الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

الصبابة إلى طِيب طابة!


الصبابة إلى طِيب طابة!


طابة، بتخفيف الباء: اسم من أسماء المدينة، بمعنى طابة وطيبة، بإسكان الوسط، وطيبة بتشديده.. كلها من أسمائها، متشابهة في اللفظ والمعنى، وفي الحديث الصحيح (إن الله تعالى، سمی المدينة، طابة).

رواه مسلم، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.


وطيبة وطابة.. تأنيث طيب وطاب، والطاب والطيب: لغتان بمعنى.

واشتقاقهما، من الشيء الطيب.

وقيل: لطهارة تربتها، وقيل: لطيبة ساكنها، وقيل: من طيب العيش بها.


قال بعض العلماء: "وفي طيب ترابها وهوائها.. دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، لا تكاد توجد في غيرها.


زاد غيره: أو لطيبها لساكنها، أو لطيب العيش بها.


والحاصل: أن كل ما بها من تراب وجدر وعيش ومنزل وسائر ما يضاف إليها.. طيب لأهل السنة.


ولله تبارك وتعالى در القائل:

إذا لم تطب في طيبة عند طيب *** به طيبة طابت فأين تطيب"؟!

ينظر: (فتح المغيث: ٤/ ٤٠٤)


قال ابن حجر: "وقرأت بخط أبي علي الصدفي، في هامش نسخته من (صحيح البخاري) بخطه، قال: الحافظ أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها؛ يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب".

(فتح الباري: ٤/ ٩٨)


شوقي إلى مسجد المختار قد زادا *** فاستحمل النجُب الوقادة الزادا


واستعن الملك المنعام جل علاً *** واستودع الله أحباباً وأولادا(١)


مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي أفضل بقعة، وأمثل ترعة.


مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضيفت إليه تشريفاً لها وتكريما..


ففيها حياته وعيشته، ونومه ويقظته، وجسده الطاهر الذي وُوري في تربها، وغيّب في أرضها، بعد أن تشرفت بحمله على ظهرها.


شوقي إليها شديد *** كما علمتِ وأزيدْ

فكيف أنكر حباً؟ *** به فؤادي يشهدْ


‏‎‎قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في  مدينتنا، وبارك لنا فِي صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إِن إِبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإِني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بِمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه).

رواه ابن حبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.


دار الحبيب أحق أن تهواها *** وتحنّ مِن طرب إلى ذكراها


طابت فإن تبغ التطيب يا فتى *** فأدِم على الساعات لثم ثراها


جزم الجميع بأن خير الأرض ما *** قد حاط ذات المصطفی وحواها


ونعم، لقد صدقوا بساكنها علت *** كالنفس حين زكت زكا مأواها(٢)


أسمعُ أخبارها، وأنشد أشعارها، وأسمر بأحاديثها، وأسهر على حوادثها؛ فتسكب عيني، وتخضلّ لحيتي، ويتبلبل فكري، ويحزن قلبي.


كتب العلامة ابن التلاميد الشنقيطي، على طرة نسخة خطية، تملكها أثناء إقامته بالمدينة، هذين البيتين -وهما للسيد مشيخ باعبود-:

لَخبز شعير يابس غير مالح *** وشربة ماء والذي يعلم النجوى


ببلدة خير الرسل طه محمد *** أحبّ إلى قلبي من المنِّ والسلوى


‏كثيرون، إذا زاروا المدينة، شعروا بتغير طاعتهم وطباعهم وأخلاقهم وأذواقهم.


جاء في ترجمة أيمن بن محمد الغرناطي، أنه "كان كثير الهجاء والوقيعة، فحج وجاور بالمدينة المنورة، حوالي عام ١٠٣٠هـ/ ١٦٢٠م، فتاب والتزم أن يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الممات، فوفى بذلك، وسمى نفسه: "عاشق النبي صلى الله عليه وسلم" أرسل إليه حاكم تونس، يطلب منه العودة إلى بلده، ويرغبه فيه، فأجاب: إني لو أعطيت ملك المشرق والمغرب، لم أرغب عن جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(معجم أعلام شعراء المديح النبوي: ٩٣) للأستاذ محمد أحمد درنيقة.


‏‎إذا عدَّت ليالي السعد يوماً *** فأوّلها ليالينا بـ (طيبةِ)


‏‎ظمئـت إلى ما بين أطلال يثـرب *** فيا ليتها كانت مدى الدهر ظلتي


أتخيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع زوجاته أمهات المؤمنين، وأبنائه وبناته!


ولا تنمحي الآيات من دار حرمة *** بها منبر الهادي الذي كان يصعدُ


وواضح آيات، وباقي معالمٍ *** وربع له فيه مصلى ومسجدُ


بها حجرات كان ينزل وسطها *** من الله نور يستضاء ويوقدُ


معالم لم تطمس على العهد آيها ***  أتاها البلى، فالآي منها تجدَّدُ


عرفت بها رسم الرسول وعهده *** وقبراً به واراه في الترب ملحدُ


ظللت بها أبكي الرسول، فأسعدتْ *** عيون، ومثلاها من الجفن تسعدُ


أتخيل أهل الصفة، والصحابة كلهم، وسكناهم في تلك الأكواخ الصغيرة التي بساطها التراب، وسقفها جريد بدون أخشاب.

أتخيلهم وهم يتجهزون إلى المعارك: يلبسون الدروع، ويروون الجمال، ويجهزون الرحال، ويودعون الأهل والأولاد، بعد أن سمعوا: (حيّ على الجهاد) (يا خيل الله، اركبي) فلا يجاوز هذا النداء أسماعهم حتى يكون الفعل هو الجواب!


أتخيلهم وهم يفارقون مدينتهم الحبيبة، إلى الموت في سبيل الله ... إلى "جنة عرضها السموات والأرض" يجاهدون؛ "لتكون كلمة الله هي العليا" وهم في هذا، يحققون أعلى الأخلاق؛ فلا يقتلون النساء، ولا الأطفال، ولا الشيوخ، ولا الرهبان، ولا يجهزون على الجريح.

فأين من يتهمهم، وأين من يتشدق بحقوق الإنسان، والروهنجيين يذبحون ويقتلون ويحرقون ويشوون على مرأى ومسمع؟!


وأين ما يفعل اليهود على ما ينيف سبعين عاما، لا سيما هاته الأيام، فقد اختلعوا عن إنسانيتهم، وتخلعوا من حيوانيتهم، والتجؤوا إلى قطعان الخنازير القذرة، والغرب الكافر البائر، يصفق لهم ويباركهم!

فالله طليبهم.


أتخيلهم؛ وهم قافلون من فوزهم وعزهم، وأهاليهم يستقبلونهم بالقصائد والأشعار، والفرح باد على وجوههم، والبسمة ظاهرة على شفاههم.

ومن قتل فهو في سبيل الله، فهو في الجنة، وهذا هو المقصد الأرشد.


كأني أنظر إلى أم حارثة، وهي متوشحة سواد الجلباب.. تقف على قارعة الطريق تتحسس الغزاة، وتتلمس الحداة الهداة: واحداً واحداً؛ تبحث عن ابنها، وفلذة كبدها، ووحيد عائلتها.


أتخيل كل قصة، وكل حدث قرأته عن الصحب الكرام، في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


أيا ساكني أكناف طيبة حسبكم *** من السعي للعلياء جيرة أحمدِ


فمن يبتغي عنها بلاداً وإن سمت *** لأمر من الدنيا فليس بمهتدي(٣)


وقد ذكروا آداباً، لمن أراد سكنى المدينة النبوية..

قال الشيخ كبريت: قال بعضهم: ينبغي لمن أراد المجاورة بالمدينة المنورة؛ أن يكون ليّن الأعطاف، هين الانعطاف، حافظاً لحرمة مكانها، محافظاً على مراعاة سكانها، يشاركهم في أنديتهم لا في أغذيتهم، ويزاحمهم في أوقاتهم لا في أقواتهم، ويكتسب من أخلاقهم لا من أرزاقهم، ويقتبس من بِرِّهم لا من بُرِّهم، ويرغب في حُبِّهم لا في حَبِّهم؛ مقتدياً في هذا القياس بإشارة (وازهد فيما عند الناس).


وقال بعض العلماء: ينبغي لطالب سكنى المدينة؛ أن لا يضيق على المحتاجين، بسكنى الأربطة، والمزاحمة على الصدقات، ولا يسعى في منع معروف:

لا تقـطعنّ يد المعروف عن أحد *** ما دام يمكن فالإمكان تاراتُ


واشكر فضيلة لطف الله إذ جُعلت ***  إليك لا لك عند الناس حاجاتُ


أشتاق إلى هناك.. حيث مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  ..

حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حيث قام وركع وسجد وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حيث علّم وحكم وسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

حيث اجتمع الصحب الكرام، حول نبيهم عليه الصلاة والسلام، ينهلون من معينه، ويشربون من نميره .. هناك حيث السكينة والطمأنينة .. هناك حيث الأنس والقدس، والحلس والجلس ..


آه ثم آه، ليت لي زورة إلى هاتيك البقاع، وتيك التلاع، وذياك القلاع..


لم أصل بعد، مدينته عليه الصلاة والسلام، فأجد في قلبي لوعة، وفي قلبي شجوة، وعيون عيني منهمرات، ومآقي منسكبات؛ شوقاً واشتياقا؛ لأجد السلوة والحلوة والخلوة.


عصفت بي الحياة، ونأت بي الديار، وشط عني المزار، فقعدت في بيتي مشجياً نفسي، مسهداً قلبي، منشداً حرماني من الجلوس في روضة الجنة (ما بين بيتي ومنبري؛ روضة من رياض الجنة)

رواه أحمد، عن أم سلمة رضي الله عنها.


يعود خلاّني من حرم الله، ومسجد رسول الله، فيخبروني عن العظمة والخشية والخشوع والراحة..


يصفون لي: المسجد، والبقيع، والقبر الشريف، وقبري صاحبيه، وقباء، وثور ونحوها من المشاهد الشواهد؛ فيزداد حزني، ويقوى شجني، وتؤنبني نفسي، ويبكيني قلبي، ويشجيني صدري، وتزجرني أعضائي!


ألا لك نصيب، في زيارة ذاك الطهر والشرف المهيب؟!

أجيبها بانتحاب، وأكلمها بانتعاب، وأخاطبها بالتهاب.. لم يكتب الله لي ذاك الشرف، ولم تتهيأ لي الرحلة،

فأنا في بلاد نائية، وأرض قاصية، وناس قاسية، وشدائد عاتية!

كفى لوماً لي وتبكيتاً، وسخرية وتنكيتاً.

فأنتم تلوموني، وأنا ألومكم، ولا أدري هل لهذا اللوم والشجى من انقضاء، أم أن هذا هو الابتلاء!


رب قربني من طابة وطيبة؛ فأطيب وأطيّب وأتطيب، فيبعد عني الضيق والريب.


نفسي تشدني، وقلمي يخط ما أملي..

والآن أخلو بنفسي؛ لأبكيها وأشجيها وأنعيها..

وسلام الله عليكم..


الملتاع: وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٧/٧/١٧


وبعد هذا التاريخ ١٤٣٧/٧/١٧، يسّر المنان سبحانه وتعالى؛ بقدوم الوالدة العزيزة، إلى البقاع المقدسة، فطافت وسعت واعتمرت وصلت وزارت، ومن زمزم تضلعت وارتوت وتروت، -وقد كتبتُ تيك المشاعر، في مقال، وسمته، بـ "عمرة أمي"- ثم كانت زيارة مدينة نبيه عليه الصلاة والسلام، برفقتها -حفظها الله-، بتاريخ ١٤٤٠/٨/١٥، ولأول مرة في حياتي وحياتها، ولا تسلني هناك، عن الروح والريحان، والطيب والأنس، والسكينة والراحة، والخشوع والخشية، لكنها أيام معدودة، لم تشف الغليل، ولم ترو العليل، ولم تبل الصادي، ولم تحل الحادي، لكني أحمد الله وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأرجوه العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة،

والحمد لله في الأولى والآخرة وله الحكم، وإليه المرجع والمآب.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٢/٥/١٢


ح...............

(١)(مقتبسة من شعر للعلامة الفيروزابادي)


(٢)(قالها عبدالله بن عمران البسكري، تـ٧١٣)


(٣)من قصيدة للأديب محمد بن عبد الله بن محمد الحسيني المدني، المشهور بـ محمد كِبريت، تـ١٠٣٩.


الاثنين، 28 ديسمبر 2020

تنبيه على وهم في عزو كتاب إلى الوزير ابن هبيرة!

تنبيه على وهم في عزو كتاب إلى الوزير ابن هبيرة!


بينا أنا أقرأ في الكتاب الفذ (شرح المفصل) لابن يعيش، حتى وصلت إلى هذا النص:

"وقال ابن هبيرة في (المحكم): "غلبت "الشعوبية"، بلفظ الجمع، على جيل من العجم، حتى قيل لمحتقر أمر العرب: "شعوبي"، وإن لم يكن منهم، وأضافوا إلى الجمع؛ لغلبته على الجيل الواحد، كقولهم: أنصاري".

ينظر: (شرح المفصل: ١/ ٤٥)


فحملقت بصري في هاته الجملة "وقال ابن هبيرة في المحكم"! وساءلت نفسي: هل للوزير ابن هبيرة؛ كتاب، باسم (المحكم)؟


كان جوابي لأول وهلة: لا، ليس لابن هبيرة، كتاب بهذا العنوان؛ وذلك لمعرفتي السابقة بتواليفه.


لكني رجعت إلى ترجمته، فلم أعثر له على ذكر، ثم كررت باحثاً عن هذه الجملة في كتب الوزير؛ لعلي أظفر بها في أحد تواليفه، لا سيما كتابه الضخم الفخم (الإفصاح)؛ فلم أعثر عليه أيضاً.


عدت إلى كتاب (المحكم) لابن سيده؛ فوجدته فيه، في (١/ ٣٨٢) فحمدت الله على ذلك.


وفي صدد بحثي؛ وقفت على بعض المراجع؛ تتابعت على هذا الخطأ وتواردت، بعضها بنص العبارة، وبعضها بفحواها، ومنها:

-(إعراب القرآن وبيانه: ٩/ ٢٧٣) للدرويش.

-(حدائق الروح والريحان: ٢٧/ ٤٠٩) للهرري.


ووجدت مرتضى الزبيدي، في (تاج العروس: ٣/ ١٤٣) عزاها لابن منظور!

ورأيتها عند ابن منظور، في (لسان العرب: ١/ ٥٠٠) دون عزو؛ وذلك لأن أحد مصادر (اللسان) هو (المحكم) لابن سيده، فلم يحتج أن يعزوها إليه.(١)


وهي بنحوها، في (رسائل المقريزي: ٧٨) دون عزو!


وبدون عزو أيضاً في (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين: ٦/ ٧٦).


وبنحوها، وبدون عزو أيضاً، في (مجلة المقتبس: ٤٦/ ١٧).


وهي بنحوها -أيضاً- في (حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي، المسمى: عنايه القاضي وكفاية الراضي: ٨/ ٨١) بصيغة التمريض: قيل!


فتلخص الآتي:

أن المقولة، عزيت لثلاثة فحول من العلماء:

الأول: الإمام اللغوي أبو الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ ابن سِيدَه المُرسي الأندلسي؛ تـ ٤٥٨.

والثاني: الوزير الفقيه أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني نسباً ثم الدوري البغدادي الحنبلي، تـ٥٦٠.

والثالث: الإمام اللغوي أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي الأنصاري الرويفعي الأفريقي؛ تـ ٧١١.


فبان ووضح؛ أن فارعها وباجسها وفاتقها، هو: العلامة ابن سيده؛ وأما ابن منظور؛ فهو ناقل لها عن ابن سيده -كما تقدم-، وأما ابن هبيرة؛ فلم يدّعها لنفسه أصلاً.


والذي جعلني أجزم، أنها لابن سيده؛ أن العلامة ابن يعيش؛ سمى كتابه (المحكم) ولكنه ذهل عن تسمية مولفه؛ فنسبه إلى الوزيز ابن هبيرة ذهولاً، وليس للوزير كتاب بهذا الوسم -كما قدمت-.

والله أعلى وأعلم، وأجل وأحكم.


وزبره: أبو نعيم وليد الوصابي.

(في بلاد الغربة)

١٤٤١/٣/٢٩


ح............... 

(١) نبهني على هذا، الدكتور القاضي هاني الجبير -أفاده الله-.



الأحد، 27 ديسمبر 2020

ضر المطر لبعض البشر!

 ضرر المطر لبعض البشر!


مُطرنا بفضل الله ورحمته، فابتلّت الأرض، و"اهتزت وربت"، وأخرجت أثقالها ونبت، وأبدت مَخباها ومُخباها.. فنتنت وأنتنت، وأزكمت الأنوف، وأضرت الأجساد، وعكرت الأجواء، وأفسدت الطرق، فلا تمشي إلا وأنت مشمر ثوبك عن ساقيك حتى لا يصيبه الأذى، وما رفعته من ثوبك، تضعه على أنفك حتى لا يصيبك الصنن والزكم!


لا أقول هذا، سخطاً أو غلطاً، بل إنا لنفرح بالمطر، ولكنا نشكو ما يصيبنا من الكدر والضرر، وتعكر المزاج، وتشويش الفكر.


والمطر لقوم.. نعمة ونماء، يبتهجون بنزوله، وينشرحون لقدومه، وذلك؛ لانتفاعهم به، من: ارتواء الأرض، وتفتق الأزهار، وإنضاج الثمار.. فيخرجون إلى المتنزهات مع الأهل والولد والذرية.

فلا يتضررون منه حين نزوله؛ لوفر بيوتهم، ولا يتأذون بعد نزوله؛ لتصريف ما عنه ينتج من تجمع الوحل، وتحقل المياه.


