السبت، 9 يناير 2021

الجلال السيوطي: يكمل التفسير، وهو طرور غرير!

 الجلال السيوطي: يكمل التفسير، وهو طرور غرير!(١)


الإمام عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد سابق الدين خضر الخضيري الأسيوطي، المشهور بـ جلال الدين السيوطي، ولد سنة ٨٤٩، وتوفي سنة ٩١١. 


توفي والده، وله من العمر ست سنوات، فنشأ يتيماً، وأتمّ حفظ القرآن وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة، مثل: "العمدة"، و"منهاج الفقه"، و"الأصول"، و"ألفية ابن مالك".


وكان محل العناية والرعاية، من عدد من العلماء، من رفاق أبيه، وتولى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم: الكمال بن الهمام الحنفي. 


وبدأ طلب العلم سنة ٨٦٤، وهو في الخامسة عشر، فدرس الفقه والنحو والفرائض. 

وفي سنة ٨٦٦؛ أجيز بتدريس اللغة العربية من مشايخه، وهو في السابعة عشر! 


وفي هذه البرهة.. كان شيخه جلال الدين المحلي؛ قد ابتدأ تفسير القرآن الكريم، من سورة الكهف حتى انتهى إلى سورة الناس، ثم عاد، ففسّر سورة الفاتحة، وأوائل البقرة، من ١ - ٢٦، فتوفي سنة ٨٦٤، ولم يكمل تفسير النصف الآخر.(٢) 

ينظر: (حسن المحاضرة: ١/ ٢٥٢) و(شذرات الذهب: ٧/ ٣٠٤).


فنَهد التلميذ النابغ، والصغير النابه؛ لإكمال ما ابتدأه شيخه من تفسير مختصر معتصر، وقد كان يرى من نفسه الأهلية والمكنة، إلا أنه كان يخشى صغر سنّه، وإلى عظيم ما سيقدم عليه!


فاسمعه يقول، في خاتمة (تفسيره: ٢٩٣): "هذا، ولم يكن قط في خلَدي؛ أن أتعرض لذلك؛ لعلمي بالعجز عن الخوض في هذه المسالك، وعسى الله أن ينفع به نفعاً جمّاً، ويفتح به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً.

وكأني بمن اعتاد المطولات، وقد أضرب عن هذه التكملة وأصلها، حسماً، وعدل إلى صريح العناد، ولم يتوجه إلى دقائقها فهماً، "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى"، رزقنا الله به هداية إلى سبيل الحق وتوفيقاً، واطلاعاً على دقائق كلماته وتحقيقاً، وجعلنا به من الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً". 


فابتدأ مستهل شهر رمضان من سنة ٨٧٠؛ بتفسير سورة البقرة حتى وصل إلى آخر سورة الإسراء، مُنهيه في العاشر من شوال من نفس السنة!

في مدة أربعين ليلة، وهو ما أشار له بقوله: "وألّفته في مدة، قدر ميعاد الكليم"!


وكان الجلال المحلي، في تفسيره يميل إلى الاختصار الشديد، فتسمتَ السيوطي نهجه، وتسنم خطاه.

وقد أشار إلى هذا، فقال في مقدمة (تفسيره: ص ٢): "هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين، في تكميل تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي -رحمه الله- وتتميم ما فاته، وهو من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء، بتتمة على نمطه، من ذكر ما يفهم به كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، وتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية، والله أسأل النفع به في الدنيا، وأحسن الجزاء عليه في العقبى، بمنه وكرمه".


قال أبو نعيم: وهذا التفسير، مع وجازته؛ إلا إنه قد احتوى: علوم الإعراب، والقراءات، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومعاني الكلمات، ونحوها من المزايا والسمات. 


قال الحاج خليفة: "وهو مع كونه صغير الحجم= كبير المعنى؛ لأنه لب لباب التفسير". 

