الجمعة، 29 يناير 2021

رحيل أحد بقايا المحدثين والمسندين الكبار!

 رحيل أحد بقايا المحدثين والمسندين الكبار!

#وفاة_علم

توفي اليوم، الجمعة ١٤٤٢/٦/١٥، شيخنا ومجيزنا المسند المعمر الكبير العلامة المحدث الأصولي السلفي الأثري المجاهد: أبو عبد الحليم غلام الله بن المولوي رحمت الله بن محمد بن أختر بن باران بن عثمان بن حكيم خان بن عظيم خام الكاكري الكندزي الأفغاني، الشهير، بـ غلام الله رحمتي.


وقد ولد فقيدنا، في عام ١٣٥٥، تقريباً، بكورتيبه، بولاية قندوز، شمال أفغانستان.


ونشأ في أسرة علمية، وقرأ على أبيه (القاعدة البغدادية) والقرآن الكريم، والكتب الفارسية الابتدائية، ثم توفي والده وهو في الثامنة من عمره، فكفله أعمامه ووالدته، ثم توفيت أمه وعمره ٤٤ عاماً.


ثم بعد والده، درس على فطاحل العلماء في زمنه، في شتى فنون العلم والمعرفة، من صرف ونحو ومنطق وحكمة وبلاغة وفقه وأصوله وتفسير ورياضيات وحديث حتى بزّ أقرانه، وبدّ إخوانه.


وكانت لأسرته سيادة في قومها، وساهمت في الجهاد الأفغاني، فكان أخوه الأمير محمد إبراهيم، من أمراء الجهاد في أفغانستان.


وفقيدنا -طيب الله مرقده-.. صاحب أسانيد عالية، فهو يروي عن محمد إدريس الكاندهلوي، وعن محمد رسول خان الهزاروي عن شيخ الهند محمود حسن الديوبندي، وعن بديع الدين شاه الراشدي السندي، عن أبي الوفاء ثناء الله الأمرتسي عن نذير حسين الدهلوي، وغيرهم من فطاحل العلماء وأقرامه.


وقد كان الفقيد.. صاحب دعوة، وعلم، وتعليم، وجهاد، وصبر على البلاء والضراء.

توفي، وهو يناهز التسعين من عمره، الحافل بالعطاء والإعطاء.


وقد سمعت عليه -رحمه الله- بعضاً من كتاب (الشريعة) للآجري وبعضاً من (مسند الطيالسي) وبعضاً، من (سنن الدارقطني) وأظن هناك، كتباً أخرى سمعتها عليه، لا أتذكرها.


ملحوظة: ما ذكر أعلاه، مقتبس من ثبت ولده الشيخ عبد الحميد -حفظه الله-.


رحم الله شيخنا- رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، ولقاه نضرة وسرورا، وكساه إستبرقاً وحريراً، وسقاه كافوراً سلسبيلا.


وأحسن الله عزاءنا وعزاء العلم وأهله وذويه في هذا المصاب الجلل "إنا لله وإنا إليه راجعون".


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٢/٦/١٥



الناشر الوفي والكريم الحفي!

 الناشر الوفي والكريم الحفي!

#وفاة_علم

توفي في يوم الجمعة المباركة، بتاريخ ١٤٤٧/٤/١٩.. الأستاذ الجليل، والمربي الأصيل، والداعية الكبير، والناشر الخبير: أبو سليم محمد علي دولة الشامي.


صاحب دار القلم، التي عرف بها، وعرفت به، والذي لها بصمة واضحة لائحة في تاريخ الطباعة، وسماء النشر.


أسس هذه الدار الرصينة، في عام ١٩٦٧م؛ غَيرة للدين، وذباً عن أفكار المسلمين، وذوذاً عن شُبه الملحدين والمنحلين، مع حسن ديباجة، وجمال إخراج، وروعة صف، وجودة ورق، وإن كان هذا عاد على القيمة، فضاعفها، إلا أنك تقرأ براحة واطمئنان.


وقد بلغت منشورات، دار القلم، نحواً من ألف عنوان أو تزيد، كلها في إبراز محاسن دين الإسلام، وإظهار أعلامه الأعلام، ورداً على الأفكار الزائغة، والديانات المحرفة.


ثم عضد دار القلم، بدارين.. دار البشير، بـ جدة، والدار الشامية، بـ بيروت، فصارت دور نشر ثلاث، عاضدة رائدة ماجدة.


وكان يوجهها.. الرجل الطلعة محمد علي دولة، بمعونة أولاده: عماد الدين، في بيروت، وعبد الرحمن، في دمشق، وسيد، في جدة.


ولم يكن ناشراً فحسب، بل كان أستاذاً خريتا، ومربياً ماهرا، تخرج على يده، كوكبة من الأجيال، ثم ترك التعليم النظامي؛ ليتفرغ لرسالته المتقنة، فوفاها، بحق وصدق، وعزم وحزم، بل كانت له مشاركات في التحقيق والتأليف.


وكان الفقيد -رحمه الله- دمث الخلق، وافر الأمانة، كريم الخلق، ندي الكف، وكان يعطي المؤلفين حقهم دون غمط أو إرجاء.


ذكر أحد المؤلفين في عمّان.. أن أبا سليم -رحمه الله- كان قد طبع لأحد العلماء، في عمان، مؤلفاته، فلما مات، كان يتعهد أولاده، بمبلغ جيد مرة، كل سنة، ولا يظهر هذا العمل لأحد.


ومن وفائه: أنه أرسل للنشر كتاب (الفاروق عمر) للعلامة شبلي النعماني، وعندما قيل له: إن الكتاب تجاوزه الزمن، وقد ترجم إلى العربية، وطبع في القاهرة، لماذا التكرار؟ قال: لقد وعدت أبا الحسن الندوي، بطبع الكتاب، ولا بد أن أفي بوعدي.


ومن ورعه في المعاملة: عُرِضَ عليه كتاب (فقه المعاملات في الفقه الشافعي) تأليف الأستاذ محمد الحموي، قال سأطبعه، بعد استئذان الورثة؛ لدفع الحقوق لهم. قيل له: يا أستاذ، لقد مضى على وفاة المؤلف، أكثر من خمسين عاماً، وبهذا تسقط حقوق التأليف، لمرور المدة القانونية. قال: لا شأن لي بالقانون، أنا لا تسقط عندي الحقوق.


وكان شديد الخشية، وجِل القلب، عفّ اللسان.. فكان يحرص، أن لا يَذكر أحداً بسوء، ولا يسمح ذكر أحد بسوء في مجلسه.


وزار مرة، عالماً كبيراً، من علماء مصر، -وكان يجري في مجلسه ذكرُ الناس بما يخالف الشريعة- يقول فقيدنا: دعوت الله قبل أن أدخل مجلسه، ألا يغتاب أحد في حضوري، ولقد جلست مع العالم أكثر من خمس ساعات، لم يجر ذكر أحد بسوء، بل كان المجلس كله علم وفوائد.


وبعد حياة مترعة بالعطاء، مفعمة بالإعطاء.. أُصيب بجلطة، نُقِل إلى المستشفى، ووضع تحت العناية المركزة، ثم تحسنت صحته، لكن بقيت آثار ذلك المرض تعاوده، حتى ظهرت عليه أمراض أخرى، ولم ينقطع عن القراءة والكتابة والنشر، حتى أواخر أيامه.


استيقظ قبل الفجر، وسأل زوجته أم سليم: هل أذَّن الفجر؟ قالت: لم يؤذن، قام من فراشه وتوضأ، وصلى ركعات في جوف الليل، ثم اضطجع على فراشه، ينتظر الفجر، فسبقه الوعد، فكانت تلك الركعات آخر عهده بالدنيا!


توفي -رحمه الله-:عن عمر، ناهز ٧٧ عاماً، أمضاها في الدرس والتعليم، والدعوة إلى الله تعالى، والذود عن الدين الإسلامي، ونشر الكتاب الهادف.


فلله دره، وعلى الله شكره، وفي أخلاقه الرفيعة هذه، وديانته الوافرة.. حض للناشرين، أن يقتدوا به، ويتسنموا خطاه، ويتسمتوا خطواته.


أسأل الله تعالى، أن يرحمه رحمة الأبرار، ويسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، ويعظم أجر أهله وذويه وذريته، ورجاؤنا.. أن يكونوا خير خلف، لخير سلف.


وختاماً، ليس لي من هذه الترجمة إلا التهذيب والتشذيب والترتيب، فقد اعتمدت في بعضها، على غيري ممن ترجم له، والبعض الآخر: انطباعاتي نحو الرجل ونشراته، وما قيل عنه.



وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٧/٤/١٩

١٤٤٢/٦/١٥



الأربعاء، 27 يناير 2021

مسند بقي بن مخلد.. بين الوجود والفقود!

 مسند بقي بن مخلد.. بين الوجود والفقود!


مسند الإمام بقي بن مخلد القرطبي القطواني الأندلسي.. مسند كبير؛ لما حوى من دواوين السنة، حيث أنه أدخل فيه كتباً برمتها، كـ (مسند أحمد) و(مصنف ابن أبي شيبة) وغيرهما؛ لكن لعل له روايات ضمنها فيه لنفسه، لم ينقلها عن أحد من المسندين، وليست موجودة في غيره من الكتب.


يقول الذهبي، في (سير أعلام النبلاء: ١٣/ ٢٩٤): "فعندي مجلدان من مسنده -يعني: بقي بن مخلد- وما فيهما عن أحمد، كلمة".


لكن يعكر على هذا؛ ما ذكره ابن كثير، في (البداية والنهاية: ١١/ ٦٠)، بقوله: "والظاهر أن مسند أحمد، أجود منه وأجمع"!


فلا ندري، هل اطلع  ابن كثير عليه كله، وقارن بينه وبين مسند أحمد، أو وازن بينهما، أم على ماذا حكم وجزم؟


ويذكر الشيخ توفيق عمر سيدي، في كتابه: (لقط العناقيد في بيان المسانيد) أن: "له (المسند الكبير) المبوب على الفقه، روى فيه عن ألف وثلاثمائة أو ستمائة صحابي، في نحو مائتي جزء، -ذكر هذا ابن خير، في (فهرسة ابن خير: ١٤٠)-، وفيه من الحديث (٣٠٩٦٩) بزيادة (٩٦٩) حديثا على مسند الإمام أحمد".

وقال بعضهم: بل يزيد على مسند أحمد، بـ ٣٢٠٠ حديث.


وقد نقل عن مسند بقي.. كثير من العلماء،  كـ ابن عبد البر، والذهبي، وابن القيم، في (زاد المعاد: ١/ ٤٢٥) حيث يقول: " ... إلى أن رأيت بقي بن مخلد الحافظ، قد ذكر هذا الحديث في مسنده ..."، وابن حجر، وابن رجب، والصنعاني، والشوكاني، ولعل بعضهم: نقل عنه بالواسطة.


وقد افترقت كلمة أهل العلم المعاصرين، بين مثبت وجده، وبين جازم فقده.

وهاكم ما وقفت عليه، -بعضه من مصدره، وبعضه عن ناقله-:


ذكر أبو العلا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، تـ ١٣٥٣، في (تحفة الأحوذي: ١ /٣٣١) أن مسند بقي بن مخلد القرطبي.. موجود في المكتبة الجرمانية!


وقد نقل هذا، الشيخ أكرم ضياء العمري، في كتابه: (بحوث في تاريخ السنة المشرفة: ٣٩٥)، ثم عقب: "ولا يعلم عن هذه المكتبة شيئاً، وقد فتشتُ في مكتبات برلين وكوته ولايبزك؛ فلم أقف على أثر لـ (مسند بقي بن مخلد)، ولكن توجد مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية في مكتبة برلين، لم تفهرس بعد.

وكذلك مكتبة برلين الشرقية، حيث لم تفهرس مخطوطاتها بعد، فلا زال ثمة أمل في العثور عليه في المكتبات الخاصة، وبعض المكتبات العامة، وخاصة في مكتبة برلين الغربية، وبلاد المغرب وتركيا، ونحن نعلل النفس بذلك، ونسأل الله أن لا يخيب رجاءنا في ذلك، فما أعظمه من رزء!!".


ونقل الدكتور أحمد بن علي القرني في رسالة الماجستير له: (مدرسة الحديث في قرطبة من الفتح إلى السقوط: ٢٣٥) قال: "جاء في (الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط: ١٤٤١): "أنه موجود، في مكتبة دار العلوم الألمانية بألمانيا الشرقية سابقاً في لايبزج / كارل ماركس".


وأشار إليه، الشيخ حمد الجابري، في مقدمة (كتاب الإيمان: ٣٩) وقال: "وهذا غير مؤكد، والاطلاع على تلك المكتبة من العسير؛ لأنها في دولة شيوعية".


وقال أبو عبد الرحمن بن عقيل، في كتابه: (الشروح والتعليقات على كتب الأحكام: ١/ ١٨١): "حدثني شيخي أبو تراب، في مجلس شيخنا حمد الجاسر: أن مسند بقي، في سبعين جزءاً، يوجد في ألمانيا،

ثم حدثني الدكتور عبد الله الجبوري: أن هذا لا يستبعد بتجزئة الأصل الصغيرة، وأن منه صورة في ثلاث مجلدات، عند أحد علماء الشام، وقد نسيت اسمه، ثم حدثني الشيخ أبو تراب تلفونياً، أن الكتاب عُدّ الآن للطبع؛ فكانت بشرى تثلج الصدور".

ينظر: (معجم المصنفات الواردة في فتح الباري: ٣٧٤)


قلت: ويثبت وجوده -أيضاً- الشيخ صبحي السامرائي، ولعله كان معتمداً في إثباته، على المباركفوري أو غيره.


ولعل الأمر، قد اشتبه على بعض الجازمين بوجوده؛ إذ أنهم رأوا كتاب بقي (الحوض والكوثر) فظنوا أنه قطعة من المسند، وهو جزء مستقل، والمخطوط موجود عند الشيخ أبي أويس محمد بوخبزة الحسني، وعليه ذيل ابن بشكوال، ولعله الكتاب الوحيد الموجود الآن لـ بقي بن مخلد. 


قال الشيخ محمد الأمين بوخبزة التطواني، في مقال له منشورة باسم (مكتبتي):

"فإنني وجدت من بين مقتنيات مكتبتي المتواضعة، ما لم أجد له ذكراً في سائر الخزائن التي وقفتُ على فهارسها أو زرتها، وهي كثيرة، منها (جزء الحوض وما ورد فيه) للإمام بقي بن مخلد -رضي الله عنه- ولم أرَ من أشار إلى وجوده، أو سمع به، وقد ذكره ابن خير في (الفهرسة) مع ذيله لابن بشكوال، وعلى نسختي الفريدة، طُبع الجزء بالسعودية".

وقد ظن البعض؛ أن الشيخ بوخبزة.. يعني مسند بقي بن مخلد؛ فنشر أن الشيخ بوخبزة، عنده جزء من مسند بقي!


قلت: ولعل اعتماد المثبتين أيضاً؛ كان على نقل الشيخ المباركفوري، الذي اعتمد على فهرس رآه، بل يجزم ابنه الشيخ عبد الرحمن المباركفوري أن والده رآه هناك..

فلعله من ضمن ما احترق في الحرب العالمية الثانية، أو لا زال راقداً أو رابضاً مع قرنائه من الأفذاذ، ينتظر من يمسح عنه الكرى؛ ليجوب المدن والقرى.


واعتمدوا أيضاً، على الشيخ عبد الجميل (أبي تراب) الظاهري؛ وأنه رأى بعض أجزائه بنفسه.

فلا ندري، هل وهم الشيخ الظاهري في خبره، أو اشتبه عليه الأمر، أم أنه رآه بالفعل؛ ثم عبثت به أيدي البلى، وأعداء العلى.


وقال المعلق على (زاد المعاد: ١/ ٣٤٥) الأستاذ عبد القادر عرفان العشا حسونة: "وهو الآن ما زال مفقوداً، وقد قمت بالبحث عنه؛ فلم أعثر إلا على نموذج صغير لهذا المسند في مكتبة برلين تحت الرقم (٩٩١٥)، أسأل الله العلي القدير، أن يعيننا على إخراجه، فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل".


وقد زار الشيخ حماد الأنصاري هذه المكتبة، وبحث عن المسند؛ فلم يعثر له على خبر.


وفي بعض الفهارس القديمة للمخطوطات ببغداد: أن مسند بقي بن مخلد.. يوجد منه ورقتان.


وقال محمد التليدي، في (تراث المغاربة: ٢٥٨): "أذكر أن بـ "الظاهرية" بدمشق، جزءاً منتقى من حديث بقي، وهناد، والفارسي، والجوهري، وأمالي ابن السمرقندي".


ويرى بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي: ٣/ ٢٠١): أن الكتاب مفقود.


ونفى وجوده أيضاً؛ الشيخ محمد الأمين بوخبزة.


وعلى كل؛ فالأيام حبالى بالجديد، يوشك أن تضع العديد، ولا زالت هناك مكتبات أبكاراً، لم تفض ولم تطمث، لا من إنس ولا جان!