والمطر لآخرين.. نقمة وشقاء، يكسفون لنزوله، ويضجرون بقدومه؛ وذلك؛ لأنهم يتضررون منه حين نزوله؛ لخواء بيوتهم وضعفها، فينزل على رؤوسهم وأطفالهم ومواشيهم، ويبل أمتعتهم من فرش وحضائر، ويتأذون بعد نزوله؛ لوهاء بلادهم، فيتحقل في أماكن سيرهم، فيقطع عليهم معايشهم ومساجدهم ومدارسهم، ويمكث تجمع المياه، الأيام وربما الأسابيع، وتارة الأشهر، فيسبب الأمراض والأوبئة، التي لا قِبل للمساكين بها!


قال الزمخشري: "وقيل: يخاف المطر، من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف"!

(الكشاف: ٢/ ٥١٨).


قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: ولا يشرع لذلك صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصل لذلك، ودليل هذه المسألة حديث أنس قال: دخل رجل المسجد يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. قال أنس: والله وما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا بيننا وبين سلع، يعني: الجبل المعروف بقرب المدينة، من بيت، ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء؛ انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله أن يمسكها علينا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم حوالينا، ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر، فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس). رواه البخاري ومسلم". 

ينظر: (المجموع شرح المهذب: ٥/ ٨٦). 


وقال ابن القيم، عن قول الله تعالى: "نسوق الماء إلى الأرض الجرز"-: "هي أرض، لا يأتيها المطر، إنما يساق إليها الماء، وقد مررت بها بليل.

قلت: وكان شيخنا أبو العباس أحمد بن تيمية، يقول: "هي أرض مصر، وهي أرض إيليز، لا ينفعها المطر، فلو أمطرت مطر العادة، لم ينفعها، ولم يروها، ولو داوم عليها المطر؛ لهدم البيوت، وقطع المعايش، فأمطر الله بلاد الحبشة والنوبة، ثم ساق الماء إليها"

وعندي: أن الآية، عامة في الماء الذي يسوقه الله على متون الرياح في السحاب، وفي الماء الذي يسوقه وجه الأرض، فمن قال: هي مصر، إنما أراد التمثيل، لا التخصيص".

(بدائع الفوائد: ٣/ ١١٠)


‏‎وذكر نحوه ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) عند آية (١٨) سورة المؤمنون.


وقال ابن حجر الهيتمي: "(ولو تضرروا بكثرة المطر) وهي ضد القلة مثلثة الكاف (فالسنة أن يسألوا الله) تعالى (رفعه) بأن يقولوا ندباً ما قاله صلى الله عليه وسلم، لما شكي إليه ذلك (اللهم) اجعل المطر (حوالينا) في الأودية والمراعي (ولا) تجعله (علينا) في الأبنية والدور.

وأفادت الواو؛ أن طلب المطر حوالينا؛ القصد منه بالذات: وقاية أذاه، ففيها معنى التعليل، أي: اجعله حوالينا، ولئلا يكون علينا.

وفيه: تعليمنا أدب الدعاء حيث لم يدع برفعه مطلقاً؛ لأنه قد يحتاج لاستمراره بالنسبة لبعض الأودية والمزارع، فطلب منع ضرره، وبقاء نفعه، وإعلامنا بأنه ينبغي لمن وصلت إليه نعمة من ربه، أن لا يتسخط لعارض قارنها، بل يسأل الله تعالى رفعه وإبقاءها، وبأن الدعاء برفع المطر، لا ينافي التوكل والتفويض "اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"".

(نهاية المحتاج: ٢/ ٤٢٨).


وفي (روح البيان: ٤/ ٣٥٢): "والمطر يكون، لبعض الأشياء ضرراً، ولبعضها رحمة.. فيخاف منه المسافر، ومن فى خزينته التمر والزبيب، ومن له بيت لا يكف.

ويطمع فيه المقيم، وأهل الزرع والبساتين.

ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر، كأهل مصر؛ فإن انتفاعهم إنما هو بالنيل، وبالمطر يحصل الوطر".



وإلا، فما أجمل الأمطار، التي تنعش القلوب، تبعاً لإحياء الأم (الأرض)، وتبتهج برؤيته النفوس، وتأنس القلوب، ويسرح الطرف يمنة ويسرة، إلى بديع صنع الله وخلقه، لا إلى الأوانس والعوانس!، "صنع الله الذي أتقن كل شيء" "فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها".


تأمل في نبات الأرض، وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ


عيونٌ من لجينٍ شاخصات *** بأبصار هي الذهب السبيكُ


على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريكُ


وما ذاك النتن الحاصل، بعد ذلك المطر النازل، إلا؛ لعدم الحفاظ على البلاد التي استودعنا الله غرسها وفلحها وعَمرها، فلم نحسن إليها، وهي أمّنا، (والإحسان إلى الأم؛ واجب) قال تعالى: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى".

فهي الأم التي لا غنى لنا عنها، لا قبل ولا بعد!


أقول: بعد ما أصابني من العكر والضجر والكدر.. أمسكت بخلي وصاحبي ونديمي وأنيسي وجليسي وونيسي؛ لأقرأه وأناجيه، وأُسمعه وأناغيه.


ولعمري، إن الكتاب المختار؛ لهو خير صديق!

رزقنا الله الاستكثار منه، وأما الخلق؛ (فلا يستكثرن من الصحاب)!


جعلت كتبي أنيسي *** من دون كل أنيسِ

لأنني لست أرضى *** إلا بكل نفيسِ


وإذا تملكك حب الكتاب، واستولاك واستهواك؛ لم تعد تطيق فرقاه، أو تقوى على هجراه، بل تفرق من الخلق، وتنأى عن الإنسان:


قال أحمد الصافي النجفي:

أطالع ما استطعت وجوه كتب *** فراراً من مطالعة الوجوهِ! 


تشبثت كتابي، عند تنزل الرحمات.. أبثه أحزاني وأشجاني، فيعطيني الطمأنينة والانشراح.

أعرض عليه عويص المسائل، فيغمرني ريّ الجداول، وظل الخمائل.


ولكني لم أطق، ولم أسطع المواصلة، بعد الحول والمحاولة؛ لسوء ما أرى، ونتن ما أشم، وصك ما أسمع!

فاعتذرت إليه؛ لأنه طاهر، فلا يليق به إلا الطهر والنقاء والصفاء، ووعدته على أمل اللقيّ في وقت قريب؛ فإني لا أقوى على فراقه، ولا بد كل لحظة من لقائه.


شعرت بعد طرح خِدني، بفراغ، لكني ملأته بكتْب هاته الكلمات، التي أرجو أن يكون فيها تسلية لنفسي، وعزاء لجنسي.


وفيها نداء للجميع: أن نحسن إلى الأرض، بإزالة الأذى، وإماطة القذى: الحسي والجسي؛ لننعم بروحها وريحها.


فلنتكاتف ونتعاطف، ولو في قرانا وحوارينا، أو قل (حوافينا)، حتى ينعم الكل، ويأنس الخل، ويحلو الخروج والسمر، والمناجاة على ضوء القمر، بصحبة الحِبين، ومنادمة الصدوقين الصديقين: الكعاب، والكتاب!


رزقني الله وإياكم كل خير، وجنبني وإياكم الشر والضير.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٧/٣/١٥

١٤٤١/٧/٢




نفسي أَبْسَتْ (من) و(إلى) ضبط كلمة (أَنْسَتْ)! من وسم كتاب: (التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة)!

 

نفسي أَبْسَتْ (من) و(إلى) ضبط كلمة (أَنْسَتْ)!

من وسم كتاب: (التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة)! 


كتاب: (التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة)، للعلامة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد المطري المصري، تـ٧٤١؛ من أجود ما كتب عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبيين معالمها، وتوضيح مآثرها؛ لأنه اعتمد بنفسه على كثير من المشاهد، وزار عدداً من المعالم، بل كان يسافر لهذا الغرض، ويمكث ما شاء الله له المكوث، حتى شفا غلته، وملأ عيبته، ثم أفرغ ما في دواته على كاغده!

سطر ما عاشه من أحداث جرت فيها، وإن لم يخل من النقل عن غيره، وهذا شأن الجل، إن لم يكن الكل!


فصار بهذا؛ ذا قيمة قيّمة، حتى غدا منهلاً لمن تبعه، ومكرعاً لمن لحقه، ممن ألف في تيك المدينة العظيمة، والبلدة الفخيمة.. التي كفاها شرفاً: حلول جسد المصطفى صلى الله عليه وسلم في ترابها، وبين أهدابها.(١)


وقد طبع الكتاب أولاً: بتحقيق الشيخ محمد بن عبد المحسن الخيال، ونشره الناشر أسعد طرابزوني.


ثم طبعه الباحث عبد الله بن سليمان اللهيب، في رسالة علمية.


وبعدها طبع بتحقيق الدكتور سليمان الرحيلي، وقد اعتمد على أربع نسخ خطية، إحداها بعد وفاة المؤلف بسنتين، وتعقب محققيه قبله.


وقد اختُلف في ضبط (أنست) من عنوان الكتاب، وهاك ما وقفت عليه، مع الترجيح -بعون الله تعالى-:


الضبط الأول: (أنست) بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح السين، ثم سكون الأخير، من النسيان.


وضبطه بهذا الضبط:

-المؤرخ ابن فهد، في (لحظ الألحاظ: ٧٥).

-الحافظ الحرضي، في (بهجة المحافل: ١/ ٢٧). 

-العلامة الميمني، في (بحوث وتحقيقات: ١/ ١٩١). 

-العلامة محمد حميد الله، في (كتاب مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة: ٦٦٢).

-المؤرخ الزركلي، في (الأعلام: ٥/ ٣٢٥). 

-الأديب محمد كرد علي، في (مجلة المقتبس: ٨١/ ٥٤) على أنه في (٧٦/ ٦٢) ضبطها، بـ (آنست)! 


الضبط الثاني: (أسست) بفتح الهمزة، وإبدال النون (من أنست) سيناً مشددة مفتوحة، من التأسيس والبناء.


وضبطها بهذا الضبط:

-الإمام ابن ناصر الدين، في (توضيح المشتبه: ٦/ ٨١ - ٢٤٠). 

-المؤرخ التقي الفاسي، في (ذيل التقييد في رواة السنن والمسانيد: ١/ ٤٤). 

-الكتبي الباباني، في (إيضاح المكنون: ٣/ ٢٩٦) و(هدية العارفين: ٢/ ١٥٠). 

-المؤرخ رضا كحالة، في (معجم المؤلفين: ٨/ ٢٥٧).

-المحقق أنور بن أبي بكر الشيخي الداغستاني، في تحقيقه كتاب (بهجة المحافل: ١٧).(٢)


الضبط الثالث: (آنست) بمدِّ الهمزة (من كلمة أنست) وفتح النون والسين!


وضبطها، بهذا الضبط:

-الأستاذ عبد الباسط عبد الرزاق بدر، في (كتاب مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة ودوره في خدمة السيرة النبوية: ١٥) على أنه أخطأ في نسبة مؤلفها -كما سيأتي-!

-الأديب كرد علي، في (مجلة المقتبس: ٧٦/ ٦٢) في أحد الموضعين.

-الدكتور عاصم حمدان علي حمدان، في (المدينة المنورة بين الأدب والتاريخ: ١٠). 


وبهذا الضبط؛ طبع الكتاب في نشرته الأولى، بالمكتبة العلمية بالمدينة المنورة، عام ١٩٧٠م.


والأرجح من هاته التسميات.. هو الأول (أَنْسَتْ) وذلك لأسباب:

الأول: أن هذا، هو ضبط المؤلف في أول كتابه، ويقال في هذا: (قطعت جهيزة، قول كل خطيب)!


ثانياً: ذكر المؤلف ما يعلل هذه التسمية، فقال: "وقد خَلَت -أي: المدينة- ممن يعرف معالمها وأخبارها، ويعرف معاهدها وآثارها، وبعض ما ورد في فضلها وأسندته؛ رجاء ثواب الله العميم، وشفاعة نبيه الكريم، وأن يجعلنا من خیار أمته، ويحشرنا معه في زمرته، غير خزايا ولا نادمين، ولا مغيرين، ولا مبدلين آمین آمین آمین، وسميته: (التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة)".(٣)


وهذا نص صريح في ضبط كلمة (أَنْسَتْ) بل جاءت مضبوطة بالشكل، هكذا في طرة بعض المخطوطات. 


ثالثاً: أن هذا الضبط، موافق للمعنى؛ فمعنى العنوان وشرحه: تعريف من لم يَعرف، وتذكير من نسي، -مع مرور الزمن، وهجران الدمن-.. بالمعالم والرباع التي اشتملت عليها دار الهجرة، وهي المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

في قول المصنف: "وقد خلت -أي: المدينة- ممن يعرف معالمها وأخبارها، ويعرف معاهدها وآثارها ...". 


رابعاً: جاء هذا الضبط، عند بلدينا الإمام الحافظ يحيى بن أبي بكر الحرضي العامري، تـ٨٩٣، وقد ذكر، أنه: رواه عن شيخ الإمام الحافظ محب الدين محمد مصعب بن عمير، وأرويه بالسند المتصل إلى المؤلف عن عدة من الأشياخ -والحمد لله-.

ينظر: (بهجة المحافل: ١/ ٢٧). 


تنابيه:

الأول: عزا الباحث عبد الباسط عبد الرزاق بدر، في (كتاب مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة ودوره في خدمة السيرة النبوية: ١٥).. كتاب (التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة) إلى الإمام زين الدين أبي بكر بن الحسين بن عمر أبي الفخر المراغي!


وقد التبس عليه؛ لأن للمراغي كتاباً في المدينة، يشبه اسمه، اسم كتاب (التعريف) للمطري، وهو (تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة).


الثاني: تبادر إلى ذهني، بادئ ذي بدئ، أن "المطري" نسبة إلى بني مطر، من بلاد اليمن، وهي اليوم: مديرية بني مطر: أكبر مديريات محافظة صنعاء وأشهرها. 

ومنها: قرية بني مطر: إحدى قرى مديرية عتمة(٤) في محافظة ذمار.

قال ياقوت: "مطر: من أعمال اليمن يقال لها: بنو مطر". 

(معجم البلدان: ٥/ ١٤٨).


فكنت أظن أولاً: أن الجمال من مطرنا (على أنه خزرجي سعدي يمني)، ثم تبين، أنه من بلدة، اسمها: المطرية: وهي مدينة مصرية قديمة، ذكرها ياقوت وغيره، كانت على مشارف القاهرة، وقد صارت الآن؛ إحدى ضواحيها الشمالية، وينسب إليها عدد من الأعلام ومنهم: صاحبنا الجمال المطري.

فإذا وجدتَ هذه النسبة (المطري)؛ فتحرى إلى أي بلدة تعود.


الثالث: يتنبه، إلى أنه قد تكون نسبة المطري، إلى رجل، وليس بلاد؛ فقد وجدت ياقوت الحموي، في (معجم البلدان: ٤/ ٢٤٦)؛ يذكر في بلدة: (فربيا) يقول: "من قرى عسقلان، ينسب إليها: أبو الغنائم محمود ابن الفضل بن حيدر بن مطر الفربياني المطري، لقيه السلفي، وسمع الحديث عليه، وعلى غيره". 


هذا ما يسره الله سبحانه، من تحقيق ضبط هاته الكلمة من عنوان، وأرجو أن أكون وُفقت للصواب، ونئي بي عن الوهم والاضطراب.. فإن الفكر مشوّش، والقلب متعب، حتى صرت أخشى الهذي، رزقني الله الهدي، والله وحده المستعان لا رب سواه، ولا إله غيره.


وكتب -النائي عن الأهل والولد والوليد-: أبو نعيم وليد! 

١٤٤١/٤/٣٠


ح............................ 

(١) قال القاضي عياض اليحصبي في كتابه الشافي (الشفا) (ولا خلاف أن موضع قبره -صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض).

(الشفا: ٢/ ٢١٣)


وقال السخاوي في (التحفة اللطيفة): "مع الإجماع، على أفضلية البقعة، التي ضمته صلى الله عليه وسلم، حتى على الكعبة المفضلة، على أصل المدينة، بل على العرش، فيما صرح به ابن عقيل من الحنابلة". 

(التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة: ١/ ٢٠)


(٢) وكان هو الفتيل، الذي أضاء هذا البحث؛ إذ كنت أقرأ في هذا الكتاب (بهجة المحافل)؛ فلما أتيت على ذكر المحقق، لكتاب (التعريف) نزلته كتاباً (مبدأفاً) منورقاً، فرأيت اختلاف العنوان؛ فكان ما هو بين يديك.

(٣) (التعريف: ٤١)

(٤) وعتمة، هي: قرية العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، تـ١٣٨٦، وبالتحديد عزلة (الطفن).




كتاب: (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك): بين عزوين.. للسخاوي!

 كتاب: (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك): بين عزوين.. للسخاوي! 


كنت في بحث ما؛ فمرّ بي، ذكر كتاب: (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك).

فاشرأبت نفسي، أن أعرف فاتقه، فبينا أنا في البحث؛ إذ وجدت العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المصري، تـ٩٠٢، يقول -في ترجمة محمد القيسي الملوري (كذا، ولعله: اللسوري(١) المغربي الأندلسي المالكي-: من (الضوء اللامع): "قرأ عليه ابن أبي اليمن (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك) لأبي الحسن علي بن محمد بن فرحون".(٢)


فتراه هنا: يعزو المنسك، للإمام نور الدين أبي الحسن علي بن محمد بن فرحون بن أبي القاسم فرحون بن محمد بن فرحون اليعمري التونسي الأصل المدني المولد والمنشأ، تـ ٦٩٨. (٣)

ينظر: (الديباج المذهب: ٢/ ١٢٦).


لكننا نجد السخاوي نفسه، في (التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة: ١/ ٨١ - ٨٢، رقم: ٩١)؛ ينسب هذا المنسك؛ للإمام برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم فرحون بن محمد بن فرحون القاضي اليعمري التونسي المدني المالكي، تـ٧٩٩.

