وترجل الشيخ (بوخبزة) الأمين.. بعد عقود من السنين!
#وفاة_علم
توفي مجيزنا الشيخ العلامة الفقيه الأديب الشاعر الناثر، مؤرخ المغرب وزينها، ومحدثها ونديها: أبو أويس محمد بن الأمين بوخبزة الحسني الإدريسي العمراني، صباح اليوم الخميس ١٤٤١/٦/٥، عن سن يناهز الـ ٨٨ عاماً.
وكان قد تعرّض، لزكام حاد، وضيق في التنفس، فاقم من مشكلات قلبه، فنقل في حال حرجة، إلى قسم الإنعاش، بإحدى المصحات الطبية الخاصة، بمدينة تطوان، يوم الثلاثاء ما قبل الماضي، حيث اكتشف الأطباء تعطل وظائف جزء مهم من قلبه، اضطرهم إلى الاستعانة بالتنفس الاصطناعي.
وسيُشيع جثمان الراحل، عصر غد الجمعة، بمقبرة ابن كيران الإسلامية بتطوان، حيث ستنطلق الجنازة من منزله الكائن بحي سيدي طلحة بتطوان، وفق ما أوضحته أسرته لـ(العمق).
ولد شيخنا -رحمه الله- في ٢٦ ربيع الأول ١٣٥١، وتوفي والده سنة ١٣٦٧، ففتّ موته في عضده، لكنه لم ينقطع عن الدرس والتحصيل.
يقول بوخبزة: "وفي فاتح رجب ١٣٦٧هـ، توفي والدي -رحمه الله- ففُتّ في عضدي، وخمدت جذوة نشاطي، وتأخرت عن كثير من دروسي؛ انشغالاً بالعيش، وحل المشاكل المخلفة، وسعياً على الوالدة والإخوان، ولم أنقطع قط عن الدراسة والمطالعة، واقتناء الكتب، ودارست إخواني الطلبة الأدب والعلم.
وفي نحو عام ١٣٧٠هـ زرت مدينة فاس، ومكثت بها أياماً، أخذت فيها دروساً على الفقيه الشهير محمد بن العربي العلوي بالقرويين في (أحكام القرآن) لابن العربي.
وبعد ذلك، عرض علي الفقيه القاضي الحاج أحمد بن تاوَيْت -رحمه الله- العمل معه كاتباً بعد أن عينته وزارة العدل قاضياً ثانياً عند اتساع العمران، وازدحام السكان، فأنشأت محكمة شرعية أخرى بحي العيون غربي الجامع، فقبِلت وعملت معه كاتبا".
درس شيخنا -أحسن الله نزله- في المسجد أو ما يسمى بالعتيق في سن مبكرة، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة، والحساب، والدين، وبعض قصار السور، ثم أتم حفظ القرآن، ثم بعض المتون العلمية كـ (الآجرومية)، و(المرشد المعين على الضروري من علوم الدين)، و(الخلاصة) وهي (ألفية ابن مالك)، وبعض (مختصر خليل) في الفقه المالكي.
ثم التحق بالمعهد الديني بالجامع الكبير، ومكث فيه نحو عامين حيث تلقى خلالها دروساً نظامية مختلفة في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والنحو، والبلاغة على يد ثلة من العلماء النوابغ الذين عاصرهم.
ومنهم:
-محمد بن عبد الصمد التُّجكاني.
-محمد بن عبدالكريم أقَلعي الشهير بالفحصي.
-محمد بن عبدالله القاسمي (خليفة القاضي).
-العربي بن علي اللُّوهْ (الوزير في الحكومة الخليفية).
-محمد بن حمو البقالي الأحمدي.
-محمد المصمودي.
-التهامي المؤذن الغرباوي.
-محمد الزكي الحراق السَّرِيفي.
-أحمد القْصِيبي الأَنجري.
-عمر الجَيّدي الغُماري وغيرهم.
وقد أجازه كثير من أهل العلم، قال: "كما أجازني مشافهة، كثير من العلماء، من أشهرهم:
-الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، عند زيارته لتطوان، واعتذر عن الكتابة ووعد بها، فحالت دونها مواقفه السياسية.
