تنبيه على نقلٍ فيه تصرّف.. أدّى إلى تحرّف!
قد يتصرف الناهل والناقل، -أحياناً- في نقل كلام؛ لينزله على واقع، أو يستدل به على مواضع!
وقد يكون هذا التصرف؛ مُخلاً بالقول، مخالفاً لمراد المنقول!
وهذا تصرف (أو قل تحريف وتزييف) غير نظيف؛ لأنه يعزو قولاً لشيخ، لم يقله، أو يتصرف في معنى لعالِم، لم يرده!
والتصرف الجائز في النقل: أن يتصرف الناقل في كلام المنقول عنه، من حذف ليس له فيه مرام، أو زيادة موصلة للكلام، أو تقديم وتأخير، ونحوه، وشرطه: أن لا يتغير معنى الكلام، ولا يؤثر على الانسجام.
ومن هذا النقل المبتسر المتصرف فيه، المقوِّل لمؤرخ لم يفهه فوه.. ما رأيته متداولاً عبر بعض مواقع التواصل، من نقل كلام للحافظ ابن كثير -سيأتيك-؛ وقد قذف في روعي، لوهلتها: أن في الكلام، اصطناعاً، وفي تنزيل النتيجة عليها، إخضاعاً، فعدَلت عن هذا القذف؛ لأن الناقل كان من أهل العلم والفضل، وممن عركته السنين، وبلغ من السن مبلغاً، وقد أثبت مصدره بالجزء والصفحة!
فخطأت حدسي، ووهمت نفسي، وجاوزته!
(كأني لم أقرأ، ولم يقل)!
والليلة، أرسلت إلي زوجي -عمرها الله-، بكلام قريب مما رأيته أولاً، ويتفق معه في الفحوى.. فعاد ما كنت حدسته، وحار ما كنت حبسته.. ولجأت إلى الفلي والبحث، فوافق الخُبر الخَبر! "والحمد لله رب العالمين".
وهاك نقلهم، وإن شيت، قلت: قولهم!:
"علاج فيروس كورونا! قال ابن كثير -رحمه الله-: "كثرت الأمراض بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم، وهاجت ريح سوداء، وتساقطت الأشجار، ووقعت الصواعق!
ثم أمر الخليفة: المقتدي بأمر الله.. بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وکسر آلات الملاهي، ثم انجلى ذلك".
قلت: هذا النص المنقول، عن ابن كثير، في (بدايته)، المتصرف فيه، والمبتسر له..
وواضح معناه، هو: أن العقوبات التي نزلت بذلك العصر، لم ترفع إلا بعد أن أمر الخليفة، بإزالة المنكرات!
هذا -باختصار- معنى الكلام المنقول عن ابن كثير!
وفي الحقيقة: إن ابن كثير، لم يقل هذا الكلام بهذا المعنى المركب والملفق، ولم يرتب الكشف والفرج، على ما وقع ونزل من الأمراض والطواعين؛ بتغيير المنكرات.. بل ذكر -رحمه الله- أن الكشف، كان من الله سبحانه وتعالى، دون مقابلة من الخلق بتغيير أو إزالة.
وهاك كلامه -رحمه الله-:
قال ابن كثير: "ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، في المحرم منها: زلزلت أرجان؛ فهلك خلق كثير من الروم ومواشيهم.
وفيها: كثرت الأمراض بالحمى والطاعون- بالعراق، والحجاز، والشام، وأعقب ذلك، موت الفجأة، ثم ماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم، حتى عزّت الألبان واللحمان.. ومع هذا كله، وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة؛ فقتل خلق كثير فيها.
وفي ربيع الأول: هاجت ريح سوداء، وسفت رملاً، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس: أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك -ولله الحمد-.
وفيها: ولد للخليفة، ولده أبو عبد الله الحسين، وزينت بغداد، وضربت الطبول والبوقات، وكثرت الصدقات.
وفيها: استولى فخر الدولة ابن جهير، على بلاد كثيرة، منها: آمد، وميافارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقرضت دولة بني مروان، على يده في هذه السنة.
وفي ثاني عشر رمضان، منها: قلد أبو بكر محمد بن مظفر الشامي، قضاء القضاة ببغداد، بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني، وخلع عليه في الديوان، وحج بالناس جنفل التركي، وزار النبي صلى الله عليه وسلم، ذاهباً وآيباً، قال: أظن أنها آخر حجتي؛ وكان كذلك!.
وفيها: خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله؛ بتجديد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في كل محلة، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد، -أثابه الله ورحمه-".