وسماه: (إرشاد السالك إلى المناسك).


قال أبو نَعيم: والراجح -والله أعلم- من هذين العزوين؛ هو الثاني؛ فإن منسك (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك)؛ هو لبرهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون، وهو ابن الأول.


وقد عزاه إليه: التنبكتي، في (نيل الابتهاج: ٣٤) ونقل منه وعنه، ثلة من المؤلفين في تواليفهم وفتاويهم.


ولو لم تكن هذه الترجيحات؛ لرجُح ما في (التحفة اللطيفة)؛ لأن طبعات (الضوء اللامع) كلها، تعُوزها التحقيق المتقن، والإخراج المرصن. 


والمنسك؛ قد حققه الدكتور محمد بن الهادي أبو الأجفان، وطبعته المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات (بيت الحكمة) بتونس، الطبعة الأولى ١٤٠٩هـ ١٩٨٩م.


وطبع بعدها في مكتبة العبيكان، بالرياض، عام ١٤٢٣هـ لنفس المحقق،

في مجلدين.


ولم يشر الدكتور أبو الأجفان؛ لما ذُكر في (الضوء)، ولكنه حقق نسبة المنسك لبرهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون، تـ٧٩٩، بما لا يدع مجالاً للشك.


هذا ما كان، والله وحده المستعان، لا إله غيره، ولا رب سواه، "والحمد لله رب العالمين".


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤١/٤/٢٧

مكة المكرمة.


....................ح

(١) ينظر: (الضوء اللامع: ٥/ ٧٤) دار الكتب العلمية، و(٩/ ٨٣) من طبعة ktab INC.


(٢) في (الضوء اللامع: ٩/ رقم: ٣١١٠) دار الكتب العلمية، تحقيق عبد اللطيف حسن عبد الرحمن!


وفي طبعة ktab INC، شركة كتاب للنشر والتوزيع، عام ١٩٣٤ (٤/ رقم: ٥٢٧).. 

وهذه الترجمة من التراجم الساقطة من طبعة دار الجيل! 


(٣) تنبيه: هناك إمام آخر، هو: علي بن محمد بن فرحون القيسي القرطبي، تـ٦٠١؛ فيتنبه إلى الفرق بينهما.

السبت، 26 ديسمبر 2020

التسليع الجنسي.. وخطف الأبصار، أو وأد الفضيلة؟!

 التسليع الجنسي.. وخطف الأبصار، أو وأد الفضيلة؟!


التشييء الجنسي أو التسليع الجنسي أو الجنسنة: هو أسلوب يُعامل به الشخص -لا سيما المرأة- مجرد أداة للرغبة الجنسية، بعيداً عن كرامة الإنسان، أو تفضيل الإسلام!

وبتعريف آخر: مصطلح التشييء: هو معاملة الشخص كسلعة أو متاع أو غرض من الأغراض، وإهمال شخصيته وكرامته وإنسانيته.


يعمد التاجر أو المستثمر أو المروج.. لإنجاح سلعته واستهلاكها، بتوظيف البنات، وربما اختار منهن الجميلات!


بل ربما يصل الحد، إلى أن يقول لهن: ابتسمن للمشتري  .. البسن لبساً مغرياً  .. تمايلن في مشيتكن  .. اخضعن بصوتكن، لا مانع من المزاح، ولا بأس من الانفتاح!

أو يقول بعبارة دارجة: ليكن دمّكن خفيف!

أنت الخفيف، أيها المادّي السافل!


يقول مصمم الأزياء كالفن كلاين -الذي يستخدم صوراً جنسية، لفتيات في إعلاناته-: يتعلق الجينز بالجنس، وإن كثرة اللحم العاري، هو نهج المعلنين الأخير في محاولتهم، إضفاء هوية جديدة على المنتجات الفائضة عن الحاجة"!

هذا ما يريدونك، لحماً رخيصاً مبتذلاً مبذولاً مركوماً مرجوماً، لا حياة فيه ولا حياء!


وهذا ليس بعيداً على الكافرين والملحدين والمرتدين، الذين "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"، و"الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا"، والذين هم "أحرص الناس على حياة".. لكن ما هو عذرك أنت، أيها التاجر المسلم، الذي تخشى الله والدار الآخرة، وتعلم أنك راجع إلى ربك، فيحاسبك على النقير والفتيل والقطمير، والصغير والكبير!


ثم إني أسائلك: -أما الكافر، فلا ممانعة لديه-: هل ترضى هذا الوطاء والرخص والابتذال.. لابنتك أو زوجتك أو أختك أو قريبتك؟!

لا أظنك، انسلخت من هُويتك وديانتك، فلا ترضاه لهن، فلمَ ترضاه لغيرهن من فتيات المسلمين؟!


احذر، فالأيام دول، والدهر قلب، والليالي حبالى، والرحمن كل يوم هو في شأن، ومن حفر لأخيه حفرة؛ وقع فيها، و(كما تدين تدان)، و(الجزاء من جنس العمل)، "وما الله بغافل عما تعملون"، "وما الله بغافل عما يعمل الظالمون".


فاحذر، وانته، وانزجر.. عن هذا التسليع الجنسي، والهوس الفَلسي، وراع ظروف أخواتك المسلمات العفيفات الفقيرات، اللاتي أخرجتهن اللقمة، وأجبرتهن الحاجة؛ ليعملن بأعمال تضمن لهن عفتهن، وتداوي جرحهن، وتحفظ لهن ماء وجههن.. ولكن للأسف، وجدن رجلاً أجلفاً، لا يعرف لغة العفة والكرائم، وإنما يتعامل بمبدأ الريال والدراهم!

فهو لا يبال بدين، ولا يراع العرف، ولا يردعه الحياء؛ لأنه بلا حياء، وعديم الوفاء، وخميص المحيا!


وربما قال هذا اللاهث: أنا لم أجبر امرأة بخلع الحجاب، أو بكشف أو تضييق الثياب، أو وضع الخضاب، أو صبغ المساحيق والأطياب.. وإنما هنّ البنات -من تدافع عنهن- هن من أردن هذا، ولجأن له، وهرولن إليه، وتهافتن عليه!


أقول: وإن كان ما تقول حقاً، وما تفوه صدقاً؛ فليس مبرراً ولا مسوغاً لك؛ أن تخالف سنة الله عز وجل، القائل سبحانه: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب" فهل تطيق شدة العقاب، وشديد الحساب؟!


ثم، على فرض.. أن من أتيت بهن مفتونات في أنفسهن.. أيحق لك أن تفتِن بهن غيرهن من الشباب، ويقتدي بهن سواهن من الكواعب الأتراب؟!


إن كل من تقتدي بهن من البنات، أو من يفتّن من الرجال؛ هي سيئات وأوزار تتراكم على ظهرك، وتتكاثر على كاهلك حتى تثقلك، ثم تهلكك "وليحملن أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون" فهل تطيق عذاباً أيها الرجل؟ وهل تحتمل ثقلاً أيها العجِل؟!


هذا، ما أردت إيصاله إليك، وإحجاجه عليك، و"معذرة إلى ربكم" ولعلكم تنتهون، اللهم اشهد.



ثم آتي إليك أختي العفيفة: أترضي أن تكوني محلاً للتندر والتنكيت، ومكاناً للإهانة والتبكيت؟!

أترضين أن يكون جسدك الطاهر، موضعاً للنظر والإعجاب، من الشيبان والشباب؟! وأنت شرعاً وعقلاً، لا تكوني إلا لواحد، من مليارات الناس، وأنت، لا تبغين أن يشاركك غيرك في الرجل، وبالحلال، فكيف تشاركي غيره فيك! وكيف تخالفي شرعة الله، وسنة الحياة؟!


أتحبين أن يشار إليك بالبنان، هذه فلانة بنت فلان.. كانت محترمة، ولكن الآن -للأسف- خالطت الرجال، وأصبحت جريئة لا تستحي ولا تخجل، بل صارت رجلة!


يقول عبد الله: يا عبد الرحمن: ماذا ترى، أريد أن أتقدم لِـ لُجين؟

يقول له: أما سمعت عنها، إنها خرجت من بيتها، وعملت كاشيرة في المولات، أو مباشرة في المحلات؟!


يا رجل، أيعقل هذا، إني سمعت عنها عقلاً راجحاً، وعملاً صالحاً، ولديها والد وإخوان، ذوو غيرة وشهامة، فكيف سمحت لنفسها، وكيف سمح لها أهلها.. أن تخالط الرجال، وتخاطب الأجيال؟!

إنا لله وإنا إليه راجعون، إذن، أصرف عنها نظري!

والعجيب، أن هذه النظرة، ليست نظر الملتزم فقط، بل رأيت وسمعت -والله- هذا، ممن لا يكاد يصلي! فاعجبي.


والله -يا أختي- هذه هي نظرة الرجال إليك، ليس الملتزمين فقط، بل -والله- حتى غيرهم، ممن يحظونك على السفل والتسفل، ينظرون إليك نظرة دونية!

يخاطبوك، وربما مازحوك و و و، ولكن عند الجد والحقيقة: يبتعدون عنك، وأقل كلمة تسمعيها: هذه جريئة.. أريد امرأة دينة حيية!


قالت لي واحدة: يا أخي، أنا أخرج بحجابي وحشمتي وعفتي؟!

قلت لها: جزاك الله خيراً، وكفاك شراً وضيرا، ولكن، من يضمن لك الاستمرار على هذا المنوال؛ فإنك لن تتركي، لا من صاحب العمل، ولا من زميلاتك، ولا من الذين يتبعون الشهوات؛ فإنهم يريدون لك أن تميلي ميلاً عظيماً!



أصبح التشييء الجنسي الألكتروني، أو مفهوم السلعة الجنسية الألكترونية.. واقعاً يومياً بالنسبة لرواد المجتمعات الإلكترونية، مثل: تيك توك، وسناب شات، وأنستجرام، وتويتر، وفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتعمد بعض التطبيقات، استغلال الفتيات، كأدوات جنسية، باستعراض صورهم ومفاتنهم، وتتعمد بعض الفتيات استخدام تيك توك لاستعراض أجسادهم في رغبة داخلية منهم للتشييء الجنسي والربح المادي، من خلال أجسادهم.


وكم هي الإعلانات الصارخة الشادخة.. فلا تكاد تفتح تطبيقاً، إلا ويطبق على عقلك وقلبك، مما فيه من صور مسيئة قميئة!

وما ذاك، إلا غزو للعالمين، في قعر دورهم، وقرار بيوتهم!

فاللهم قوة وعصمة.



وقد صار التسليع الجنسي.. على مستوى الفرد والدول والمجتمعات، فإذا لم تستغل المرأة من قبل غيرها، استغلت نفسها من بيتها أو سوقها أو جامعتها أو عملها، بعرض روتينها اليومي، وفيه ما فيه من خدش للحياء، وهتك للمروءة، وإن لم يكن فيه شيء من ذلك، ففيه بعض الخصوصيات تبديها المرأة، لغيرها، وهي تعلم أن أكثر من يتابعها، هم الرجال الفرّغ؛ بغرض الحصول على الشهرة، أو العائد المادي، ولا تزال كذلك، حتى تسقط -لا قدر الله- في أوحال الشهوات، وبراثن الأسود!


وغالباً ما يُقيَّم التسليع، كسلوك اجتماعي، لكنه قد يكون سلوكاً فردياً، يقوم به مخدوع أو واهم أو مشترى الذمة، أو راكض وراء الشهوات والمادة، ويعد شكلاً من أشكال التجريد من الإنسانية.



أختاة: اصبري على نفسك، وثقي بربك، فوالذي لا إله إلا هو، لن يضيعك، ولن يكلك إلى نفسك، أو إلى ذئاب ضارية، ومعارك دامية "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"،

حافظي على صلاتك، وقرآنك، وأذكارك، وعفافك، وأبشري بالزوج الصالح، والمال الرابح، والأولاد البررة، والبيت الواسع، والمركب الهنيء..

والله، لا أقول هذا: تطييا لخاطرك، أو تضميدا لجراحك، فحسب، بل هو موعود الله سبحانه، لمن اتقاه، وتوكل عليه، "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" و"والله لا يخلف الميعاد" (ولكنكم تستعجلون) اللهم احفظها وارزقها واكفها وأعفها، وصنها وأعنها، وكن لها ومعها يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين.


ثم أختم بالرائي والمشاهد والمستهلك، سواء كان ذكراً أو أنثى، فأقول: قال الله تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" فاحذر أن تعرض نفسك، لما تتوقع، سؤال الله لك، بين يديه سبحانه وتعالى.

فغضوا أبصاركم عن الخنا والشرور، وانؤوا بأنفسكم عن الإثم والزور، واهجروا بضاعات العهر والفجور، فكل ما تروه أو تسمعوه.. هو خطف لأبصاركم، وسم لأبشاركم، فحاربوهم بالهجر والترك والصرم، و(من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه) ولو لم تجدوا، إلا عوض: السلامة والسلام، والأمانة والإيمان، "وما عند الله خير لكم" "وللدار الآخرة خير للذين يتقون".

وسلام الله عليكم في الأولين والآخرين.



وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/٤/١٥

١٤٤٢/٥/١١

الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

ألا يصلح أن نكون إخوة ولو اختلفنا؟!


ألا يصلح أن نكون إخوة ولو اختلفنا؟!


جرى بيني وأحد إخواني الفضلاء، نقاش حول مسألة، فاحتدّ الكلام، واشتدّ الخصام حتى دخل حض النفس، وشهوة الانتصار، وغضب كل واحد على صاحبه.. ثم توقفنا، مستعيذين بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن للشيطان كان حظاً من مجلسنا، وهو الذي أوصلنا إلى ما أوصلنا!


صمت كل واحد على وحر صدر، وتكدر خاطر، واغتمام نفس.. أيكون هذا من صديقي تجاهي؟ أيظن بي ظن السوء؟


اعتكف كل منا على كتاب من كتب أهل العلم يقرأ فيه، حتى انتهى وقت كل منا، في تيك المكتبة العامة.

وبقيت أزوّر في نفسي كلاماً لائقاً، واعتذاراً صادقاً، ولكن عن طريق رسالة أرسلها إليه..


وإذا بي أفاجأ عند خروجي، بصاحبي يناديني: أبا نعيم!

الصوت صوت صاحبي، ولكني لم أتوقع!

التفتّ، وإذا به هو صديقي، بصوته المعهود، وبسمته العريضة.. رجعت نحوه، وسلمت عليه، وابتسمنا، وتعاتبنا عتاب المحب الصادق، واعترف كل بجزء من خطئه، واحتمل كل جريرته، وقلنا: ليت ذاك ما حصل، ونقاش المسائل يكون بتداول الأقوال، وتبادل الآراء، وخفض الصوت، واحترام الآخر، وحب الحق، وسرعة الفيء..


وقد جرى للشيخ علي الطنطاوي، ما جرى لي، فاسمعه يقول: "وقع مرة بيني وبين صديق لي ما قد يقع مثله بين الأصدقاء، فأعرض عني وأعرضت عنه، ونأى بجانبه ونأيت بجنبي، ومشى بيننا أولاد الحلال بالصُّلح، فنقلوا مني إليه ومنه إلي، فحولوا الصديقين ببركة سعيهما إلى عدوين، وانقطع ما كان بيني وبينه، وكان بيننا مودة ثلاثين سنة.

وطالت القطيعة وثقلت علي، ففكرت يوماً في ساعة رحمانية، وأزمعت أمراً.


ذهبت إليه فطرقت بابه، فلما رأتني زوجه، كذَّبت بصرها، ولما دخلت تنبِئه كذَّب سمعه، وخرج إلي مشدوهاً، فما لبثته حتى حييته بأطيب تحية كنت أحييه أيام الوداد بها، واضطر فحياني بمثلها، ودعاني فدخلت، ولم أدَعه في حيرته، فقلت له ضاحكاً: لقد جئت أصالحك!


وذكرنا ما كان وما صار، وقال وقلت، وعاتبني وعاتبته، ونفضنا بالعتاب الغبار عن مودتنا، فعادت كما كانت، وعدنا إليها كما كنا.


وأنا أعتقد أن ثلاثة أرباع المختلفين، لو صنع أحدهما ما صنعت؛ لذهب الخلاف، ورجع الائتلاف، وإن زيارة كريمة قد تمحو عداوة بين أخوين كانت تؤدي بهما إلى المحاكم والسجون.


إنها والله خطوة واحدة تصلون بها إلى أنس الحب، ومتعة الود، وتسترجعون بها الزوجة المهاجرة، والصديق المخالف، فلا تترددوا"

(مقالات في كلمات: ١/ ٥٣)


ولكنا حمدنا الله أن دحرنا كيد الشيطان، وأرغمنا أنف بعض الفرقاء المفرّقين، وانتصرنا على أنفسنا الأمارة بالسوء، وسللنا سخيمة نفوسنا، واعترف كل بفضل الآخر، وتبادلنا الحب والإخاء، والصدق والوفاء، وسلمنا، وغادرنا.

والحمد لله.


قال ابن أبي خيثمة في (تاريخه: ٨٨): حدثنا أبو الجوّاب، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كانوا يتزاورون وهم مختلفون".


وبعد أن حصل هذا؛ قلت: ليت كل خصام حصل بين اثنين، يكون هذا علاجه، وذاك ميسمه؛ لقلّ الهَجْر، وانقطع الهُجْر، وسلمت النفوس، واتصلت الأخوة، وعمرت الصداقة، ولكن للأسف، غالباً ما يكون بعد الخلاف والتلاسن، الشقاق والتضاغن، والكراهية والبغضاء، والتدابر والشحناء، وكأن ذاك الزميل الطيب، لم يكن منه إخاء ووفاء، "كأن لم تكن بينكم وبينه مودة" وهذا ما يرضي الشيطان، ويغضب الرحمن.