-الشيخ عبد الحفيظ بن الطاهر الفاسي الفهري، مشافهة بمصيف مرتيل.
-الشيخ الطاهر بن عاشور، بمنزله بتونس عام ١٣٨٢هـ، واعتذر عن الكتابة بالمرض والضعف، وهو من شيوخ شيخي ابن الصديق، ولم تكن لي عناية بالإجازات.
-الشيخ أبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري إجازة عامة بما حواه ثبته الكبير، المسمى "البحر العميق في مرویات ابن الصديق" ويقع في مجلدين، ناولنيه الشيخ في أصله الذي بخطه، المحفوظ الآن عند بعض تلامذته بطنجة، ويوجد فرعه بخطي، بخزانة تطوان العمومية، وثبته المسمى "المعجم الوجيز للمستجير" المطبوع بالقاهرة، في جزء لطيف.
-الشيخ صفاء الدين الأعظمي البغدادي.
وتدبجاً.. مع:
-الشيخ محمد بن عبد الهادي المنوني المكناسي.
-الشيخ أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل الحنبلي المكي.
-الشيخ أبو أحمد عبد الله بن محمد بن عامر الأحمدي.
-الشيخ مشعل بن حميد اللهيبي الحربي المكي.
ومناولة لبعض كتبه من:
-الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني الأرناؤوطي، بمنزله، بالمدينة النبوية عام ١٣٨٢هـ".
وكان طلاعاً للمعالي، ساهراً الليالي.. فقد أصدر مجلة "الحديقة" وهي مجلة أدبية ثقافية، استمرت خمسة أشهر، غير أنها توقفت في رمضان خلال نفس السنة، وكانت بمثابة مجلة الطلبة الوحيدة، في شمال المغرب، حيث كان ينشر فيها نجباء الطلبة وكتابهم وشعراؤهم وقصاصهم.
ثم أصدر جريدة "البرهان" وهي جريدة خطية سخرها؛ لانتقاد سياسة الاستعمار الإسباني في التعليم، واضطهاد الطلبة، والتضييق عليهم، ولم يصدر منها إلا العدد الأول، فكتب مدير المعهد الديني رسائل إلى رئيس الاستعلامات الإسباني "بلدا"، يُخبره فيها باستفحال نشاط الطلبة السياسي، وصدور الجريدة وما يكتُب فيها الشيخ الأمين بوخبزة- وهو غير طالب بالمعهد ومتهم بالوطنية، من مقالات تمس سياسية إسبانيا.. فاستدعي، وناله من السب والشتم والتهديد والأذية ما قرت به عين المدير للمعهد الديني الإسلامي وأذنابه، ولما يئس هذا المدير "الأمين التمسماني" من انتقام الإدارة الإسبانية منا كتب إلى الباشا "اليزيد بن صالح الغُماري" بمثل ما كتب به إلى "بِلدا" فغضب الباشا وأمر بإدخال بوخبزة ورفاقه إلى السجن.
ثم إن الشيخ -طيب الله مرقده- غادر ميدان الصحافة، وانقطع عن كل نشاط من هذا القبيل، وانكب على التدريس والكتابة، ونشر مقالات كثيرة في عدة صحف ومجلات كمجلة "لسان الدين" التي كان يصدرها الدكتور "الهلالي" بتطوان، ومجلة "النصر" و "النبراس"، وجريدة "النور" وغيرها.
ونظم قصائد وأنظاماً كثيرة، معظمها في الإخوانيات، ضاع أكثرها، كما يتوفر على كنانيش فيها تقاييد ومختارات ومقطوعات لا يجمعها نظام، ولا يضمها باب.
وشيخنا -كرمه الله- من علماء أهل السنة في المغرب، محقق وباحث مدقق، من مشاهير رجالات العلم والثقافة العربية الإسلامية، ومن العلماء المشهود لهم بالإحاطة الواسعة بمحتويات خزائن الكتب العربية الإسلامية.. قديمها وحديثها، مخطوطها ومطبوعها.
