مضيضُ أحزان!
نعم، لعلي أكون أنا، أوسعكم حزناً، وأشدكم ألماً.. لفراق هذا العالم العامل، المحقق النحرير: محمد عزير شمس -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار-.
وذلك؛ لأن حزني عليه، مرتين:
الأولى: الحزن على فراق هذا القرم القمقام، الذي تقلب في أنحاء حياته، بين جد وكد .. بين بحث وفتش .. بين تحقيق وتدقيق .. بين تأليف وتصنيف .. بين نفع وبذل .. بين دأب وأدب .. بين شعر ونثر.. هذا الخريت الماهر، الذي ألهب -فراقه- الأنفس، وأدمع الأعين، وأعقد الألسن.
وهذا حزن الجميع.
أما الحزن، الذي يخصني دون غيري -ولعل من كان مثلي، أن يشركني-! إنه الحزن والأسى، لرحيل هذا الهمام الأمام، دون أن أحظى منه بجلسة، ولو خلسة!
تالله، إن في قلبي حرقة، وفي نفسي لوعة، وأحس بخطأ تجاه نفسي، وتجاه غيري، فاللهم غفراً.
ولي زفرة لا يوسع القلب ردّها *** وكيف وتيّار الأسى يتدفعُ
لا أدري، كيف سوّفت .. كيف كسلت .. كيف فرطت؟!
لا أدري، هل تهيب من العلامة الجليل، التي أكسبته تيك المهابة، تحاقيقه الرصينة، وتصانيفه المتينة!
لا أدري، أهو الانزواء الذي أصبت به بأخرة، ليس زهداً، ولكن انكفاء على النفس والأهل والولد -ونعما هم-، مع ما صاحب الجم، من التصنع والبهرج -ولا نسلم-!
حتى أن بعض صحبي، حثني قبل أيام، على زورة المسند المعمر عبد الوكيل الهندي الهاشمي، وأنا في تعلل وتململ، إلى أن خلعت رداء الونى، وبادرته، والحمد لله.
وكم حزنت قبلاً، على الشيخ الحبيب أبي الحارث الحلبي -رحمه الله- وقد ضربت بيننا مواعيد، ولكن، لم تتم، فلا بلاغ إلا بالله.
إلى أن سمعت صائحه، ذات مساء، فرجفت ووكفت، لا سيما، وقد كان أحد أعضاء مجموعة شماء جامعة!
بكاك أخ لم تحوه بقرابة *** بلى، إن إخوان الصفاء أقاربُ
بل إن اللواعج تختلجني، والحسرة تجتاحني، حين قراءتي عن الرعيل الأول- سواء من عاصرتهم ولم أدركهم، أو من بيني وبينهم مطاوي السنين.. لكني، أعلل نفسي؛ باستحالة ذلك وعدم إمكانه، ولكن، كيف أعللها، بمن فقدته، وهو بين ظهراني؟!
اللهم صبراً وجبراً.
ولا أظنني فريد حاله، في هاته البابة، بل إنه ورد عن بعض التابعين، تأسفهم؛ أن لم يدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدهم قال: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع فارق المتأسَّف عليه!
إني أعالج اليوم، زفراتي المتتالية، وزجراتي المتوالية، ولم آسو بعدُ من جراح فقْد شيخي الحبيب (القديمي) وكنت قد فارقته منذ عام، -حينما أزمعت سفراً، أفرّ به من الإحن والمحن- وقد كان بي حفياً، فالله المستعان وحده.
ما مضيض الكلوم معتبطات *** كمضيض الكلوم فوق الكلومِ
وعزاؤنا.. أنهم تركوا لنا تراثاً، نشتم أريجهم بين معاطفه، ونقرأ حروفهم في سطوره، ونتخيل شخوصهم على أغلفته.
إن كان جسمك في التراب مغيّباً *** فجميل ذكرك في القلوب أقاما
ولعمر الحق، إني لآنس بمجالسة أهل العلم والفضل، وأتدثر بمسامرتهم، وأتفيأ ظلالهم، وأتروى نميرهم، وكأنني في رياض أريضة، وغياض مغيضة!
فيا إخوتاه، ترووا من بعضكم، وتجافوا عن خلافاتكم، واحرصوا على الزيارات الأنسية، واللقاءات العلمية، فإنها تعدل الدنيا بل وترجح.
ولا حسن إلا سماع حديثكم *** مشافهة يتلى علي، فأسمعُ
وإنها لنبثة نفس، ونفهة نفَس، فاعفوا واصفحوا..
وليد
١٤٤٤/٣/٢٠