وتذكرت حينها قول الشافعي، ليونس بن عبد الأعلى، وقد اختلفا في مسألة، وغضبا من بعضهما، ولكن كان الشافعي أوسع صدراً من يونس -كما كان صديقي أفضل مني- قابله في الطريق، فأمسك بيده، وقال: يا يونس، ألا يصلح أن نكون إخوة، ولو اختلفنا؟!


وعادت المياه إلى مجاريها، واهترأ حبل الفتنة، وانقطع كيد الشيطان، "إن كيد الشيطان كان ضعيفا".


وأذكر هنا، ما كان بين العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكهنوي، والعلامة صديق حسن خان القنوجي..

قال علي حسن خان، عن والده العلامة صديق حسن خان الحسيني البخاري القنوجي -صاحب المصنفات الشهيرة، والمؤلفات الكثيرة، رحمهم الله-: إنه لما بلغه نعي العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكهنوي، وقد جرت بينهما مباحثات ومناظرات علمية، وألّف كل واحد منهما في الرد على صاحبه كتباً ورسائل.. وضع يده على جبهته، وأطرق رأسه برهة، ثم رفع رأسه وعيناه تدمعان، وهو يدعو للشيخ ويسترحم، وقال: اليوم غربت شمس العلم.

وقال: إن اختلافنا، كان مقصوراً على تحقيق بعض المسائل، ثم أعلن الصلاةعلى الغائب".

(نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر : ٨/ ١٢٤٧)


فلنحافظ -إخواني- على أُخوّتنا من الخدش، ونحفظ مودتنا من الكدش، ولنسعى جادّين إلى ما يخفف عن أصحابنا، ويسلي على أحبابنا، من كلمة طيبة، وبسمة حانية، وهدية معبرة، وزيارة صادقة، ووفاء موصول، وبذل مبذول، فإن الأخوة في المحل الأعلى، وفي المقام الأسمى.


أحببت كتابة ما جرى؛ ليكون درساً يحتذى، ونبراساً يقتدى، ونسأل الله أن ييسرنا لليسرى، ويجنبنا العسرى.



وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/٦/١٨

١٤٤٢/٥/٨


الاثنين، 21 ديسمبر 2020

الأحكام الجاهزة والنقد المغلّف!

 الأحكام الجاهزة والنقد المغلّف!


تسمع أحياناً، حُكماً على رأي أو شعر أو نثر أو شخص.. فلما تحملق إليه، وتتمعن فيه، لا تجد وجهاً للنقد، ثم تعيد الكرة أخرى، مصوباً النظر، ومقلباً البصر، فتجد أن لا وجه للنقد، وترى أن النقد كان جاهزاً مغلفاً مغفلاً مقفلاً، مسروقاً من غر أو غمر أو حاسد أو شانئ!


جاء الناقد الكبير، فتسلمه كما هو برباطه، ولم يفتحه لينظر فيه، ويبحث عن جينته، ويحرث في طينته!


لم يكن لدى صاحبنا الناقد الخبير، الوقت الكافي، لفك الوكاء، أو خرش العفاص، فاستعمله كما وجده، فإذا به مسموماً مجذوماً، فأمرض قوماً، وأمات آخرين!

فلله الأمر من قبل ومن بعد.


هذا هو حال الكثير من الناقدين، الذين لا يبالون للكلمة بالاً، وكأنهم لا يحذرون الآخرة، ولا يرجون رحمة ربهم، وكأني بهم، قد غاب عنهم، وعيد الطعن في الأعراض، واللمز في الأغراض.


قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي: "وأخسّ المنازل للرجل.. منزلة القول بلا عمل، وأخس منها، أن يكون الرجل كالدفتر يحكي ما قال الرجال، وما فعل الرجال، دون أن يضرب معهم في الأعمال الصالحة بنصيب، أو يرمي في معترك الآراء بالسهم المصيب".

(آثار محمد البشير الإبراهيمي: ١ /٥٦)


يتتابعون على نقد بلاد أو عباد، خالفاً عن سالف، دون نظر وتبين، بل محض تقليد وتبعية.


فكم هُجر شعر وشاعر، أو صُرم نثر وناثر، بلا حجة داحضة، بل بلجة خائضة، وإذا تمعنت في هذا المنقود والمهجور، رأيته قد سما العلياء، وجاوز الجوزاء، ولكنه ابتلي بنقد ممض مقض، من عَلم شهير صيّت، فأحبطه وأهبطه!


وإن أردت أمثلة.. فدونك الكتاب الرائع (الثورة والثقافة في اليمن: ٤٦٨) وما حولها، وثنايا، كتاب (الرؤوس) للأديب مارون عبود.


قال شيخ الإسلام: "ﻓﺈﺫا ﻛﺎﻥ اﻟﻤﻌﻠّﻢ ﺃﻭ اﻷﺳﺘﺎﺫ، ﻗﺪ ﺃﻣﺮ ﺑﻬﺠﺮ ﺷﺨﺺ، ﺃﻭ ﺑﺈﻫﺪاﺭﻩ ﻭﺇﺳﻘﺎﻃﻪ ﻭﺇﺑﻌﺎﺩﻩ ﻭﻧﺤﻮ ﺫﻟﻚ، ﻧﻈﺮ ﻓﻴﻪ: ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﺪ ﻓﻌﻞ ﺫﻧﺒﺎً ﺷﺮﻋﻴﺎً، ﻋﻮﻗﺐ ﺑﻘﺪﺭ ﺫﻧﺒﻪ ﺑﻼ ﺯﻳﺎﺩﺓ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﺫﻧﺐ ﺫﻧﺒﺎً ﺷﺮﻋﻴﺎً، ﻟﻢ ﻳﺠﺰ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﻗﺐ ﺑﺸﻲء ﻷﺟﻞ ﻏﺮﺽ اﻟﻤﻌﻠﻢ ﺃﻭ ﻏﻴﺮﻩ ... ﻭﺇﺫا ﻭﻗﻊ ﺑﻴﻦ ﻣﻌﻠﻢ ﻭﻣﻌﻠﻢ، ﺃﻭ ﺗﻠﻤﻴﺬ ﻭﺗﻠﻤﻴﺬ، ﺃﻭ ﻣﻌﻠﻢ ﻭﺗﻠﻤﻴﺬ ﺧﺼﻮﻣﺔ ﻭﻣﺸﺎﺟﺮﺓ، ﻟﻢ ﻳﺠﺰ ﻷﺣﺪ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﻦ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ، ﺣﺘﻰ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﺤﻖ، ﻓﻼ ﻳﻌﺎﻭﻧﻪ ﺑﺠﻬﻞ، ﻭﻻ ﺑﻬﻮﻯ، ﺑﻞ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻲ اﻷﻣﺮ، ﻓﺈﺫا ﺗﺒﻴﻦ ﻟﻪ اﻟﺤﻖ، ﺃﻋﺎﻥ اﻟﻤﺤﻖ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺒﻄﻞ، ﺳﻮاء ﻛﺎﻥ اﻟﻤﺤﻖ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﺃﻭ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻏﻴﺮﻩ، ﻭﺳﻮاء ﻛﺎﻥ اﻟﻤﺒﻄﻞ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﺃﻭ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻏﻴﺮﻩ، ﻓﻴﻜﻮﻥ اﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﻋﺒﺎﺩﺓ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ، ﻭﻃﺎﻋﺔ ﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭاﺗﺒﺎﻉ اﻟﺤﻖ ﻭاﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﺎﻟﻘﺴﻂ".

(مجموع الفتاوى: ١٥/٢٨)


وقال ابن القيم -عن المقلدة-: "... فإنهم يقلدون العالم، فيما زلّ فيه، وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ -ولا بد- فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك؛ إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، والخطأ واقع منه، ولا بد".

(إعلام الموقعين: ٣٧١)


فإذا جاء شجاع سميدع، ليزيل هاته التهمة البائرة، والبهمة الخائرة، عن ذلك المظلوم المهضوم، رأيتَ له النابز والغامز والهامز، وكأنه دخل حِمى محرماً، أو تناول نصاً معصّما.

لكن، لا يعدم في كل زمن، من يرفع عقيرة الحق، ويصيح بإرجاع النصاب إلى الخلق.

والله المستعان.


قال الإمام الشوكاني، في مقدمة كتابه (نيل الأوطار: ١٤):

"وقد قمت -ولله الحمد- في هذه المقامات، مقاماً لا يعرفه إلا المتأهلون، ولا يقف على مقدار كنهه من حملة العلم إلا المبرّزون، فدونك يا من لم تذهب ببصر بصيرته، أقوال الرجال، ولا تدنّست فطرة عرفانه، بالقيل والقال، شرحاً يشرح الصدور، ويمشي على سنن الدليل وإن خالف الجمهور، وإني معترف أن الخطأ والزلل هما الغالبان، على من خلقه الله من عجل، ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملكة، ورضت النفس حتى صفت عن قذر التّعصب الذي هو بلا ريب الهلكة".


إذا المشكلات تصدينني *** كشفت حقائقها بالنظر


ولست بإمعة في الرجال *** أسائل هذا وذا ما الخبر


ولكنني مدره الأصغرين *** فتاح خير وفراج شر


ففتشوا ونبشوا -رحمكم الله-، قبل الحكم الجاهز، أو الرأي المغلف، "أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".

والله العاصم والقاسم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٥/٥


#مقالاتي_ومقولاتي

#أنابيش_الكنانيش

الأحد، 20 ديسمبر 2020

القول البادي في تحريم الاحتفال بالعام الميلادي!

 


القول البادي في تحريم الاحتفال بالعام الميلادي!


الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام على من سدّ الله به التشريع، وختم به الرسالات.

وبعد:


فلا يشك مسلم يؤمن بالله ورسوله.. أن الله أكمل لنا دينه؛ لأنه يقرأ قول الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، وأن الله تعالى، لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم، إليه إلا بعد التمام والكمال والبيان.

ويقرأ قول الله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله". 

وقوله تعالى: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده".


والاحتفال والتهنئة؛ توجب تواداً وتحاباً، وموالاة ومحاباة، والله تعالى الحكيم العليم بما يصلحنا؛ حرّم علينا ذلك. 


وعليه؛ فإن ما نسمعه ونراه في رأس كل سنة ميلادية، عند بعض المسلمين، من التباهي والاحتفال، وتبادل التحايا والهدايا بين النساء والرجال.. لهي انهزامية نفسية، وتبعية غربية، وتنكب عن كتاب الله تعالى، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن مقتضى الاحتفال، كان موجوداً في زمنه عليه الصلاة والسلام، وزمن أصحابه، ولم يحتفلوا به، أو يدعوا إليه، أو يهنئوا به، ولم يكن هناك ما يمنع من إقامته، بل نجد تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام، من مشابهة المشركين، وأهل الكتاب، وكذلك الصحب الكرام رضي الله عنهم.


قال تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق". 

وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض".


وقال تعالى: "والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما".


قال مجاهد: إنها أعياد المشركين، وكذلك قال مثله الربيع بن أنس، والقاضي أبو يعلى، والضحاك. 


وقال ابن سيرين: الزور: هو الشعانين.

والشعانين: عيد للنصارى، يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصح، ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون: أن ذلك ذكرى لدخول المسيح بيت المقدس.

ينظر: (اقتضاء الصراط المستقيم: ١/ ٥٣٧).


والسنّة، ملأى بالتحذير من التشبه بالمشركين، أو مظاهرتهم في أعيادهم، أو التشبه بهم في حيواتهم..

فمنها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر).

رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي على شرط مسلم. 


فلم يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذين العيدين، ولا ترَكهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: (إن الله قد أبدلكم بهما، خيراً منهما) والإبدال من الشيء: يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيراً منهما) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.


وقد نقل الإجماع، على تحريم ذلك؛ لأن مما هو معلوم من السيَر: أن اليهود والنصارى، ما زالوا في أمصار المسلمين، يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك، لم يكن في عهد السلف من المسلمين، مَن يُشركهم في شيء من ذلك.


وكذلك ما فعله عمر رضي الله عنه -في شروطه مع أهل الذمة التي اتفق عليها الصحابة، وسائر الفقهاء بعدهم-: أن أهل الذمة، من أهل الكتاب، لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإنما كان هذا اتفاقهم على منعهم من إظهارهم.

ينظر: (مجموع الفتاوى: ٢٥/ ٣٣١).


وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك؛ حشر معهم يوم القيامة).

رواه البيهقي، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية.

ينظر (الاقتضاء: ١/ ٧٥٤)


وكلمة العلماء.. متفقة على حرمة المشاركة في تلك الأعياد، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم: ٢/ ٤٢٥).


وقال ابن القيم: "وكما أنهم لا يجوز لهم إظهاره -أي: عيدهم-؛ فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم، الذين هم أهله".

(أحكام أهل الذمة: ٣/ ١٢٤٥)


وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم، فإن السخطة تتنزل عليهم).

رواه أبو الشيخ الأصبهاني، والبيهقي بإسناد صحيح.


وروى البيهقي -أيضاً- عن عمر -أيضاً- قوله: (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم).


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا عمر؛ نهى عن تعلّم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم، أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟

أليست موافقتهم في العمل، أعظم من الموافقة في اللغة؟

أوَليس عمل بعض أعمال عيدهم، أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟

وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه.. أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟

ثم قوله: (واجتنبوا أعداء الله في عيدهم)؛ أليس نهياً عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف عن عمل عيدهم؟".

(اقتضاء الصراط المستقيم: ١/ ٥١٥).


وأما الاعتبار.. فيقال: الأعياد من جملة الشرع، والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: "لكل جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا".


قال ابن تيمية: "فلا فرق بين مشاركتهم في العيد، وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد؛ موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه؛ موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد: من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها؛ موافقة في أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا؛ قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه".

(اقتضاء الصراط المستقيم: ١/ ٥٢٨)


وقال أيضاً: "ثم إن عيدهم، من الدين الملعون هو وأهله، فموافقتهم فيه؛ موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه".


والاحتفال برأس السنة وغيرها، محرم بلا ريب، من وجوه عدة، ومنها:

١- أنها غير مشروعة لنا؛ والدين مبناه على الشرع، فمن احتفل؛ فقد حاد شرع الله تعالى.


٢- أن فيها مشابهة للكفار؛ فهم يحتفلون بعيد ميلاد إلههم، أو ابن إلههم -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- فكيف لنا أن نتبعهم في ذلك؟

وقد قال تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" وقال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داوود، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.


٣- أن فيها تقليداً وتبعية للكفار، والمسلم يكون متميزاً بدينه، وبفرحه وسروره، وقد نُهينا عن التشبه بهم وتقليدهم، أو متابعتهم.


٤- أنه يحصل في مثل هذه الاحتفالات كثير من المنكرات؛ كالحفلات الراقصة، من ذوي العقول الناقصة، والأغاني الماجنة، والاختلاطات الآجنة.


٥- أن هذا الاحتفال كان منهم معهوداً في عهد أسلافهم، وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يهتموا به، بل ولا ذكروه، وإنما همشوه وتركوه؛ فدل أن السنة، في ذلك، هو ترك وبغض وهجر مثل هذه الأعياد، وعدم الاهتمام بها، ولا الالتفات إليها.


٦- المحتفل بهذه الأعياد، على خطر عظيم؛ لأنها ذات دلالات دينية.. شركية وبدعية وكفرية وفسقية؛ فينبغي الحذر، والتحذير منها، ومن أهلها.

(ذكرها بعض الأفاضل ممن لا أعرف اسمه أو جسمه، مع تصرف يسير).


قال الذهبي: "فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، مُختصين بذلك، فلا يُشاركهم فيه مسلم، كما لا يُشاركهم في شِرْعتهم، ولا في قِبلتهم".

(تشبه الخسيس: ٢٧)


وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم، عن بعض أمته، ممن تتبع سنن الكافرين، وانتهج نهجهم، واهتدى بهديهم، وذلك دلالة من دلالات النبوة، وليس ذلك منه إقراراً بذلك، بل فيه تحذير لأمته من مشابهتهم، والاقتداء بهم.


عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه البخاري ومسلم.

وفي آخره: (وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق؛ لفعلتموه).


قلت: فيا غوثاه، مما نرى من بوادر هذه التبعية النتنة، التي أطلت بقرنها -قُمع وقُمئ-!


قال ابن تيمية: "هذا خرج مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله.. كما كان يخبر عما يفعل الناس بين يدي الساعة من الأشراط، والأمور المحرمة".

ينظر: (فيص القدير: ٥/ ٢٦١)


وقال النووي: "والمراد بالشبر، والذراع، وجحر الضب؛ التمثيل بشدة الموافقة لهم، والمراد: الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم".

(شرح صحيح مسلم: ١٦/ ١٨٩).


قلت: رحمك الله أبا زكريا، ما الذي وقع في زمنك، مما نراه ونشاهده ونلامسه؟!

فيا رب غوثاك.


وقال ابن كثير: "والمقصود من هذه الأخبار: عما يقع من الأقوال والأفعال المنهي عنها شرعاً، مما يشابه أهل الكتاب قبلنا، أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم وأفعالهم، حتى لو كان قصد المؤمن خيراً لكنه تشبه؛ ففعله في الظاهر فعلهم".

(البداية والنهاية: ٢/ ١٤٢).


وقال المناوي: "وذا من معجزاته؛ فقد اتبع كثير من أمته، سنن فارس في شيمهم، ومراكبهم، وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب وغيرها، وأهل الكتابين؛ في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور حتى كاد أن يعبدها العوام، وقبول الرشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة".

(فيض القدير: ٥/ ٢٦٢).


قلت: ربما أن المشابهة؛ كانت قديماً من أفراد معدودين، وفي بعض العادات، أما اليوم، فقد صارت المشابهة (أكوام من أقوام)، وفي معظم عاداتهم وأفعالهم، وهي منتهى الفداحة والقباحة.