ينظر: (البداية والنهاية: ١٦/ ٩٣) طبعة هجر، و (١٢/ ١٥٦) طبعة إحياء التراث، و (١٢/ ١٢٧) طبعة دار الفكر.
انتهى النقل عن ابن كثير بحروفه، من ثلاث طبعات، اتفقت على ما سقته لك من الأحداث، وفيها بعض الاختلاف في كلمات يسيرة، في غير ما عنه نتحدث.
وفيما نقلت.. يضح للعيان، أن ابن كثير، لم يرتب نتيجة رفع العذاب، على تغيير المنكرات، وكسر الرباب، بل يفهم من قيله: أن الكشف كان محض رحمة من الله تعالى وفضله.
وقد استعار النقلة -عفا الله عنهم-، جملة "ثم انجلى ذلك" ووضعها، بعد نقله هذا: "ثم أمر الخليفة: المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وکسر آلات الملاهي".. فكانت كالنتيجة لها.
بينما، نجد ابن كثير، يضع "ثم انجلى ذلك" بعد قوله: "وفي ربيع الأول: هاجت ريح سوداء، وسفت رملاً، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن القيامة قد قامت"، فكان الانجلاء، محض فضل الله ورحمته.
وبين المعنيين والنتيجتين.. بون شاسع، وبينٌ ناصع، وفرق واضح، وبُعد فاضح!
ولي وقفات خمس:
الأولى: يجب على الناقل.. أن يكون أميناً في نقله، ولا يجوز له تحريف الكلام، أو ليّ الحديث؛ ليوافق ما يشتهي ويبتغي، وإن كان قصده نصرة الدين، أو ترغيب أو ترهيب المسلمين، فليست هذه بدعوة صائبة، بل هي دعوى خائبة!
ويذكرني هذا الصنيع، بصنيع ذاك الوضاع.. وهو ميسرة بن عبد ربه (الأكول الشهير) عندما سئل، عن سبب وضعه حديثاً، في فضائل سور القرآن؟
قال: رأيت الناس، انصرفوا عن القرآن، فوضعتها، أرغّب الناس فيها!
ومثله: نوح بن أبي مريم.
قال السيوطي، في (ألفية الحديث):
والوضع في الترغيب ذو ابتداعِ *** جوّزه مخالف الإجماعِ!
الثانية: إن ما ينزل بالناس من بلاء ووباء، لا يجوز الجزم، بأنه عقوبة محضة؛ لأن ذلك علم غيب استأثر الله به، ولكن نقول: قد يكون عقوبة للكافر، وابتلاء للمسلم، فالأول: تعفير، والثاني: تكفير.
وبعد هذا وذاك: الواجب علينا، مدافعة البلاء، بالأمور الحسية والمعنوية المشروعة، ومن ذلك: التوبة والرجوع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الثالثة: إن ما ينزله الله تعالى من رجز وعقوبات، قد يرفعه سبحانه وتعالى، محض منٍّ منه ورحمة، وفضل ونعمة، وهذا هو الأصل؛ إذ أن الناس، مهما جهدوا في العمل؛ فإنه لا يفي بشكر نعم الله تعالى، فضلاً عن رفع المصائب والبلاء، ولا بد مع هذا، من التضرع والرجوع، ولكن لا يرفعه إلا رحمة من الله الواسعة، "ورحمتي وسعت كل شيء".
الرابعة: يجب على الناس دائماً وأبداً.. التوبة الصادقة، والرجوع الجازم إلى الله تعالى؛ لأن الإنسان لا يخلو من ظلم وهضم، وإن كان يتأكد ذلك عند نزول البلاء، وانتشار الوباء، ولكن ليس ذلك شرط رفع وانكشاف.
الخامسة: يجب على الناس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع مراعاة توفر الشروط، وانتفاء الموانع؛ لأن عدمه؛ سبب في نزول العذاب، وغشيان الذل والمصاب.
ونحن نضرع إلى الله سبحانه.. أن يوفق قادة المسلمين؛ لإعلاء الحق وأهله، وإرفاع الطاعات، وإرفاق الحسنات، وإنفاع السابلات.
وفي المقابل: إخضاع الباطل وأهله، وإزالة المنكرات، وإطاحة المسكرات، وإخضاع المفقرات.
هذا ما أردت سطره وزبره؛ لأجل البيان والإيضاح، ووجوب أمانة النقل، والنصح للمسلمين، وأرجو الله أن أكون وفقت لما أردت تنبيهه، وأصبت ما رمت تنويهه.
تولانا الله بعنايته، وكلأنا برعايته.
وكتب: أو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٧/٤
ليلة الجمعة، بـ ح ي المأنوسة المحروسة.