علّموا أولادكم حب بلادكم!
زارني أحد المشايخ المحدِّثين، فسأل صغاري، قائلاً: أتحبون بلادكم؟ فأجابوا: نعم، نحبها، ونتمنى أن نعود إليها، ولكن ...!
وهذا عنوان عرفان، وسلّم شرف، وآية مروءة.
ثم زرنا وإياه، آخرين، فسأل صغيرهم: أتحب بلادك؟ فأجاب: لا!
فعلق الشيخ -في ذكاء-، قائلاً: علّموا أولادكم محبة بلادهم؛ لأنهم سيعودون إليها يوماً!
قلت له: صدقت.
ولما خلوت بنفسي، ورجعت بيتي -وفي البيت، يجد المرء قراره واستقراره، وإن كنت، لم أستقر بعدُ -والحمد لله على كل حال-.
أقول: لما عدت البيت، أردت أن أزيد الأمر توكيداً، فقلت:
إن كل إنسان، يعتزي إلى بلد، وينتمي إلى قبيلة، وينتسب إلى أسرة، ولا يجوز له التخلي عن ذلك، أو التحلي بغير ما هنالك.
وقد جاء الوعيد الشديد، في ذلك، ومن ذلك:
عن أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر، ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب، فليتبوأ مقعده من النار).
رواه البخاري ومسلم.
وعن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام).
رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة).
رواه أبو داود.
قال ابن حجر: "وفي الحديث، تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والادعاء إلى غيره".
(فتح الباري: ٦/ ٥٤١)
وقال ابن دقيق العيد - في شرح حديث أبي ذر-: "يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والاعتزاء إلى نسب غيره، ولا شك أن ذلك كبيرة؛ لما يتعلق به من المفاسد العظيمة".
(إحكام الأحكام: ٢/ ٢٠٨)
قلت: فعلى العاقل.. أن ينتسب إلى بلدته وقبيلته وأسرته، دون خجل وحياء، أو مداورة ومراوغة، وهو أمر لا يد للإنسان فيه، فلم الحياء والاستحياء!
بل إن في الانتفاء أو تغيير الاعتزاء.. مذمة ومذلة، وانتقاص وانتكاس، ينمّ عن ضعة وصغار، ويشي باحتقار نفسه وهوانها عليه، زد عليه، ما تقدم من الوعيد الأكيد الشديد.
ثم إن حب الوطن.. من صفات الكرام، وسمات الأباة، وشيم الأحرار، وقد ضرب العرب، في ذلك الروائع، وأنشدوا البدائع، وتعنوا وتفنوا.
ولا يعلم عربي، استحى أو انتحى أو انتفى من نسبه، لكنا، نجد الاعتزاء حد الفخر والخيلاء!
وقد كان القوم يتبارون، وصاروا اليوم، يتوارون!
وقد ألّف كثيرهم، في فضائل بلدانهم، وفواضل أسرهم، فما لبعض أهل زماننا؟!
فها هو الجلال السيوطي، لم ير مسقط رأسه أسيوط في حياته كلها، ولم يزرها، لكنه ألف فيها مجلدة لطيفة، تحدث عنها، في كتابه (التحدث بنعمة الله: ١٦)
وللعلامة عمرو بن بحر الجاحظ، "الحنين الى الوطن"
وللعلامة أبي أبي الطيب الوشاء الأعرابي، "الحنين إلى الأوطان".
وللإمام عبد الكريم السمعاني، "النزوع إلى الأوطان"
وللأديب أبي الفرج الأصفهاني، "أدب الغرباء"
وللعلامة أبي الحسن على بن محمد المدائني، "كتاب الغرباء"
فيهما شعر مجموع، وأخبار عن الحنين إلى الوطن، والشوق إليه،
وهما متماثلان في التبويب.
وللدكتور عبد المنعم حافظ الرجبي، "الحنين إلى الديار في الشعر العربي إلى نهاية العصر الأموي"
فانزع إلى وطنك، إما ببدنك، فإن لم تستطع، فبروحك، فإن لم تسطع، فبلسانك، وذلك أضعف المروءة!
قال ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم *** مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهمْ *** عهود الصبا فيها، فحنّوا لذالكا
ولشوقي:
وللأوطانِ في دم كل حُرٍّ *** يد سلفت ودَين مُستحقُّ
والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد وطنه، محبباً إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه.
ولم يسكن شوقه، ولم يسكت حبه، صلى الله عليه وسلم، حتى بعد سكناه المدينة، على إيواء الأنصار اليمنيين له ونصره، فدعا ربه سبحانه وتعالى، فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد).
رواه البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها.
ولما طابت له المدينة، كان يحبها كثيراً، ويشتاق لها إذا ارتحل عنها.. عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا قدم من سفر، فأبصر جدرات المدينة أوضع ناقته، وإن كان على دابة حركها؛ من حبها).
رواه البخاري.