وقال ابن حجر: "ووقع في حديث عبد الله بن عمرو، عند الشافعي بسند صحيح: "لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرها".

(فتح الباري: ١٥/ ٢٣٥)


وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن مشابهتهم في بعض أعيادهم؛ يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، خصوصاً إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار، فرأوا المسلمين قد صاروا فرعاً لهم في خصائص دينهم، فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم، وانشراح صدورهم، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص، واستذلال الضعفاء، وهذا أيضاً، أمر محسوس، لا يستريب فيه عاقل، فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم"؟

(اقتضاء الصراط المستقيم: ١/ ٥٤٦).


وقال ابن عثيمين: "ومن فعل شيئاً من ذلك؛ فهو آثم، سواء فعله مجاملة، أو تودداً، أو حياء، أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار، وفخرهم بدينهم".

(مجموع فتاواه: ٣/ ٤٤)


وقد بالغ أهل العلم، في التنفير من مشاركة غير المسلمين في أعيادهم.

حتى قال أبو حفص النسفي الحنفي: "من أهدى فيه بيضة إلى مشرك؛ تعظيماً لليوم.. فقد كفر بالله تعالى، وأحبط عمله".

(شرح المشكاة: ٤/ ١٢٩٦) للطيبي، و(فتح الباري: ٢/ ٤٤٢)


وقال الإمام مالك: "يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم؛ لنزول السخطة واللعنة عليهم".

اللمع في الحوادث والبدع: ١/ ٤٩٢)



وأما تهنئة الكافرين.. فهاك تفصيله باختصار:

تهنئة الكفار على قسمين:

-قسم خاص بهم، كأعيادهم واحتفالاتهم الخاصة، فهذا لا يجوز بالإجماع، بل قد يصل إلى حد الكفر، فإنه كالراضي بها.


"وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به؛ فحرام بالاتفاق، مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.

وكثير ممن لا قدر للدين عنده، يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل.

فمن هنأ عبداً بمعصية، أو بدعة، أو كُفر؛ فقد تعرض لمقت الله وسخطه ... وقد كان أهل الورع من أهل العلم.. يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات ، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنباً لمقت الله وسقوطهم من عينه".

(أحكام أهل الذمة: ١/ ١٦١) بتصرف.


-قسم مشترك بيننا وبينهم، كمواليدهم ونحوها، فهذا فيه خلاف في جوازه، ولأحمد روايتان: المنع، والجواز.


وعلى القائلين بالجواز؛ ليحذر المهنئ، الوقوع، فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه ، كما يقول أحدهم: متعك الله بدينك، أو أعزك الله، أو أكرمك.



وأخيراً.. بينما يحتفل الكثير من شعوب الأمة، بأعياد الكريسماس مع النصارى هذه الأيام؛ فقد حدث منذ ألف سنة تقريباً، أثناء الحروب الصليبية في القدس، ما تشيب له الولدان.


وهذه شهادات كتب غربية نصرانية، بأقلام غربيين نصارى:


يقول المؤرخ النصراني ديورانت: "إن النساء كن يُقتلن طعناً بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تُهَشَّم رؤوسهم بدقّها بالعمد".

(قصة الحضارة: ١٥)


وذكر صاحب كتاب "أعمال الفرنجة": "أن جثث قتلى المسلمين، وُضعت في أكوامٍ حتى حاذتِ البيوت ارتفاعاً"!


وقد اختصر الصليبيّون وصف هذه المذابح العظيمة في الرسالة التي أرسلوها إلى البابا، يخبرونه بما فعلوا، قائلين: "إذا ما أردت أن تعلم ما جرى لأعدائنا، الذين وجدناهم بالمدينة، فثِقْ أنه في إيوان سليمان أو معبده كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفقة إلى ركبتيها"! 


وذكر المؤرخ الصليبي ميشو: أن المسلمين، كانوا يُذبحون ذبح النعام في الشوارع والمنازل، وأنهم لم يجدوا مكاناً آمناً يَلُوذون به!


وذكر المؤرخ النصراني وِلْيَم الصوري: أن بيت المقدس أصبح مخاضة واسعة من دماء المسلمين، أثارت خوف الغُزاة واشمئزازهم، وأنه لم يكن من الممكن النظر إلى تلك الأعداد الضخمة من القتلى دون الإحساس بالرعب، ففي كل مكان ترى بقايا جثث القتلى مقطوعي الرؤوس والأيدي، وكانت الأرض مغطاة بدماء القتلى!


ومن أراد المزيد، مما فعله الصليبيين، بالمسلمين، ومدى حقدهم عليهم -ولا أظنك تأنس بذلك، أو تتحمل ما هنالك-؛ فينظر، في هذه المراجع:

(تاريخ الصليبية: ١/ ٢٢٤) لميشو، و(المملكة الصليبية: ٢٠) لبويس، 

و(عن العدوان الصليبي على العالم الإسلامي: ١٢٢) للدكتور صلاح الدين محمد نوار، و(تاريخ الفرنجة غزاة بيت المقدس: ٢٤٦) - ترجمة: جوزيف نسيم يوسف، و(الحملة الصليبية الأولى نصوص ووثائق: ٢٦٧).

بتصرف من مقال الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل.



والآيات والأحاديث والأقوال والأفعال.. دالة، دلالة واضحة، وإشارة لائحة، على منع مشاركتهم في أعيادهم، أو تهنئتهم، أو حبها، أو التعاون فيها، أو إظهار شيء من ذلك لها، وإنما جاءت الأقوال الشاذة بجواز ذلك، من قبل بعض المتساهلين الزائفين، والناكبين والناكثين من المعاصرين، ولا سلف لهم إلا شذوذ من الأقوال، ونتف من الأفعال التي يترخصون بها، ويأخذون بشاذها، ولا يضرون في ذلك إلا أنفسهم، ولا يفسدون إلا دينهم، وعليهم إثم من اتبعهم من الغوغاء والسفهاء، وهؤلاء -أيضاً- ليس لهم عذر في ذلك؛ لأن الحجة وصلت، والمحجة فهمت "فماذا بعد الحق إلا الضلال" فاربأ بنفسك أيها الشيخ، وانتبه لنفسك أيها المترخص، واعلم أن الكتاب والسنة، قاضيان بالتحريم، والإجماع كذلك، فلم المكابرة والمدايرة؟!


وقد سمعنا عن بعض الدول العربية: من جهّز حفلاً، يبلغ ملايين الدولارات؛ للاحتفال والاحتفاء بعيد المشركين! فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون" ويحسبون أنهم على شيء.

ولا أدري، أي بغض يكنونه لهم، وأي ولاء وبراء يتخذونه تجاههم؟!

والله المستعان.


ويحسن مراجعة كتاب (قواعد معرفة البدع: ١٤٨) وما بعدها، للشيخ محمد بن حسين الجيزاني. 



وللأسف؛ إن قضية الولاء والبراء؛ قد تساهل بها وفيها بعض المسلمين، بله بعض الدعاة!

وبعضهم: عطلها تماماً، فليس عنده عداوة مع أحد، ولا كراهية لأحد، وكأن المجتمع كله في طاعة وقربة، وهو بهذا التعاطف الأخرق؛ يعطل نصوصاً من الوحيين، شاء أم أبى!

ويحسن الرجوع إلى كتاب الشيخ محمد بن سعيد القحطاني (الولاء والبراء في الإسلام). 



وبعد هذه النصوص القاضية بتحريم ذلك.. لا يليق بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ أن يحتفل بعيد النصارى، أو يشاركهم، أو يعاونهم، أو يهنئهم؛ لأن ذلك محض حب واستخذان، وطاعة واستبطان.

نسأل الله السلامة والعافية.


هذا ما استطعت كتبه وجمعه من كلام العلماء: المتقدمين والمعاصرين "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".

"والله سبحانه، أسأل أن يسلمني من البدع والذنوب، ويغفر لي ما أخطأت فيه من الأصول والفروع، إنه واسع الغفران والرحمة، وهو حسبي وكفى في الآخرة والأولى.

والمحامي [عن] السنة المطهرة، والكتاب العزيز، والذاب عنهما، كالمجاهد في سبيل الله تعالى، وروح القدس مع من ذب عن دين الله، وسنة نبيه، ونافح عنهما من بعده إيماناً وحباً ونصحاً له رجاء أن يكون من الخلف الصالح، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).

والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد وسبله، وما المراد إلا بيان الحق، وانتصار الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما تطابق عليه القرآن الكريم، والسنة الغراء". ينظر: خاتمة صديق حسن خان، لكتابه (قطف الثمر). 



وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/٣/٢٨



الخميس، 17 ديسمبر 2020

ظاهرة تبرج النساء في الحرمين الشريفين! يا زائرة الحرم اتق الإثم واللمم!

 ظاهرة تبرج النساء في الحرمين الشريفين! يا زائرة الحرم اتق الإثم واللمم! 


كلما دخلت أحد الحرمين؛ أتذكر قول وكيع الرؤاسي: خرجنا مع سفيان الثوري، في يوم عيد؛ فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا؛ غض أبصارنا!


قلت: ولا مقارنة بين الحرم والسوق؛ كيف، وقد جاء عن عبد الله بن عمر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير، وأي البقاع شر؟ قال: خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق).

رواه الطبراني في الكبير.


كيف، والحَرمان أفضلها وأمثلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي، أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام، أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه).

رواه أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.


ولكن وللأسف البالغ؛ فإن الفتن قد عمت وطمت وغمت وجمت وحمت وصمت!

ولا عاصم إلا الله تعالى. 


وإن النفس لتطمئن، وينشرح الفؤاد، ويصفو العقل، وتأنس الروح.. بزيارة بيت الله الحرام، والترّوي من نميره، والاستنشاق من عبيره..


لكن الزائر؛ يجد ما يعكر الصفو، ويكدر الخاطر، من لباس بعض المسلمات، إما لضيقته، أو زينته، أو ريحته، أو فتحته، أو شفته، أو شقته وهكذا إلى ما لا نهاية من أنواع التبرج والسفور!


كم يُفرح برؤيتهن وهن يتسابقن في الخيرات، ويسارعن إلى القربات، طاعة لرب البريات، ولكن مما يحزن ويشجن.. أن يُرين وقد أبدين زينتهن، أو أظهرن بعض جسدهن.


ومن البليات: ما نراه من زحام النساء بالرجال في الطواف والمسعى، وربما حصل التضايق والتلاصق.. والنبي صلى الله عليه وسلم، قال للنساء: (استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق؛ فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به). 

رواه أبو داوود، عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه.


هذا هو الإذعان والاستجابة، لنداء الشرع الحنيف والإنابة.. هذا، وهي الطريق، فكيف بالمسجد، فكيف بالحرمين؟!


والمصيبة الصابّة: أن تكون هذه الأفعال المشجية، والألبسة المخزية؛ من الشواب كثيراً، بَيد أن الكبيرة، تكون -غالباً- متسربلة حياء، بل تختمر وتعتجر!

على أن الكبيرة القاعدة، قد تجعد وجهها، واحدودب ظهرها.. فزهد الناس فيها، ورغبوا عنها، على خلاف الصغيرة الشابة؛ فإن النفوس إليها متجهة، والأنظار نحوها ملتهبة!


قال ابن العربي المالكي: "وإنما خص القواعد بذلك دون غيرهن؛ لانصراف النفوس عنهن، ولأن يستعففن بالتستر الكامل؛ خير من فعل المباح لهن من وضع الثياب".

(أحكام القرآن: ٣/ ٤١٩)


ولعمري، لا أدري، ما الذي فعلته نساء الصحابة الكرام، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدث النساء؛ لمنعهن المسجد، كما مُنِعَهُ نساءُ بني إسرائيل).

رواه البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها.


وفي حديث ابن عمر، عن النبي ‎صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد؛ فأذنوا لهن).

رواه الجماعة إلا ابن ماجة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.


قال العيني: "فيه: أنه ينبغي أن يأذن لها، ولا يمنعها مما فيه منفعتها، وذلك إذا لم يخف الفتنة عليها، ولا بها.

وقد كان هو الأغلب في ذلك الزمان؛ بخلاف زماننا هذا، فإن الفساد فيه فاشٍ، والمفسدون كثيرون ... وعن مالك: إن هذا الحديث ونحوه محمول على العجائز. وقال النووي: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزاً. وقال ابن مسعود: المرأة عورة، وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يقوم يحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من المسجد. وقال أبو عمرو الشيباني: سمعت ابن مسعود -حلف فبالغ في اليمين-: ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله تعالى من صلاتها في بيتها إلا في حجة أو عمرة، إلا امرأة قد يئست من البعولة. وقال ابن مسعود، لامرأة سألته عن الصلاة في المسجد يوم الجمعة، قال: صلاتك في مخدعك، أفضل من صلاتك في بيتك، وصلاتك في بيتك، أفضل من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك، أفضل من صلاتك في مسجد قومك. وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة. وسئل الحسن البصري، عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن، أن تصلي في كل مسجد تجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين،، فقال الحسن: تصلي في مسجد قومها لأنها لا تطيق ذلك،، لو أدركها عمر، رضي الله تعالى عنه، لأوجع رأسها".

(عمدة القاري: ٦/ ١٥٧)


قال أبو نعيم: إذا كان الإمام العيني، في القرن التاسع؛ يقول: (إن الفساد فاش، والمفسدون كثيرون)!؛ فلا ندري ما نقول في أيامنا هذه الفِساد، وما فيها من السِفاد؟!


ويروى عن سفيان الثوري، أنه كره اليوم؛ (يعني: أيام سفيان) الخروج للنساء إلى العيد!


قلت: وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: عن الإمام أحمد: أنه سئل عن النساء يخرجن في العيد؟ قال: لا يعجبني في زماننا هذا، إنهن فتنة!

قال الشيخ: وهذا يعم سائر الصلوات.

 

قال أبو نعيم: إذا كان هذا قول عائشة، وابن المبارك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، في نساء زمانهم؛ فكيف لو رأى ما في الحرمين، بل كيف لو رأى ما في الأسواق، بل كيف لو رأى ما في برامج التواصل الاجتماعي مما تشيب له فود الولدان، ويشبب الشيبان؟!


وإنه والله، لمؤسف ومخجل ومحزن؛ أن ترى امرأة بلباس فاضح، وتبرج صارخ!

وتزداد الدهشة؛ حين أن تعلم، أنها تخرج من عند أبيها أو أخيها أو زوجها أو ابنها!

ثم تتساءل: لم تلبس هذا اللبس المثير المبير؟!

فلا تجد جواباً، إلا ...!

والله المستعان.


وعن علي رضي الله عنه قال: بلغني أن نساءكم، ليزاحمن العلوج في الأسواق، أما تغارون؟ إنه لا خير في من لا يغار.


وقال محمد بن علي بن الحسين: كان إبراهيم عليه السلام، غيوراً، وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب.

(المغني: ٧/ ٣٠١)


قال أبو نعيم: رضي الله عنك، أبا الحسن، أي علوج وأي خدوج في زمنك التقي النقي؟!

كيف لو رأيت علوج زمننا، وعلجات دهرنا، وهم يعملون في مكان واحد، وتحت سقف واحد مع ضحك ومزح وخلوة؟!

كيف لو رأيت، حتى بعض ممن يحسب من أهل الدين والغيرة؛ وقد انتكس وارتكس وانعكس وانبجس وانفطس واندعس وانخلس؛ فخرج بفتاوٍ شاذة (ومن طلب الشذوذ؛ وجده)؟! 

كيف كيف؟! 

نسأله تعالى الصيانة والإعانة. 


ومن أرزى الرزيات: أن تخرج الأنثى؛ متعطرة متبخرة متعثرة متبخترة.. والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول:(أيما امرأة أصابت بخوراً؛ فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)!

رواه مسلم، عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما.


فالنبي صلى الله عليه وسلم، ينهى المرأة من حضور المسجد، وهي متبخرة أو متعطرة، فكيف إذن بمن تذهب إلى السوق بهذه الطريقة!


يقول عليه الصلاة والسلام عنها: (أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت؛ فمرت على قوم؛ ليجدوا ريحها؛ فهي زانية). 

رواه النسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.


وقال تعالى: "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى". 


قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تتمشى بين الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.

وعند بن أبي حاتم من طريق شيبان عن قتادة قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج إذا خرجن من البيوت فنهين عن ذلك.

ومن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: قال: عمر ما كانت إلا جاهلية واحدة، فقال له ابن عباس: هل سمعت بأولى إلا ولها آخرة؟

ومن وجه آخر عن ابن عباس قال: تكون جاهلية أخرى.

(فتح الباري: ٨/ ٥٢٠)


أختاه: احمدي الله، أن رزقك ووفقك زيارة بيته الحرام، سواء كنت من أهل مكة أو من خارجها.. فإنها والله نعمة جليلة، حُرمها ملايين من المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، إما بسبب العجز الجسدي، وإما بسبب العجز المادي!


كم من أم وشابة.. تبكي وتتلهف شوقاً لبيت الله الحرام، والكعبة المشرفة، ولكنهن ماذا يصنعن؟

قعدت بهن القدرة، وأخّرهن العجز؛ فجلسن راضيات بقدر الله، ولكن مع التهاب نفس، وسفوح دمع، ونزوع قلب!

عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حُجاج، ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه؛ فلما رأوه، قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي! بيت ربي! حتى وضعت جبهتها على البيت؛ فوالله ما رفعت إلا ميتة.

(صفة الصفوة: ٢/ ٥٢٩)


هكذا كان شوقهم وتلوعهم إلى بيت الله الحرام.


وقال وهيب بن الورد : بينما امرأة في الطواف ذات يوم، وهى تقول: يا رب ذهبت اللذات، وبقيت التبعات، يا رب سبحانك وعزتك.. إنك لأرحم الراحمين، يا رب ما لَك عقوبة إلا النار ، فقالت صاحبة لها، كانت معها: يا أخية، دخلت بيت ربك اليوم قالت : والله ما أرى هاتين القدمين -وأشارت إلى قدميها- أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً أطأ بهما بيت ربي؟! وقد علمتُ حيث مشتا وإلى أين مشتا؟!

