قال لي ولدي! (٢)
كنت ماشياً وولدي إلى مسجد خديجة، لأداء فريضة المغرب، فإذا به يسألني قائلاً: بابا، هل في الجنة صلاة؟
قلت له: لا، ليس في الجنة صلاة؛ لأنها دار جزاء، وليست دار تكليف، بل التكليف، في الحياة الدنيا، فمن أحسن هنا، سعد هناك، ومن أساء هنا، شقي هناك!
كان هذا، ما دار بيني وبينه، ثم نظرت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيأكل أهل الجنة؟ قال: نعم، ويشربون، ولا يبولون فيها، ولا يتغوّطون، ولا يتنخّمون، إنما يكون ذلك جشاء ورشحاً كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النّفَس.
رواه مسلم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في صفة أول زمرة تدخل الجنة.. (يسبّحون الله بكرة وعشياً)
رواه البخاري.
فإذا فيه.. أن في الجنة شيء من العبادات، والعبادات تكليفية، لكني، تدبرت الحديث، فوجدت فيه: "يلهمون"
والإلهام، ليس من التكليف في شيء، بل هو محض تفضل وتمنن بل وتنعم.
وقد قرر شيخ الإسلام، أن تسبيح أهل الجنة، من قبيل التنعم والتلذذ، فقال: "فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل، هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به".
(مجموع الفتاوى: ٤/ ٣٣٠)
فهي عبادات ملهمة، دون كلف ومشقة، مثل النفَس الذي لا يفتقر إلى عناء.
قال القرطبي: "هذا التسبيح، ليس عن تكليف وإلزام؛ لأن الجنة ليست محل تكليف، وإنما هي محل جزاء، وإنما هو عن تيسير وإلهام، كما قال في الرواية الأخرى: (يُلهمون التسبيح والتحميد والتكبير، كما تلهمون النفس)
ووجه التشبيه: أن تنفس الإنسان لا بدّ له منه، ولا كلفة ولا مشقة عليه في فعله، وآحاد التنفيسات مكتسبة للإنسان، وجملتها ضرورية في حقه؛ إذ يتمكن من ضبط قليل الأنفاس، ولا يتمكن من جميعها، فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة.
وسر ذلك: أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة ذكره، ورهينة بشكره، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره".
(المفهم: ٧/ ١٨١)
وعلى هذا، عقد ابن القيم، في كتابه: (حادي الأرواح: ٤٠٤) فصلاً، عنونه، بـ (فصل في ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة) ثم ذكر حديث جابر الآنف.
وقال تعالى -عن أهل الجنة-: "دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين"
قال ابن القيم: "ومعنى الآية، أعم من هذا، والدعوى مثل الدعاء، والدعاء يراد به الثناء، ويراد به المسألة، وفي الحديث: (أفضل الدعاء: الحمد لله رب العالمين) فهذا دعاء ثناء وذكر يلهمه الله أهل الجنة، فأخبر سبحانه عن أوله وآخره، فأوله تسبيح، وآخره حمد، (يلهمونهما كما يلهمون النفس) وفي هذا إشارة.. إلى أن التكليف في الجنة يسقط عنهم، ولا تبقى عبادتهم إلا هذه الدعوى التي يلهمونها"
(حادي الأرواح: ٤١٧)
وهنا مسألة: إذا تمنى أهل الجنة، العبادة، هل يمكّنون منها؟!
والجواب: أن الجنة، دار جزاء وإكرام، وإقامة العبادات، تنافي هذا، ثم إن أمور الجنة، على خلاف أمر الدنيا، ولا تقاس بها، ولا تشبهها، ثم إن هذا مما استأثر الله بعلمه؛ إذ لم يرد في الوحيين، ما ينبئ عن ذلك.
لكن جاء عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً من أهل الجنة، استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء.
ولكن، هذا في غير أمر العبادة، فالله أعلم.
وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي
١٤٤٤/١/١٧