عُمْرةُ أُمّي
نُمِي إلي.. أن خالي الفاضل -حفظه الله ورعاه- عزم على السفر؛ لتأدية العمرة.
هاتفته فوراً، وسألته؟ فقال: نعم، مسافر غداً بعد العصر -إن شاء الله-!
قلت له: لو أنك كلمتني؛ لتسافر أمي معك؟
قال: أنا كلمت أمك!
قلت له: يا خال، أنت تعرف أن الحياء طاغ على أمي حتى من أولادها، فلا تقوى أن تطلب منا شيئاً -ولكن نحن نبادرها بحاجاتها، والحمد لله-.
أنهيت المكالمة معه، على بصيص من أمل.. أن ينتظر والدتي الكريمة.
صوّت هاتفي، منوهاً بوجود رسالة؛ فتحتها.. فإذا فيها البشرى، بالانتظار، ولكن: عليها السفر من محافظة إلى العاصمة الآن -يعني: بعد الظهر-.
فرِحت، واتصلت على والدتي، وأخبرتها؛ ففرحتْ، حتى سمعت حشرجة صوتها، وحثثتها على السفر -وهي -عافاها الله- تكره السفر جداً، فهي حلس بيتها، لا تخرج إلا إلى مسجد تحفيظ القرآن الكريم، أو زيارة قريباتها وصديقاتها-.
سافرتْ مع ابن أختي إلى صنعاء، وتعبت أشد التعب، ولم تخبرني بذلك -شفقة علي- إلا بعد أيام، حتى قالت لي: والله يا ابني، لقد شاهدت الموت أمام عيني؛ وذلك لأنها كانت تتقيأ على طول الطريق، في مدة لا تقل عن خمس ساعات، ولا تطيق أكلاً تعوِّض به ما خرج منها!
وعند وصولها صنعاء، أخذ خالي وأبناءه جوازها -جزاهم الله الخير- وذهبوا به إلى بيت الموظف، ولم ينتظروا وقت الدوام، فأخذه منهم، وأرسله ليحظى بالتأشير!
وبعد يومين؛ تصلني رسالة من خالي، يخبرني أن جواز الوالدة قد تأشر، وسيسافرون -إن شاء الله- غداً بعد العصر!
قرأت الرسالة، وأنا لا أكاد أصدّق -لكنه الصدق والتوفيق-؛ إذ أن الجواز يأخذ غالباً من أسبوع إلى أسبوعين ربما!
-والحمد لله-.
سافروا، ونحن على تواصل مستمر معهم على طول الطريق، حتى أني لم أذق لذة النوم مدة سفرهم!
ولعلكم تعجبون، إذا علمتم أن السفر استمر ثلاثة أيام بلياليها، لا يتوقفون إلا غِباً؛ وذلك لأن الطريق بعيدة جداً، وزد عليه، أنها بمنتهى السوء، فلا تتجاوز كيلو متر، إلا وحفرة أو مرتفع!
وبعد طول انتظار، -وما أشد انتظار من تحب، كيف والمنتَظر، هو أمي وقرة عيني- وصلوا الساعة العاشرة صباحاً..
ولا تسألوني عن كيفية لقائي بوالدتي، فلا أستطيع وصفه؛ لما يحويه من نشيج مع شعور بهيج، وقُبَل الرحمة والمحبة..
نزلوا في قلوبنا قبل بيوتنا -على المجاز؛ لأنه لا بيت لي- والحمد لله- وطلبتُ من والدتي الراحة، والاعتمار في اليوم الثاني؛ لتنفض غبار السفر ووعثائه؛ فأبت إلا رؤية الكعبة والحرم، وشرب زمزم، ولم ترها قط إلا عبر الشاشات الوهمية -على قلة مشاهدتها؛ لأنها لا تحبها ولم تُدخلها بيتها قط-.
ولما أن بدا لنا الحرم من بعيد، وأنا آخذ بيدها، شعرت بحركة واضطراب، وسمعتها تتمتم بكلمات مع حشرجة، تحاول إخفاءها، ولكن:
(تفيض العين عند امتلائها)!
لما بدأنا العمرة، أشرت عليها؛ أن آتي لها بعربة كهربائية، فرفضتْ تماماً، ووالدتي -حفظها الله ووالديكم- جاوزت الستين، مع زور الأمراض لها، ومع هذا؛ طافت برجليها وسعت، دون تعب أو إجهاد -والحمد لله- على نيل المراد.
وكانت في طوافها، لا يفتر لسانها عن الدعاء والذكر لنفسها وأولادها ووالديها، بل حتى أصدقائي لم تنسهم!
وكانت تكثر من التعجب، وتقول لي: يا وليد، هل حقيقة هذه هي الكعبة، والله، لكأني في حلم!
ثم تواصل في حمدها وشكرها لربها سبحانه وتعالى.
بعد أيام؛ ذهبت بها إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، -وكانت هي زورتي الأولى لها، وقد تشوقتُ لها كثيراً، وكتبت مقالاً، وسمته، بـ: الصبابة إلى طابة!