سيقيض الله لها الأيّد الجيد، والمكين الأمين. 


وفي اليمن المهيض -جبره الله وأقامه، وبلاد المسلمين-؛ من المكتبات الخاصة البكر، التي لم تفهرس ولم تقرطس، بل هي قابعة حزنى، رهن القيود الثقال المفروضة عليها من بعض الجعاظرة الجواظ الغلاظ، لم يأذنوا بخطبتها، وعليه؛ فإن المناظرة والمصافحة، واللثم والشم والضم حرام؛ لأنها أجنبية عنا! -كأن هذا لسان حالهم- وما علموا أن بيننا وبينها أواصر قربى، وحبائل إخاء، فلمَ الصد عن الحِب الهائم، والصب الحائم؟! "اللهم اجمع بين المحبين معنى ومغنى".


هذا ما فتشته وقمشته ونكشته ونبشته، والله تعالى أعلى وأعلم.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/٥/١٩

نظَر الكَثَب إلى تتْرِيب الكُتُب!


نَظَر الكثَب إلى تتريب الكتب!

مِن الأمور التي كان يمارسها الكتّاب، في كتبهم (المخطوطات).. هو أنهم كانوا بعد الكتابة؛ يُترِّبون ما كتبوا!


ورووا في ذلك أحاديث وحكايات، أسوق ما أطقت، ثم أنقل حكم أهل السبر والمعرفة عليها، من المتقدمين والمحدَثين. 


فمما رووا:

(ترِّبوا صحفكم؛ أنجح لها، فإن التراب مبارك)

(تربوا صحفكم؛ أعظم للبركة)

(تربوا الكتاب؛ فإن التراب مبارك)

(تربوا الكتاب؛ فإنه أعظم للبركة)

(تربوا الكتاب؛ فإنه أنجح له)

(تربوا الكتاب، وسجوه (أو قال: وسحوه) من أسفله؛ فإنه أنجح للحاجة)


جاءت بألفاظ كثيرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، وروي قريب منها عن بعض الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه.


رواه ابن أبي شيبة، وابن ماجة عن يزيد بن هارون عن بقية عن أبي أحمد الدمشقي عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما مرفوعاً.


ورواه ابن عدي، وابن عساكر، والضياء المقدسي، عن عمار بن مضر أبي ياسر.


ورواه المخلص في (الفوائد المنتقاة) وقال ابن عساكر: قال الدارقطني: "تفرد به بقية عن عمر بن أبي عمر".


وروى ابن عدي عن أحمد بن أبي يحيى البغدادي قال: "سألت أحمد بن حنبل، في السجن عن حديث يزيد بن هارون؟ فقال: هذا منكر، وما رواه بقية عن بحير وصفوان وثقاته.. يكتب، وما روى عن المجهولين لا يكتب". 

ينظر: (السلسلة الضعيفة: ٤/ ٢٢٤)


وأخرجه ابن حبان، وابن عدي، من طريق هشام بن خالد الأزرق حدثنا بقية، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، به.

وقال ابن حبان -بعد أن ذكر أحاديث بهذا الإسناد-: "كلها موضوعة".

(المجروحين: ١/ ٢٠٢)


تعقبه السخاوي، فقال: "قلت: وفيه نظر، فهو عند الترمذي في "الاستئذان" من (جامعه) من طريق حمزة النصيبي، عن أبي الزبير، عن جابر رفعه: (إذا كتب أحدكم كتاباً، فليتربه؛ فإنه أنجح للحاجة)

وقال عقِبه: إنه منكر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، كذا قال.

وقد رواه ابن ماجة في "الأدب" من (سننه)، من طرق بقية بن الوليد عن أبي أحمد بن علي الكلاعي عن أبي الزبير، لكن بلفظ: (تربوا صحفكم أنجح لها؛ لأن التراب مبارك)

بل في الباب عن ابن عباس، وأبي هريرة وكلاهما، عند ابن عدي في كامله لفظ أولهما: (تربوا الكتاب وامسحوه، أي: اقشروه من أسفله؛ فإنه أنجح للحاجة)

وعن هشام بن زیاد أبي المقدام، عن الحجاج بن يزيد عن أبيه رفعه: (تربوا الكتاب؛ فإنه أنجح له) إلى غيرها من الطرق الواهية.

ويمكن إن ثبت، حمله على الرسائل التي لا تقصد غالباً بالإبقاء".

(فتح المغيث: ٣/ ١٠٣)


وقال ابن معين: "ذاك إسناد لا يسوى فَلساً".

(أدب الإملاء والاستملاء: ١٧٣)


وقال الترمذي: "هذا حديث منكر، لا نعرفه عن أبي الزبير إلا من هذا الوجه.

وحمزة هو عندي: ابن عمرو النصيبي، وهو ضعيف في الحديث".

(سنن الترمذي: ٥/ ٦٦)


وقال العقيلي: "لا يحفظ هذا الحديث بإسناد جيد". 

(الضعفاء الكبير: ١/ ٢٩٠)


وقال ابن أبي حاتم: "قال أبي: هذا حديث باطل".

(علل الحديث: ٦/ ١٩٠)


وقال البيهقي: "وأبو أحمد عمر بن أبي عمر الدمشقي، منكر الحديث عن الثقات.

وهو من مشايخ بقية المجهولين، ورواياته منكرة، والله أعلم". 

(السنن الكبير: ٦/ ١٢٧)


وقال المناوي: "وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه؟ فقال: حديث منكر. 

وأورده ابن الجوزي، عن جابر؛ من أربعة طرق، وزيّفها كلها. 

وفي (الميزان)، كـ (اللسان): ما حاصله: أنه موضوع.


ثم قال المناوي: "وجميع ما في الباب؛ ضعيف". 

(فيض القدير: ٣/ ٢٣٩)


وضعفه الشيخ الألباني في (الضعيفة، رقم: ١٧٣٨)


وضعفه الشيخ أحمد شاكر، في تحقيق (سنن الترمذي: ٥/ ٦٦)


وضعفه الشيخ شعيب الأرناؤوط، في تحقيق (سنن ابن ماجه: ٤/ ٦٩٦)


ومعنى: (ترِّبوا) أي: اجعلوا عليه التراب؛ يقال: تربت الكتاب أُتربه ترباً، من باب ضرب، وأتربته إتراباً، وتربته تتريباً: جعلت عليه التراب، والتشديد للمبالغة.

ينظر: (صحاح الجوهري: ١/ ٩١) و(نهاية ابن الأثير: ١/ ١٨٥) و(أدب الكتاب، للصولي: ١٢٦) و(مصباح الفيومي: ١/ ٣٧)


قال أبو نعيم: وإن لم يثبت الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قد ورد فعل التتريب، عن كثير من السلف والعلماء، فالتتريب، قد حصل ووقع، لكن تعليل التتريب بالبركة، لا يجوز إثباتها إلا بدليل؛ لأنها علم غيب، ليس لها إلا طريق الوحي، ولا دليل صحيح.


وقد اختلف العلماء، في الحكمة، من التتريب، على أنحاء، هاكها:

قال بعضهم: ليجف الخط، فلا ينطمس، فيلتبس.

وقال بعضهم: للبركة في التراب.

وقال بعضهم: للوقاية من الأرضة.

وقال بعضهم: لقصد التواضع، واحتقار النفس.

وقال بعضهم: لأنه مطهر، وخلق منه الإنسان، وإليه يعود، فأمر بتتريبه؛ ليتذكر ذلك.


وإليك بعض أقوالهم في ذلك:

قال القلقشندي: "لا نزاع في أن تتريب الكتاب، بعد الفراغ منه بإلقاء الرمل ونحوه عليه؛ مطلوب، وفيه معنيان:

المعنى الأول: التبرك؛ طلباً لنجح القصد".

قلت: ثم ساق مستدلاً، بعض الأحاديث والآثار التي قدمتها، مع الحكم عليها.


وذكر، أن "صاحب (مواد البيان) وغيره من قدماء الكتّاب: قد صرحوا بأنه يستحب وضع التراب أولاً على البسملة، ثم يمره الكاتب منها على سائر المكتوب؛ ليعم الكتاب بركة البسملة.


ولقائل أن يقول: إن التتريب من آخر الكتاب إلى أعلاه، لا يخلو أيضاً من بركة؛ لملامسة التراب أولاً الحمدلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والحسبلة.. وربما بلغ بالتراب من أسفل الكتاب إلى البسملة، ثم أعاده؛ فيجمع فيه بين البركتين".


قلت: قد قدمت، أن ادعاء البركة، يفتقر إلى دليل من أحد الوحيين.


ثم قال: "المعنى الثاني: التجفيف لما كتبه، بطرح التراب عليه؛ كي لا ينمحي بما يصيبه قبل الجفاف.

قال: وهذا المعنى أضعف من الأول.


ومقتضاه: أنه إذا جف الكتاب لا يترب، وعليه عمل كتّاب الزمان، ومن هنا: يضعون التراب على آخر الكتاب من حيث أنه أقرب عهداً بالكتابة، فيحتاج إلى التجفيف، بخلاف أول الكتاب، فإنه يكون قد جف عند نهاية الكتاب غالباً، لا سيما في الزمن الحار، أو مع طول الكتاب وامتداد زمن كتابته".

(صبح الأعشى: ٦/ ٢٥٩).


وقال المباركفوري: "قال (في المجمع): أي: ليسقطه على التراب اعتماداً على الحق تعالى في إيصاله إلى المقصد، أو أراد ذر التراب على المكتوب، أو ليخاطب الكاتب خطاباً على غاية التواضع.


قيل: ويمكن أن يكون الغرض من التتريب، تجفيف بلة المداد، صيانة عن طمس الكتابة، ولا شك أن بقاء الكتابة على حالها؛ أنجح للحاجة، وطموسها مخل للمقصود.


قلت: قول من قال: إن المراد بتتريب الكتاب، ذر التراب عليه للتجفيف؛ هو المعتمد.

في (القاموس): أتربه جعل عليه التراب".

(تحفة الأحوذي: ٧/ ٤١٠) بتصرف يسير.


قلت: ومما يرجح، أن المراد بتتريب الكتاب، ذر التراب عليه للتجفيف.. ما قاله صدر الأفاضل في تعريفه بكتاب الورقة، لابن الجراح-: "وقد كتبت بخط كوفي جلي، وعلى السطر الأول من صفحة ٦٨؛ ذرات لامعة، هي من الرمل الذي كان ينثر على المكتوب؛ ليسرع جفافه. انظر "ترب" في (القاموس) و(درة الغواص)".

مقدمة (الورقة: ١٠) بتحقيق عبد الوهاب عزام، وعبد الستار فراج. 


وتقدم أن بعضهم: جعل التتريب؛ لطرد الأرضة، لكن ذكر بعضهم: أنه من أسباب إقبال الأرضة، وإسراعها إليه! 


قال السخاوي: "فإن أحب الإسراع -أي: في التجفيف-؛ تربه بنحاتة الساج، (قلت: نحاتة الساج، نوع من الخشب) ويتقي استعمال الرمل، إلا أن يزيل أثره بعد جفافه، فقد كان بعض الشيوخ، يقول: إنه سبب للأرضة.

وكذا يتقي التراب، كما صرح به الخطيب، في (الجامع).

(فتح المغيث: ٣/ ١٠٣) وينظر: (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: ١/ ٢٧٨)


وجاء عن عبد الوهاب الحجبي قال: كنت في مجلس بعض المحدثين، وابن معين، بجانبي، فكتبت صحفاً، ثم ذهبت لأتربه؟ فقال لي: لا تفعل، فإن الأرضة تسرع إليه، قال: فقلت له الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تربوا الكتاب، فإن التراب مبارك، وهو أنجح للحاجة) قال: ذاك إسناد لا يسوى فلسا.

(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: ١/ ٢٧٨) وينظر: (فتح المغيث: ٣/ ١٠٣)


قال أبو نعيم: لعل من جعل التراب في الكتب؛ للبركة.. بمعنى: أن بركة هذا التراب؛ تعود على حفظه، أو نشره.. 

أقول: لعل هذا القائل، أخذه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا اشتكى الإنسان، أو كان به جرح؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم، بإصبعه هكذا -ووضع الراوي سبابته بالأرض ثم رفعها- فقال: بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا) رواه البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها.


قلت: فكما أن التراب، يكون به استشفاء الأبدان، فكذلك يكون به حفظ ما يملي الجنان.


قال ابن الجوزي: "والاستشفاء بتراب وطن الإنسان؛ معروف عند العرب، وكانت العرب: إذا سافرت، حملت معها من تربة بلدها، تستشفي به عند مرض يعرض.


قال رجل من بني ضبة:

نسير على علم بكنه مسيرنا *** وعدة زاد في فناء المزاودِ

ونحمل في الأسفار منها قبيضة *** من المنتأى النائي لحب الموالدِ


(كشف المشكل: ٤/ ٣٦٨)


قلت: ولكن، لقائل أن يقول: هذا نص خاص لشفاء جروح الأجساد، فلا يعمم، ولا قياس في العبادات، ولكن يستأنس بها ويتأنس.


فصل: أي التراب يكون به التتريب؟

قال القلقشندي: "اصطلح كتّاب الزمان، على التتريب بالرمل الأحمر، أما تخصيصهم التتريب بالرمل؛ فلأنه لا غبار فيه يَعْلَق بالكتاب، فيذهب بهجة الورق.

ومن أحسنه (أي: الرمل)؛ رمل يؤتى به من صحراء ماردين، فيه شذور صفر كشذور الذهب، يلقى في الرمل الأحمر، فيترِّب به الأمراء والوزراء، ومن في معناهم.


وأما اختيارهم الأحمر دون غيره؛ فلأنه أبهج إذا لصق بالكتاب.

قال محمد بن عمر المدائني: وكرهوا ونهوا عن تراب الحيطان، ومالوا إلى النشارة والأشنان.

قال: وبلغنا أن بعض الأئمة من أهل العلم: كان يترب الحديث بالصندل (قلت: الصندل: خشب له رائحة طيبة يؤخذ من أشجار الصندل) ويقول: لا أطرح على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، التراب.


وكان حيوة بن شريح: يخرج إلى الصحراء، فيأخذ الطين الأسود، فيدقّه وينخله؛ فيترب به.


وقد صرح الرافعي وغيره، من أصحابنا الشافعية: أنه يحرم التتريب من جدار الغير، ومعناه ظاهر؛ لما فيه من الاغتصاب والاعتداء. 

ينظر: (صبح الأعشى: ٦/ ٢٥٩) بتصرف كثير. 


فصل: تتريب الملوك:

كان أئمة اليمن وعلمائه.. يتربون كتبهم المهمة بالحمرة عوض التراب! 

ومن حسن التعليل، لدى العلامة الإمام أحمد بن الإمام يحيى حميد الدين، ما قاله من مرثيته للعلامة الحسين بن علي العمري، تـ١٣٦١، بقوله:

إني لأكتب هذا والدموع دم *** وانظر عظيم الأسى في وجه قرطاسي!


وقد أزعج الأتراك.. تتريب كتب أئمة اليمن بالحمرة؛ لأنها تحمل معاني الحرب والدماء!

حتى أنه لما كان الصلح بين الإمام القاسم بن محمد، وجعفر باشا.. شرط الباشا شروطاً، منها: عدم تتريب الكتاب بالحمرة!

ينظر: (تحفة الإخوان: ١٥٠) وحواشيها. 


علق العلامة عبد الله الجرافي، في الحاشية: فائدة تاريخية: أشار مولانا سیف الاسلام -حفظه الله- في هذا البيت، إلى وضع الحمرة في القرطاس، وهو من حسن التعليل بمكان، وفي وضع الحمرة في كتب أئمة اليمن.. حكاية ذكرها مؤلف (بغية المرید) وخلاصتها: أن مولانا الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، لما أنشأ الدعوة باليمن أيام الأتراك، في سنة ١٠٠٦، کتب إلى الوزير حسن کتاباً مزيجاً، وأرسله مع رجل من ذی غيلان، ولما وصل الرسول إلى الروضة -شمال العاصمة صنعاء- وكان الوزير حسن متنزهاً بها، انتبه له سنان باشا، وأخذ منه کتاب الإمام القاسم، وأدخله إلى الوزير حسن، ولما اطلع عليه، وفي أوله: من المنصور بالله -إن شاء الله- قال: من ينصره الله فلا غالب له!

وسأل من كان حاضراً من أعيان اليمن، عن شأن الحمرة في الكتاب؟ فقالوا: إن أئمة اليمن يتربون كتبهم المهمة كذلك!

فقال الوزير حسن: لعلهم يشيرون بذلك إلى قتل الحسين بن علي عليه السلام، وأمر وزيره سنان بأن ينقل القض والقضيض من الروضة إلى صنعاء، ثم كان ما عرفه التاريخ من مناضلة القبائل اليمنية مع الإمام القاسم، وكانت الأتراك قد تغلبت على اليمن من صعدة الى عدن، وتقريباً كان به منهم سبعون ألفا.


وفي (الجوهرة المنيرة) للجرموزي: إنه لما كان الصلح بين الإمام القاسم بن محمد والأتراك.. شرط جعفر باشا شروطاً، منها: عدم تتريب الكتاب بالحمرة!

