الصبابة إلى طِيب طابة!
طابة، بتخفيف الباء: اسم من أسماء المدينة، بمعنى طابة وطيبة، بإسكان الوسط، وطيبة بتشديده.. كلها من أسمائها، متشابهة في اللفظ والمعنى، وفي الحديث الصحيح (إن الله تعالى، سمی المدينة، طابة).
رواه مسلم، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
وطيبة وطابة.. تأنيث طيب وطاب، والطاب والطيب: لغتان بمعنى.
واشتقاقهما، من الشيء الطيب.
وقيل: لطهارة تربتها، وقيل: لطيبة ساكنها، وقيل: من طيب العيش بها.
قال بعض العلماء: "وفي طيب ترابها وهوائها.. دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، لا تكاد توجد في غيرها.
زاد غيره: أو لطيبها لساكنها، أو لطيب العيش بها.
والحاصل: أن كل ما بها من تراب وجدر وعيش ومنزل وسائر ما يضاف إليها.. طيب لأهل السنة.
ولله تبارك وتعالى در القائل:
إذا لم تطب في طيبة عند طيب *** به طيبة طابت فأين تطيب"؟!
ينظر: (فتح المغيث: ٤/ ٤٠٤)
قال ابن حجر: "وقرأت بخط أبي علي الصدفي، في هامش نسخته من (صحيح البخاري) بخطه، قال: الحافظ أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها؛ يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب".
(فتح الباري: ٤/ ٩٨)
شوقي إلى مسجد المختار قد زادا *** فاستحمل النجُب الوقادة الزادا
واستعن الملك المنعام جل علاً *** واستودع الله أحباباً وأولادا(١)
مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي أفضل بقعة، وأمثل ترعة.
مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضيفت إليه تشريفاً لها وتكريما..
ففيها حياته وعيشته، ونومه ويقظته، وجسده الطاهر الذي وُوري في تربها، وغيّب في أرضها، بعد أن تشرفت بحمله على ظهرها.
شوقي إليها شديد *** كما علمتِ وأزيدْ
فكيف أنكر حباً؟ *** به فؤادي يشهدْ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا فِي صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إِن إِبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإِني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بِمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه).
رواه ابن حبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
دار الحبيب أحق أن تهواها *** وتحنّ مِن طرب إلى ذكراها
طابت فإن تبغ التطيب يا فتى *** فأدِم على الساعات لثم ثراها
جزم الجميع بأن خير الأرض ما *** قد حاط ذات المصطفی وحواها
ونعم، لقد صدقوا بساكنها علت *** كالنفس حين زكت زكا مأواها(٢)
أسمعُ أخبارها، وأنشد أشعارها، وأسمر بأحاديثها، وأسهر على حوادثها؛ فتسكب عيني، وتخضلّ لحيتي، ويتبلبل فكري، ويحزن قلبي.
كتب العلامة ابن التلاميد الشنقيطي، على طرة نسخة خطية، تملكها أثناء إقامته بالمدينة، هذين البيتين -وهما للسيد مشيخ باعبود-:
لَخبز شعير يابس غير مالح *** وشربة ماء والذي يعلم النجوى
ببلدة خير الرسل طه محمد *** أحبّ إلى قلبي من المنِّ والسلوى
كثيرون، إذا زاروا المدينة، شعروا بتغير طاعتهم وطباعهم وأخلاقهم وأذواقهم.
جاء في ترجمة أيمن بن محمد الغرناطي، أنه "كان كثير الهجاء والوقيعة، فحج وجاور بالمدينة المنورة، حوالي عام ١٠٣٠هـ/ ١٦٢٠م، فتاب والتزم أن يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الممات، فوفى بذلك، وسمى نفسه: "عاشق النبي صلى الله عليه وسلم" أرسل إليه حاكم تونس، يطلب منه العودة إلى بلده، ويرغبه فيه، فأجاب: إني لو أعطيت ملك المشرق والمغرب، لم أرغب عن جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(معجم أعلام شعراء المديح النبوي: ٩٣) للأستاذ محمد أحمد درنيقة.