وصلنا المدينة النبوية، -ومن توفيق الله عز وجل، أن يسر لنا السكن بجوار الحرم المدني، وهذا من الأمنيات-.. ففرحتْ كثيراً كثيراً، وكانت تذهب الحرم المدني، مصلية فروضها، بانشراح وارتياح، وسكينة وطمأنينة.
وذهبتُ بها إلى بعض مشاهد الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام، كـ جبل أُحد، وجبل الرماة، ومسجد قباء، وصلينا فيه ركعتين؛ مؤتسين بالحبيب عليه الصلاة والسلام، وإن كان الوقت كان وقت نهي، ولكني جعلتها من ذوات الأسباب.
ثم رجعنا إلى مكة المكرمة، وأرادت عمرة ثانية؛ فأحرمنا من ميقات ذي الحليفة، ووصلنا مكة بعد صلاة العشاء، وكانت متعبة، فأتيت لها بعربة كهربائية، فارتاحت جداً، وانتهينا الساعة الثانية عشر ليلاً تقريباً؛ لشدة الزحام من الأنام.
وبعد يومين أو ثلاثة؛ اعتمرت عمرة ثالثة عن أمها (جدتي) -رحمها الله وغفر لها-.
وبعدها بثلاثة أيام؛ أزف الوقت المسموح به للعمرة على الانقضاء والانتهاء؛ فبدأت عقارب الساعة تسير بسرعة، (وهكذا هي ساعات الصفاء).
أزف الترحال والوقت دنا!
وفي هذا اليوم، يوم الأحد ١٤٤٠/٨/٩، كان يوم سفرها إلى الديار، حيث العناء والشقاء، ولكن هناك أهلها وأولادها والأقرباء.
ذهبت معها إلى محطة الركوب، وانتظرتها حتى ركبت، وصعدتُ معها مودّعاً لها، ومسلمِّاً عليها، ودمعي محتجر في مقلتي، ولكني غالبته حتى لا أغلبها، فتبكي، (وبكاء الوالدة غال على النفس).
إني أحاول أن أكون مودّعاً *** لكنَّ قلبي لا يطيق تودُّعك
صوت الأسى في داخلي قد بُح هل *** أبقيت وسط المحجرين مدامعك؟!
نزلت، وأنا مفتقد لأعز إنسان عرفته، إنها أمي .. إنها أنسي .. من حملتني .. من ربتّني .. من حفظتني .. من وجهتني.. وفضائلها لا تعد، وفواضلها لا تحد، ولكن: أجرها عند الواحد الأحد "هو أهل التقوى وأهل المغفرة".
نزلت، ولم أسمح لنفسي بالانصراف، حتى تكون الراحلة هي من تنصرف أولاً، ولا زلت ملوّحاً لها بيدي من خلف زجاجات النافذة، وهي تلوّح لي بكفها غير المخضوبة، ولم يبق في المحطة من المودّعين سواي، ولا زلنا كذلك حتى مخر عباب الراحلة، وغابت عني الفاضلة!
نكستُ رأسي إلى الأرض، مطرقاً حزيناً كئيباً سليباً، ولكن، عزائي: أنها عني راضية، ولي داعية.
تولّت؛ فولى الصبر عني، وعادني *** حزازٌ عليها، شفّ جسمي وأسقما
ولم يبق إلا ذكرها يبعث الأسى *** وطيفٌ يوافيني إذا النوم هوّما
آهٍ يا أمي..
أحنّ إليك في الظلمة الظلماء .. أحنّ إليك في الصبح والمساء .. أحنّ إليك في اليقظة والإغفاء..
كنت أُمتّع طرفي بنظرةٍ على وجهك البريء، وأهفو للقياك في كلّ حين، فتسعديني بربتك على كتفي، وابتسامتك في وجهي، وتصبيرك إياي، وتذكار الزمن الماضي الجميل الأصيل.
من مثل أمّي؟ وكل واحد.. من مثل أمّه؟!
يا أمّي، أنتِ ربيعُ الحياة، ولونُ الزهورِ، ونبع الوفاء.
يا أمي، أنت موطن الرحمة، ومصدر الدفء، ومكان الإحساس.
إخواني: الأُم هي الحضن الدافي، والحب الوافي، والبلسم الشافي.. ومهما كبر الشخص في العمر؛ يظلّ محباً لها، محتاجاً إليها، وتراه هي في عينيها صغيراً، فلا تزال تشتاقه، تحضنه وتضمه، وتقبّله وتشمه!
الأُم نعمة.. يجب أن تجل وتُقدّر، ويعتنى بها ويفتخر، وينظر إليها وتبجل، وتتفقد صباحاً ومساء..
رضي الله عنك يا والدة، وحفظك في حلك وترحالك، وأوصلك سالمة غانمة، ويسر لك -يا أماه- حج بيته الحرام -كما وعدتك بذلك -بعون الله ومشيئته- وخفف عنك شدة السفر ولأوائه، ومشقته ووعثائه.
وإلى لقاء عن قريب -بإذن القريب-.
فلذة كبدك: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤٠/٨/٩