فلما كان نقض الصلح بين المؤيد بالله محمد بن القاسم وحيدر باشا، بسبب الأحداث التي كانت من حيدر باشا.. كان يترب الكتاب من المؤيد بالله بالحمرة؛ إيذاناً بنقض الصلح، وذلك لما لم يرجع حيدر باشا إلى تحكيم الشرع، وبنى أمره على المغالطة، وكان من مواصلة الحرب الضروس بین آل القاسم والأتراك، حتى غادرت الأتراك اليمن أجمع، سنة بضع وأربعين وألف، وخرجوا أيضاً من جزيرة كمران، وجزر فرسان، وتملك الجميع آل القاسم.

وتفاصيل الحوادث، مذكورة في محالها، من كتب التاريخ.

ينظر: (تحفة الإخوان: ١٥٠) 


فصل: أشعار في تشبيه طي الشباب بتتريب الكتاب:

قال العماد الأصفهاني:

أصدوداً ولم يصدّ التصابي *** ونفاراً ولم يرُعك المشيبُ

وكتاب الشباب لم يطوه الشـ *** ـوق، ولا مس نقشه تتريبُ


وقال محمد القيسراني:

إذا كتب الشباب سطور مسك *** وأتربهن كافور المشيبِ

فيا أسفي، وما أسفي وحزني *** سوى طي الصحيفة عن قريبِ


وما أحسن قول أبي إسماعيل الطغرائي في وصف كتيبة، من قصيدة له:

إذا ما دجا ليل العجاجة لم يزل *** بأيديهم جمر إلى الهند مشبوبُ

عليها سطور الضرب تعجمها القنا *** صحائف يغشاها من النقع تتريبُ


وقال المهذب ابن أسعد الموصلي:

تردي الكتائب كتبه فإذا غدت *** لم تدرِ أنفذ أسطراً أم عسكرا

لم يحسن الإتراب فوق سطورها *** إلا لأن الجيش يعقد عثيرا


وقال الخفاجي:

جيش كأن الأرض من تحته *** صحف غدت أقلامهن الرماحُ

مذ سطر الجند على وجهها *** تربها النقع فلاح الفلاحُ


ينظر: (ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا: ٨٥) وما بعدها، للشهاب الخفاجي، و(وفيات الأعيان: ٣/ ٥٩) و(خريدة القصر: ٢/ ٤٣٠)


وقد صاغ بعضهم، حديث تتريب الكتب، شعراً؛ فقال:


كتبت الكتاب وترّبته *** لـــعلّـي بتتـريــبـه أفلـــحُ

لقول النبي لأصحابه: *** ألا (ترّبوا كتبكم؛ تفلحوا)


(فيض القدير: ١/ ٤٣٢) وينظر: (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ١٠٩) لرفاعة الطهطاوي.


وقد كره بعضهم التتريب؛ فقال:

لا تشنْه بما تذر عليه *** فكفاه هبوب هذا الهواءِ

فكأن الذي تذر عليه *** جدري بوجنة الحسناءِ! 


لطيفة:

كان الفرزدق كتب وصية، وأعتق عبداً عن دبر، فترّب الكتاب العبد، فقال: استنجحت الحاجة، واستعجلت المنية لي يا ابن الفاعلة؛ احذفوا اسمه من الوصية!


لطيفة أخرى:

رفع رجل قصة، إلى عبد الله بن طاهر، وقد أكثر عليها من التراب، فوقّع فيها: إنْ ضمن لنا من الصابون ما ينقي ثيابنا من تراب كتابه؛ ضمنّا له قضاء حاجته! 

(محاضرات الأدباء: ١/ ١٣٤)


لطيفة ثالثة:

حكى ابن خلکان ما معناه: دخل بعض علماء العربية، على بعض الأمراء، فسأله مسألة استحسن جوابه فيها، فأمر له بجائزة، ثم قال له: كيف نأمر من التراب؟ قال : ترّبه. قال: فالكتاب، ماذا؟ قال مترّب. قال : ومن الطين؟ قال: طِنْه. قال: فهو ماذا؟ قال: مطين.. فمكن غلامه الكتاب.. وقال له: ترّبه وطِنه. 


هذه بعض الخواطر نبشتها من الدفاتر، عن تتريب الكتاب، والحكمة من ذلك، وقانا الله المهاوي والمهالك، وحفظنا في أنفسنا وأهلنا وأموالنا وأولادنا وبلادنا وكتبنا.

وأسأله تعالى أن يؤنسني بالأهل والأولاد، والكتب والأوراد، ويعيدني إليهم سالماً غانماً، ملائماً موائماً.. 


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي

١٤٤١/٤/٢١

١٤٤٢/٦/١٤

مكة المشرفة


الثلاثاء، 26 يناير 2021

هل فهمنا كلام هذا الجفر اليافع؟!

 


هل فهمنا كلام هذا الجفر اليافع؟!


يقول جلهمة بن عرفطة -وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، في طفوليته-: خرج أبو طالب معه غلام، كأنه شمس دِجِنّة، تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي!

ينظر (السير: ١/ ٥٥)


قال أبو نعيم -كلأه الكالئ-: هذا طفلهم، فكيف طفلنا اليوم، بل كيف شبابنا، لا بل كيف كهولنا وشيوخنا؟! إن أكثرهم، قد تهجن وتلكن، وشان لهجته بأوشاب وأشواب العلوج، فاللهم حفظاً.


والمصيبة الصابة.. أنه إذا سُمع، من يلهج الفصحى، ويحيي ما اندرس من الجزل.. رأيت من يصمه بالإغراب، ويهمزه بلهزميه، ويغمزه بعينيه، ويغمطه الحق، ويلطه الباطل!


ويزعم، أنها شقشقات كلام، وهذرمة لسان، وجعجعة حنجرة!


ولا يدرى.. كيف يفهم هؤلاء القرآن الكريم، الذي نزل بلسان عربي مبين .. كيف يفهم (تزيلوا - يُعجب الكفار - أغطش - عسعس - الجوار الكنس - سجى - قلى - مخمصة - متجانف - بحيرة - سائبة - وصيلة - حام) ونحوها كثير من ذلك!


ماذا يقال عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: حديث أم زرع؟!


ماذا يقال عن كلام الصحابة والتابعين وأسلافهم؟!


يجيب بعضهم: خاطبوا الناس بما يفهمون، وعلى قدر عقولهم!


حسناً، لا بأس بالخطاب الفصيح الصميم، مع التفهيم، حتى لا تستصعب أو تستشنع لغة العرب الصميمة، في يوم من أيام الله -وقد كان وصار-!


ويعجبني، قول بعضهم، وقد قال له قائل: أسألك عن حرف من الغريب؟! فقال: هو كلام القوم، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه.


على كل، لم أرد الإطناب، في تقشير عصا النوكى، إنما هي سانحة داعبتني، في التحشي، على جزالة هذا الصبي، ولهم -أي: الطغام الأغمار، -بإذن الله وعونه- مهيع فسيح، وأفيح وسيع.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٢/٦/١٣


رحيل حمامة المسجد.. العالم السردحي!

 

رحيل حمامة المسجد.. العالم السردحي!
#وفاة_علم

اتصل بي قبيل المغرب، الشيخ الحبيب محمد وسيم، وأخبرني عن وفاة شيخه ومجيزي العالم المعمر المسند الزاهد العابد: سالم السردحي، ويقال: الصردحي، عن مائة وعشر سنوات!

وقد توفي عن عمر ناهز ١١٠ من السنين، قضاها في العبادة والإفادة والزهادة، فقد كان متوطناً بيتاً من بيوت الله تعالى، لا يفارقه في ليل أو نهار، ولم تكن له زوجة أو ولد، فعرف بين أهل المرواعة بعبادته وعبوديته، فكانوا يأتون له بالطعام والشراب إلى المسجد.

وقد تميز فقيدنا.. بعلو إسناده، فهو يروي عن العلامة محمد بن عبد الرحمن الأهدل -شيخ مدينة المرواعة- سمع منه البخاري كاملاً، وسمع من ابنه عبد الرحمن بن محمد الملقب بـ الحاكم، وتفقه عليه، ولازال في تهامة من هو في نفس الطبقة -عجل الله بالفرج لتهامة وأهلها، ونفس عنهم كل ضيق وكربة-.

والحقيقة، أن هذا الرجل.. حياته عجيبة، وأحواله غريبة، تحتاج إلى نبش الزمن، ونكش الدفاتر، وفتش العقول والذواكر.. حتى يبرز للعيان، ويقرؤه بني الإنسان.

رحمه لله رحمة واسعة، وأسكنه الجنات الشاسعة، وبل قبره وابل الرحمات، وسابغ المغفرات.

وكتب: وليد الوصابي،،
١٤٣٧/٤/١٦ الثلاثاء

الاثنين، 25 يناير 2021

وانطفأ المصباح.. المعمر الوشاح! #وفاة_علم

 وانطفأ المصباح.. المعمر الوشاح!

#وفاة_علم

بلغني اليوم، الأحد ١٤٤١/٦/١، وفاة مجيزنا الشيخ القاضي المعمر: عبد العزيز بن إسماعيل بن محمد الوشاح الإبي اليمني.. عن سن يناهز الرابعة والتسعين، من عمره المبارك المليئ بالعلم والتعليم، والدرس والتفهيم.

وقد سمعت عليه قدماً، بعض كتب السنة النبوية، والمتون العلمية عبر البث، فكان على أحسن ما يكون من الوعي، وأصبر ما يكون على العلم.

وقد ولد شيخنا في مدينة إب المترعة بالعلم والعلماء، والتي منها: الإمام ابن أبي الخير العمراني -صاحب المعلمة الكبرى (البيان)-.

ولد شيخنا، سنة ١٣٤٧، حتى ترعرع، فبعثته أمه في صباه إلى زبید، لطلب العلم، ثم يمم وجهته نحو منطقة جازان، ومكث فيها زمناً، وأخذ عن نزيلها الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي، والشيخ ناصر خلوفة طياش مباركي، والشيخ حافظ بن أحمد حكمي، وغيرهم من مشايخ جيزان.

ثم يمم نحو الحجاز ونجد، فأخذ عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ولازم الشيخ عبد العزيز بن باز، سنتين من عمره الحفيل.
وقد حفظ شيخنا كثيراً من المتون والمقدمات العلمية.

كان -رحمه الله،كما أخبرت- لا يمل حديثه، ولا يبرم بزائره، كريم الضيافة، ندي الكف، رحب الكهف، برق الأسارير، ولا ضير، فهذا شأن النحارير.

رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، وبل بوابل الرحمة ثراه، وشكر الله مبتداه ومنتهاه.
ولا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهي نعم العزاء والسلاء والخلف.

وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٦/١

الشراري.. قصة مؤلمة!

 الشراري.. قصة مؤلمة!


الدكتور الفاضل منصور الشرايري -رحمه الله-.. رغم أني لا أعرفه، ولم يسبق لي أن تحدثت معه أو إليه..

لكني أحببته وبكيته من كثرة من نعاه من محبيه وأصحابه بحروف الإجلال، وفخيم الألفاظ، وصادق الكلمات التي تنبع عن علم واطلاع، ودماثة خلق، وحسن أدب.. فكل من وصفه؛ ذكره بجميل خلقه، ورقة حاشيته، ونسيم أخلاقه.


وحقيقة، لم أستطع النوم يوم أمس، وأنا أتخيله وقت الحادث الأليم ورحيله هو وزوجه الفاضلة وابناه الكريمان، وكلما أراد النوم كحل عيني، جاء السهاد فأطاره، وهكذا حتى قرُب الفجر وأنا بين شد وجذب.


لكني أقول متأسياً ومستأنساً: "إنا لله وإنا إليه راجعون" (إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)


وأقول لوالديه ووالد زوجه وجميع أقاربهم ومحبيهم:

ربط الله على قلوبكم، وأعاد الأنس إليكم، وجعل أخاكم وصديقكم وزوجه وبنيه "في مقعد صدق عند مليك مقتدر" وما يدرينا -نحن البشر- أن الله اختار لهم ذلك؛ ليرفعهم درجات علية، ويلقيهم جنات هنية، وعيشة رضية.

وإنا على فراقك يا أبا جعفر لمحزونون، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


وكتب: وليد أبو نعيم،

 ١٤٣٨/٤/٢٦

الخميس، 21 يناير 2021

إلماحة من حياة الدكتور ذاكر نائك!

 إلماحة من حياة الدكتور ذاكر نائك!


الدكتور المفوّه المناظر الكبير: ذاكر نايك -حفظه الله في عافية وكفاية-، كانت آماله وطموحاته.. أن يكون طبيباً؛ لأن في لسانه حُبسة لا يجيد التخاطب مع الناس، بل لم يكن يحسن نطق اسمه سليماً!

فقد كان يُتأتئ ويفأفئ كثيراً، حتى هيأه الله -وإذا أراد الله شيئاً.. هيأ أسبابه-.


 أراد الله أن يكون الدكتور نايك، نظاراً علمياً، ومناظراً جدلياً، وذهبت حبسة لسانه، فانطلق -وقد كان لا ينطلق، ولا يكاد يبين- وسال بيانه، بما يمليه جنانه من علم وحكمة.


يقول عن نفسه: "في الطفولة.. كانت عندي مشكلة في الكلام، والتأتأة في النطق، ولم أكن أحلم أن أتكلم أمام ٢٥ شخصاً، وهذا من فضل ربي وحده ليس بذكائي، فهناك غيري من يملك الفصاحة أحسن مني، ولكن كل ما حققته فضل من الله وحده"


قلت: وأنا أتذكر هنا، دعاء موسى عليه السلام، حين قال: "واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي" فإن العجمة؛ قد تكون مصرفة للناس عن دعوتك؛ لأن طريق التبليغ يكون ضعيفاً، فيجتمع للمدعو ثُقلان: ثقل الرسالة، وهي حمل المدعو على ترك ما اعتاده من القبائح، وثقل اللفظ والأسلوب، الذي تدعو به المدعو، فربما ضجر وتأفف، وغادر المكان حيث لا عودة!


وعندي، أن ثقل الأسلوب، يتناول معنيين:

-الأول: الثقل، بالنسبة لخشونة الأسلوب، وسوء الأخلاق، والنظرة الهلكية للآخرين، وهذا ما عناه العلامة الألباني -رحمه الله- عندما قال: (لا تجمع على المخالف؛ ثقل الحق، وثقل الأسلوب).


-والمعنى الثاني: هو سوء التعبير، كما قيل:

(والحق قد يعتريه سوء تعبير)

وهو ما دعا به نبي الله موسى عليه السلام: "واحلل عقدة من لساني" وهذا معلوم، فلا يتسنم المناظرات ويسمتها إلا الفصيح البليغ، المصقع المنطيق.


وقد كان بعض العلماء، على جانب كبير من العلم والمعرفة، ولكنه لا يجيد المناظرة؛ لثقل في لسانه، أو تعتعةٍ في بيانه، وهكذا.


وذكروا من هؤلاء الإمام أحمد بن يحيى ثعلب، فقد كان -رحمه الله- يتجنب المواجهة مع قرينه وقريعه محمد بن يزيد المبرد؛ لغلبة المبرد عليه في البيان، وفصاحة اللسان!

قال ذلك ختن ثعلب، حينما سئل عن ذلك، فأجاب بنحو ما هنالك.

وذكروا هذا أيضاً عن العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشاعر أحمد شوقي وغيرهما، حتى أنك تجد في التراجم "قلمه أحسن من لفظه" وهاك من شبيهاتها..


خرجت عن محزي، أعود فأقول: أراد الله الدكتور نايك، لمهمة الدعوة وشرفها، فانطلق لسانه، ودعا وناظر وحاضر، حتى ذكر عن نفسه أنه حضر له في محاضرة، مليون شخص!

 فسبحان الله.


وذكروا عنه: أن فصاحته وبلاغته، وقمعه للخصم، وقرعه للباطل هو خاص موقوف على الدين، والمناظرة فيه، والدعوة إليه، أما إذا كَلّمته وناظرته في الدنيا، فهو غير الأول!


يقول: وقد ناظرت النصارى والبوذيين والهندوس وغيرهم، وأنا تخصصي الإسلام ومقارنة الأديان..


ويقول: تناظرت مع دكتور أمريكي وليام كامبل كبير حول القرآن، وأن فيه أخطاء علمية في القرآن، ولمدة ٨ سنوات لم يرد عليه أحد، ودحضت حججه، وقدمت ٣٨ حجة حول الكتاب المقدس، ولم يرد على واحدة.

"سبحانك لا علم لنا إلا ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم"


وله جهود عظيمة، منها: 

-أنشأ تلفزيون السلام، وقد أطلقه قبل سنوات، بأربع لغات، ويتابعه بالإنجليزية فقط، مائة مليون، ويبث من خلال ١٤ قمراً صناعياً.


-أطلق قبل سنوات، تلفزيون السلام بالأردو، ووصل عدد المشاهدين، إلى ثمانين مليون مشاهد.


-وأطلق تلفزيون، وبلغة البنغا، وعدد المشاهدين خمسين مليون مشاهد.