وفي (قطوف أدبية) للعلامة عبد السلام هارون: "الوطن هو المهد الأول لجسم الإنسان، يحنّ إليه كلما بعد به المطاف في بلاد الله، ويشعر في قرارة نفسه بحبه وتفديته، والاستهانة ببذل المال والنفس في سبيل الحفاظ عليه، ويدين له أبداً بالولاء والاعتزاز مهما أغرته المغريات، وباعدت بينه وبين أرضه ضرورات العيش".
ووجد على طرة مخطوط:
ولي وطن آليت أن لا أبيعهُ *** وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
بل إن من اغترب، كان يحمل معه من تربة بلده، وربما حملت إليه..
وقد روى أبو الشيخ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله عنه، مرفوعاً: (تمسحوا بالأرض، فإنها بكم برَّة).
قال الشيخ الألباني، في (الصحيحة، رقم: ١٧٩٢) "وسنده صحيح، ورواه ابن أبي شيبة عن أبي عثمان، قال بلغني، فذكره مرسلاً".
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة، أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم، بأصبعه هكذا، -ووضع سفيان بن عيينة -وهو راوي الحديث- سبابته بالأرض ثم رفعها، وقال: بسم الله، تربة أرضنا، بِرِيقة بعضنا، يُشفى سقيمنا، بإذن ربنا).
رواه البخاري ومسلم.
قال ابن الجوزي: "المراد من هذا الحديث؛ أنه كان يأخذ بإصبعه من تراب الأرض، فيضعه على ذلك الجرح.
والاستشفاء بتراب وطن الإنسان، معروف عند العرب، وكانت العرب إذا سافرت، حملت معها من تربة بلدها، تستشفي به عند مرض يعرض".
(كشف المشكل: ٤/ ٣٦٨)
وقال بلال رضي الله تعالى عنه:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي أذخر وجليلُ
وهل أردن يوما مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيلُ
وقال رجل من بني ضبة:
نسير على علم بكنهِ مسيرنا *** وعدة زاد في فناء المزاودِ
ونحمل في الأسفار منها قبيضة *** من المنتأى النائي لحب الموالدِ
بل إن تراب الوطن، له تأثير كبير، في حفظ المزاج، ودفع الضرر..
قال القاضي البيضاوي: "وتراب الوطن، له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا.. أنه ينبغي للمسافر، أن يستصحب تراب أرضه، إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة؛ جعل شيئاً منه في سقائه؛ ليأمن مضرة ذلك".
(فتح الباري: ١٠/ ٢٠٨)
ولم يقف هذا الحب، عند الإنسان، بل عُدّي إلى الحيوان.. فقد ذكر ابن الجوزي: أن امرأة خاصمت زوجها في تضييقه عليها وعلىٰ نفسه، فقالت: والله ما يقيم الفأر في بيتك إلا لحب الوطن، وإلا فهو يسترزق من بيوت الجيران!
(الأذكياء: ٢٢٥)
ومن أوصاف النسر: الحنين إلى الوطن!
وكلنا يعلم.. أن القطط ونحوها، إذا طُردت، رجعت، بل إني قضيت العجب، من قصص في هاته البابة المليحة!
وفي (إدام القوت) للعلامة ابن عبيد الله: "ومعاذ الله، أن تقطع رجالات العلم- صِلاتها بأوطانها وقراباتها، وهم أحق الناس بصلة الأرحام، والحنين إلى الأوطان، والقيام بحقوقها التي تفضل حقوق الأمهات على الأولاد".
وأسفي ونعيي، على أولئك الذين يذمّون بلدانهم، ويصمونها بالعيب، ويحقرونها وأهلها.. أولئك هم الحقراء الصغراء، الذين صغرت نفوسهم، وقبحت أرواحهم، فقاؤوا القيح -أصيبوا بالنيح-.
اُكفف يا هو، فإنك عاق هجن مقرف، ليس لك إلا القرع والطرق.. ألا يكفي وطنك، حمله إياك .. ألا يكفيه ضيمه .. ألا يكفيه ظلمه .. ألا يكفيه -إن كنت أصيلاً- فاكفف وانكفف، وإن لم، فليس مع الطغام، كلام!
قال الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي *** يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خير فيمن لا يحب بلادهُ *** ولا في حليف الحب إن لم يُتيمِ
ومن تؤوِهِ دار فيجحد فضلها *** يكن حيواناً فوقه كل أعجمِ
ومن يظلمِ الأوطان أو ينسَ حقها *** تجبه فنون الحادثات بأظلمِ
وقيل: "من علامة الرشد؛ أن تكون النفس إلى بلدها تواقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة".
بلاد ألفناها على كل حالة *** وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسنِ
ونستعذب الأرض التي لا هوى بها *** ولا ماؤها عذب ولكنها وطنِ
فارفع رأسك، والْهَج بأسرتك، واذكر بلدتك، بلا كبر وختل، ودون إزراء بالآخرين، أو إقصاء للمسلمين.. فقد جاء الوعيد في ذلك.. ففي مسلم، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).
هذا، ما أردت ذكره في إيجاز، دون شطط أو احياز، "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" "وعلى الله قصد السبيل" وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكتب: وليد بن عبده الوصابي
١٤٤٤/٤/١