(محاسبة النفس: ٤٣) لابن أبي الدنيا.


هكذا كان تأدبهم وتخلقهم، مع بيت الله الحرام!

وأقول: رحمك الله أيتها الصالحة، كيف لو رأيت بنات جنسك، وهن في كامل زينتهن، ضاربات بأرجلهن؟! وربما كان هناك د، ما هو أشده وأشوه!

فاللهم غفراً.


وأنتِ يا أمة الله، يسرك الله عز وجل، وأنعم عليك وتفضل؛ فلا يكون شكر هذه النعمة بالتبرج، وليّ الناس أعناقهم نحوك بالتفرج!


اخرجي وأنت بذلة تفلة، غير متزينة بشيء من أنواع الزينة، حاشا الزينة الباطنة، طهارة قلبك، ونقاء سريرتك، وصلاح نيتك.


لا تظهري شيئاً من جسدك أو شعرك أو خلخالك أو قرطك أو كحلك أو نحرك أو ساعدك أو ساقك أو أي عضو من أعضائك، أو زينة من زينك؛ لأنك درة مصونة، ولؤلؤة مكنونة، تؤثر فيك الرياح والروائح، ولأن الأنظار حولك لوافح!


أختاه: كم من ضعيف الإيمان، ورقيق الديانة، ومفتون بالأنثى؛ هرب إلى حرم الله؛ ليجدد إيمانه، ويقوي يقينه، ويخلو بنفسه مع ربه: داعياً راجياً شاكياً باكياً، ولكنه ما إن يرى مفاتنك ومغابنك، حتى تنزعه نفسه إلى لهوه وتصابيه، وتذكار ماضيه ولياليه، فيتشوش قلبه، ويتبلبل لبه، ويتفرق جمعه، ويتشتت مجمعه، وكنتِ أنتِ السبب في ذلك!


وقد كان بعض السلف: يطوف بالبيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:

أهوى هوى الدين واللذات تعجبني *** فكيف لي بهوى اللذات والدين؟!

فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.


ينظر: (ذم الهوى: ٢٤) لابن الجوزي، و(روضة المحبين: ٤٧٩) لابن قيم الجوزية.


لا أدري، بماذا أفسر خروجك بالزينة الظاهرة، وأنت في حرم الله، وفي مكان مسّهُ رسول الله عليه الصلاة والسلام!

آه، والله إن القلب ليذوب حياء، والنفس تقطر خجلاً، والجبين يتفصد عَرقاً.. حين أن يتفكر، أن هذا البيت، طاف حوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحب الكرام؛ ثم هو يأتي شيئاً مما يكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم!


ألا تستشعرين العظمة والجلال، ألا تشعرين بخوفك من ذي الجلال؟! لماذا لا يكون ذهابك إلى الحرمين؛ خطوة إلى توبتك من تقصيرك، ورجوعك إلى جادة أمرك؟! 


تخيلوا، هذا الموقف العجيب، من هذا الصحابي النجيب..

خطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر، ابنته، وهما في الطواف، فلم يجبه، ثم لقيه بعد ذلك، فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف، نتخايل الله بين أعيننا!

أخرجه أبو نعيم وغيره.

(جامع العلوم والحكم: ١/ ١٢٨)


قلت: ولا ندري نحن، ماذا نتخيل ونتخايل، في طوافنا وأنساكنا؟! 

ثم إن ابن عمر، نأى عن كلام حلال، في أمر حلال.. فكيف بمن يتحدث في حرم الله، عن النساء والفراش؟!

رب صونك.


أخذ الله بأيدينا لمراضيه، ووفقنا في الحق لمراميه، وجنبنا مواقع الغضب، ومواطن العطب. 


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٠/٧/١٦ في المسجد الحرام.

 ١٤٤٢/٥/٣ م ح

الأحد، 13 ديسمبر 2020

قراءة في مذكرات "رحلتي إلى النور"!

 قراءة في مذكرات "رحلتي إلى النور"!


لم أسمع عن هاته الرحلة -"رحلتي إلى النور"- إلا قبل أيام معدودة، أرسلها أحد المشايخ، على وثابي، عن طريق الكتاب المنورق (المبدأف)!

ولعل تأخري في عدم معرفتي بها، وسماعي عنها.. هو نأيي: اختياراً أو اضطراراً، عن وسائل التواصل الاجتماعي!

عصمنا الله من موبقاتها ومضلاتها.


دفعني الفضول، لفتحه، كما هو شأني مع الكتب، فإنْ رأيته صالحاً مفيداً، وإلا طويته، وجاوزته صفحة عنقي، ولم أعره اهتماما!


أقول: فتحت هذه الرحلة وتصفحتها، وقرأت مقدمتها، فإذا بها مشوقة؛ لأنها تحكي خبايا وزوايا في حياة عَلم عالم فذ فرد!


بدأت قراءتها، رغم دقة خطها، وطول صفحها، وضعف نسقها، لكني لم أستطع تركها حتى النهاية، وما بين البداية والنهاية، أبكي تارة وأضحك أخرى، أعجب حيناً وآسى أحيانا..


أحببت أن أسجل بعض قراءاتي لهذه السيرة المعجبة المغربة، المحزنة المشجنة، فمن ذلك:


-كان صاحب الرحلة.. رجلاً غمراً غير مجرب للأمور، يتخذ القرار لا يلوي على شيء.

فانظر إليه، وهو يهرب من أهله ووالديه؛ للقسوة والشدة، دون أن يحدد وجهته، هذا وهو لدن العود، لكن العجلة والتسرع، لم تفارقه في شبابه، وإن كانت أقل؛ فانظره، وهو يهرب مرة أخرى إلى الجنوب، ولكنه، لما نادى العقل المنضبط، عاد أدراجه، وكان خيرا.


وهنا، أقول: يجب على الأب، أن يراعي وضع أولاده التي هو أدرى بها وأعلم، وليترك بينه وبينهم مسافة للحوار والنقاش، وإبداء الرأي، وطلب المشورة، ولا يبتّ دونهم أمراً يخصهم دون مراعاة أو مشاورة، ويرفق بهم، ويحسن إليهم، مع التربية والحماية، والدعاء لهم، لا عليهم، ويواصلهم بالنصح والتشجيع، واستعمال الرفق والشدة تارة وتارة، و"ينبغي للإنسان.. أن يستعمل الرحمة في معاملة الصغار ونحوهم، وينبغي له أيضاً، أن يقبّل أبناءه وأبناء بناته وأبناء أبنائه؛ رحمة بهم، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم".

(شرح رياض الصالحين: ٢/ ٥٥١) لابن عثيمين.


أقول: ويجب على الابن.. أن يحسن الأدب والمعاملة مع والديه، ويسمع نصحهم، ويستمع إليهم، ولا يجادل أو يعاند ويخاصم، وليقبّل في دخوله وخروجه، رؤوسهم، ولا بأس بأيديهم وركبهم وأرجلهم.

وإذا ابتلي بأحد أبويه أو كليهما.. فليصبر، ويداري ولا يماري، ويدعو لهما، ويحسن إليهما، حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجا.



-كان صاحب الرحلة.. كريماً ذا حب للآخرين، فانظره، وهو يقرّب ابن عمته، وذاك الحربي إلى مجالس شيخه الأثير، دون أثرة أو أنانية!

وهذا خلق خليق أن يتصف به طلبة العلم فيما بينهم.



-كان صاحب الرحلة.. رجلاً منصفاً لا ينقص الناس حقهم.. فتراه يذكر كل من كان معه في شرف وفضل دون غمط أو هضم!

وهو أدب مليح، ينبغي أن يتميلح به، من ظن أنه ملاق ربه.



كان صاحب الذكريات.. شديد الابتلاءات، كثير البلاءات، فقد عانى من الهرب والتغرب، وكثرة الأسفار والانتقالات، والتباغض والتشاحن، والتآحن والتماحن، والأمراض الشديدة، والفجاءات الحديدة، من: موت شقيقه ووالده، ونحوها من البلاءات والابتلاءات، رحمه الله وعوضه الجنة.


-كان صاحب الذكريات.. جريئاً، فانظر إليه، وهو يتجرأ على الشيخ ابن عثيمين مراراً، سواء في طلبه مرافقته، أو في طلب أشياء أخرى، وهذا يعود في نظري، إلى أشياء، منها: القسوة من والده -رحمه الله-، والعيش في مكان ناء عن الأهل والأصدقاء، مع غرارته وطراوته ولدونته ونحوها.


ولعل هذه الجراءة، كانت هي السبب، في بعض متاعبه ومصاعبه، من معاملته تيك المعاملة القاسية من ذلك الطالب الشيخ، التي وصلت لحد الإهانة والضرب والشتم!

وهذا ملموس محسوس، في حلقات الأشياخ؛ فإنك تلمس تغايراً، أشد وأحدّ من تغاير التيوس!


وهنا أنبه على شيئين:

الأول: زعارة أخلاق بعض المقربين من المشايخ، بل قل: قلة أدب، ونقص أخلاق من بعضهم، من سوء معاملة لمن هم دونهم من الطلاب، أو قسوة للمستفتين من العوام أو الغرباء، أو في طريقة الرد على المتصلين على هاتف الشيخ، وقد جرى لي بعض المواقف من بعض هؤلاء الذين أسميهم: تنابلة المشايخ!

تجد الشيخ على خلق عال، وسعة صدر، لكنه يبتلى بقوم لا خلاق لهم، يصدون "عن ذكر الله وعن الصلاة".


الثاني: جراءة بعض الأغمار على الأشياخ، من محاولة التقرب منهم واللصوق بهم، لحد الشك والريبة، أو الإيذاء بكثرة الأسئلة والاستفتاءات، أو تكاثر الطلبات والحاجات.


وهذان خلقان منفران، ومسببان للشحناء والبغضاء، والقطيعة والكراهية.



-كان صاحب الرحلة.. يقول الكلام على عواهنه، ويرسله على سجيته دون تزويق أو تحسين، وربما كان جارحاً لمن يتحدث عنهم، فاسمعه وهو يصف رجلاً بالخير والدعوة، ثم يقول: ولا أدري إن كان لا زال في الدعوة أو ترك؟!

ولا شك، أن في هذا غمزاً وهمساً، لا أظن الرحال -الفاضل- يعنيه، إلا أنها سجيته الساذجة.


*مما قرأته ورأيته في الذكريات.. نفاسة نفْس الشيخ العثيمين، ورهافة حسه، ورقة قلبه، ورباطة جأشه، وحسن تعامله، ووسع علمه، وذكاء فهمه، وزكاء علمه، وشدة مراقبته لربه، وبعده عن الأضواء والشهرة، وتتبعه لمن تحت يده، ورفقه بمن حوله، ومزاولة أعماله بنفسه.. فقد كشفت هاته الصفحات، عن جوانب عجيبة، واحتوت على مواقف غريبة، يقف المرء حين قراءتها، حائراً سادراً، ولكنه "فضل الله يؤتيه من يشاء".


*وقد ذكرني معهد الشيخ العثيمين -رحمه الله- بمراكزنا العلمية اليمنية، مع الفارق في أمور، منها -عندنا-: شظف العيش، وقلة الزاد، وكثرة الطلاب، وتعداد بلدانهم من أنحاء العالَم، وتعدد الدروس من الشيخ وطلابه!

رحم الله الشيخ ابن عثيمين، وصاحب الذكريات، وأسكنهما فسيح الجنان، وعالي الرضوان.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٤/١٨


الخميس، 10 ديسمبر 2020

الدكتور بشار عواد ومحنة خلق القرآن!

 


الدكتور بشار عواد ومحنة خلق القرآن!


سمعت قبل أشهر، محاضرة للدكتور بشار عواد معروف.. ذكر فيها: أن قضية خلق القرآن، قضية سياسية!


تعجبت، كيف يكون هذا.. وقد كان الإمام أحمد بمنأى عن السياسة، بل ومن قرب الحكام؟!

كيف يكون هذا، وقد حفظ الله بموقفه، العقيدة إلى يوم الناس اليوم؟!


بل قال علي ابن المديني: "قد أيّد الله هذا الدين برجلين، لا ثالث لهما: أبو بكر يوم الردة، وأحمد يوم المحنة".

رواه الخطيب في (تاريخ بغداد: ٤/ ٤١٨)


ولله الأديب الغيور مصطفى صادق الرافعي، في قيله: "‏كنت لا أزال أعجب من صبر شيخنا أحمد بن حنبل، وقد ضُرب بين يدي المعتصم بالسياط، حتى غشي عليه؛ فلم يتحول عن رأيه؛ فعلمت  ... أنه لم يجعل من نفسه للضرب معنى الضرب، ولا عرف للصبر معنى الصبر الآدمي؛ ولو هو صبر على هذا صبر الإنسان؛ لجزع وتحول، ولو ضرب ضرب الإنسان؛ لتألم وتغير؛ ولكنه وضع في نفسه معنى ثبات السنة، وبقاء الدين، وأنه هو الأمة كلها، لا أحمد بن حنبل، فلو تحول، لتحول الناس، ولو ابتدع، لابتدعوا؛ فكان صبره، صبر أمة كاملة، لا صبر رجل فرد، وكان يضرب بالسياط، ونفسه فوق معنى الضرب، فلو قرضوه بالمقاريض، ونشروه بالمناشير.. لما نالوا منه شيئاً؛ إذ لم يكن جسمه إلا ثوباً عليه، وكان الرجل هو الفكر ليس غير.

هؤلاء قوم، لا يرون فضائلهم فضائل، ولكنهم يرونها أمانات، قد ائتمنوا عليها من الله لتبقى بهم معانيها في هذه الدنيا؛ فهم يزرعون في الأمم زرعاً بيد الله، ولا يملك الزرع غير طبيعته، وما كان المعتصم، وهو يريد شيخنا على غير رأيه وعقيدته، إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح"!

(وحي القلم: ١٤٤/٢)



وعليه، فأقول:

إن هذا قول خطل، وقيل عطل، بل إن قضية خلق القرآن، من صميم العقيدة وأساسها؛ إذ يبنى عليها صحة الإيمان من عدمه، وإسلامه من كفره.


 

وحاشا أحمد، أن يضحي بنفسه، ويتلف الآخرين، من أجل قضية سياسية!

والله المستعان.


وكنت أظن، أن هذه كلمة طارئة، أو زلة لسان، لم يتنبه لها، مع توارد الأفكار، وسيلان الكلام.. لكني، وجدت الدكتور، يحشي في بعض تحاقيقه، ما يؤيد نظرته ونظريته!


فأحببت، أن أكتب تحذيراً، وأنقل تحريراً، و"الحق أحق أن يتبع" ومعاذ الله، أن نأخذ إلا من وجدنا الحق عنده.


وهاك بعض تعليقاته وتحشياته:

-نقل الدكتور، قولاً للشيخ زاهد الكوثري، عن كتاب "العلو"، للإمام الذهبي، قال فيه: "ولو لم يؤلفه، لكان أحسن له: في دينه وسمعته؛ لأن فيه مآخذ كثيرة"!


هكذا نقله، دون تعليق أو إشارة، بل قال بشار قبله: "وقد انتُقد الذهبي من قبل مخالفيه، على تأليفه لبعض هذه الكتب واعتقاده، مثل هذه العقائد"!

ينظر (سير أعلام النبلاء: ١/ ٦٥)


-علق في حاشية (تاريخ بغداد: ٧/ ٣٨٠) على قول أبي سعيد: "إسحاق بن أبي إسرائيل، لم يكن أظهر الوقف".


قال ما نصه: "أي: التوقف بالقول في القرآن، مخلوق أو غير مخلوق، وهو عندنا مذهب محمود؛ لأن صاحبه يقول: "هو كلام الله" ثم يسكت، لكن الممتحنين، أحمد ورفاقه، عدّوا ذلك انهزامية!

والناس معذورون، وهم بلا شك أفضل ممن أجاب تقية، أو اعتقاداً".



-علق في حاشية (تهذيب الكمال: ٦/ ١٣٢)، في ترجمة الحسن بن حماد سجّادة:

"وقال علي بن فيروز بن المنذر: سألت سجادة الحسن بن حماد، قلت: رجل حلف بالطلاق، أن لا يكلم كافراً، وكلم من يقول القرآن مخلوق؟ قال: طلقت امرأته".


قال ما نصه: "والخبر فيه من المبالغة، ما لا مزيد عليه، إذ لم يعرف بين العلماء تكفير القائل بخلق القرآن"!



-علق في حاشية، (سير أعلام النبلاء: ٩/ ١٧٩) عند قول الذهبي "قال أبو قدامة السرخسي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كل من أدركت من الأئمة، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ويكفرون الجهمية، ويقدمون أبا بكر وعمر في الفضيلة والخلافة".


قال ما نصه: "هذا من الغلو، غير المحمود، الذي لا يوافقه عليه جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، وكيف يكفر الجهمية -وهم المعتزلة- وقد روى عنهم الأئمة في "الصحيحين" وغيرهما من كتب السنة، أحاديث كثيرة وفيرة"!



هذا، بعض ما وجدته في مواطن متفرقة، للدكتور بشار عواد، على عقد واحد فرد.

والله المستعان.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٣٨/٦/٩

١٤٤٢/٤/٢٥



الأربعاء، 9 ديسمبر 2020

حجّبها كورونا!

 

حجّبها كورونا!


هكذا قال صاحبي، وهو يتحدث عن امرأة، كانت برزة للرجال، بديّة للجمال!

"حجبها كورونا"!

ولا يعزب عنكم قصده، وهو: وضع الكمامة على الوجه جبراً لا اختيارا!


ابتسمت بل ضحكت؛ لطرافة التصوير وظرافته، وصدق انطباقه على الحال المشاهَد!