-وأطلق قناة بالصينية، لمخاطبة أكثر من مليار ومائتي مليون شخص!


-وهو يحاول البث من خلال أهم عشر لغات في العالم.


ونشاطه في دعوة الناس إلى دين الإسلام، غير محصور، وهو بهم خبير، حتى أنه قال: ثلثا الداخلين في الإسلام من أوربا؛ من النساء!


ويقول: في عام ٢٠١٣م، تلقيت دعوة من رئيس كامبيا، وصدقوني لم أكن أعلم أن هناك دولة اسمها كامبيا، حتى ذهبت للخريطة وحددت مكانها.

قال لي الرئيس جامع: كان نسبة المسلمين في كامبيا ٩٠٪ أما اليوم بعد مشاهدة تلفزيون السلام، وصل ٩٥٪.

وذكر أن ما رآه في كامبيا، من محافظة على الصلاة من الرئيس ووزرائه، أكثر منه في الشرق الإسلامي!


ولا زال في الدعوة إلى الله على علم وبصيرة، وحجة وبرهان، وله أكثر من ٢٥ عاماً قضاها في الدعوة إلى الإسلام.


هذا هو الدكتور ذاكر، الذي يتهم اليوم بالإرهاب، وقد قال مرة في مقابلة: 

قبل أحداث ٢٠٠١م، ولمدة ٢٠٠ عام سابقة.. لم يكن هناك مصطلحاً إرهابياً.


ولا غرو، فليس هذا غريباً على الغرب الكافر، الذي يغيظه ما يفعله هذا الرجل من دعوة إلى دين الإسلام، وحينما رأوا، ما حقق على يديه، من نجاح باهر، وفلاح ظاهر.. وصموه بهذه السمة المنهارة التي أصبحت في أيديهم يضربون بها من شاؤوا.


فهو رجل مجاهد بالحكمة والبيان.. سيبرئه الله، والغلبة، للحق، والباطل منكوس، وأهله في ارتكاس، "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا".


أسأل الله أن يحفظه ويطيل عمره في طاعته، وأسأل ربي أن يسخر من يخلفه في علمه وخلقه وتمكنه من الاستحضار في المناظرات، وجمعه في فنون كثيرة علمية وطبية ودينية.

إن ربي على كل شيء قدير، وعليه التكلان، والله المستعان.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/٨/١٩

الأربعاء، 20 يناير 2021

ذكر الأوجُه وتوجيه الأوجَه، في قوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه"!

 ذكر الأوجُه وتوجيه الأوجَه، في قوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه"! 


زكريا عليه السلام، نبي من أنبياء الله الكرام، كان قد بلغ وزوجه من الكبر عتيّا، ولم يرزقا بذرية تؤنسهما وتخلُفهما، ولكنهما مسلِّمان لأمر الله، متجملان لقدر الله.


ولما كفل زكريا مريمَ؛ كان كلما دخل عليها؛ وجد عندها رزقاً من الله لغذائها، من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها.

وهذا الرزق.. قيل: إنه فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.


عند ذلك؛ طمع زكريا إلى ربه الواهب الوهاب.. بالذرية، ورجا أن يرزقه من زوجه الولد، مع الحال التي هما بها وعليها؛ لأن ولادة العاقر، غير العادة الجارية في الناس.

فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرية طيبة.

(بتصرف كثير، من (تفسير الطبري: ٥/ ٣٦٠).


فأجاب الله دعاءه، ورزقه الولد، وزاده فضلاً منه سبحانه؛ أن أصلح له زوجه. 

قال تعالى -ممتنّاً على عبده زكريا-: "وزكریا إذ نادىٰ ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خیر ٱلوارثین * فاستجبنا لهۥ ووهبنا له یحیى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا یسارعون فی ٱلخیرات ویدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعین". 


وقد اختلفت آراء المفسرين، في المراد بقوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه".. 

وهاك ما يسره الله تعالى، من فتش ونبش، مع كدود الفكر، وشتوت الخاطر، وتغرب الجسد، وتحرب الروح!

الجسم في بلدٍ، والروح في بلدِ *** يا وحشة الروح بل يا غربة الجسدِ


والله المعين، وهو المستعان وحده لا رب سواه.


فأقول -وبالله التوفيق، ومنه التحقيق-: ذكر المفسرون، في قوله تعالى -في قصة زكريا عليه السلام-: "وأصلحنا له زوجه"؛ أربعة أقوال:


الأول: أصلحناها للولادة بعد أن كانت عاقراً.

الثاني: جعلناها مصلحة في الدين، ومعينة لزوجها.

الثالث: جملناها لزوجها، فحسنّا صورتها ومنظرها؛ لأنها كانت قد بلغت سن الشيخوخة. 

الرابع: أصلحناها من سوء الخلق والبذاءة، وسلاطة اللسان.


وحقيقة، اقشعر جلدي، وحمي جسدي.. حين وقعت عيني على من قال، أنها: كانت سيئة الخلق، أو سليطة اللسان؛ إذ أن هذا عرض مصون، وزوجة نبي ميمون؛ فلا تثبت هذه السيئة، إلا ببينة وبرهان -مثل ما قصه القرآن من خبر امرأتي نوح ولوط-.


أما أن تثبت هذه التهمة، على أثر ضعيف؛ فمعاذ الله! 

فالأثر: رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه! 

تعقبه الذهبي بقوله: "طلحة بن عمرو؛ واه". 

(المستدرك: ٢/ ٤١٥)


وقال ابن الملقن: فيه طلحة.

(مختصر تلخيص الذهبي: ٢/ ٨٦٣)


قلت: وهو طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي..

قال فيه أحمد بن حنبل: لا شيء، متروك الحديث.

وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، ضعيف.

وتكلم فيه البخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو داود، والجوزجاني، والنسائي، وابن الجنيد، والدارقطني، وابن حبان، وابن عدي وغيرهم.

ينظر: (تنقيح التحقيق: ٢/ ١٤٤).

قلت: فالأثر باطل، من حيث الإسناد؛ لوجود متروك.


أما من ناحية المتن..

فإذا نظرنا إلى سياق القصة وسباقها ولحاقها؛ وجدنا أن القصة كلها تدور حول أحداث الولد وما والاه، ولم تشر أبداً إلى بذاءة، أو سوء عشرة، أو سلاطة لسان! 


وهذه مواطن قصته عليه السلام مع زوجه -رحمها الله-:

قال الله تعالى عنه في سورة مريم: "رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا".


وقال الله عنه في سورة آل عمران: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء".


وقال تعالى عنه في سورة الأنبياء: "رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين".


فهذه مواطن القصة، ليس فيها ما يشير إلى شيء من ذكر حسن أخلاق أو سوئها.


قلت: وجلّ كتب التفسير والحديث؛ ترجّح: أنها كانت عاقراً، بل بعضهم: لا يذكر سواه.


وهاك بعضاً منها:

قال مقاتل: ""وأصلحنا له زوجه" يعني: امرأته، فحاضت وكانت لا تحيض من الكبر". 

(تفسير مقاتل بن سليمان: ٣/ ٩١).


وقال الكلبي: "كانت عقيماً لم تلد شيئاً قط، فأُصلحت بالولد، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة"! 

(التفسير البسيط: ١٥/ ١٧٩) للواحدي.


وقال أبو عبيد الهروي: "قوله تعالى: "وأصلحنا له زوجه" يعني: من العقر، ألا ترى قوله تعالى "وكانت امرأتي عاقرا" فجعلها ولودا". 

(كتاب الغريبين في القرآن والحديث: ٤/ ١٠٩٠)


وذكر الماوردي في (النكت والعيون: ٣/ ٤٦٨) عن الكلبي، أنه قال: ولدت له وهو ابن بضع وسبعين سنة!


قال ابن عباس: "كان سنّه مائة، وسن زوجته تسعاً وتسعين"! 

(تفسير الرازي: ٢٢/ ١٨٢). 


وقال العز: "وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وهي قريبة من سِنّه".

(تفسير العز بن عبد السلام: ٢/ ٣٣٦). 


ورجّح الرازي -بعد حكايته القولين-: صلاحها للحمل، قال: "وهذا أليق" وذكر، قول: أنها سيئة الخلق! ولم يعقب، ثم حكى قولاً ثالثاً، وهو: الصلاح في الدين، ثم علّل فقال: "فإن صلاحها في الدين، من أكبر أعوانه في كونه داعياً إلى الله تعالى، فكأنه عليه السلام، سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً، وهذا كأنه أقرب إلى الظاهر؛ لأنه إذا قيل: أصلح الله فلاناً؛ فالأظهر فيه ما يتصل بالدين". 

(تفسير الرازي: ٢٢/ ١٨٢).


وقال ابن عادل: "وقيل: جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين، من أكبر أعوانه؛ لأنه يكون إعانة في الدين والدنيا". 

(اللباب في علوم الكتاب: ١٣/ ٥٨٧)


وقال أبو منصور -بعد حكايته قولين-: "وأما قول من يقول: بأن في لسانها بذاء وطولاً، وفي خلقها سوءاً؛ فذلك لا يحل أن يقال، إلا بثبت، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم، حيث قال: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات" ثم المسارعة في الخيرات؛ أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات، وهكذا المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها، إلا أن يمنعه شيء من شهوة أو سهو". 

(تفسسر الماتريدي: ٧/ ٣٧٢).


قلت: وقوله تعالى: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات"؛ تعليل إجابته سبحانه دعاءهم، وهي أخلاق تنافي سوء الخلق، وبذاءة اللسان؛ لأن تلك الأوصاف كانوا متّصفين بها قبل استجابة الدعاء، كيلا لا يقال: إن الله أصلحها له بعد الدعاء، فحسّن خلقها؛ فأثنى الله عليها!

لا، بل هي حسنة الخلق، صالحة الدين، قبل الدعاء، لكنه دعا الله تعالى بزيادة الصلاح، والتهيؤ للإصلاح، وإنجاب الذرية!


قال ابن عاشور: "فضمائر الجمع؛ عائدة إلى المذكورين، وحرف التأكيد؛ مفيد معنى التعليل والتسبب، أي: ما استحقوا ما أوتوه، إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير، وجدّهم في تحصيلها. وأفاد فعل الكون؛ أن ذلك كان دأبهم وهجيراهم". 

(التحرير والتنوير: ١٧/ ١٣٦).


قلت: ولا مانع أن يكون المراد: أصلحنا زوجته: خَلقاً وخُلقاً -كما أشار السمين- لكن لا يلزم أنها كانت سيئة الخلق، بل زادها الله صلاحاً فوق صلاحها.

وهذا مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام -عن المهدي-: (يصلحه الله في ليلة) أي: يصلحه للخلافة، لا أنه لم يكن صالحا!


وقال شيخ الإسلام: "ولذلك؛ امتنّ الله على زكريا عليه السلام، حيث قال: "وأصلحنا له زوجه" وقال بعض العلماء: "ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله، في إصلاح زوجه له". 

(الاقتضاء: ٢/ ٨)


وقال أبو جعفر: "والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله أصلح لزكريا زوجه، كما أخبر تعالى ذكره بأن جعلها ولوداً، حسنة الخلق؛ لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك بعضاً دون بعض في كتابه، ولا على لسان رسوله، ولا وضع على خصوص ذلك دلالة، فهو على العموم ما لم يأت ما يجب التسليم له، بأن ذلك مراد به بعض دون بعض". 

(تفسير الطبري: ٩/ ٧٩).


قال أبو نعيم: هذا ما كمل تحريره، وأكمل تحبيره، من نفي سلب عن امرأة نبي، ونأي ثلب عن زوجة صفي؛ بأدلة وارتباط، لا عن حدس واعتباط.

والله أسأل التبيين والتصيين، وإياه سبحانه أعبد، وبه أستعين، وإليه أستكين، وهو حسبي ونعم الوكيل.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤١/٤/١٢ م م

الثلاثاء، 19 يناير 2021

رحيل مؤرخ الأندلس ورافدها!

 


رحيل مؤرخ الأندلس ورافدها!

#وفاة_علم


توفي اليوم، الدكتور العراقي المؤرخ الكبير المعمر عبد الرحمن علي الحجي، بعد حياة حافلة بالعطاء، مليئة بالإعطاء.. فقد رفد المكتبة الإسلامية بأعمال ضخمة فخمة عن الأندلس الأخضر المفقود -رده الله- وعاش متيماً به، لصيقاً به، لاهجاً بحبه، عاشقاً لصبه، حتى وافاه الأجل المحتوم المحموم، في معشوقته الأثيرة (الأندلس قديماً) أسبانيا اليوم، في عاصمتها مدريد.


‏ما زلت تكتب في التاريخ مجتهداً *** حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا!


وسبحان الله، قبل أيام معدودة، كنت أستمع له مقطعاً مرئياً، متحدثاً عن محبوبته الكليفة، ومعشوقته النحيفة، وهو يفيض فألاً وأملاً، ويشع بهاء ونداء، رغم بلوغه سن الشيخوخة، فقد وصل الخامسة والثمانين، ولكن "لكل أجل كتاب".


وقد تنقل مدرساً، بين بلدان عديدة، منها: اليمن، والعراق، والسعودية، والكويت، والبحرين، والإمارات وغيرها..


رحم الله المؤرخ المزدان، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنان، وغفر له، ورحمه، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

ملاحظة: فقيدنا (عبد الرحمن بن علي الحجي) غير (عبد الرحمن بن صالح الحجي).. فهذا سعودي، وصاحبنا عراقي.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٦/٦


طفلٌ يبول في المسجد!

 طفلٌ يبول في المسجد!


صليت في أحد المساجد، إحدى صلاتي الليل، وصلى بجانبي طفل في الساسة من عمره تقريباً.

وبينا نحن في الركعة الثانية؛ إذا بي أحس الطفل يتأرنح ويتأرجح، ويشبّك بين يديه، ويفرج بين رجليه!

فتجاهلته، وقلت: حركة أطفال معتادة.


فلما ركعت، رأيت نداوة في مكان الطفل، وبلالاً في سرواله!

ففطنت أن الدعموص -رعاه الله-، كان حاقناً؛ فلم يسطع حبسه؛ فبال! (وحبْسُ البول؛ مضر، وفي حديث الأعرابي، ملمح ذلك). 


أجلست الطفل؛ لئلا تنتشر رائحة البول، وحتى لا ينتبه له من خلفه.. فيصجون ويضجون ويعجون! (وهذا حال كثير من العوام الهوام). 


جلس الطفل المسكين، وظَلت أفكر بحيلة (ومن الحيل، ما هي شرعية، وفيها تواليف)، أُخرج بها الطفل من ورطته (نعوذ بالله من الورطات والوقطات) حتى دعوت الله في سجودي، أن يلهمني فعل الأفلح والأصلح، والأقصد والأرشد. 


وهنا، أنشد ما أنشده شوقي:

ويح له، ويح لهـ *** ـذا الولد المعذّبِ!


ألم تكن تصنع ما *** يصنع؛ إذ أنت صبي؟!


لما حلّلني التسليم، وكان الطفل عن يساري؛ إذ بي أرى الصبي، يصوّب بصره نحوي، وهو ملآن خجلاً وجللا! وعيناه تقولان لي: أرجوك، أنقذني!


وكأنه يلقنني هاتين البيتين:

بريء، وأفعل ما أشتهي *** ملاك، وأجهل معنى الذنوبِ


إلى الآن ما سجّل الكاتبانِ *** عليّ خُطى مخطئ أو مُصيبِ!


أطرقت بصري قدامي، وقلت أورادي وأذكاري.. محاولاً سكون الطفل وسكوته!

والطفل مسمّر في مكانه، ومستمر في مصلاه!


سلمت عليه، وابتسمت إليه، فقال لي: والله آسف، ما قدرت أمسك بولي!

مسحت على رأسه، وهدأت روعه، وخففت فزعه.

ولما خفّ المسجد من الناس؛ قلت للطفل: اُخرج من المسجد، دون أن يشعر بك أحد.


ثم ناديت يافعاً في العاشرة تقريباً، وقلت له: انظر، هاهنا بول .. خذ هذه الفلوس، واشتر بها صابون وفرشة، تنظف بها المكان، والباقي لك!


سكتَ هنيهة، ثم قال: لا، سآخذ قيمة الأشياء، وأرجع لك الباقي!

قلت له: هي لك مكافأة.


قال لي: طيب، ولكن أخاف أحداً يخاصمني!

قلت: لا عليك، سأكلم المؤذن، كلمت مؤذن المسجد، بما صار، وبما سيصير؟ فشكر الصنيع والمصير.


وتمّت الحيلة، بسلام، وانتهت القصة بلا كُلام، وفرحت وبهجت، أن وقيت الطفل شر الإهانات، وضر الإدانات، "والحمد لله رب العالمين".


وكأني به، بعد تمام الحيلة.. يقول:

يا منقذي من وحول العار يا بطلاً *** حاز الرجولة جدراً، وهو بعدُ حبي


ويا مقيل عثار الطفل في زمن *** صار العناف به ضرباً من اللزبِ


قلت: هذا فعل صغير، لكن عائده كبير، وكلنا يستطيعه ويطيقه.