إذا عدَّت ليالي السعد يوماً *** فأوّلها ليالينا بـ (طيبةِ)
ظمئـت إلى ما بين أطلال يثـرب *** فيا ليتها كانت مدى الدهر ظلتي
أتخيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع زوجاته أمهات المؤمنين، وأبنائه وبناته!
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة *** بها منبر الهادي الذي كان يصعدُ
وواضح آيات، وباقي معالمٍ *** وربع له فيه مصلى ومسجدُ
بها حجرات كان ينزل وسطها *** من الله نور يستضاء ويوقدُ
معالم لم تطمس على العهد آيها *** أتاها البلى، فالآي منها تجدَّدُ
عرفت بها رسم الرسول وعهده *** وقبراً به واراه في الترب ملحدُ
ظللت بها أبكي الرسول، فأسعدتْ *** عيون، ومثلاها من الجفن تسعدُ
أتخيل أهل الصفة، والصحابة كلهم، وسكناهم في تلك الأكواخ الصغيرة التي بساطها التراب، وسقفها جريد بدون أخشاب.
أتخيلهم وهم يتجهزون إلى المعارك: يلبسون الدروع، ويروون الجمال، ويجهزون الرحال، ويودعون الأهل والأولاد، بعد أن سمعوا: (حيّ على الجهاد) (يا خيل الله، اركبي) فلا يجاوز هذا النداء أسماعهم حتى يكون الفعل هو الجواب!
أتخيلهم وهم يفارقون مدينتهم الحبيبة، إلى الموت في سبيل الله ... إلى "جنة عرضها السموات والأرض" يجاهدون؛ "لتكون كلمة الله هي العليا" وهم في هذا، يحققون أعلى الأخلاق؛ فلا يقتلون النساء، ولا الأطفال، ولا الشيوخ، ولا الرهبان، ولا يجهزون على الجريح.
فأين من يتهمهم، وأين من يتشدق بحقوق الإنسان، والروهنجيين يذبحون ويقتلون ويحرقون ويشوون على مرأى ومسمع؟!
وأين ما يفعل اليهود على ما ينيف سبعين عاما، لا سيما هاته الأيام، فقد اختلعوا عن إنسانيتهم، وتخلعوا من حيوانيتهم، والتجؤوا إلى قطعان الخنازير القذرة، والغرب الكافر البائر، يصفق لهم ويباركهم!
فالله طليبهم.
أتخيلهم؛ وهم قافلون من فوزهم وعزهم، وأهاليهم يستقبلونهم بالقصائد والأشعار، والفرح باد على وجوههم، والبسمة ظاهرة على شفاههم.
ومن قتل فهو في سبيل الله، فهو في الجنة، وهذا هو المقصد الأرشد.
كأني أنظر إلى أم حارثة، وهي متوشحة سواد الجلباب.. تقف على قارعة الطريق تتحسس الغزاة، وتتلمس الحداة الهداة: واحداً واحداً؛ تبحث عن ابنها، وفلذة كبدها، ووحيد عائلتها.
أتخيل كل قصة، وكل حدث قرأته عن الصحب الكرام، في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيا ساكني أكناف طيبة حسبكم *** من السعي للعلياء جيرة أحمدِ
فمن يبتغي عنها بلاداً وإن سمت *** لأمر من الدنيا فليس بمهتدي(٣)
وقد ذكروا آداباً، لمن أراد سكنى المدينة النبوية..
قال الشيخ كبريت: قال بعضهم: ينبغي لمن أراد المجاورة بالمدينة المنورة؛ أن يكون ليّن الأعطاف، هين الانعطاف، حافظاً لحرمة مكانها، محافظاً على مراعاة سكانها، يشاركهم في أنديتهم لا في أغذيتهم، ويزاحمهم في أوقاتهم لا في أقواتهم، ويكتسب من أخلاقهم لا من أرزاقهم، ويقتبس من بِرِّهم لا من بُرِّهم، ويرغب في حُبِّهم لا في حَبِّهم؛ مقتدياً في هذا القياس بإشارة (وازهد فيما عند الناس).
