محمود شاكر.. متضلعاً لا متنطعاً!
ما بين آونة وأخرى، نسمع نقداً، أو قل: طعناً جلياً أو خفياً، في بعض العلماء الأفذاذ، من بعض الناس، وربما كان هؤلاء الناس، من الأساتذة أو الدكاترة!
وليت هذا النَّيل، كان نقداً لأجل التقويم والتقييم، كنا أفدنا نفعاً وخيراً، لكنه غمز وهمز ولمز، في الأعم الأغلب، وربما كان نقداً، لكنه نقد مثخن بالسخرية، ومغرق بالتهكم، ومشوب باللذع والخدع!
ثم يُزعم، أن ذلك، لإرادة الحق، وتوخي الصدق، والنقد عن هذا الزعم، بمعزل!
وإن العلامة محمود محمد شاكر.. قد نال قسطاً وافراً، وحظاً زاخراً، من هاته الطعون والمطاعن، وذلك في حياته وبعد مماته!
أما في حياته.. فقد كفى الجميع، مؤونة الرد والدفاع؛ إذ كان قلمه قائماً لا يكبو، وحجته واضحة لا تخبو، ورده المخرس، يلجم الخصم إلجاماً، ويتركه يتخبط حيراناً، فلله هو.
وأما بعد موته.. فقد أقام الله لمحمود، رجالاً "يهدون بالحق وبه يعدلون" فدفعوا ودافعوا عن هذا الأسد وعرينه؛ لأن محموداً، لم يكن فذاً يجادل عن نفسه، بل هو فرد ينازل عن أمة- ذاذ عن حياضها، ودفع عن حاضرها وماضيها، وجادل عن لغتها وعروبتها.
ولا نقول بتعصيمه -عوذاً بالله-، لكنا نزعم، أنه أراد الحق، ونشد الصدق، وجادل المبطلين؛ "لتستبين سبيل المجرمين"!
وإن مما نِيل من محمود، وقيل فيه: أنه متقعر اللفظ، متكلف العبارة، متشدق الكلمة!
ولعمر الحق، إن هذه عورة عرية، وصبوة جلية، تنادي على صاحبها- بضعف اللغة، أو قلة الإنصاف؛ لأن ما فاهه محمود في تواليفه، ومقدمات تحاقيقه وتضاعيفها؛ لهو السهل الممتنع، والعذب المنورق، والسليم المنور، ولا يخلو ما قاله، ولا يخرج عن: القرآن الكريم، والسنة النبوية، أو الكلام المعجمي، وفصيح الشعر، وصحيح المثل.
فماذا أنتم قائلون؟!
قال الرافعي -عن ابن عباس- في (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ٥٣): "وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان -رحمه الله- يقول: الشعر: ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب؛ رجعنا إلى ديوانها؛ فالتمسنا معرفة ذلك منه".
فكيف، إذن، نصف محموداً، بالتقعر أو التشدق أو التفيهق، وهو لم يخرج عن الأصل الأصيل، والحق الصريح، اللهم، إلا جهلنا بقلة فهمنا للعربية، أو تحاملنا على هذا المجاهد المغوار.
وإنا نبرأ إلى الله من قلة الإنصاف، ونأطر أنفسنا على درس العربية وفقهها.
وعن بعضهم -وقال له قائل: أسألك عن حرف من الغريب-، فقال: هو كلام القوم، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه!
(غريب الحديث: ١/ ٧١) للخطابي.
وإن التكلم والتخاطب والتكاتب، بالفصيح الصحيح الصريح.. ليس من التنطع والتكلف؛ لأن الغرابة نسبية من شخص وآخر، فكيف لنا أن نقيسها؟!
وإن المعتاد في قراءة كتب الأسلاف، وممعن النظر فيها، على اختلاف مشاربها ومشارعها؛ لا يجد فيما خطه يراع محمود.. غرابة، ناهيك عن التنطع، اللهم إلا غرابة، على من لم يسبر الطريق ويأنسها.