وهذه ثلاث مزايا منه وفيه:

-عمل بسنة، من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، في تعامله مع الأعرابي.

-حوفظ على كرامة الطفل، التي إذا خدشت ربما سببت له عقدة نفسية مستمرة.

-سعي في تنظيف بيت من بيوت الله تعالى.


ذكرت هذا الموقف؛ ليقتدي به من رأى مثله، وليكون لصاحبه أجر الدلالة والتسبيب، و"الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب".


وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤١/٥/٢٢ ح ي

الأحد، 17 يناير 2021

عزة النفس.. مركب السمو! (جزء في عزة النفس)

 عِزّة النفس.. مركب السمو! (جزء في عزة النفس)


الحمد لله معز المطيع، ومذل العاصي والمضِيع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ذي العز المنيع، والقدر الرفيع، وعلى آله وصحبه والجميع.

وبعد:


قال الله تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون". 

وقال تعالى: "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا". 

وقال تعالى: "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا". 

وقال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيِّبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً".

وقد تكرر وصف الله تعالى، وصف ذاته المقدسة، بـ "العزيز" في القرآن، ما يقرب من تسعين مرة.


وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: جاء جبريل عليه السلام، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد، عش ما شئت، فإنك ميت، وأحبب مَن شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).

رواه الحاكم، وهو صحيح. 

 

وعن تميم الداري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ليبلغَن هذا الأمر، مبلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدَرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله هذا الدِّين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، يعز بعز الله في الإسلام، ويذل به في الكفر).

وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: (قد عرفتُ ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب مَن أسلم منهم: الخير والشرف والعز، ولقد أصاب مَن كان كافراً: الذل والصَّغار والجزية)! 

رواه الحاكم، وهو صحيح أيضا.

 

إن حديثي عن عزة المؤمن من السفاهات، وترفعه عن السفالات.. 

إن العزة.. ارتباط بالله تعالى، وارتفاع بالنفس عن موضع المهانة، وتحرر من رِقِّ الأهواء، وخروج من ذل الطمع، وعدم السير إلا وفق ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم


وغايتها: الترفع عن الدنايا، والتزمع عن البلايا، والفخر بالنفس بلا تكبر، والسمو بالروح بلا تجبر.. وهي نابعة من الخيرية التي ينتج عنها الخير للبشر من مناصرة للفضيلة، ومقارعة للرذيلة، واحترام للمثل العليا.


والعزة في اللغة: تدور حول معاني: الغلبة، والقهر، والشدة، والقوة، ونفاسة الشيء، وعلو قدره.

وفي الاصطلاح: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وهي إحساس يملأ القلب والنفس بالإباء والشموخ والاستعلاء والارتفاع.


ومواقف العلماء، كثيرة في عزة النفس، ورفعها عن أماكن الذل والضعة..

منها: ما جاء عن ميمون بن مهران، قال: قدم عبد الملك بن مروان المدينة، فامتنعتْ منه القائلة، واستيقظ، فقال لحاجبه: انظر هل في المسجد أحد من حداثنا؟ فخرج، فإذا سعيد بن المسيَّب في حلقته، فقام حيث ينظر إليه، ثم غمزه، وأشار إليه بإصبعه، ثم ولّى، فلم يتحرك سعيد، فقال: لا أراه فطن، فجاء ودنا منه، ثم غمزه، وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ قال: أجِبْ أمير المؤمنين، فقال: إليَّ أرسلك؟ قال: لا، ولكن قال: انظر بعض حداثنا، فلم أرَ أحداً أهيأ منك، قال: اذهب، فأعلِمْه أني لست من حداثه! فخرج الحاجب، وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلا مجنوناً، وذهب، فأخبر عبدالملك، فقال: ذاك سعيد بن المسيَّب، فدَعْه!

(الطبقات الكبرى: ٥/ ١٣٠)


وموقف الإمام البخاري مع أمير بخارى:

روى غنجار -محدث بخارى- في تاريخه، عن ابن منير: أن سلطان بخارى، بعث إلى محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: احمل إلي كتاب "الجامع" و"التاريخ"؛ لأسمعَ منك، فقال البخاري لرسوله: قل له: أنا لا أُذِلُّ العلم، ولا آتي أبواب السلاطين، فإن كانت لك حاجة إلى شيء منه، فلتحضُرْني في مسجدي، أو في داري!

(تاريخ بغداد: ٢/ ٣٣)


ومواقف النواوي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم من أهل العلم والعمل.. لا تكاد تمر في سيرهم، إلا وتلمح موقفاً في عزة النفس والسمو مع الملوك والسلاطين والتجار ومن والاهم.


وهذه بعض أقوالهم في ذلك:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلا".


وقال أيضاً: "كنا أذلَّ قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به.. أذلَّنا الله".


وقال أيضاً: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".

(مستدرك الحاكم: ١/ ٢٣٦)


وقال الحسن: "إنهم وإن هملجت بهم البراذين، ووطئت أعقابهم الرجال، إنّ ذل المعاصي لا يفارق رقابهم، يأبى الله إلا أن يُذِلَّ مَن عصاه".

(البداية والنهاية: ٩/ ٢٧٣)


وقيل للحسن بن علي رضي الله عنهما: "فيك عظَمة، قال: لا، بل فيَّ عزَّة الله تعالى؛ قال الله تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين". 

(الشكوى والعتاب: ٢٣٩) للثعالبي.


وقال ابن أبي لبابة: "من طلب عزاً بباطل، أورثه الله ذلاً بحق".

(طبقات الأولياء: ١٢٧) لابن الملقن.


وقال إبراهيم بن شيبان: "الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة".

(عيون الأخبار: ١/ ٣٨٠)


وقال أبو بكر الشبلي: "من اعتز بذي العز، فذو العز له عز".

(حلية الأولياء: ١٠/ ٣٧٤) لأبي نعيم الأصفهاني.


وقال الإمام الشافعي: "من لم تعزه التقوى، فلا عز له".

(سير أعلام النبلاء: ١٠/ ٩٧)


وقال المناوي: "فينبغي للعالم.. أن لا يشين علمه وتعليمه بالطمع، ولو ممن يعلّمه، بنحو مال أو خدمة، وإن قلَّ، ولو على صورة الهدية- التي لولا اشتغاله عليه لم يهدها، وقد حث الأئمة على أن لا يدنس العلم بالأطماع، ولا يذل بالذهاب إلى غير أهله، من أبناء الدنيا بلا ضرورة، ولا إلى من يتعلمه منه، وإن عظم شأنه، وكبر قدره وسلطانه، والحكايات عن مالك وغيره مشهورة؛ فعلى العالم تناول ما يحتاجه من الدنيا، على الوجه المعتدل، من القناعة لا الطمع، وأقل درجاته أن يستقذر التعلق بالدنيا، ولا يبالي بفوتها؛ فإنه أعلم الناس بخستها وسرعة زوالها، وحقارتها وكثرة عنائها وقلة غَنائها".

(فيض القدير: ٤/ ٢٩٠).


وقال ابن باديس: "الجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل، يعسر أو يتعذر.. أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة- عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال".

(تفسير ابن باديس: ٣٩٢)


وقال الوصابي: "وقد أعز الله سبحانه العلم وأهله، وشرف حامله، وأبان فضله.. فليس يوجد في الدنيا أشرف منه خلة، ولا أكرم منه نحلة، ولم يزل صاحبه معظماً في كل ملة، وفي زمن الجاهلية والزمان قبله ... فينبغي للعالم أن لا يضع نفسه في موضع هوان، ولا يذلها لأهل الجهل والعدوان".

(نشر طي التعريف: ١٢٢)


قال أبو نعيم: والبعض.. يريد إذلال الأعزاء الشرفاء، بعطاياه وحداياه وهداياه، فإذا ترفعوا عن مواطن ذله، ونأوا عن مواضع حله، واكتسوا جلباب العزة، وتدثروا بكساء الكرامة، وتلفعوا بوشاح القناعة.. عادوهم وآذوهم، وبالسوء نادوهم!


فهذا العلامة الجرجاني، يصور موقفه وِجاه هؤلاء في شعر رصين، يقول:


يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما


أرى الناس من داناهمُ هان عندهم *** ومن أكرمته عزة النفس أكرِما


ولم أقضِ حق العلم إن كان كلما *** بدا طمع صيرته لي سلما


وما زلتُ مُنحازاً بعرضيَ جانباً *** من الذل أعتد الصيانة مغنما


وهي نحو عشرين بيتاً، من عيون شعر العلماء.


وصدق الكندي الحضرمي اليماني.. حين شبه التذلل للعباد بالموت، فقال:

من يَهُن يسهل الهوان عليه *** ما لجرحٍ بميت إِيلامُ


وقال آخر:

إذا أنت لم تَعرف لنفسك حقها *** هواناً بها كانت على الناس أهـونا


فنفسك أكرمها، وإن ضاق مسكن *** عليك بها، فاطلب لنفسك مسكنا


ويقول عماد الدين الأصبهاني:

اقنع، ولا تطمع، فإن الفتى *** كماله في عزة النفسِ


وإنما ينقص بدر الدجى *** لَأخذه الضوء من الشمسِ


ويقول أحيحة بن الجلاح:

وكريم نال الكرامة منا *** ولئيم ذي نخوة قد أهنّا


ثم لم يرجع الكلام إلينا *** لو ترى في الكلام أن قد أذنّا


ويقول محمد مهدي الجواهري:

ومن لم يجد إلا ذعاف مذلة *** وروداً، فموت العز مورده عذبُ


وهل يظمأ اللاوي من الذل جانباً *** وبيض الظبا رقراقها علل سكبُ


إذا رمت دفع الشك بالعلم فاختبر *** بعينك ماذا تفعل الأسد الغلبُ


أما والهضاب الراسيات ولم أقل *** عظيماً، فكل دون موقفه الهضبُ


لئن أسلمتهم عزة النفس للردى *** فما عودتهم أن يلم بهم عتبُ



يقول الراغب الأصفهاني: "العزة: منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه، وإنزالها فوق منزلتها". 

(الذريعة: ٢١٥). 


أيها الأعزاء: إن الإنسان، خليفة الله في أرضه، قال الله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة" وقد أوكل الله تعالى إليه، إدارة شؤون الحياة، وعمارة الأرض، والتصرف بقوى الطبيعة بما يخدم وجوده، وسعادته، وتمتعه بالنعم والطيبات، ولم يأذن الله له أن يذل نفسه لعبيد مثله "لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً" "ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً" بل حرم الشرع إذلال النفس، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه). رواه أحمد، وصححه الألباني، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.


لا تسألنّ إلى صديق حاجة *** فيحول عنك كما الزمان يحولُ


واستغن بالشيء القليل فإنه *** ما صان عرضك لا يقال: قليلُ


من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه *** وأخو الحوائج وجهه مملولُ


وأخوك من وفّرت ما في كفّه *** ومتى علقت به فأنت ثقيلُ


مركب السمو، هو: عزّة النفس، وبُعدها عن خساستها، والنأي بها عن دساستها، ورفعها عن الوضاعة، وتجنبها الدناءة.


يا إنسان:

أنت خليفة الله في أرضه .. أنت خلْق الله العزيز الحميد .. أنت كريم على الكريم الوهاب..

فلمَ التذلل لغيره، ولمَ قصد أبواب خلقه، ولم الخوف والرهب ممن دونه سبحانه وجل؟! 


وأستفّ ترب الأرض كي لا يرى به *** علي من الطول امرؤ متطول


قال سعيد بن صدقة أبو مهلهل: قال لي سفيان الثوري: "عليك بالاستغناء عن جميع الناس، وارغب إلى الله عز وجل في حوائجك، وافزع إليه فيما ينوبك، وليكن همك مرمة جهازك".

(كتاب إصلاح المال: ١٣١) لابن أبي الدنيا.


وقال إسماعيل بن يسار النسائي:

إني لصعب على الأقوام لو جعلوا *** رضوى لأنفي خشاشاً لم يقودوني


نفسي هي النفس آبى أن أواتيها *** على الهوان وتأبى أن تواتيني


وقال عبد الرحمن بن حسان:

وإني لأمسي، ثم أصبح طاوياً *** وأكرم نفسي عن دقاق المطاعمِ


ولما اضطر أبو العلاء المعري.. أن يخرج إلى أسد الدولة صالح وهو بظاهر المعرة؛ ليطلب منه إطلاق جماعة من الأسرى عنده- قبِل صالح شفاعته وأطلقهم، ولكنه جزع بعد ذلك لهذه الضراعة جزعاً، ظهر في قوله:

تغيّبت في منزلي برهة *** ستير العيون، فقيد الحسدْ


فلما مضى العمر إلا الأقل *** وحم لروحي فراق الجسدْ


بعثت شفيعاً إلى صالح *** وذاك من القوم رأي فسدْ


فيسمع مني سجع الحمام *** وأسمع منه زئير الأسدْ


فلا يعجبني هذا النفاق *** فكم نفقت محنة ما كسدْ



أيها الأعزاء: إن عزة النفس، نعيمٌ معجّل، وراحة مهداة، واطمئنان مبذول.

ولا يكون إلا لمن ألجم نفسه، وكبح جماحها، وعرّج بها عن الدناءات، وخطمها بزمام القناعة، وأيقن بالكفاية من ربه ومولاه، وخبر الناس وسبرهم.


‏يقول محمود البارودي:

خُلقت عيوفاً لا أرى لابن حرةٍ *** علي يداً أغضي لها حين يغضبُ


‏‏وانظر إلى تطبيق هذا الخلق؛ واقعاً حيّاً، من حياة بلديي العلامة الحيي الحمي الرباني عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، تـ١٣٨٦؛ إذ يقول في إحدى مراسلاته لأخيه أحمد (... أنا مشتغل في تأليف رسالة مهمة، وأحبُّ أن أطبعها على نفقتي .. ولا تطاوعني نفسي أن أطلب المساعدة من أحد".

(المدخل لآثاره: ١/ ٢٢٢).

 

قال دعبل:

إذا ما أهان امرؤ نفسه *** فلا أكرم الله من يكرمهْ


وأول هذا المعنى لحاتم في قوله:

ونفسك أكرمها، فإنك إن تهُنْ *** عليك، فلن تلقى لها الدهر، مُكرِما!


وقال زهير:

ومن يغترب يَحسِب عدواً صديقَه *** ومن لا يكرّم نفسه لا يكرم


إن مآل من كان حاله العتر والعرَض والسؤال؛ الذم والهضم والإقلال!

قال زهير:

ومن لا يزل يسترحلُ الناسَ نفسه *** ولا يُعْفِها يوماً من الذل يندمِ


وفي رواية:

ومن لا يزل يسترحل الناس نفسه *** ولا يُعْفِها يوماً من الناس يُسْأم!


فسره ابن السكيت على الرواية الأولى: أنه يذل لهم حتى يركبوه بالأذى ويستذلوه.

وعلى الرواية الثانية: أنه يسألهم أن يحملوا عنه كله وثُقلَه ومؤونته.


ومَن وصل إلى منزلة الاستغناء عن ما عند الناس، حينئذ؛ يُخلِّيهم وحياتهم، ويتركهم وشياتهم، وينأى بشرفه عن أهل الدنية، الذين رضوا بالدون، وعشقوا المهانة، وعاشوا في الحضيض، وعملوا لدنياهم فحسب!


‏قال ابن أبي الدنيا:

اقطع الدنيا بما انقطعت *** وادفع الدنيا بما اندفعتْ


واقبل الدنيا إذا سلست *** واترك الدنيا إذا امتنعتْ


تطلب النفس الغنى عبثاً *** والغنى في النفس إن قنعتْ


قال ابن الجوزي: ‏"فالمستحب للفقير؛ كتمان الفقر، وإظهار التجمل، فقد كان في السلف من يحمل مفتاحاً؛ يوهم أن له داراً، وما يبيت إلا في المساجد".

(تلبيس إبليس: ٣٥١)


‏ﻭﺇﺫا ﻧﺒﺎ ﺑﻚ ﻣﻨﺰﻝٌ *** ﺃﻭ ﻣﺴﻜﻦ ﻓﺘﺤﻮّﻝ


وﺇﺫا اﻓﺘﻘﺮﺕ ﻓﻼ ﺗﻜﻦ *** ﻣﺘﺨﺸﻌﺎً ﻭﺗﺠﻤّﻞ


إن أهل الدنيا: قصيرو النظر، وعديمو التفكير، يفرحون بحياتهم الفانية عن الدار الباقية!


قال شيخ الإسلام: "كلما قوي طمع العبد في فضل الله، ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته.. قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق.. يوجب عبوديته له، فيأسه منه.. يوجب غنى قلبه عنه، وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه.. خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك". 

(العبودية: ٩٤) وما بعدها. 


وقال الشنفرى:

لا تسقني في الذل كأس حلاوة *** بل فاسقني في العز كأس الحنظلِ


إن أبناء الدنيا: عادوا ووالوا من أجلها، يبيتون على حبها، ويصبحون على جلبها، ليس لهم شاغل إلا هي، حتى أتتهم الدواهي، فكانوا كما أرادوا لأنفسهم: الضعة والخسة والدون والذل والصغار والحقار والتطامن والتغانن والتغابن.