أقول: ما أعقل الإنسان، حين يطبق شرع الله تعالى، دون إكراه أو إجبار، بل بمحض إرادته، وطوع نفسه!


هنا، يجد الراحة والطمأنينة والرضا والسعادة والحرية، بخلاف، إذا كان مجبراً ملزماً مكرها، يكون حينها، وكأنه آلة محرّكة، لا يد له فيها ولا عليها.


فالاختلاف من جهتين:

من جهة ذوق طعم الإيمان، ومن جهة الأجر من الرحمن.


فالمذعن للشرع، يشعر بالرضا، ويحس بالسعادة، فيؤتى أجره كاملاً غير منقوص.

والآخر، يشعر بالإكراه، ويحس بالإصر، فربما ليس له إلا الشقاء والتعب!

لكني أقول: لعل بعد هذا الحجاب المؤقت، يكون حجاباً وجلباباً مستمراً اختيارياً.


نسأل الله الإعانة والصيانة.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٤/٢٣




الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

أسبوع، وأنا -إن شاء الله- عندكم!

 


أسبوع، وأنا -إن شاء الله- عندكم!


هاته كلمة، قالها لأولاده، أحدهم، وقد رأى الحزن باد على محياهم، عندما عزم سفره!


قال هذه الكلمة؛ تطييباً لخاطرهم، وترطيباً لمشاعرهم، ولم يكن في نفسه أو تفكيره، غيابه عنهم هذه المدة القصيرة، لكنها إرادة الله ومشيئته الذي شاء وقضى وأراد (لا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره) فقد تفصمت عرى السفر، وتقصمت رؤى الأمر، وتوالت عليه العراقيل العجيبة الغريبة الرهيبة، حتى رجع إلى أهله بعد أسبوع بالتمام، كما أخبر أولاده على سبيل المزاح والتأنيس!


لا تمزحن بما كرهت فربما *** ضرب المزاح عليك بالتحقيقِ


بغض النظر، هل رجوعه، من البلاء أو الابتلاء، إلا أنه لم يرده، ولم يخطر على لبه وقلبه.. ولكن هذا ما جرى، موافقة لقيله، وتوافقاً لقوله!


روى ابن أبي الدنيا، عن إبراهيم النخعي أنه قال: "إِني لأجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به، إلا مخافة أن أبتلى به". (الصمت وآداب اللسان: ١٦٩)


وقال المؤمل الشاعر:

شفّ المؤمل يوم النقلة النظر *** ليت المؤمل لم يخلق له البصر!

فلم يلبث، أن عمي.


وتذكرت قول القائل:

احفظ لسانك أن تقول، فتبتلى *** إن البلاء موكل بالمنطقِ!


قال أبو الخير الهاشمي: "البلاء موكّل بالمنطق: أي ربما نطق الإنسان بما يكون فيه بلاء".

(الأمثال: ٩١)


وقال الزمخشري: "يضرب في كلمة، يتكلم بها الرجل، فتكون باعثة للبلاء".

(المستقصى في أمثال العرب: ١/ ٣٠٥)


وأنشد القاضي ابن بهلول:

لا تنطقن بما كرهت فربما *** نطق اللسان بحادث؛ فيكونُ!


وقد توهم بعضهم، أن ثَم إشكال واستشكال، بين ما يوافق اللسان، وبين القضاء والقدر..

قال ابن القيم: "وقد استشكل هذا من لم يفهمه، وليس بحمد الله مشكلاً، فإن مسبب الأسباب، جعل هذه المناسبات، مقتضيات لهذا الأثر، وجعل اجتماعها على هذا الوجه الخاص موجباً له، وأخّر اقتضاءها لأثرها إلى أن تكلم به من ضرب الحق على لسانه، ومن كان الملك ينطق على لسانه، فحينئذ كمل اجتماعها وتمت، فرتب عليها الأثر، ومن كان له في هذا الباب فقه نفس، انتفع به غاية الانتفاع، فإن البلاء موكل بالمنطق".

(تحفة المودود بأحكام المولود: ١٢٢) وقد ذكر في الباب، أشياء وحوادث أخرى، فلينظرها، من أرادها.


وهناك رسالة جامعية، بعنوان: (البلاء موكل بالمنطق) دراسة عقدية" لـ د.هيفاء الرشيد، مجلة جامعة سطام.


هذا، وعلى الإنسان، أن يقول خيراً، ويعود لسانه، قول الحق والصدق، والخير والجميل، ولا يتحدث بالشر، أو يتوقع المكروه، وليتفاءل دائماً، فـ (تفاءلوا بالخير، تجدوه).



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٤/١٥


الجمعة، 4 ديسمبر 2020

أحمد كلاس.. الكتبي اليمني الكبير الفقير!

 أحمد كلاس.. الكتبي اليمني الكبير الفقير!


‏أحمد عيسى كلاس.. وراق يمني، كان يبسط الكتب في حراج ابن قاسم، يتقوت منها، وينشر المعرفة والثقافة، ولم يكن بالمماحك أو المماكس -فيما بلغني- بل كان سخياً كريماً، فهو كثير إهداء الكتب، للأفراد والمؤسسات، مع ابتسامته ودعابته.


أهدى لمكتبة الملك فهد الوطنية وغيرها، كتباً ثمينة لا تحصى، بل علمت، أن رفده لها ولغيرها، كان نواة المكتبة، أو من نواتها!

بل أهدى للمكتبة، ٥٠٠٠ خمسة آلاف كتاب مجلد، دون مقابل!


وكثيراً ما تجد بعض الكتب مليئة بأختام (الكلاس) التي تحمل العبارات التالية: (الحاج كلاس عيسى.. اليمن - عبس ثواب - وادي القنبور - لواء حجة).


وكان قبلها يبيع الكتب في منطقة عبْس باليمن، وكانت هذه هي مهنته، مع أدب ودأب، وأمانة وصيانة.


وكان -رحمه الله- مهتماً بالكتب والمخطوطات كثيراً، فكان يشتري من اليمن المخطوطات، ثم يبيعها في المملكة.

فكم من مخطوطات نادرة باعها، يوم أن كان لم يهتم بالمخطوطات إلا النزر اليسير.

حتى قابلت بعض أهل العلم، فوجدته حانقاً عليه؛ لبيعه كثير من النفائس إلى خارج البلاد، فالله المستعان.


وله بنت أديبة وشاعرة، ويظهر من شعرها؛ التدين وحسن التربية، والوفاء لوالدها.

وله غيرها من البنين والبنات.

نسأل الله أن يخلف على أولاده وأهله بخير، وتول الله أمرهم وشأنهم، وسخر لهم.


كان يشكو عوزاً وفقراً، فنشر بعض المشايخ: استرحام واستعطاف لأهل الخير كي يساعدوه!و

ولاأدري ماذا جرى؟

توفي أوائل شهر رجب لعام ١٤٣٩، بعد صراع في الحياة، وأسفار وتنقلات، وأحوال وتنكبات.ن

نسأل الله سبحانه أن يرحمه رحمة واسعة، ويسكنه الجنات الشاسعة.


وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٣٩/٧/١٥

الاثنين، 30 نوفمبر 2020

ذِكَر.. مع قطرات المطر! من نافذة النافذة..


ذِكَر.. مع قطرات المطر!


خلدت إلى فراشي بعد نهار طويل، ذهبت فيه وأتيت، وفرحت وأنّيت.

تقلبت بي الأطوار -والحمد لله- بين فرح وألم، وحزن وأمل، ثم جاء الليل، لتسكن فيه نفسي، وآوي إلى أولادي وعرسي..


ولكن الليل، وما أدراك ما الليل؟ مبثّ الآهات، ومزار الآلام، ومُشتد الهموم، ومجثم الأحزان، (والليل أخفى للويل) كما تقول العرب العرباء، فتشرب فيه الصهباء، ويكون فيه أنواع من البلاء، تحت ستر الليل الأليل، والظلام الأخيل. 


وهو نعمة عظيمة، وآية فخيمة: "وجعلنا الليل والنهار آيتين" فجعله الله آية: تسكن فيه النفوس، وتأوي إليه الأجساد، بعد اختفاء الشموس، لتجد الراحة والطمأنينة، فواعجبي ممن يُسخّر هذه النعمة، معصية ونقمة "ألا ذلك هو الخسران المبين"!


خرجت عن قصدي الذي أردت قوله، وهو: أني أرزح في نومي، وأشرع في عومي، بجوار نافذةٍ نافذة؛ إذ بي أسمع أملاً، وأحس خملاً، فإذا النوم يغادر، والنفس تبتهج، والقلب يسكن، ففزعت: حامداً شاكراً ذاكراً.


ما أرحمك ربي وأكثر عطاياك، وما أسوأ فعل بعضنا تجاه أنعامك وأفضالك: (اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا).


شممت ذلك الريح الرائح، والطيب العبق- الذي ينشره المطر، ويبعثه القطر، فيعطر أنوفنا المزكمة بالروائح الكريهة، التي بثتها المدنية الكاذبة، وجلبها الإنسان الظلوم الجهول.


المطر -يا قوم- نعمة جليلة من الله الكريم الرحيم، يبثها بين خلقه، بعد أن أمحلت قلوبهم، وأجدبت أرضهم، فيجعلها الله لهم متاعاً ونفعاً، "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" فلك الحمد ربنا، والشكر لك.


وناشدت الله رجالاً ونساء.. أن لا يتخذوا من هذه النعمة، معصية وانحلالاً، ولغطاً واختلالاً "ويحذركم الله نفسه" (فإن ربكم يغار، وغيرته؛ أن يأتي المرء ما حرم الله).

فاحذروا غضب الله وسخطه، فإن الله رحيم، ولكنه -سبحانه- يغضب حين تنتهك حُرمه.


إذا ما تجدد فصل الربيع *** تجدد للقلب فضل الرجاءِ


عسى الحال يصلح بعد الذنوبِ *** كما الأرض تهتز بعد الشتاءِ


هذه تذكرة لنفسي، ولبني جنسي، كتبتها حين رأيت الغيث همى، والنبات نمى، فبادرت أن لا يظل الإنسان في عمى، وأن لا يقترب من الحِمى!


وكتب: وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٧/٧/٢

١٤٤١/٤/٤


#مقالاتي_ومقولاتي

#أنابيش_الكنانيش

 

الأحد، 22 نوفمبر 2020

صلّوا في رحالكم.. كلمة غائبة!


صلّوا في رحالكم.. كلمة غائبة!


كلمة غابت عنا ردحاً من الزمن، وحيناً من الدهر! -والحمد لله-. وذلك لانقطاع سببها، وهو المطر والغيث.


وها نحن اليوم: سمعناها؛ فعشنا واقعها: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر"


أذن الله للسحب أن تهطل غيثها وخيرها: "ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله".


ابتلّت الأرض، فاهتزت وربت، واخضرّت، وأخرجت زرعها وعشبها: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير".


والمطر آية من آيات الله التي عرفنا بها ربنا وخالقنا: "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج".


بردت الأرض، وسكن الحر، وذهب الفيح، وهدأت الوطأة؛ فآب الناس وثابوا إلى بيوتهم وأهليهم: فرحين مستبشرين! "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون".


وكأني بهم قائلين: إن قطعت عنا الكهرباء، ناشرة الهواء، وملطفة الأجواء؛ فإن الله قد وهبنا هواء ربانياً، بدلاً من كهرباتهم الصناعية التي فيها الكثير من الأدواء، ومسببة اللأواء!


هرعتُ إلى بيتي، والسماء كأفواه القِرَب، ساكبة ماءها، وغيثها علينا مدراراً.. 

ورأيت في طريقي أطفالاً صغاراً، آذاهم الحر، ولفحهم اللهب، حتى غرز في أجسامهم الضعيفة بثوراً حمراء، ودماميل نتناء، مدببة الطرف، تؤلمهم وتقلقهم!


رأيتهم يسبحون في حفرة صغيرة كصغرهم، وقد اجتمع فيها ماء المطر، فرموا بأجسامهم النحيلة فيها، وهم يضحكون ويقهقهون، يناغون السعادة، ويناجون الراحة!

وكأنه لم يمر عليهم يوم تعس أو بؤس!


إنها براءة الصغر، وسلامة قلوبهم، وصحة فطرهم، جعلهم يعيشون لحظتهم الراهنة، مع أني أسأل الله لهم السلامة مما قد يكون في هذه الحفر من أوضار وأخطار.


وإن العقل، أن تعيش لساعتك في ساعتك: عبادة وعملاً ورزقاً، فلا ماضٍ أليم، ولا مستقبل عديم، بل حاضر تعيش فيه اللحظة، ولتكن في طاعة مولاك.

ولنكن مثلهم؛ نسعد وننعم!


وإني أهتبلها فرصة؛ لأذكّر نفسي وإخواني وأخواتي في شتى بقاع الأرض، أن يقابلوا نعم الله بالشكران والعرفان، فيحمدوا ربهم، ويطيعوه، ويكثروا ذكره ودعاءه، وأن لا تكون نعمة الله، محلاً لمعصيته من اختلاط حرام، ومعاكسات الغرام، ومن الصخب الفاجر، واللعب العاهر، فإن (الشكر، قيد النعم) وأعظم شكر النعمة: تسخيرها في طاعة الله ومرضاته.


وكم أتعجب ممن ملئت قلوبهم: كفراً وإلحاداً بالمنعم، وهم يرون آثار نعمه، وعظيم آلائه! "ولكن أكثر الناس لا يفقهون" و"لا يشكرون" و"لا يعلمون"!


اخرجوا وامزحوا والعبوا واركضوا وكلوا واشربوا، "ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين" ولا تتجاوزوا ما أحل الله لكم، وما أحله الله لنا كثير وفير، فلا يصير إلى الحرام إلا شقي مقي!

فلا تكنه!


هذه خاطرة سنحت، وفكرة للبّي داعبت، فأبديتها لمن أرادها هدية خالصة، وقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام، عن ردّ الهدية!


لك الحمد ربي كثيراً، ولك الشكر كثيراً، كما أنعمت علينا كثيراً..

والله يتولاكم ويرعاكم ويكلؤكم..

وسلام الله عليكم.


محبكم: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/١١/٦

١٤٤٠/٣/١٥




الخميس، 19 نوفمبر 2020

رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة!


رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة!

لا أدري، من أين أبدأ، ولا من أين ألج، وكيف أمهد، وبمَ أعلق؟! 

لكني أترك السفينة لربانيها، والبيت لبانيها، والقوس لباريها.. هلموا اركبوا السفينة، ثم اسكنوا البيت، وصوبوا النبال في لبد الأعداء.. 

يقول عبد الله عفيفي:
في أصيل يوم صيف سنة ١٩١٤؛ كنت واقفاً في جمهور الواقفين في محطة طنطا؛ أترقب القطار القادم من الإسكندرية؛ لأتخذه إلى القاهرة.

لقد كان كل في شغل بتلك الدقائق المعدودات، يقضيها في توديع وإشفاق، وترقب وانتظار، وحمل متاع وتنسيق آخر، وكنت في شغل بصديق يجاذبني حديثاً شيقاً ممتعاً في تلك اللحظات الفانية، وبين ذلك الجمع المحتشد، راع الناس صياح وإعوال، وتهدج واضطراب، ومشادة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا بفتاة في السابعة عشر من سنيها، يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساع من سعاة معتمدي الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوربي جاوز الستين مكتئب مهزول، وهي تدافع الرِّجلين حولها بيدين لا حول لهما.

أقبل القطار، ثم وقف؛ فكاد كل ينسى بذلك الموقف موقفه وما قصد له، ثم أصعدت الفتاة، وصعد معها من حولها، وعجِلت أنا وصاحبي، فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم.. كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يجمل معها الصبر، ولا يحمد دونها الصمت.

سألت الشيخ ما خطبه، وما أمر الفتاة؟ 
فقال -وقد أشرقه الدمع، وقطع صوته الأسى-:
إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزت ثيابها؛ لتتولى أمر غسلها، وأرسلتْ خمارها الأبيض على صفحتي وجهها، ومكشوف صدرها.
ثم أخذت تنفذ وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود، وكانت تدعى (روز) فأبت إلا أن تسمى (فاطمة) وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، فصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة.

فزعت لهول ذلك الأمر، وقصدت أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها؛ فلم يجد إلا شِماساً وامتناعا،وعزّت على الرجل خيبته؛ فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها!
وهنالك أمر المعتمد، حكومة مصر؛ فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها؛ ليقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم.

قلت: أو أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟! 
فزفر الرجل زفرة، كاد يتصدع لها قلبه، وأحناء ضلوعه، ثم قال: أما لقد خدعت ودهمت، وغلب أمر الحكومتين أمري، فما عساني أفعل؟! 

على إثر ذلك انثنيت إلى الفتاة، وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تخشع الراسيات دون احتماله! فقلت: ما بالك يا فاطمة؟ -وكأنها أنست مني ما لم تأنسه ممن حولها-؟
فأجابتني -بصوت يتعثر من الضنى-: لنا جيرة مسلمون، أغدو إليهم؛ فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من النور، يخطف سناها الأبصار، ويقول -وهو يلوح إلى بيده-: اقتربي يا فاطمة!

ولو أنك أبصرتها، وهي تنطق باسم النبي محمداً؛ لرأيت رِعدة تتمشى بين أعطافها وأطرافها، حتى تنتهي إلى أسنانها؛ فتخالف بينها، وإلى لسانها؛ فتعقله، وإلى وجهها؛ فتحيل لونه!

فلم تكد تستتم جملتها، حتى أخذتها رجفة؛ فهوت على مقعدها، كأنها بناء منتقض! إلى ذلك الحد غشى الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار؛ فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله)؛ تنفست الصعداء، وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى.