ولعمري، إن وجود محمود شاكر وأضرابه.. نعمة جلى، ومنة عظمى، أُسديت إلى هذا الزمن الغابر، وجيله الآخر، الذي بُلينا فيه، ببعض ذوي الرتب الأكاديمية في الأدب العربي ونحوهم من الناس- مَن يتناول أهل العلم والفضل والغيرة، مثل محمود وأمثاله؛ لأنه لم يفهم لغتهم الجزلة، وذائقتهم الباذخة، ومعانيهم الرفيعة؛ فوصفهم بالتقعر، ووصمهم بالتمحل!
إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ *** مصيب، ولم يَثْنِ اللسان على هُجْرِ
يُصَرِّف بالقول اللسان إذا انتحى *** وينظر في أعطافه نظرَ الصَّقْرِ
ويا أخي، بدل أن تسدّ عيبك، وتكمل نقصك، وتقيم أودك، وتقوم عوجك.. أتيت إلى البزل القناعيس، فرميتهم بدويهاتك؟!
ولا أدري، -وأستغفر الله- لعله يأتي زمن، يقال: أن في كتاب الله تعالى، الحوشي والوحشي -عوذاً بالله ولوذاً-!
قال الشافعي: "لسان العرب.. أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، وما نعلم أحداً يحيط بجميعها غير نبي، ولكنها لا يذهب منها شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها. والعلم بها عند العرب، كالعلم بالسنن عند أهل الفقه".
وقال الأزهري: "من جهل سعة لسان العرب، وكثرة ألفاظها، وافتنانها في مذاهبها.. فقد جهل جمل علم كتاب الله"!
(تهذيب اللغة: ١/ ٦)
فهل درى النقدة القعدة.. معاني القرآن الكريم، وهل فهموا لغته المتينة، التي ألّف العلماء في غريبها، وصنفوا لتقريبها؛ ليفهمها من لم يعتدْ لغة العرب؟!
ولا غضاضة ولا إزراء، على محمود ونحوه، ممن يعيدون اللغة إلى رعيلها الأول، وزمانها الفصيح، وقرونها النصاعة، مع تزييف الدخيل والهجين، الذي يصك الآذان، وتلفظه الألسن.
ولا غرابة.. أن نلفى في كتابات محمود، البيان الناصع، واللفظ الأصيل، والكلمة القعيدة، فإنه حفل باللغة ولم تمط عنه التمائم، فقد اطلع على الشعر الجاهلي، وعالجه حتى هضمه، وهو دون العشرين، ثم أبداه على صفحات طروسه، فرد على المبطلين، وجادل أهل الانحراف، حتى نال ذلك من صحته، وخرج من بلدته!
إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ *** بمنطلقات لا ترى بينها فصلا
شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع *** لذي إرْبِةٍ في القول جداً ولا هزلا
وأحدّث هؤلاء الشانئين، بخبر عن العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر مع أخيه العلامة اللغوي محمود بن محمد شاكر..
جاء في (مجلة الأدب الإسلامي): قال أحد الأساتذة في كلية الآداب: كنت في بيت العلامة محمود شاكر، فأمسك نسخة من "لسان العرب"، وإذا بعلاَمة كل عدّة صفحات، أو ربما في الصفحة الواحدة وهي علامات غير منضبطة!
فتحيرت جداً لمغزى هذه العلامات، وما تدل عليه؟
فأردت أن أسأل الشيخ محمود شاكر؛ لكني خشيت هيبته وتوبيخه (فقد كان شديداً -رحمه الله-) إنْ كانت هذه العلامات تشير لشيء واضح؟!
ثم تشجعت، وسألته، فتبسم -رحمه الله- وقال: رحم الله أخي الشيخ أحمد؛ فقد كان يضع لي علامتين، ويقول لي: احفظ من هنا لهنا؛ وسأسمع لك!
صموتٌ إذا ما الصمت زيَّنَ أهله *** وفَتَّاقُ أبكارِ الكلام المخَتَّمِ
وعى ما وعى القرآن من كل حكمةٍ *** ونِيطت له الآداب باللحم والدمِ
وهذه جادة مسلوكة لأهل العلم الماضين؛ إذ أن حفظ اللغة من حفظ الإسلام.
ولكن، من يطيق ما أطاقه محمود؟! اللهم إن محموداً، لغب وجشب في سبيل لغة أمته، فاجزه كفاء ذلك ما أنت أهله.