‏يقول أيوب السختياني: "لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم".

(الترغيب والترهيب: ٣/ ٢٢٨) لقوام السنة الأصبهاني.


وكان عمر رضي الله عنه، يقول في خطبته على المنبر: "تعلموا، إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء؛ استغنى عنه".

(تاريخ المدينة: ٢/ ٧٦٧) لابن شبة.


وإن اليأس مما في أيدي الناس.. شرط لتحقيق الخلوص من الشرك، وتحقيق الإخلاص؛ لأنه لا يجتمع تعلقان: تعلق بما في أيدي المخلوقين، وتعلق بما في يدي الخالق، فلا بد من طغيان أحدهما، فاختر أحدهما، وأحسن اختيارك!


قال ابن القيم: "لا يجتمع الإخلاص في القلب، ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً، فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح.. سهل عليك الإخلاص".

(الفوائد: ١/ ١٤٩).


وقال علي بن أبي طالب: "استغن عمن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأفضل على من شئت فأنت أميره". 


أخذ هذا المعنى الأول الشاعر، فقال -من الخفيف-:

وإذا ما الرجاء أسقط بين النا *** س، فالناس كلهم أكفاء

(التذكرة الحمدونية: ١/ ٢٤٤) 



قال عزيز:

ولست أروم القوت، إلا لأنه *** يعين على علم أردّ به جهلا


فما هذه الدنيا بطيب نعيمها *** لأيسر ما في العلم من نكتة عدلا


وقال آخر:

وللرزق أسباب تروح وتغتدي *** وإني منها بين غاد ورائحِ


قنعت بثوب العدم من حلة الغنى *** ومن بارد عذب زلال بمالحِ


وقال آخر:

كن بما أوتيته مقتنعا *** تقتفي عيش القنوع المكتفي


كسراج دهنه قوت له *** فإذا غرقته فيه طفي


قيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك!

(الأمثال والحكم: ١١٠)


وقيل لبعض الحكماء: ما مالك؟ فقال: التجمل في الظاهر، والقصد في الباطن، واليأس مما في أيدي الناس.


و‏قيل لأبي حازم ما مالُك؟ قال: مالان: الثقة بالله؛ واليأس مما فِي أيدي الناس!


ونظم بعض الأدباء هذا المعنى، فقال:

للناس مال، ولي مالان، مالهما *** إذا تحارس أهل المال حرّاسُ

مالي: الرضا بالذي أصبحت أطلبه *** ومالي: اليأس مما يملك الناسُ

(العقد الفريد: ٣/ ١٥٦)


اضرع إلى الله، لا تضرع إلى الناس *** واقنع بيأس فإن العز في الياسِ


واستغنِ عن كل ذي قربى وذي رحم *** إن الغني من استغنى عن الناسِ


وقيل في هذا المعنى أيضاً:

يا جائعاً قانعاً والدهر يرمقه *** مقدراً أي باب منه يغلقه


مفكراً كيف تأتيه منيته *** أغادياً أم بها يسري فتطرقه


جمعت مالاً، فقل لي: هل جمعت له *** يا جامع المال أياماً تفرقه؟!


المال عندك مخزون لوارثه *** ما المال مالك إلا يوم تنفقه


أرفه ببال فتى يغدو على ثقة *** أن الذي قسم الأرزاق يرزقه


فالعرض منه مصون ما يدنسه *** والوجه منه جديد ليس يخلقه


إن القناعة من يحلل بساحتها *** لم يلق في ظلها هما يؤرقه


ينظر: (القناعة: ٤٧) لابن السني. و(الإحياء: ٤/ ٢١٢).


إن عزة النفس: خلق كريم، وموطن رفيع، وأدب عزيز، ومنزلة رفيعة، ودرجة منيعة، وخصلة شريفة، وأرض ثابتة، وشعور بالرضا، وإحساس بالسعادة، وانتزاع الخسة، وابتذال الضعة، وطيب الخاطر، وراحة الضمير، واطمئنان القلب، وانشراح الصدر، وعلو الهمة، وعمل بالأسباب، وثقة بالعظيم الوهاب، وطرد للذل، وجلب للمعالي، وبُعد عن السفاسف، وارتفاع عن المهانة، واعتماد على الكبير، والتجاء إلى الكريم، وتجاف عن الناس، وإنزال الحاجة بالعزيز، وتوكل على الوكيل، وتسليم الأمور إلى باريها، والارتفاع عن الدنايا، وصدق يقين بذي الجلال، وحسن ظن بالكبير المتعال.


وامتنع الخليل بن أحمد الفراهيدي، أن يكون مؤدباً لابن سليمان بن علي -والي الأهواز-، ثم أخرج لرسوله خبزاً يابساً، وقال له: ما دمت أجد هذا، فلا حاجة إلى سليمان، ثم أنشد:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست ذا مالِ


شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزلاً، ولا يبقى على حالِ


والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالِ

(الإحياء: ٤/ ٢١٣).


وقد حذرنا علي بن أبي طالب، من الدنيا، فقال: (إن للدنيا أبناء، وإن للآخرة أبناء، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا). 

(جامع الأحاديث: ٢٩/ ٤١٢)


قلت: فلا يلحف في السؤال، ويلهث بعد عطايا الرجال.. إلا من كان من أبناء الدنيا، ولا يقنع بما أوتي، ويكتفي بما أعطي.. إلا أبناء الآخرة، فاختر أيهما أردت؟! 


يقول علي بن الجهم: 

‏وعاقبة الصبر الجميل جميلة *** وأفضل أخلاق الرجال التفضّلُ


ولا عار أن زالت عن الحرّ نعمة *** ولكنّ عاراً أن يزول التجمّلُ


فحري بك أيها الخليفة: أن تشعر بالثقة والاعتزاز، لأنّك متصل بأعلى سلطة، وأعز قوّة، "هو العزيز الحكيم". 


قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الكريم لا يَلين على قَسر، ولا يَقسُو على يُسر".

(البصائر والذخائر: ١/ ٤١)


ويعجبني قول الشاعر:

ومما زادني شرفاً وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الـثريا


دخولي تحت قولك: يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيا


ودخولك تحت أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.. يقتضي منك: التخلق بأخلاق الكتاب والسنة، وفيهما: النهي عن الذل والمهانة، والخضوع والاستكانة إلا للعزيز الحكيم سبحانه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وعظمت صفاته.


قال ابن تيمية: "‏وقد جرّب الناس، أن من لم يكن سائلًا الله.. سأل خَلْقه".

(الرد على الشاذلي: ٤٦)


وبهذا السلوك القويم، يكون الإنسان مقبولاً، بل محبوباً من قبل الآخرين فلا يشعر بالإهانة أو الذل، بل يمتلئ عزّاً وثقة بنفسه؛ وذلك لأنه عمل بجده وكدّه، ومنتهى وكده، ولم ينتظر عطاء من أحد، وهذا ما يريده الناس من الناس.


يقول اﻷصمعي: مررت بكناس ينشد:

وأكرم نفسي إنني إنْ أهنتها *** وحقك لم تكرم على أحد بعدي!

فقلت: عن أي شيء أكرمتها، والجرة على رقبتك؟ فقال: عن الوقوف على باب أمثالك!

ثم ولى وهو يقول:

لَنقل الصخر من قلل الجبال *** أحب إلي من منن الرجالِ


يقول الناس: كسب فيه عار *** فقلت: العار في ذل السؤالِ

(تعليق من أمالي ابن دريد: ١٩٥)



وقال أبو فراس:

ونحن أناس لا توسط بيننا *** لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ


تهون علينا في المعالي نفوسنا *** ومن خطب الحسناء لم يغلها المهرُ


أعزُّ بني الدنيا، وأعلي ذوي العُلا *** وأكرم من فوق التراب ولا فخرُ


وقال الإِمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق:

لا ترج غير اللَّه سبحانه *** واقطع عرى الآمال من خلقهِ


لا تطلبن الفضل من غيرهِ *** واضنن بماء الوجه واسْتَبْقِهِ


فالرزق مقسوم وما لامرئ *** سوى الذي قدر من رزقهِ


والفقر خير للفتى من غنىً *** يكُون طول الدهر فِي رِقّه


إن عزيز النفس.. قد سما بنفسه، وعزّ بفكره، وبزّ أقرانه، وبدّ شهواته، وأجاع نفسه، وامتهن الحياة؛ فعاش عيشة الملوك، وتربع على عرش الرضا، وتمكن من القيادة، ونال السيادة، واقتعد صهوة السعادة، وافترع معاقد الراحة.


وقال آخر:

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ


إن عزة النفس: أن تزهد فيما عند الناس، وهو تعليم المصطفى عليه الصلاة والسلام: (وازهد فيما عند الناس؛ يحبك الناس).


وقال المتنبي:

عش عزيزاً، أو متْ وأنت كريم *** بين طعن القنا، وخفق البنودِ


إنه علاج نافع، ودواء ناجع، وترياق مجرب، لمن أراد راحة الضمير، وسعادة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر.


قال قيس بن عاصم المنقري لبنيه -حين حضرته الوفاة-: يا بني، عليكم بالمال واصطناعه، فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس؛ فإنها من آخر كسب الرجل!

(إصلاح المال: ٤٨) لابن أبي الدنيا.


فهلموا إلى بحرنا المحيط، وتعالوا إلى نهرنا العريض، اغتسلوا واشربوا وانهلوا وعلوا، واشبعوا واكرعوا؛ فهو ملك لله المالك الملك المليك، فلا تجد من أحد ازدراء، ولا من ناقص انتقاص، بل إنهم يسلمون لك دفة الحياة، وقيادة الزورق، وسيادة الموقف، ورب الكلمة، وموئل الطاعة.


قال كشاجم:

لا تسأل الناس شيئاً، واغد معتصماً *** بالله، تلق الذي أمّلت من أملِ


فالناس تغضبهم إما سألتهمُ *** والله تغضبه إن أنت لم تسلِ!


فلا تسأل الناس من فضلهم ... ولكن سل الله من فضله ) 


وقال آخر:

لا تسألن من ابن آدم حاجة *** وسلِ الذي أبوابه لا تحجبُ


الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسئل يغضبُ


وقال محمود الوراق:

شاد الملوك قصورهم وتحصنوا *** من كل طالب حاجة أو راغب


فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن *** يا ذا الضراعة طالبا من طالب


قال ابن القيم: "فسؤال المخلوق للمخلوق، سؤال الفقير إلى الفقير، والرب تعالى، كلما سألته، كرمت عليه ورضي عنك وأحبك.

‫والمخلوق كلما سألته، هُنت عليه وأبغضك ومقتك وقلاك، كما قيل:

‫الله يغضب إن تركت سؤاله *** بُنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ

وقبيح بالعبد المريد: أن يتعرض لسؤال العبيد. وهو يجد عند مولاه كل ما يريده".

‫(‫مدارج السالكين: ٢/ ١٣١)



هكذا هم الناس، أيّاً كانوا، ومهما بلغوا، وحيثما حلّوا.. لا يرضون منازعة أحد لما في أيديهم، بل ولا مجرد النظر إلى ما يملكون!


وهذا هو غالب الأغنياء اليوم؛ لذلك اتركهم -يا أخي- ودنياهم، ولا تنظر لمحياهم، فإنهم جماح النفوس، كالخيل الشموس!


‏إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى *** ‏تمايل إعجاباً، وقال: أنا أنا


‏ولكن كريم الأصل كالغصن كلما: *** ‏تحمل أثماراً تواضع وانحنا




قال منصور الهروي:

خلقت أبيّ النفس لا أتبع الهوى *** ولا أستقي إلا من المشرب الأصفى


ولا أحمل الأثقال في طلب الغنى *** ولا أبتغي معروف من سامني خسفا


ولا أتحرَ العز فيما يذلني *** ولا أخطب الأعمال كي لا أرى صرفا


ولست على طبع الذباب متى يُذدْ *** عن الشيء يسقط فيه وهو يرى الحتفا


واقرؤوا خبر هذا التاجر الرحيم، الذي لم يرد ذلة الفقراء:

يقول: كل ما جاءني طفل فقير، يبيع شيئاً بسيطاً؛ أتذكر تغريدة لابن أحد الأغنياء، يقول فيها:

بعد الصلاة.. كان أبي يشتري من بضائع البسطاء بأغلى الأثمان، رغم أنه لا يحتاجها، ويزايد عليها!

فكنت أسخط من هذا التصرف، وعبّرت له عن انزعاجي .. إلى أن قال لي أبي: "هي صدقة مغلفة بالعزّة" يا ولدي!


قلت: ما أعظمها من كلمة، وما أشرفها من قولة، خرجت من رجل علم حقيقة الحياة، وأدرك تقلبها.. فعمل فيها حسناً، وتعامل بالحسن، وسيجزى بالأحسن من المحسن سبحانه وتعالى.


ويروى عن الشافعي:

رأيت القناعة رأس الغنى *** فصرت بأذيالها ممتسكْ


فلا ذا يراني على بابهِ *** ولا ذا يراني به منهمكْ


فصرت غنياً بلا درهمٍ *** أمرّ على الناس شبه الملكْ


وإن الإسلام.. قد اهتمّ كثيراً بموضوع العزّة، بل جاء النهي الصريح عن إذلال النفس وامتهانها، وذلك كلّه مصداق قوله تعالى: "ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين" وقوله تعالى: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" وقوله تعالى -عن المؤمنين- "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين".


ولا بد في حياة الإنسان -أياً كان: ملكاً أو مملوكاً- من فقرٍ وعسر؛ ولكن المؤمن، يلجأ إلى ربه في السراء والضراء، وفي الضراء أكثر، وعبادة السراء تنفع صاحبها في الضراء (تعرّف إلى الله في الرخاء؛ يعرفك في الشدة) ولا نتشبه بالمشركين، الذين لا يعرفون الله إلا في الكرب والمحن، "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون".


وكم من الناس.. مَن يلجأ عند ضعفه إلى قوي ليتقوّى به، وكم من الناس مَن يركن إلى غني ليشعر بالغنى.. ولكن لو تدبّر الناس وفكروا؛ لوجدوا: "أن القوة لله جميعاً" و"إنّ الله هو الغني الحميد"، وأدركوا أنّ (العزيز بغير الله؛ ذليل)؛ لأن غير الله محدود مجذوذ مكدود معدود مسدود مهدود مردود. 


فكلّما واجه الإنسان ضعفاً أو عسراً.. التجأ إلى ربّه فكان له مدداً وعوناً، ليزداد قوة وعزماً.


والطريق إلى الاعتصام بالله تعالى.. هو طاعته، ففيها كرامته وسلامته، ومصلحته ومنفعته، والله تعالى يعز عباده، ويفيض عليهم من نعمه، ويزيدهم من شكره. "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا".


يقول ابن كثير: "من كان يحب أن يكون عزيزاً، في الدنيا والآخرة؛ فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها، كما قال تعالى: "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا"، وقال تعالى: "ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا"، وقال تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون"".

(تفسير القرآن العظيم: ٦/ ٥٣٦)


هذه قصاصة من كتاب، وجزء من مجلدات، ولم أردها إلا تذكرة لنفسي، ولمن شاء من بني جنسي، وقد كتبت هذا الجزء؛ لمناسبته هاته الأيام العجاف، وعسى أن يكون في إبدائه؛ تخفيف وطأة أليمة، أو نسيان ماض بئيس.

ولا يعدم قارئها من عظة وعبرة، وما أكثر عبر الدهر وعظاته وزواجره.


"اللهم صُنْ وجوهنا باليَسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذَمّ من منع، وأنت مِن دونهم وليّ الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء، ياذا الجلال والإكرام"

"اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك، أمرت فأطعنا، وابتليت فرضينا، فأمطرنا غيث إحسانك، وأذقنا برد رحمتك، وألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين".

"اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، وألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك"

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/٦/١٦ ر ح ي

١٤٣٩/٤/١٧ م م

١٤٤١/٥/١٥ ح ي


الخميس، 14 يناير 2021

رسالة عالِم.. تبضّ المدامع!

 

رسالة عالِم.. تبضّ المدامع!


بينا أنا أصفح سفراً من الأسفار؛ إذ استوقفتني رسالة عالِم فذ، وعلامة فرد.. قفّ لها شعري، ووجم لساني، واقشعر جسدي، وذلك؛ لِما وصلت إليه حال علماء الإسلام، من ضَياع عن الضِياع، بله من فقد ما يسد الرمق، ويقيم الأود!

فيا غربة الدين، وغربة علمائه!


إن هذا القرم السميدع، السرسور الجسور، هو: محمد بن عبد الله ابن مالك الجياني الطائي، تـ٦٧٢، الذي أسدل الظلام على كثير من مراتع صباه، وغطى النسيان والإهمال على وفير من مفاصل حياته.. فلم يعلم إلا النزر، عن ولادته وطفولته ونشأته وإخوته وقريته، ونتفاً، حين أوشكت شمسه الغروب، وحان نجمه على الأفول!