ومن أقواله في ذلك: السنة النبوية القولية والفعلية، كفيلة بحل مشاكل العالمين، والله تعالى يقول: "أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم".
والسنة بيان للكتاب، وهي مقرونة به، لن يفترقا حتى يرد النبي صلى الله عليه وسلم على حوضه -كما ورد-.
ومن زعم قصور السنة عن دحض مذاهب الملحدين وأفكارهم، وشبهاتهم وأباطيلهم.. فإنما أُتي من جهله.
وكان شيخنا -طيب الله ثراه- محباً لشيخ الإسلام ابن تيمية، موصياً بكتبه، ومما قال: دللتُ بعض الملحدين، إلى دراسة بعض كتب شيخ الإسلام ابن تيميه كـ "درء تعارض العقل والنقل"، ففعل، وأسلم وآمن.
وكانت له مكتبة، تعج بآلاف الكتب الإسلامية، في مختلف الفنون والعلوم، ما بين مخطوط وحجري ومطبوع.
ويذكر الشيخ: أن سبب اهتمامه بالمخطوطات.. هو الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، وأحمد بن الصديق الغماري.
وقد أثرى المكتبة الإسلامية بكوكبة من التواليف النافعة، والتحاقيق الناجعة.
ومنها:
-جراب الأديب السائح، في ١٥ مجلدا.
-الشذرات الذهبية في السيرة النبوية.
-صحيفة سوابق وجريدة بوائق، من جزئين.
-فتح العلي القدير في التفسير (وهو تفسير لبعض سور القرآن الكريم).
-نظرات في تاريخ المذاهب الإسلامية.
-ملامح من تاريخ علم الحديث بالمغرب.
-نشر الإعلام بمروق الكرفطي من الإسلام.
-الأدلة المحررة على تحريم الصلاة في المقبرة.
-مظاهر الشرف والعزة المتجلية في فهرسة الشيخ محمد بوخبزة.
-أربعون حديثاً نبوياً في النهي عن الصلاة على القبور واتخادها مساجد وبطلان الصلاة فيها.
-دروس في أحكام القرآن من سورة البقرة.
-نقل النديم وسلوان الكظيم.
-رونق القرطاس ومجلب الإيناس.
-تحصين الجوانح من سموم السوائح. (وهي تعقيبات على رسالة السوائح لعبد العزيز بن الصديق).
-إبراز الشناعة المتجلية في المساعي الحميدة في استنباط مشروعية الذكر جماعة.
-ديوان الخطب.
-النقد النزيه لكتاب تراث المغاربة في الحديث وعلومه.
-الجواب المفيد للسائل والمستفيد. (بالاشتراك مع الشيخ أحمد بن الصديق).
-تعليقات وتعقيبات على الأمالي المستظرفة على الرسالة المستطرفة، للشيخ ابن الصديق الغماري.
-استدراك على معجم المفسرين.
-عجوة وحشف.
-رحلاتي الحجازية.
-إيثار الكرام بحواشي بلوغ المرام.
-التوضيحات لما في البردة والهمزية من المخالفات.
-الاحتلال الإسباني والهوية المغربية: المقاومة والتدافع الثقافي.
-فهرس مخطوطات خزانة تطوان.
ومن تحقيقاته:
-تحقيق جزء من (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) للحافظ ابن عبد البر النمري.
-تحقيق أجزاء من (الذخيرة) للقرافي المالكي.
-تحقيق أربعين حديثاً في الجهاد، لعلي بركة الأندلسي.
-تحقيق (الرسالة الوجيزة المحررة في أن التجارة إلى أرض الحرب وبعث المال إليها ليس من فعل البررة) للفقيه محمد الرهوني.
-تحقيق وصية بن عمار الكلاعي لابنه.
-تعليق على (الرائية لابن المقري اليمني، في الرد على الاتحاديين).
-تحقيق جزء من (النوادر والزيادات) لابن أبي زيد القيرواني.
-تحقيق (شهادة اللفيف) لأبي حامد العربي الفاسي.
-تحقيق شرح القاضي عبد الوهاب، على الرسالة، لابن أبي زيد القيرواني.