وقال بعض العلماء: ينبغي لطالب سكنى المدينة؛ أن لا يضيق على المحتاجين، بسكنى الأربطة، والمزاحمة على الصدقات، ولا يسعى في منع معروف:
لا تقـطعنّ يد المعروف عن أحد *** ما دام يمكن فالإمكان تاراتُ
واشكر فضيلة لطف الله إذ جُعلت *** إليك لا لك عند الناس حاجاتُ
أشتاق إلى هناك.. حيث مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حيث قام وركع وسجد وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حيث علّم وحكم وسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
حيث اجتمع الصحب الكرام، حول نبيهم عليه الصلاة والسلام، ينهلون من معينه، ويشربون من نميره .. هناك حيث السكينة والطمأنينة .. هناك حيث الأنس والقدس، والحلس والجلس ..
آه ثم آه، ليت لي زورة إلى هاتيك البقاع، وتيك التلاع، وذياك القلاع..
لم أصل بعد، مدينته عليه الصلاة والسلام، فأجد في قلبي لوعة، وفي قلبي شجوة، وعيون عيني منهمرات، ومآقي منسكبات؛ شوقاً واشتياقا؛ لأجد السلوة والحلوة والخلوة.
عصفت بي الحياة، ونأت بي الديار، وشط عني المزار، فقعدت في بيتي مشجياً نفسي، مسهداً قلبي، منشداً حرماني من الجلوس في روضة الجنة (ما بين بيتي ومنبري؛ روضة من رياض الجنة)
رواه أحمد، عن أم سلمة رضي الله عنها.
يعود خلاّني من حرم الله، ومسجد رسول الله، فيخبروني عن العظمة والخشية والخشوع والراحة..
يصفون لي: المسجد، والبقيع، والقبر الشريف، وقبري صاحبيه، وقباء، وثور ونحوها من المشاهد الشواهد؛ فيزداد حزني، ويقوى شجني، وتؤنبني نفسي، ويبكيني قلبي، ويشجيني صدري، وتزجرني أعضائي!
ألا لك نصيب، في زيارة ذاك الطهر والشرف المهيب؟!
أجيبها بانتحاب، وأكلمها بانتعاب، وأخاطبها بالتهاب.. لم يكتب الله لي ذاك الشرف، ولم تتهيأ لي الرحلة،
فأنا في بلاد نائية، وأرض قاصية، وناس قاسية، وشدائد عاتية!
كفى لوماً لي وتبكيتاً، وسخرية وتنكيتاً.
فأنتم تلوموني، وأنا ألومكم، ولا أدري هل لهذا اللوم والشجى من انقضاء، أم أن هذا هو الابتلاء!
رب قربني من طابة وطيبة؛ فأطيب وأطيّب وأتطيب، فيبعد عني الضيق والريب.
نفسي تشدني، وقلمي يخط ما أملي..
والآن أخلو بنفسي؛ لأبكيها وأشجيها وأنعيها..
وسلام الله عليكم..
الملتاع: وليد بن عبده الوصابي،،
١٤٣٧/٧/١٧
وبعد هذا التاريخ ١٤٣٧/٧/١٧، يسّر المنان سبحانه وتعالى؛ بقدوم الوالدة العزيزة، إلى البقاع المقدسة، فطافت وسعت واعتمرت وصلت وزارت، ومن زمزم تضلعت وارتوت وتروت، -وقد كتبتُ تيك المشاعر، في مقال، وسمته، بـ "عمرة أمي"- ثم كانت زيارة مدينة نبيه عليه الصلاة والسلام، برفقتها -حفظها الله-، بتاريخ ١٤٤٠/٨/١٥، ولأول مرة في حياتي وحياتها، ولا تسلني هناك، عن الروح والريحان، والطيب والأنس، والسكينة والراحة، والخشوع والخشية، لكنها أيام معدودة، لم تشف الغليل، ولم ترو العليل، ولم تبل الصادي، ولم تحل الحادي، لكني أحمد الله وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأرجوه العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة،
والحمد لله في الأولى والآخرة وله الحكم، وإليه المرجع والمآب.
وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي
١٤٤٢/٥/١٢
ح...............
(١)(مقتبسة من شعر للعلامة الفيروزابادي)
(٢)(قالها عبدالله بن عمران البسكري، تـ٧١٣)
(٣)من قصيدة للأديب محمد بن عبد الله بن محمد الحسيني المدني، المشهور بـ محمد كِبريت، تـ١٠٣٩.