وحري أن يرتفع القارئ والسامع، إلى هؤلاء الأقرام السمادع، لا أن يطلب نزولهم إلى المخادع، فإن العلو مطلب الشرفاء، وموئل الأصلاء، ولا يزال النازل يشدو ويحدو حتى يصل العلياء، ويصافح الجوزاء!
يقول الرافعي: "إن الأديب الحق.. هو الذي يحاول أن يرفع قراءه إلى مستواه درجة درجة، فيرقى بهم ويرقى بالأدب، لا الذي يحاول أن ينحط إلى مستواهم درجة درجة، فينزل بهم وبالأدب جميعا".
وأعجبني وصف الأستاذ أحمد أمين، لأستاذه عاطف بركات، حيث قال عنه، في (حياتي: ٢٣٧): "فهو يكره سفاسف الأمور، وتوافه القول، وإذا تدنّى محدِّثُه= رفعه هو إلى مستواه، فكان بذلك مهيباً جليلاً"!
وهكذا قابل المترجم عادل زعيتر، نقاده الذين انتقدوه في استعماله ألفاظاً معجمية غير معلومة.
كما في (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره: ١/ ٣٢٠)
وتحضرني قصة في هذا المعنى، سمعتها من شيخ البلاغة الدكتور محمد محمد أبو موسى، يتكلم عن مجلة الفصول التي يخرجها الأستاذ عز الدين إسماعيل، يقول -فيما معناه-: كنت أقرؤها فلا أفهمها، فأعود باللائمة على نفسي، حتى وجدت أحد الأدباء، فاشتكى لي نفس ما أجد!
فحمدت الله على ذلك.
ثم أجري مع الأستاذ عز الدين، لقاء، وسألوه: لماذا تكتب بهذا الأسلوب؟ فقال: أريد من القراء أن يرتفعوا إلى هذا المستوى!
علق الدكتور محمد أبو موسى: أنا لم أستطيع أن أرتفع على ما عندي، هذا ما عندي!
أو كلام هذا مؤداه ومعناه!
قلت: إن المذموم المذؤوم، هو ما كان أشبه بالرموز والطلاسم، الذي لا يفهمه الأساطين؛ لأنهم الحكم في وحشي الكلام وحوشيه، وجزله وسوقه، لا الأغمار الأقماع الذين لا يفرقون بين الفتيل والنقير والقطمير، ولا بين الكوع والكرسوع، ولا بين الشحمة والجحمة!
وفي (البدر الطالع: ٢/ ٢٤٨) في ترجمة أبي الفضل المشدالي، تـ ٨٦٤، قال الشوكاني: "ودرّس الناس في عدّة فنون، فبهر العقول، وأدهش الألباب على أسلوب غريب، بعبارة جزلة، وطلاقة كأنها السيل، بحيث يكون جهد الفاضل البحاث.. أن يفهم ما يلقيه!
حتى قال له الطلبة: تنزل لنا في العبارة، فإنا لا نفهم جميع ما تقول؟! فقال: لا تنزلوني إليكم، ودعوني أرقيكم إلي، فبعد كذا وكذا مدة -حدها- تصيرون إلى فهم كلامي، فكان الأمر كما قال"!
وليس محمود وحده، مَن أخذت عليه هذه الآبدة -بزعمهم- بل هي سبيل أولي البلاغة والصدع، ودرب أهل الفصاحة والصدق.. أمثال: الأديب الغيور مصطفى صادق الرافعي، والأديب الغيور مصطفى لطفي المنفلوطي، والمترجم الكبير عادل زعيتر وغيرهم ممن نحى هذا المنحى المليح.
ويالله، كم فقد هؤلاء الناس، من لذة، وحرموا من متعة، في ذلك الكلام المزبور، الذي لا يملّ مع كثرة التكرار، بل يزداد جمالاً وجلالا.
قال الجاحظ: (ليس في الأرض، كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشدّ اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويماً للبيان.. من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء).
(البيان والتبيين: ١/ ١٣٦)
فاللهم نسألك.. أن تمتعنا بهذه النعم، وتديم علينا ذياك المنن، وتزيدنا من تياك اللذذ، غير جاحدين ولا حاسدين، وألحقنا بالصالحين الفالحين غير محرفين ولا مبدلين.
"إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين".
وكتب:
أبو نعيم وليد الوصابي
١٤٤٣/٣/٣