-تحقيق (سراج المهتدين) لابن العربي المعافري.
ومن أخباره مع العلماء:
قال الشيخ -عن قصة زيارته للعلامة البشير الإبراهيمي-: وقد زرنا بالجزائر، مدناً كثيرة ... وكانت أول جمعة، أقيمت بعد إعلان الاستقلال بهذا المسجد الفخم (جامع كتشاوة)، وخطب به فيها: الشيخ البشير الإبراهيمي، خطبة نارية، بأسلوبه العجيب، ولهجته الصادقة، وما زالت نبراته ترن في آذاننا، وقد أذيعت يومها بالراديو.
ولهذا كان من أهم مقاصد الرحلة، الاتصال بمثل هذا الشيخ والأخذ عنه.
فسألت عنه كثيراً، ومن عجب أنني لم أجد من يعرفه -وهو أشهر عالم جزائري عمّ صيته المغرب والمشرق قديماً وحديثاً، ومواقفه في مناهضة الاستعمار ماثلة في آثاره خصوصاً جريدة (البصائر) التي كانت تعتبر بالمغرب والجزائر وتونس بمثابة قنبلة قوية المفعول، يحاكم ويعاقب من ضبطت عنده، فكان الناس يتواصون بقراءتها، ويبذلون ما شاء الله للحصول عليها، خصوصاً بعد ظهور طلائع الأزمة السياسية بالمغرب، التي انتهت بنفي الملك محمد الخامس وخلفه، فكان الشيخ البشير الإبراهيمي -رحمه الله- يتصدى لكشف المخطط الفرنسي، وفضح سياسة فرنسا وعملائها...
قلت -بوخبزة-: وظللت أسأل عنه غير يائس، إلى أن لمحت شاباً وسيماً، يتأبط كتباً وجرائد، فتوسمت فيه المعرفة، وسلمت عليه، وسألته عن أحوال البلد، ثم سألته عن الشيخ؟ فأخبرني أنه يعرفه، وأن سكناه بحي حيدرة، وهو بعيد، وأشار علي أن أركب الحافلة رقم كذا، وبعد الوصول إلى الحي -وهو كبير واسع- أسأل الشرطة؛ فشكرته، وامتطيت الحافلة إلى الحي، وقصدت الشرطة، فلم أجد عندهم خبراً عنه، ولما رأوا حيرتي وتعجبي.. أمرني أحدهم أن أتصل بمحطة البنزين، قائلا: إن جميع أهل الحي يمرون بسياراتهم عليها، وأصحابها يعرفونهم، فقصدتها وسألتهم، فأفادوني أن رجلاً أشيب، أعرج يمر أحياناً قليلة عليهم، وأنه يسكن بمفترق الطريق القريب، وأشاروا إليه.. فذهبت ووجدت دكاناً للمأكولات ثمة، فسألت صاحبه، فأشار إلى فيلا صغيرة، فقصدتها، وطرقت بابها مراراً إلى أن عزمت على الانصراف آيساً، فإذا بالشيخ يطل ملتفتاً خارج الباب، فتقدمت وسلمت، فسأل عني؟ فتعرفت إليه فرحب، واستدعاني للدخول خلفه!
ولأول مرة، رأيت الشيخ عياناً، وعلامة الهرم والإعياء بادية عليه، وعاهة العرج كبيرة، فجلسنا في حجرة متواضعة لا أثاث فيها، ولا فراش إلا بساطاً متواضعاً، ومنضدة صغيرة جداً عليها جرائد ومجلات، وعصا الشيخ، وبعد حديث قصير اعتذر الشيخ عن خلو البيت، قائلاً: بأن أثاثه وكتبه وأهله ما زالوا بالقاهرة.، كما تحدث الشيخ، عن بعض ذكرياته بالشرق كـ الحرمين، ودمشق، والعراق، ومصر، وعن نشاطه الصحفي والتعليمي.
وأخيراً، طلب مني أن لا أنساه من دعاء صالح من مظان الإجابة بالحرمين، وأن أزوره في العودة؛ ليأنس بي ... ولم يُكتب لي أن أزوره؛ لأنني عدت إلى وطني عن طريق أسبانيا.