فلا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


عالم، بقدر ابن مالك، الذي كان: آية في الحديث، وآية في اللغة، وآية في النحو، وآية في القراءات، وآية في علوم كثيرة.. فحْل كهذا، لم يجد ما يأكله، ولم يلاقي ما ينعله!

إن هذا لهو الضياع بلحمه وشحمه، وعجره وبجره!


رحمك الله، يا أبا عبد الله، أمَا والعظيم، لو أدركتك؛ لبذلت جهدي، وفرغت وكدي؛ لرفع الخصاصة عنك، ودفع الفاقة منك، ولو أعمل بيدي، أو على رجلي!

نعم، أقول هذا الآن، -والعلم عند العليم- هل توافق الفعال الأقوال؟!


لا تعرف الناس أعلاهم وأسفلهم *** وإن ظننت بهم خيراً وإن ظَرُفُوا


حتّى تُكلفَهم عند امتحانهمُ *** في الجاه والمال حاجاتٌ فينكشِفُوا


هل يكفي أبا عبد الله.. أن أسلت مؤقي، وأسبلت مدمعي.. حزناً عليك وشجناً؟!

لا أظن، ولكن: نرجوا لك عوض الجنة، وما فيها من الحور والحبور والخيور "إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً".


أطلت، حتى -لعلّي- أمللت، وخرجت عن المحز والقصد، والكبد والمفصل.. ولا والله، ما هذه الكمدات والكبدات، أردت، ولا إليها، قصدت، ولكن: البنان يسطر سفوح الأجفان!



قال السيوطي: "نقلت من خط شيخنا الإمام تقي الدين الشمني؛ قال: نقلت من خط الشيخ كمال الدين الدميري، نقل من خط الشيخ جمال الدين بن هشام، قال: من غريب ما رأيت على كراريس من "تسهيل الفوائد" بخط الشيخ جمال الدين ابن مالك، في أواخرها صورة، رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك: يقبل الأرض، وينهي إلى السلطان -أيد الله جنوده، وأيد سعوده- أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الآداب، وأمله أن يعينه نفوذاً من سيد السلاطين، ومبيد الشياطين -خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه- على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين، وإفادة المسترشدين؛ بصدقة تكفيه همّ عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله.. فقد كان في الدولة الناصرية عناية تتيسر بها الكفاية، مع أن الدولة، من الدولة الظاهرية كجدول من البحر المحيط، والخلاصة من الوسيط والبسيط؛ وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية خصوصاً وعموماً، وكشف بها عن الناس أجمعين عموماً؛ ولمّ بها من شعث الدين ما لم يكن ملموماً، فمن العجائب، كون المملوك من مزيد خيراتها، وعن يمين عنايتها.. غائباً محروماً؛ مع أنه من ألزم المخلصين الدعاء بدوامها، وأقوم الموالين بمراعاة زمانها -لا برحت أنوارها زاهرة، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة، وأياديها مبذولة موفورة، وأعاديها مخذولة مقهورة، بمحمد وآله(١)-".

(حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة: ٢/ ٩٦)



ناشدتكم الله، أأبكتكم، هذه التوسلات .. أأنكتكم، هاته التبسلات؟!

اللهم إنها آذتني وأشجتني وأدوتني وأخوتني وأحوتني، ولكن:


كذا دارنا فيها بكاء وبسمةٌ *** وأيامُ أفراحٍ وأيامُ أحزانِ


وما لم نَشأْ مما مضى في صحيفةٍ *** فلا بد أن يجري على كل إِنسانِ


فشكر على الحسنى، وصبر على الأذى *** كذا تذهب الدنيا، ونمضي بإيمانِ


وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.



وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

براء جمادى الأولى ١٤٤٢.



ح...............

لعله يريد بهذا.. التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وطاعته، ومحبته، ومحبة آله المؤمنين.

وإن أراد به.. مجرد الذات؛ "فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء، وقالوا: إنه لا يجوز، ورخص فيه بعضهم، والأول أرجح، وهو سؤال بسبب لا يقتضى حصول المطلوب".

بتصرف، من (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ٢٩٨)

صديقي.. يتمنى الموت!

 

صديقي.. يتمنى الموت!


التقيت مساء اليوم، شاباً فقيراً، بلغ من فقره، أن بدت فقاره، -ومن هنا، جاءت تسمية الفقير-!


نقُه اليوم من مرضه، فلما قابلني، نظر في وجهي، قائلاً: يا وليد: الحياة.. هم وغم .. أتمنى الموت، فهو خير من الحياة!


كنت متكئاً، أقرأ في مكتبة عامة، كتاب درس، بجوار نافذة، تهب هواء عليلاً، لكنه مشوب، فلم يرو غليلا!


لما سمعت قوله المُصم المُغم.. (أتمنى الموت).. جلست، وأمعنت فيه النظر وأنعمته، قائلاً: لمَ .. لماذا .. ما لك .. ما بك؟!


عزيزي: إن الدنيا، ليست دار مكافأة، وإنما دار عمل ومدافعة.


أخي: إن الحياة، ليست بالمال، ولا بالجمال .. الحياة ليست مادية جسمانية، وإنما هي روحانية إيمانية.


حبيبي: إن تمني الموت، ليس المناص، للخلاص!


ألم تسمع إلى خبر العالم المحدث: أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي البصري، -رحمه الله- الذي تقطعت أطرافه، وتمعطت أوصاله، ولم تبق جارحة فيه إلا أصيبت!


قال الذهبي: "وقد أخبرني عبد المؤمن -شيخنا-: أن أبا قلابة، ممن ابتُلى في بدنه ودِينه، أريد على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات بعريش مصر سنة أربع -أي: أربع ومائة-، وقد ذهبت يداه، ورجلاه، وبصره، وهو مع ذلك حامد شاكر".

(سير أعلام النبلاء: ٤/ ٤٧٤)


وينظر، قصته بتوسع، في (كتاب الثقات: ٥/ ٣/ ٣٥٦١)


لماذا تتمنى الموت.. هل أنت مستعد له؟

قال: لا، ولكن: رحمة الله عظيمة، وأنا لست فاجراً، كما تعرف يا وليد؟


قلت له: قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضُر أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)

رواه البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.


والضر: عام شامل، سواء كان ضراً حسياً أو معنوياً، وسواء كان مرضاً أو فقراً، أو غيره، فكلها أضرار وأوضار.


ولسنا -حقيقة- من الصلاح، كما قال القائل:

جزى الله عنا الموتَ خيراً فإنه *** أبَرُّ بنا من كل بَرّ وألطَف


يُعجّل تخليص النفوس من الأذى *** ويُدني إلى الدار التي هي أشرف


وقد كان الشيخ عبد الله بن عمر الحضرمي.. كثيراً ما يتمثل بهما -كما يقول ابن عقيل-.


وكان يقول لأبنائه -وقد بلغت منه الأوجاع مبلغاً عظيماً-: "ما أحب البقاء في الدنيا إلا للصلاة، وخصوصاً صلاة الليل، وللدعوة إلى الله تعالى، ولتعليمكم".

ينظر: (تذكرة الأحياء بذكر بعض مناقب سيدنا عبد الله بن عمر بن يحيى) مخطوط.

وعنه (السيوف البواتر لمن يقدم صلاة الصبح على الفجر الآخر: ٤٨) لوالده الشيخ عبد الله بن عمر الحضرمي، تحقيق صلاح بن عبد اللاه بلفقيه.



يا صديقي، أتظن أنك وحدك من تشكو الفقر والفاقة، والعوز والحاجة؟!


انظر إلى أدبار الصلوات، في مساجدنا، كيف ترى الناس.. هذا حامل ابنه، وذاك ابنته، وذياك والده! أحالهم أفضل منك؟


يا عزيزي: الجل يشكو ويشجو، ويهتم ويغتم، ويحزن ويشجن، وتمر المنغصات والمنقصات، ولكن: نحمد الله على كل حال، ولنا أسوة وقدوة بنبينا عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام، كيف عاشوا، وكيف كانوا؟


يا رفيقي: أتظن أن التجار والموسرين، هم في خلاء وجلاء وحلاء؟!

كلا، والله، إنهم يعيشون، في مرارات وحرارات، وإن كانت حاجتهم مقضية.. إلا أن منغصات الحياة، لا يسلم منها أحد؛ لأنها دار بخس ونقص:

جبلت على كدر، وأنت تريدها *** صفواً من الأقذار والأكدارِ


مرّ أحد الإخوة مع صاحبه، بجوار فلل فارهة، وعمائر مشمخرة.. فقال أحدهما للآخر: آه، لو تدري، كم في هذه القصور، من آهات وعاهات؟!


يا أخي: انظر للطير، كيف يتغنى ويغرد ويشدو، وعمره بعض يوم، ولا يملك قوتاً أو بوتاً أو كوتاً، وبينما هو يغرينا بتغريده؛ إذ جاءه نسر أو صقر أو حِدَأة، فاختطف وانتتف!


أتراه، وقف عن هديله، والماء، توقف عن هديره.. أذلك.. أعزم وأحزم وألزم؟!


ياصديقي:

(كن جميلاً، ترى الوجود جميلا)


كانت مني، هاته الشوارد والسوانح، فما كان منه بعدها.. إلا أن انبلجت أسنانه، بله الأضراس، وأبرقت أساريره، وذهب عنه التقطيب، وشعر بالتطييب، ثم قال: صدقت يا أخي، حقاً، إن الحياة، جميلة، وأنا أحب الحياة، وسأعمل فيها بطاعة الله، وأرضى بقسمة الله، مع بذر أعمال، وبذر أسباب.

حييته، وودعته، داعياً له بالتوفيق والتحقيق، والسلامة والغنامة.



وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/٢/١٩

وراجعتها: نحيرة جمادى الآخرة، لعام ١٤٤٢.

الأربعاء، 13 يناير 2021

حشد الأجندة، ورصد الأرصدة، في نقد فهم حديث: "أهل اليمن أرق أفئدة" نقد فهْمٍ -للشيخ صالح آل الشيخ-.

 حشد الأجندة، ورصد الأرصدة، في نقد فهم حديث: "أهل اليمن أرق أفئدة" نقد فهْمٍ -للشيخ صالح آل الشيخ-.



نمي إلى سمعي، كلمة عجيبة غريبة، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، بالمملكة العربية السعودية، سابقاً- في كتابه (الطريق إلى النبوغ العلمي: ٣٠٥) في فهم حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.


قرأت له هذه العبارة، وهو يردّ على من قال: أن طلب العلم؛ يقسّي القلب.. 

قال -في صدد رده-: "تُسرع البدع والأهواء؛ إلى قلوب فيها لِين، وليس عندها تحصين بالعلم النافع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن، أرق أفئدة، وألين قلوباً).

قال: "وهذا؛ ظاهره المدح لهم، وفيه ما يشير إلى أنه تسرع فيهم الأهواء؛ لأجل رِقّة تلك الأفئدة، فالفؤاد الرقيق، أو العاطفي، أو المتحمس، أو الكثير الوجل والخوف؛ قد يأتيه أهل الأهواء؛ فيجرفونه، وأما العلم؛ فإنه يورث خشية العلماء، وليست خشية العباد الجهلة"!


هذا كلام الشيخ صالح، بعد أن قرأت سابقه ولاحقه، فتعجبت غاية، وتحيرت جداً، وتساءلت: على ماذا بنى الشيخ هذا الرأي الحائف؟

وهل سبقه أحد من أهل العلم إلى هذا الفهم الجائف؟

وأنا أجيب نفسي، ومن شاء من بني جنسي، عن السؤال الثاني؛ لأنه لا علم لي بالسؤال الأول، ولا أتدخل في النيات، وشق القلوب، واكتناه الصدور!


فأقول -مستعيناً بالمُعين-: لقد بحثت في كتب الحديث والمعاجم والمسانيد والمشيخات والأثبات والفوائد والأمالي وغيرها؛ فوجدت كل من ذكر هذا الحديث؛ يذكره في "باب الفضائل"، أو "فضائل أهل اليمن"، أو "المناقب"، أو "مناقب أهل اليمن"، أو "فضل الأشعريين"، أو في "مناقب الأشعريين"، (القبيلة، وليست الفرقة، -كما لا يخفى-) أو "فضل أبي موسى وقومه"، أو في "كتاب الإيمان"، أو في صدد الثناء وتعداد المزايا على العموم.


وقد جاء الحديث بألفاظ متعددة،  كلها تؤدي معنى المدح والثناء، وأن "رِقّة الفؤاد، ولين القلب؛ وصفان ملازمان للإيمان القوي، والدين السوي". 


وهاك بعض الألفاظ:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (الفخر والخيلاء؛ في الفدّادين أهل الوبر، والسكينة؛ في أهل الغنم).


زاد شعيب عن الزهري: (والإيمان يمان، والحكمة يمانية).


وفي رواية: (رأس الكفر؛ نحو المشرق، والفخر والخيلاء؛ في أهل الخيل والإبل، والفدادين؛ أهل الوبر، والسكينة؛ في أهل الغنم).


وفي رواية: (أتاكم أهل اليمن، هم ألين طوعاً، وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق).


وفي رواية: (والفخر والخيلاء؛ في أهل الإبل، والسكينة والوقار؛ في أصحاب الشاة).


وفي رواية: (الإيمان يمان، والفتنة هاهنا؛ حيث يطلع قرن الشيطان).


وفي رواية: (أتاكم أهل اليمن، أضعف قلوباً، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية).


وفي رواية: (جاء أهل اليمن؛ هم أرق أفئدة، وأضعف قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، قبل مطلع الشمس).


وفي رواية: (جاء أهل اليمن؛ هم أرقّ أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية).


وفي رواية: (الإيمان يمان، والكفر قِبَل المشرق، والسكينة في أهل

الغنم، والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر). 

ينظر: (الإفصاح، لابن هبيرة: ٦/ ١٦٨). 


قال أبو نعيم -كان الله له ومعه-: وجاءت -أيضاً- ألفاظ أخرى، منها:

عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطريق مكة؛ إذ قال: (أتاكم أهل اليمن، كأنهم قطع السحاب، هم خير أهل الأرض. فقال رجل من الأنصار: ومنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلمة خفية: إلا أنتم). 

رواه أحمد والبيهقي في الدلائل. وينظر: (الصحيحة: ٣٤٧٣).


وقال الجندي: وذكر ابن أبي الصيف في كتابه "الميمون المتضمن لبعض فضل أهل اليمن": أن القاضي أبا عبد الله الحسين بن علي الصيمري: ذكر في أخبار الإمام أبى حنيفة وفضائله، بسند إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن؛ هم أرق قلوباً، وألين أفئدة، يريد أقوام أن يضعوهم، ويأبى الله إلا أن يرفعهم).

ينظر: (السلوك: ١/ ٦٠)


وقال الشافعي: "أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: (أتاكم أهل اليمن.. هم ألين قلوباً، وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية).

هكذا روي بهذا الإسناد موقوفاً".

(معرفة السنن والآثار، رقم: ٢٢٦)


وقال الشوكاني في رسالة: (القول الحسن في فضائل أهل اليمن): "وأما ما ورد في فضلهم، من السنة:

فما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتاكم أهل اليمن، أرق أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية).


وفي لفظ للبخاري: (أتاكم أهل اليمن، أضعف قلوباً، وأرق أفئدة).


وفي لفظ لمسلم: (جاء أهل اليمن، هم أضعف قلوباً، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية).


وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (الإيمان هاهنا. وأشار بيده إلى اليمن ...). الحديث.


قال: "وهذه الألفاظ الثابتة في الصحيحين وغيرهما؛ قد اشتملت على مناقب عظيمة، وفضائل كريمة.

الأولى، منها: أنه أثبت لهم صلى الله عليه وآله وسلم؛ رقة الأفئدة، ولين القلوب، وهذه منقبة عظيمة؛ لأن هذا الوصف، هو شأن أهل الإيمان؛ ولهذا جعل صلى الله عليه وآله وسلم، القسوة، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر، هكذا في الصحيحين.


وفي لفظ لهما، أنه قال بعد قوله: الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق؛ فرِقّة الفؤاد، ولين القلب؛ وصفان ملازمان للإيمان القوي، والدين السوي".

(الفتح الرباني: ١١/ ٥٧٧١).


هذا ما وجدت من ألفاظ هذا الحديث الشريف. 

وأما جمع الأحاديث في اليمن وأهله؛ فقد جمع جمع وفير، من أهل العلم، أجزاء، في فضائله ومناقبه، وقد كتبت جزءاً، أسميته: (الأربعين في فضل اليمن واليمنيين) -يسره الميسر-.



وهاك نزر، من تفسير العلماء المحققين، والفقهاء المتقنين، في معنى اللين والرقة في الحديث:


قال حمْد الخطابي: "قوله: "هم أرق أفئدة، وألين قلوباً" أي: لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رقّ؛ نفذ القول، وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ؛ بعُد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب ليّناً؛ علِق كل ما يصادفه".

