة من الحركات الهدامة التي ابتلينا بها منذ زمن بعيد".

واقرأه، -مبيناً حيز الحرية المزعومة-: "هناك دائرة، من تعداها لا يقبل منه ذلك، أما ضمن هذه الدائرة- دائرة الإسلام وثوابه، فكل رأي يدخل ضمن الاجتهاد.. ولكن هؤلاء يريدون القفز فوق الإسلام، ويريدون أن يسمع لقولهم.. مع أن الحرية المطلقة التي لا قيد عليها قط؛ ليست إلا خيالاً، ومَن يتغنون بذلك ليس عندهم هذه الفوضى بل هناك قيود يقفون عندها".

وكان -طيب الله ثراه-؛ لا يهادن في الدين، كما يفعل بعض الرقعاء، أو يهاود في القيم، كما هي تراخيص الرخصاء، رغم سفره إلى دول غربية عديدة.

وما أعظم موقفه ذاك، مع المرأة الغربية، التي مدّت يدها لمصافحته، أمام جمع من الناس؛ فرفض مصافحتها بلطف واحترام، مكتفياً رد السلام بالكلام؛ مبيناً لها، أن دينه يحرم عليه ذلك!
فغضبت أولاً، فلما علمت صلابته وصرامته؛ أكبرته وأعظمته!

قلت: وتالله، إنه لموقف يعجز عنه الكثير.. فعندما تقرأ، سير أو مذكرات بعض الأدباء؛ تصك سمعك، وتقذي عينك، تيك العلاقة الخسيسة التعيسة بينهم وبين نساء أحنبيات، وربما كان أمام أزواجهن!
وعندي أمثلة على ذلك وشواهد، لكني أطوي عنها كشحاً:

سيعيد الله كلاً منهمُ *** وسيجزي فاعلاً ما قد فعلْ
"ذلك بما قدمت أيديكم" و(والله الموعد).

بل لا يكتفي بعضهم بالعجز والضعف والخور، بل يمضي يدلل ويعلل، ويسوغ ويفرغ لموقفه المحرم المذمم!
وهذا لعمري، من الخذلان؛ أن تفعل معصية، ثم تدافع عنها!

وفي هذا المقام، أذكر موقف الشيخ الأديب الغيور علي الطنطاوي، عندما كان يحلق لحيته!
قال: "أما حلق اللحية؛ فلا والله ما أجمع على نفسي بين الفعل السيء، والقول السيء، ولا أكتم الحق؛ لأني مخالفه، ولا أكذب على الله، ولا على الناس.
وأنا أُقر على نفسي، أني مخطئ في هذا، ولقد حاولت مراراً، أن أدع هذا الخطأ، ولكن غلبتني شهوة النفس، وقوة العادة، وأنا أسأل الله أن يعينني على نفسي حتى أُطْلقها"، ثم علق في الحاشية، قائلاً: "وقد أعانني، فله الحمد".
(مع الناس: ١٧٧)

ربما، أطلت، وخرجت عن الهدف والقصد من السيرة، ولكنها زفرة غريب، في زمن عجيب؛ لأنه قلّ وندر- أن ترى أديباً متديناً!
نعم، وللأسف، قلما تلد الأمهات مثل فقيدنا الغيور: علي الواسعي؛ نفرح به ونأنس، وعلى كلٍ، فالله حافظ دينه، أياً كان أهله.

وإنك قارئ -أيها القارئ-، في سحنته؛ الصدق والصلاح، والسداعة والوداعة مع الصلابة والصداعة، وغزر النظر، وثقب البصر..

ولا أدري، لمَ تذكرني صورته، بشيخي الأديب المحقق: عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي -حفظه الله وأعزه-؟ ربما؛ لتقاربهما، في: الشبه الحسي والمعنوي، وفي الأدب، والهدوء، والتؤدة، والعمل بصمت، والبعد عن الأضواء، والغيرة على التوحيد والأعراض.

ملاحظة: استفدت ترجمة الفقيد، من بعض المقالات واللقاءات معه، ومن مقال الدكتور الفاضل أحمد بن محمد الجهمي المصباحي -وفقه الله-.

أسأل الله تعالى، أن يرحم هذا الغيور الفاضل، وأن يسكنه بحبوحة جنته، وأن يشفي أهله وذويه، ويلهمهم السلو والصبر، ويجزل لهم الفضل والأجر.

وكتب: وليد بن عبده الحطامي الوصابي.
١٤٤١/٨/١٣