وقال عن الدكتور محمد تقي الدين الهلالي: "كما نفعني الله تعالى جداً، بدروس الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي الحسيني السجلماسي الذي قدم تطوان حوالي ١٣٦٥هـ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من أوربا، وأقام بين ظهرانينا نحو ست سنوات، تلقيت عليه خلالها دروساً في التفسير والحديث والأدب.
وكان يلقي هذه الدروس بالجامع الكبير، وكان يسرد عليه محمد بن فريحة، ويدرس بـ (الدر المنثور) للسيوطي و(الاعتصام) لأبي إسحاق الشاطبي.
وأحدث بتطوان نهضة أدبية، وشغل الناس بآرائه وأفكاره، وأثار الفقهاء والصوفية بانتقاداته، فلَمَزوه وآذوه، فهجاهم أقذع الهجو -رحمه الله-.
وقال عن العلامة السيد محمد بن عبد القادر المراكشي: "كما انتفعت كثيراً، بتوجيهات العلامة الأديب الوزير السيد محمد بن عبد القادر بن موسى المنبهي المراكشي منشأ التطواني داراً ووفاة، فكان يملي علي قصائده وأشعاره، ويذاكرني بلطائف المعاني وطرائف الآداب، وقد جمعت ديوانه في مجلد لطيف (توجد صورة منه بخزانة تطوان).
وقال -عن الشيخ أحمد الغماري-: وقد أصهرت إلى الأستاذ المحدث الكبير، بل كبير علماء الحديث بالشمال الإفريقي الشيخ أحمد بن محمد ابن الصّدّيق التجكاني الغُماري الطنجي، وكنت أعرفه من قبل، فأعجبت بسعة اطلاعه ورسوخ قدمه في علوم الحديث، فكاتبته وجالسته، واستفدت منه علماً جماً، وأعطاني من وقته وكتبه ما كان يضِنّ به على الغير، وأجازني إجازة عامة بما تضمنه فهرسه الكبير والصغير.
وأضاف: الشيخ أحمد بن الصديق.. هو الذي أجازني ابتداء دون طلب مني، ولم أكن معه على وفاق في الاعتقاد بالتصوف الفلسفي والصوفية، والمبالغة في ذلك، كما لم أكن أرضى تخبطه في السياسة، وتورطه في أوحالها، مما شوّه سمعته، وسوّد صحيفته.
وأضاف: (ومن الطريف في هذا الباب: أنه كان يُبغض الشام وأهله، ويصفهم بالشؤم على الإسلام وأهله، ويبطل ما ورد في فضله من أحاديث صحيحة، وظل كذلك إلى أن فر من المغرب إلى مصر، ثم زار الشام فأكرمه أهلها، وأقام له صوفيتها المآدب، فكتب إلى أخيه السيد حسن، يقول: بأنه رجع عن اعتقاده في الشام وأهله، وأن ما ورد في ذلك صحيح)!
وقال عن لقياه بالعلامة عبد الرحمن المعلمي: شربت الشاي مع اثنين من الناس بمكة، فلما قام أحدهما قلت للثاني: أريد أن أرى المعلمي؟! فقال لي: هو الذي كان يشرب معنا الشاي.(١)
وقال عن العلامة ناصر الدين الألباني: (ومما كان له الأثر الكبير في حياتي، ويعد وصلاً لما كان انقطع من انتهاجي منهج السلف الصالح، بعيداً عن تيارات التصوف الفلسفي، والتشيع المنحرف.. اتصالي بالشيخ المحدث السلفي الحق محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني الأرناؤوطي ثم الدمشقي -نزيل عمّان البلقاء الآن مهاجراً بدينه مضيقا عليه بعد أن أخرج من دمشق ظلماً وعدواً-، فقد اجتمعتُ به بالمدينة المنورة، في حجتي الأولى عام ١٣٨٢، بمنزله، وأعطاني بعض رسائله، فاعتبرتها مناولة، فاستأذنته في الرواية عنه بها؛ فأنعم.