فلما أفاقت؛ قلت لها: ومم تخافين وتفزعين؟
قالت: إنه سيؤمر بي إلى دير.. حيث ينهلون السياط من دمي، ولست من ذلك أخاف؛ ألا إن أخوف ما أخاف يومئذ؛ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي!
قلت لها: يا فاطمة؛ أولا أدلك على خير من ذلك؟
قالت أجل. 
قلت: إن حكم الإسلام على القلوب؛ فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟
هنالك نظرت إلي نظرة.. تضاءلت دونها، حتى خفيت علي نفسي!

ثم قالت: دون ذلك؛ حز الأعناق، وتفصيل المفاصل.. دعني؛ فإنني إن أطعت نفسي، عصاني لساني!

وكان ضلالاً ما توسلت به أنا وأبوها ومن حولها.

كان ذلك؛ حتى أوفينا على القاهرة؛ فحيل دونها.

لم أعلم بعد ذلك شيئاً من أمر فاطمة؛ لأني لم أستطع أن أعلم!

رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت أولى شهيدات الرأي الحر، والإيمان الوثيق.

ذلك ما رأيته، ولا والله ما غيرت منه شيئا إلا أن يكون اللفظ بمرادفه، فإن يكن الوقوف دون الحقيقة تغييراً ما لي العذر فيه.

قال أبو نعيم: هذا ما قصه الأديب عبد الله عفيفي، من أمر هاته الفتاة التي خالط الإيمان بشاشة قلبها. وصدق هرقل في قوله: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب)! فرغم صغر سنها، ومخالفة دين أبويها وقومها، التي نمت عليه وربت، والعذاب الملقى عليها.. إلا أنها صبرت وثبتت، ولم ترعوي أو تلتوي!

وهكذا هي المرأة؛ قوية الإرادة، صليبة الدين، أصيلة المبدأ.. لذلك لجأ لإغوائها دول بعَددها وعُددها!

ونحمد الله تعالى؛ إذ لا زالت المرأة شامخة بدينها، عزيزة بحيائها، جريئة في مبادئها، ولم تسمع للنهيق والزعيق والشهيق، بل أعطتهم دبر أذنها، وانطلقت تجر قدميها واطئة على أوراقهم الشوهاء، وأفكارهم العوجاء، وكأنها تقول: ألا شاهت الوجوه.
دمتِ بعز وثبات وشموخ. 

وليد أبو نعيم. 
١٤٤١/٣/٢٣



الأحد، 15 نوفمبر 2020

رحيل أحد كبار طلاب الألباني!

رحيل أحد كبار طلاب الألباني!

إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

الآن، وبينا أنا أراجع في كتاب ما؛ إذ رأيت رسالة من أحد الفضلاء، يقول فيها: وفاة الشيخ علي الحلبي، عظم الله أجركم ...!

انقبض قلبي، واقشعر جلدي، واكفهر وجهي، ليس اعتراضاً -أعوذ بالله- ولكن هكذا تكون الصدمات، لمن تعرفهم، أو زاملتهم حتى في مجموعات التواصل.

وقد كنت مشتركاً في مجموعة وتسابية رائدة، فيها صفوة من المؤلفين والمحققين، والشيخ علي الحلبي -رحمه الله- معنا، يشاركنا فيها الأفراح والأتراح، ويفيد ويستفيد!

صحيح، لم ألتقه حقيقة، ولم أره عياناً؛ لكني رأيت أخلاقه، وقرأت تواليفه وتحاقيقه، وأدركت أدبه وأخلاقه.

صحيح، لم أتحدث إليك كفاحاً؛ لكننا طالما تراسلنا عبر الفضاء الإلكتروني، بل ونشرت لي مقالاً في موقعك (كل السلفيين) في الدفاع عن شيخك الشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع-.

وقد علمت قبل أيام قلائل، عن إصابته بوباء كورونا، فتوجعنا له، وسألنا الله له الشفاء، ولكن كان قضاء الله أسرع "ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين".

رحمك الله -أبا الحارث- رحمة الأبرار، وأسكنك جنات تجري تحتها الأنهار، وأجزل لك المثوبة والعطاء.. فما علمتك إلا رقيقاً شفيقاً مع أهل عقدك، وقد شهدت لك محاولات في رأب صدع، ورتق فتق، بدعاء وثناء، وصبر وبصيرة.

وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤٢/٣/٢٩

#وفاة_علم
#مقالاتي_ومقولاتي
#أنابيش_الكنانيش

السبت، 14 نوفمبر 2020

قراءة ونقد لرواية "الرهينة"!


قراءة ونقد لرواية "الرهينة"!


دهشت عند قراءة رواية (الرهينة) المهينة، وهالني ما وجدت فيها من سخف وإسفاف، وبعدٍ عن الحشمة والعفاف.


وفزعت، لِما رأيت فيها من الكلام المبتذل، والسقوط القذر في الحب الحرام، والجنس المشاع!


مع ما فيها من اعتوار سردي أدبي، بيّن بعضه الشاعر الناقد عبد الله البردوني، في كتابه (الثقافة والثورة في اليمن: ٢٢٢ - ٢٣٢) -كما أفادني الأستاذ محمد السواري-.


من اختياره لبطلته الزائفة، اسم (حفصة) غائباً عنه، أن الأئمة يندر أن يسموا (حفصة) مما "يشي عن قلة اختبار الروائي، بثقافة البيت الذي منه حفصة" "وقلة الاختبار في الأسماء، تقود إلى قلة اختبار أسباب الرهانة ورهن الآباء".


ومع هذا.. يُزعم أنها تحكي حياة ذلك الوقت، أو تصوّر ذلك الزمان؟!

وهذا محض افتراء وكذب؛ لأنه جسّد لنا ذلك الزمن، أنه زمن مغامرات غرامية، ولقاءات جنسية، وفحيح وسجيح!


فتراه بفجاجة وصفاقة؛ يروي لنا أن ذاك الطبشي صنع بتلك البغلة ما صنع، وأن النائب أمر بخياطة فروج الدواب!

ثم عقّب: لو أنهم خاطوا فروج النساء!

إشارة إلى ممارسة الرذيلة من النساء في تلك القصور، ويدل كلامه على الكثرة الكاثرة!

وهذا هُجر ومنكر من القول وبور وزور وفجور..


ولا يستحي دمّاج من نفسه؛ إذ يذكر: أن ذاك الشاعر صنع به وصنع، وأنه أوصل يده ... لا أدري إلى أين؟!

فيا لله، ماهذا الانحدار الوسخ، والانحطاط في الأخلاق، والتردي في الرذيلة!


والعجيب، أنه صور نساء القصر، وهن يتهافتن عليه أو على الشباب بذلك الأسلوب المضحك الساخر!


ومعلوم أن نساء تلك الطبقة، أبعد ما يكنّ عن تفشي أسرارهن، إن كن يعملن تلك الأعمال المهينة.


فما بالهن يسعين خلف صبي مراهق، أو لم يبلغ الحلم بعد، لا يعرف السر فضلاً عن حفظه وصونه!

زد، أنهن يعلمن أن آباء الرهائن من ألدّ أعداء الإمام وحاشيته، فالفضيحة منه متوقعة بل مستلزمة.

فكيف يغامرن بحياتهن، ويُراهنّ على سمعتهن، وسمعة أهلهن وقبيلتهن؟!


ويبين البردوني، أن الرهائن قسمين: رهائن تمرد، ورهائن ضمان، وأن رهائن الضمان، في مكان عال مشرف، ويحرص الأشياخ على تقديم أبنائهم رهائن؛ لمزيد قرب واعتلاء، وهو الذي يكون دويداراً، وله التنزه والخروج متى شاء، ولا يكون إلا صغيراً، أما رهائن التمرد (ومنهم: العائب الخائب) فيكونون في السجون وربما في تعاسة، ولا يختصون بسن معينة، بل يرتهنون الصغير والكبير، ولا يصلون إلى رتبة الدويدار.. فما بال دماج، يصل دويداراً، وهو رهينة تمرد؟!


ويخبر الخائب.. كيف كان لبس النساء، وأنه شفاف أبيض، يشف عما بداخله من بياض، ويكشف عما تحته من غياض!

وينسب هذا اللباس، إلى الشريفة حفصة أخت النائب!


إنها كذبة صلعاء، لا تنفق على العقلاء الذين يخبُرون ذلك الزمان، هذا أمر.


والأمر الآخر: كيف يليق بأخت النائب أن تظهر بهذا المظهر المخزي أمام رهائن أذلاء في نظرها حقراء؟!

إن البغِي، قد تخجل من هذا الفعل لأول وهلة، كيف بعفيفة شريفة؟! اللهم غفراً.


ولم يكتف حتى فضح كذبه، وكشف سوأته.. حينما يخبر: أن النائب علم بعلاقة مشبوهة، مع أخته الشريفة حفصة!

ولم يزد أن قطع حديثه، ليسأله عما دار بينه وبين الغلام!


إن هذا لا يفعله الديوث، فضلاً عن نائب له مكانته في المجتمع، لا سيما، أن الأمر قد ذاع وشاع، وما قصة نبي الله يوسف عليه السلام، عنا ببعيد؛ إذ تهمة ماكرة من زوجة العزيز، جعلته يقضي أعواماً مديدة في السجن!

فيا هذا، كفّ عنا قيئك وجشاءك، فقد آذيت وآنيت وأقذيت وأخديت.


وحدثنا، أن القصور في ذلك الآن، فيها الخمور والمجون والعهر!

وهذا إن سلمنا به، فلا نسلّم أن يكون هذا مشاعاً لدى الجميع حتى لدى الدويدار المهين!


ثم، بعد هذا وذاك.. لماذا حكاية هذه الأخبار السافلة، والقصص الرخيصة، والأدب المكشوف؟

ألم يكن في سواه من وصف الأرض والحرث والزرع، والمعيشة والعادات ما يكفي ويفيد؟

ويكون قد أحسن في ذلك بتاريخه لحقبة مهمة من تاريخنا، وإن شاركه غيره، إلا أن كلاً يدلي بدلوه.

ولكن:

(إن الذباب يراعي موضع العلل)!


وأي جراءة يملك هذا الصبي الوقح، حتى يحذّر سيدته من مغبة ذلك الحب الوحيد الفريد الوخيم، مع الشاعر الوسيم؟!

كيف أمن مغبة العواقب منها، ومن شاعر الإمام؟


ومن المعلوم في التاريخ.. أن هذه الأمور لا يقبل فيها المزاح أو الهوادة، بل يُضحّى فيها بأقرب قريب؛ ليسلم للحبيب حبيبه، فكيف سلم صاحبنا اللاعب، بل لم يكتفِ ببجاحته حتى ذكر أنها راجعته، وهي من طلبت المصالحة بينهما؟!

ياللهراء!


وهو لم يستحِ ولم يخفِ الله، حينما أشار إلى جريمتين كبيرتين، وتهمتين عظيمتين:

إحداهما: أن ولي العهد أحمد، له ابن غير شرعي من امرأة كان يعاشرها!


وكلنا يعلم أنه كان عالماً ورعاً عن هذه الدناءات، ولم نعلم عنه هذا العهر، بل كان مهتماً بشؤون المملكة وما يحاك حولها.

أفيفعل ما يكون سبباً لسقوط العرش؟


والثانية: أن ولي العهد، يحب المردان، وربما ما هو أبعد من ذلك! إذ أنه يفضل الغلام على زوجاته! وأنه يخلو به في غرفة خاصة بعيداً حتى عن زوجاته الجميلات!

فماذا بعد؟!


ولم يكتفِ الغاوي حتى قضى عربدته الغرامية في المقبرة حيث أشباح الموتى!

وهذا فعل ينأى عنه الفسقة العتاة، فكيف بصبيٍ يناهز الاحتلام؟!


إنها كذبات شنيعة، ونزوات كلامية.. تسيئ لذلك الزمن بما فيه ومن فيه!

وفيه من إغراء وإغواء الشباب والشابات ما فيه!

وهذا أكثر ما يطمح إليه بعض الكاتبين الفارغين "الذين مردوا على النفاق"!


وفي الرواية.. إشارة لم يتنبه لها الكثير، وهي أنه أوصل رسالة: أن الصلاة والتعلق بالله غير مجدٍ، وليس هو الحل النافع للتخلص من المشاكل والأزمات!


إذ أخبر، أنه لجأ إلى الصلاة مبتهلاً لربه أن يخلصه من حبه الواهم للسيدة حفصة!

وذكر أنه لم يشف منها، قائلاً: (تركت الصلاة،  فلم تبلغني مأربي)! بل زاد هيمانه، واستعر حبه، ودهش لبه!


وهذا مسقط وخيم، يوحي للنشء أن الصلاة والإقبال على الله سبحانه، لا يخلص من الآلام النفسية، والنكبات المادية!

وهذا محض جحدٍ وافتراء، ولا يحتاج مني لإقامة دليل وبرهان؛ إذ هو معلوم من الدين بالضرورة.


وأختم قائلاً: قد كثر السقط والإسقاط في كثير من الروايات الخيالية، والقصص الغرامية.. التي تضيع أوقات الشبيبة فيما لا يعيد على عقولهم بالنفع والمعرفة، بل تبلبل أفكارهم، وتسلبهم آراءهم، وتثير الشهوات، وتمكّن الشبهات، فتركس وتنكس وتعبس وتنجس وتحبس!


وهذا ما بلينا به، من بعض كتّاب لا خلاق لهم، ولا همّ لهم.. إلا إفساد المجتمع الإسلامي وانحلاله، وإغوائه وإخلاله.


والداهية.. وجود هؤلاء الحقراء في أوطاننا العربية والإسلامية، وما العلمانية والليبرالية والحداثية.. عنا ببعيد، ولكن لا ولم ولن يعدموا ناقضاً لخيمهم الواهنة، وخداعهم الهش، من غيورين عن دين الله تعالى "ولينصرن الله من ينصره" ونحن نستعدي عليهم القوي المتين، و"إن ربك لبالمرصاد".


والخلاصة: أن رواية "الرهينة".. رواية غالطة مغالطة حابطة ساقطة هابطة، متناقضة في أخبارها؛ "إذ وصف الروائي مداخن البيوت، وهي تغطي الأجواء، ثم صور انتفاخ البطون جوعاً، فكيف اجتمع عمران المطابخ الشعبية، وجوع الشعب"؟!

ففيها من الكذب والهراء، والانحدار الأخلاقي، ما ينبو عنه السمع، ويصم الأذن، وقد تأذيت حين قراءتي لها جداً؛ لإساءاته الفجّة، وتجنياته الوقحة، بأسلوب يحسبه البعض منصفاً، والنار تخبو تحت الرماد!

وأنها "لا تعبر بصدق فني عن المضمون الاجتماعي، ولا عن تاريخ فترة الأربعينات".


ولم أكن أصدّق، أن يصل البعض، إلى ذلك الانحدار السافل، والتصوير المقذع، لذلك الوقت الذي كان أبعد ما كان عن التسفل الخلقي، والهبوط البهيمي، وإن وجد، فمن أفراد.


على كل، اكتأبت شديداً، فاكتتبت حديدا، وقدمت نقدي وقراءتي لهاته الرواية الساقطة.


فحذار -أخي وأختي- من الانسياق وراء كل مقروء أو مسموع أو مشاهد، بل ليكن لدينا الحس النقدي لما يخالف ديننا وقرآننا وقيمنا وأخلاقنا، مهما كان وممن كان، وإلا سقطنا في هوة سحيقة، وحفرة عميقة، لا مُنجي لنا منها، إلا أن يشاء الله (والسلامة لا يعدلها شيء) سلمني الله وإياكم.


وما ذكره هذا الفدم الغمر المراهق؛ عار عن الصحة؛ لما قدمت من أسباب، ولأن الوقت كان محافظاً لدرجة كبيرة -ولا زال الكثير- والحمد لله- ولم تكن المدنية الزائفة قد ضربت أطنابها، خصوصاً في يمننا الحبيب.


ولا أخالف في تفشي المنكرات والمسكرات في قصور الأئمة من قديم الزمان، لكن كلامي هنا، يتوجه إلى تناقض الرواية، ونظرها للنظرة الجنسية والإباحية، بينما لو أنصف وابتعد عن الفحش والهجر؛ لأخبرنا بأمور مهمة حصلت في قصور ذلك الآن.


ولا أنكر أو أنفي وجود الفحش، لكنه مِن أفراد وفي كل زمان ومكان، فمن الظلم والحيف أن تنزّل حالات فردية على أمة من الأمم، إنها لإحدى الظلَم!


لكن الخليع، أبى ذلك كله، وانطلق يروي الجنس بصفاقة، وما ذلك إلا ابتزاز لأخلاق الشباب، والدليل: أن الرواية صنفت كأفضل ماية رواية!


ثم لنفرض وجود ما أخبر به، مالذي يفيدنا أن نروي ذلك للأجيال؟ هل هذا يغير الحال أم أنه يفسد الأحوال؟


ودمّاج هذا، لا أدري ماذا أراد بهذا الخطل الشانئ، والكذب المهترئ.. الذي أساء فيه لأمة عريقة عتيقة، لها تاريخ باذخ في الدين والعروبة والعفة، والكرامة والشهامة؟


لا أدري، أهي الكراهية الشديدة لحكم الأئمة، أم البغاضة الأكيدة للدين والأمة؟!

أم أن ذمته مشتراة من أعداء الإسلام -وما أكثر هؤلاء الرخصاء- لا كثّروا-!


أياً كان، فهو قد أتى "منكراً من القول وزورا"، وتسقّط في روايته لحد السخف، حتى ارتفع السجف! و

فالله حسيبه وطليبه.



وهذا رأيي الذي أدين الله به تجاه هذه الرواية، وإن خالفني غيري، فلا يضيرني؛ إذ الحق مقصدي ودليلي، وما أردت بهذه الأسطر إلا إدراك الخطر المطبق، واستدراك المكر المحدق.. من بعض الأقلام المسمومة التي لا تسمّ البدن، بل تسمّ العقول فتفسدها، وتتركها خراباً يباباً.

والله المستعان.


"إن أريد إلا الإصلاح مااستطعت وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"


كتبه: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٣٨/٢/١١