ينظر: (فتح الباري: ٨/ ١٠٠).

قلت: والسياق هنا، للمدح، فتأمل.


وقال القاضي عياض: "وقد يكون الإشارة بـ "لين القلب": إلى خفض الجناح، ولين الجانب، والانقياد والاستسلام، وترك الغلو، وهذه صفة الظاهر، والإشارة بـ "رقة الأفئدة": إلى الشفقة على الخلق، والعطف عليهم، والنصح لهم، وهذه صفة الباطن، وكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقاً: ظاهراً، وباطنا".

(إكمال المعلم بفوائد مسلم: ١/ ٣٠١) 


وقال النووي: "وأما وصفها باللين والرقة والضعف؛ فمعناه: أنها ذات خشية واستكانة، سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة- التي وصف بها قلوب الآخرين". 

(شرح مسلم: ٢/ ٣٤)



وقال البيضاوي: "(الرقة): ضد الغلظ والصفاقة، و(اللين): مقابل القساوة؛ فاستعيرت في أحوال القلب، فإذا نبا عن الحق، وأعرض عن قبوله، ولم يتأثر بالآيات والنذر؛ يوصف بالغلظ، وكأن شغافه صفيق لا ينفذ فيه الحق، وجرمه صلب لا يؤثر فيه الوعظ، وإذا كان بعكس ذلك؛ يوصف بالرقة واللين، وكأن حجابه رقيق، لا يأبى نفوذ الحق، وجوهره لين يتأثر بالنصح.

ويحتمل: أن يكون المراد بالرقة؛ جودة الفهم، وباللين؛ قبول الحق؛

فإن رقة الفؤاد؛ تُعدّ لقبول الأشكال بسهولة، واللين يقتضي عدم الممانعة والانفعال عن المؤثر بيسر، ولعله لذلك؛ أضاف الرقة إلى الفؤاد، واللين إلى القلب؛ فإنه وإن كان الفؤاد والقلب واحداً، لكن الفؤاد فيه معنى التفؤد، وهو التوقد، يقال: فأدت اللحم، أي: شويته، والقلب فيه معنى التقلب، يتقلب حاله حالاً فحالاً؛ بسبب ما يعتريه،

ثم لمّا وصفهم بذلك؛ أتبعه ما هو كالنتيجة والغاية، فإن صفاء القلب، ورقته، ولين جوهره؛ يؤدي به إلى عرفان الحق، والتصديق به، وهو الإيمان والانقياد، لما يوجبه ويقتضيه، والتيقظ والإتقان فيما يذره ويأتيه، وهو الحكمة، فتكون قلوبهم معادن الإيمان، وينابيع الحكمة، وهي قلوب منشؤها اليمن، نسب إليه الإيمان والحكمة تبعاً لانتسابها إليه، تنويهاً بذكرها، وتعظيماً لشأنها". 

ينظر: (تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة: ٣/ ٥٧٨) و (شرح المشكاة للطيبي: ١٢/ ٣٩٥٦).


وقال البغوي: "هذا ثناء على أهل اليمن؛ لإسراعهم إلى الإيمان، وحسن قبولهم إياه".

(شرح السنة: ١٤/ ٢٠١)


وقال ابن تيمية -شارحاً حديث: (إني لأجد نَفَس الرحمن من قبل اليمن)-: "فقوله: (من اليمن)؛ يبين مقصود الحديث؛ فإنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك، ولكن منها جاء الذين يحبهم ويحبونه، الذين قال فيهم: "من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه"، وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية؛ سئل عن هؤلاء؟ فذكر أنهم قوم أبي موسى الأشعري، وجاءت الأحاديث الصحيحة، مثل قوله: (أتاكم أهل اليمن؛ أرق قلوباً، وألين أفئدة؛ الإيمان يمان، والحكمة يمانية) وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار؛ فبهم نفّس الرحمن عن المؤمنين الكربات".

(مجموع الفتاوى: ٦/ ٣٩٨)


وقال الشوكاني: "... فرِقّة الفؤاد، ولين القلب؛ وصفان ملازمان للإيمان القوي، والدين السوي".

(الفتح الرباني: ١١/ ٥٧٧١).


وقال الشيخ ابن جبرين: "يعني: أنهم تدخل الموعظة إلى قلوبهم؛ لرقتهم، ولينهم وليس في قلوبهم شيء من النظرة، ولا من القسوة، ثم زكاهم بقوله: الإيمان يمان، والحكمة يمانية. الإيمان يعني: الأصل أنهم فيهم الإيمان، وفيهم الحكمة التي هي الحكمة".

(موقع الشيخ) 



وأنت -أخي القارئ-؛ تُدرك أن كل من أوردتهم، فسروا الرقة؛ بسرعة دخول الإيمان، وقبول الحق، والرحمة بالخلق على تفاوت العبارات والألفاظ، ولم أجد أحداً بعد السبر والخبر -على قدر وكدي-؛ من فسّر الحديث، بما فسره به الشيخ صالح!

ومن علم تفسيراً، يناقض ما أوردت أو يضاده؛ فليفدني به مشكوراً موفوراً.



قال أبو نَعيم: ومن المعلوم؛ أن الضعف واللين والرقة؛ وردت ممدوحة أكثر من ورودها مذمومة.. 

فماذا يقول الشيخ صالح؛ عن قول الله تعالى: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"؟!


وماذا يقول، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة؛ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبرّه، وأهل النار، كل جواظ عتل مستكبر)؟!

رواه البخاري. 


وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم، بمن يحرم على النار، وبمن تحرم النار عليه.. على كل هيِّن ليِّن قريب سهل)؟!

رواه الترمذي.


وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، و إذا أنيخ على صخرة استناخ)؟!

رواه ابن المبارك في الزهد، والبيهقي، والقضاعي، والعسكري، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً.



قلت: ويحسن التفريق بين صفتين تقاربتا لفظاً، وتفارقتا معنىً؛ وهما: الهين، والهوان.

أما الهين: فهي بمعنى السهولة واللين، زنة ومعنى، وهي صفة مدح.

وأما الهوان: فهي بمعنى الذل والمهان، زنة ومعنى، وهي صفة ذم.


فماذا يقول الشيخ صالح؛ عن هذا الضعف واللين والهين، الذي هو من صفة المؤمنين في الدنيا، وصفتهم في الجنة؟!



ثم، لو تأمل الشيخ؛ أن القصة التي وردت فيها هذا اللفظ: (أرق قلوباً، وألين أفئدة)؛ قد جاءت مشيرة، إلى أبي موسى الأشعري وأصحابه الأشعريين، أو وفود من الصحابة آخرين، حين نزول سورة النصر.


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت "إِذا جاء نصر الله والفتح"؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوباً، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية). 

أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"، وأحمد في "المسند"، من طريق عبد الرزاق أيضاً، وصححه الألباني في (الصحيحة: ٣٣٦٩).


قال ابن جرير، في (جامع البيان: ٦/ ٢٨٥): "وأَولى الأقوال عندنا بالصواب؛ ما روي به الخبر عن رسول الله؛ أنهم أهل اليمن، قوم أبي موسى الأشعري".


فهل نقول: أن الأهواء؛ تسارعت إليهم، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

ومعلوم أن أبا موسى، من خيار الصحابة، وفضائله جمة، ومزاياه عمة.


وهذا على من يقول: أن الفضائل خاصة بذلك الزمان -وهذا ضعيف- أو على القول الآخر -وهو الراجح-: أن الفضائل، تشمل أهل اليمن في كل زمان -كما أوضحه العلامة ابن الأمير، في"التنوير"-؛ فلا يزال أهل اليمن؛ على خير، وفي خير، وإلى خير، إن شاء الله، - والحمد لله-.


ثم إن سُلّم، للشيخ صالح، بهذا المعنى الغريب؛ فماذا يقول؛ في سائر الأحاديث الواردة في فضائل أهل اليمن، الذي لا ينكرها أو يكابرها منصف مسلّم.



والعجيب؛ أن التاريخ يشهد بوهاء ما قاله الشيخ صالح.. فقد نُقل الإجماع؛ على أن أهل اليمن، أسلموا كلهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا ينافي؛ سرعان ميلهم إلى الفتن، وحنفهم إلى الإحن! 


قال محب الدين الطبري، في كتابه (خلاصة سيرة سيد البشر: ١٦٣) وتبعه المزي في (تهذيب الكمال: ١/ ١٩٩): "فأسلم عامة أهل اليمن: ملوكهم وعامتهم، طوعاً من غير قتال"!


وأزيد هذه المراجع:

ابن القيم، في (زاد المعاد: ١/ ١١٩) وابن حديدة، في (المصباح المضي: ١/ ٢٥٠) وأبو بكر الكلاباذي، في (بحر الفوائد: ٧٣) والصفدي، في (الوافي بالوفيات: ١/ ٨٢) والمناوي، في (التيسير: ١/ ٣٦) وابن الديبع، والألوسي، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم من أهل العلم والتحقيق.


قلت: وقد حصل من بعضهم؛ ارتداد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبقية القبائل، مثل: بني حنيفة وغيرهم، ولكنهم سرعان ما فاؤوا إلى الإسلام: مسلمين مستسلمين.


وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ارتدت كثير من القبائل؛ فثبت أهل اليمن، بل كانوا خير عون للخليفة أبي بكر الصديق، في قتال المرتدين.


قال الشوكاني: "وقد نقل الإخباريون والمفسرون: أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة قبيلة من قبائل العرب، وأهل اليمن: باقون على الإسلام، كلهم متمسكون بشعائره، مقاتلون من خرج عنه".

(الفتح الرباني: ١١/ ٥٧٦٧)


قلت: وأما الجواب، على ما ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية: ٩/ ٤٨٣): "وأما أهل اليمن.. فقد قدمنا: أن الأسود العنسي -لعنه الله- لما نبغ باليمن، أضل خلقاً كثيراً، من ضعفاء العقول والأديان، حتى ارتد كثير منهم أو أكثرهم عن الإسلام".


فالجواب عليه، من ثلاثة جوانب:

الأول: أن ابن كثير، يعني: بعض ارتداد أهل اليمن، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أتباع الأسود العنسي، وهم يمثلون قلة قليلة، في: الأتباع والزمن والمكان، بينما الشوكاني يعني: ارتداد العرب، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: قد يقصد باليمن، قبيلة أو قبائل معينة، لا سيما لمن لا يعرفون جغرافية اليمن، وهذا معلوم حتى في زمننا، فقد يطلق أهل مصر -مثلاً- مصر، على القاهرة، وهكذا بقية الأماكن.

الثالث: أن بعض أهل العلم، يفرّقون في ارتداد العرب، في زمن الصديق، بين ارتداد عن إسلام، ونكول عن أداء الزكاة، فأطلق على الجميع "مرتدون" تغليباً، لا أنهم في الحكم سواء.

وقلت هذا؛ لأن الله تعالى، يقول: "يأيها الذين من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه"، وقد رجح الطبري، أنهم أهل اليمن، وعدوا هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد حصل ارتداد بعض العرب، وكان أكبر قاض عليهم، هم أهل اليمن.


وقال ابن تيمية: "ولما نزل قوله تعالى: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"؛ سئل عنهم، فقال: هم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى الأشعري، وقال: إني لأجد نفَس الرحمن، من قبِل اليمن. وفي الصحيحين، عنه، أنه قال: (أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوباً، وألين أفئدة؛ الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية).

فلما ارتد من ارتد عن الإسلام؛ أتى الله بهؤلاء- الذين يحبهم ويحبونه، فقاتل الصديق بهم أهل الردة، وغلب بهم أبو بكر وعمر؛ كسرى وقيصر".

(الجواب الصحيح: ٦/ ١٠٩).


بل قال القاضي عياض، في (إكمال المعلم بفوائد مسلم: ١/ ٣٠٢) -عند شرح حديث: الإيمان يمان-: "قيل: معناه: أهل اليمن؛ أكمل الناس إيماناً".


وأختم بكلام لطيف، لشيخنا العلامة عبد الله الجبرين، قال في (شرح مختصر صحيح مسلم): "اليمن: هو ما كان جنوب مكة، أو وراء الطائف كل هذا من اليمن إلى نهاية البلاد اليمنية.

ذكر في هذا الحديث؛ فضيلة أهل اليمن؛ وذلك لأنهم استجابوا للدعوة ولم يقاتلوا، ولما جاءهم الدعاة إلى الإسلام؛ استجابوا، ودخلوا في أول مرة، في أول دعوة دخلوا في الإسلام، وبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة؛ فبعث إليهم معاذ بن جبل؛ فاستجاب له من وصله، ثم بعث أبا موسى؛ وأبو موسى من أهل اليمن، ثم بعث عمار بن ياسر، وسلمان كلهم دعاة، وتفرقوا في اليمن؛ لسعة البلاد، وصاروا يعلّمون الناس، وكل من دعوه؛ استجاب ولم يتلعثم، ولم يقولوا: "إنا وجدنا آباءنا على أمة"، ولم يتمسكوا بعادات آبائهم؛ فدل ذلك؛ على رقة في قلوبهم، وعلى تقبّل منهم. 

جاء وفد منهم إلى المدينة؛ فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه قوم من بني تميم؛ فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم؟ قالوا: بشرتنا فأعطنا -هكذا عادة في الجفاة- فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن؛ إذ لم يقبلها بنو تميم! فقالوا: قد قبلنا، جئناك؛ لنسألك عن أول هذا الأمر.

ثم لما وفدوا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جاءكم أهل اليمن؛ أرق قلوباً، وألين أفئدة). يعني: أنهم تدخل الموعظة إلى قلوبهم؛ لرقتهم، ولينهم وليس في قلوبهم شيء من النظرة، ولا من القسوة، ثم زكاهم بقوله: الإيمان يمان، والحكمة يمانية. الإيمان يعني: الأصل أنهم فيهم الإيمان، وفيهم الحكمة التي هي الحكمة؛ كلام قيم لطيف).



هذا ما أردت زبره؛ إحقاقاً للحق، ودفاعاً عن أمة، وإماتة للنعرات، ورد الحق إلى نصابه.

حفظ الله بلاد اليمن، والمسلمين وبلادهم؛ أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين.

"والله يعيذنا من أن نقول ما لا نعلم، أو ندعي ما لا نحسن، أو نتكثر بما لم نؤت، وفقنا الله للصواب، وأداء النصح فيما قصدناه، ولا حرمنا ما أملناه من الثواب" "وأسأل الله ذا الحول والقوة؛ أن يزيننا بلباس التقوى، وصدق اللسان، وأن يعيذنا من العجب ودواعيه، ويعيننا على ما نويناه وتوخيناه؛ ويجعلنا ممن توكل عليه فكفاه، وحسبنا هو ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عليه نتوكل وإليه ننيب"، "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/١١/٢٩


الثلاثاء، 12 يناير 2021

رحيل العالم المعمر عالي الرتب.. محمد صالح الرجب!

 

رحيل العالم المعمر عالي الرتب.. محمد صالح الرجب!

#وفاة_علم

علمت الآن بوفاة العلامة الفقيه محمد بن صالح الرجب -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار-.


وكنت قد ذهبت إلى منزل الشيخ بمدينة عدن، بجوار مسجد العيدروس، في أوائل رمضان ١٤٤٠، فلم أجده، ووجدت ابنه القاسم، فأخبرني أن الوالد في مدينة جدة، عند ابنه أحمد، وزودني برقمه.


تواصلت بالأستاذ أحمد؛ لآخذ ترجمة الشيخ، فلم تكن هناك مواتاة، حتى كان يوم الإثنين ١٤٤٠/١٠/٢، اتصل بي الأستاذ أحمد ابن الشيخ، عبر برنامج (الإيمو) مكالمة مرئية، وأعطاني والده الشيخ، فرأيت رجلاً منور الشيبة، طويل شعر الذقن، أقنى الأنف، غائر العينيين، ثقيل السمع، لا يكاد يسمعني، إلا بترجمان!


سألته عن أشياخه ورحلاته؛ فذكر، أنه رحل في طلب العلم، إلى كل من: جبلة وقعطبة وعدن.


ودرس عند أشياخ كثر، ولكنه لم يتذكر إلا القليل؛ لكبر سنه، وضعف جسده، ونزور ذاكرته!


فممن ذكر لي من أشياخه:

-شيخنا العلامة حميد بن قاسم عقيل المليكي.

-والشيخ أحمد السروري، وقرأ عليه علم المواريث.

-والشيخ عبد الرحيم النعمي الزبيدي، وقرأ عليه النحو وغيره.

وأجازوه.

وقال: كنت أزور الشيخ محمد بن سالم البيحاني. 


والشيخ الآن، في التسعين تقريباً، وقد أثرت عليه مع كبره.. الحروب والخطوب الأليمة المتوالية على البلاد، ومنها: اغتيالات المشايخ والدعاة، فكان يتألم حين إخباره بموتهم، لا سيما من كان يعرفهم.


رحمك الله أيها الشيخ الجليل، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة، وأحسن الله عزاء أهله وذويه، وألهمهم الصبر والاحتساب، وأخلف عليهم بخير وعافية.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٢/٥/٢٨