وزارني بـ تطوان مرتين: قرأت عليه في إحداهما: أبواباً من "السنن الكبرى" للنسائي المخطوطة بخزانة الجامع الكبير.
واجتمعت به بـ طنجة، بمنزل الشيخ الزمزمي ابن الصديق، وسمعت من فرائده وفتاواه الكثير، وبعث إلي من رسائله وكتبه المستطابة ما أحيا في قلبي كامن الشوق إلى تتبع هذا المهيع المشرق، والعناية بآثاره ومعالمه، والاستمساك بعراه، وما زلت إلى الآن لاهجاً بفضله، داعياً إليه).
وعندما طلب منه الأستاذ عبد الوهاب بن منصور -مؤرخ المملكة المغربية- ترجمة ليدرجها في موسوعته "أعلام المغرب العربي".. اعتذر عن كتابة ترجمة، بأنه تلميذ محب للعلم، وليس من الأعلام حتى يترجَم ضمنهم!
ثم تمثل بما قيل، قديماً:
لعمر أبيك ما نسب المعلى *** إلى كرم وفي الدنيا كريمُ
ولكن البلاد إذا اقشعرت *** وصوّح نبتها رعي الهشيمُ!(٢)
وعندما قال الشيخ محمد بن الحسن الفزازي: أعلم أهل المغرب، هو الشيخ محمد بوخبزة؟
قال: أستغفر الله، أنا طويلب علم، وبس!
وعندما طلب منه الشيخ أكرم زيادة، الإجازة؟
قال له: أنا في الحقيقة، ليس عندي من المسلسلات إلا حديثان: المسلسل بالأولية، ولا أحفظ سنده؛ لأنه طويل ونازل، وحديث المحبة!
وذكر أن حديث المحبة، أجازه به الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل!
وذكر أن الشيخ العقيل، زاره إلى بيته، وتدبجا.
وحديث الرحمة، يرويه عن الشيخ محمد المنوني المكناسي.
قال أبو نعيم: ولا شك، أن هذه سمة علم، وشية إخلاص، وصفة خلق، وقد قيل:
إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى *** تمايل إعجاباً .. وقال أنا أنا!
ولكن كريم الأصل كالغصن كلّما *** تحمّل أثماراً .. تواضع وانحنى
وقال آخر:
ملأى السنابل ينحنين تواضعاً *** والفارغات رؤوسهن شوامخُ!
وإننا نرى اليوم، بعض من هو حول الأشد هبوطاً أو طلوعاً، وقد حفظ نزراً من العلم، وشدا وشلاً من الفهم، وألف أو أُلف له، وحقق أو حُقق له.. إذا به يصعر خده، ويشيح وجهه، ويقطب جبينه، ويزم شفتيه، ويحقر غيره ويغمطهم، وينظر إلى غيره شزراً وبطراً، ويرد الحق، ويهضم الخلق، ويرى أنه شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، ولا أحد يعلوه!
اللهم غفراً.
قلت: وقد استجاز لي أحد الإخوة من الشيخ بوخبزة، عام ١٤٣٦ تقريباً.
ثم سمعت عليه مجلساً عبر البث: الأولية، والمحبة، سمعتها من لفظه، مع الإجازة بالعامة، يوم الإثنين ١٤٣٩/٤/٢١.
رحم الله الشيخ- وأسكنه فسيح جناته، وكتبه ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته.
وعزاؤنا في مصيبتنا، قول: "إنا لله وإنا إليه راجعون" فهي أرفع عزاء، وأنجع دواء، وأنفع سلاء.
وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٦/٥
ح..................
(١) قال أبو نعيم: قصة لُقي العلامة عبد الرحمن المعلمي، وحكاية تواضعه وخموله.. جاءت مع خمسة من الأعلام: العلامة أحمد محمد شاكر، والعلامة ناصر الألباني، والعلامة فؤاد السيد، والعلامة محمد بوخبزة التطواني، والعلامة حمود التويجري، والله أعلم.
(٢) استفدت هذه الترجمة من مراجع: مكتوبة ومرئية ومسموعة، والتي أجريت مع الشيخ في بعض المنتديات واللقاءات.