(كشف الظنون: ١/ ٤٤٥)


وها هو التلميذ الشادي، والفتى الحادي؛ يختم تفسيره بهاته الكلمات التي تعرف بالفضل، وتعترف بالقصور، فيقول في خاتمة (تفسيره: ٢٩٣): "هذا آخر ما كملت به تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق جلال الدين المحلي الشافعي -رضي الله عنه-، وقد أفرغت فيه جهدي، وبذلت فكري فيه، في نفائس، أراها -إن شاء الله تعالى- تجدي، وألفته في مدة قدر ميعاد الكليم، وجعلته وسيلة للفوز بجنات النعيم، وهو في الحقيقة؛ مستفاد من الكتاب المكمل، وعليه في الآي المتشابهة الاعتماد والمعول، فرحم الله امرءاً نظر بعين الإنصاف إليه، ووقف فيه على خطأ، فأطلعني عليه، وقد قلت:


حمدت الله ربي إذ هداني *** لِما أبديت مع عجزي وضعفي


فمن لي بالخطا، فأُرَدَّ عنه *** ومن لي بالقبول ولو بحرفِ؟". 


ومن عجيب شأنه: أنك لا تكاد تفرق بين المنهجين في توخي الدقة والحبك، وتغيي الرصف والسبك.


قال الحاج خليفة: "وفسر السيوطي تفسيراً مناسباً، وتكملته من غير مباينة".

(كشف الظنون: ١/ ٤٤٥) 


وقال الشيخ محمد حسين الذهبي: "ولا شك.. أن الذى يقرأ "تفسير الجلالين"، لا يكاد يلمس فرقاً واضحاً بين طريقة الشيخين فيما فسراه، ولا يكاد يحس بمخالفة بينهما فى ناحية من نواحى التفسير المختلفة".

(التفسير والمفسرون: ١/ ٢٣٩)


حتى ذكر الحاج خليفة -عن بعض علماء اليمن- أنه قال: "عددت حروف القرآن وتفسيره، للجلالين؛ فوجدتهما متساويين إلى سورة المزمل، ومن سورة المدثر؛ التفسير زائد على القرآن، فعلى هذا؛ يجوز حمله بغير الوضوء"! 

(كشف الظنون: ١/ ٤٤٥) 


واسمع إلى هذه الرؤيا العجيبة، التي تشي بعلو كعبه، وبلوغ شأوه، وهضم نفسه! 

فقد وُجد في بعض نسخ الجلالين، ما يلي: "قال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الخطيب الطوخي، أخبرني صديقي الشيخ العلامة كمال الدين المحلي، -أخو شيخنا الشيخ جلال الدين المحلي- -رحمهما الله تعالى-: أنه رأى أخاه الشيخ جلال الدين المذكور في النوم، وبين يديه صديقنا الشيخ العلامة المحقق جلال الدين السيوطي -مصنف هذه التكملة-؛ وقد أخذ الشيخ هذه التكملة في يده وتصفحها، ويقول -لمصنفها المذكور-: أيهما أحسن وضعي أو وضعك؟ فقال: وضعي!

فقال: انظر، وعرض عليه مواضع فيها، وكأنه يشير إلى اعتراض فيها بلطف، ومصنف هذه التكملة كلما أورد عليه شيئاً يجيبه، والشيخ يبتسم ويضحك!

قال شيخنا الإمام العلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي -مصنف هذه التكملة-: الذي أعتقده، وأجزم به.. أن الوضع الذي وضعه الشيخ جلال الدين المحلى -رحمه الله تعالى- في قطعته، أحسن من وضعي أنا، بطبقات كثيرة، كيف وغالب ما وضعته هنا، مقتبس من وضعه، ومستفاد منه، لا مرية عندي في ذلك!

وأما الذي رؤي في المنام، المكتوب أعلاه؛ فلعل الشيخ أشار به إلى المواضع القليلة التي خالفت وضعه فيها؛ لنكتة، وهي يسيرة جداً، ما أظنها تبلغ عشرة مواضع" ثم ذكر بعضها".


قال أبو نَعيم: لعل هذا الكلام قاله السيوطي في موطن آخر غير تكملة تفسيره؛ لأن خاتمة السيوطي، تنتهي عند قوله: "وإليه المرجع والمآب".


وقد أضافها بعض النساخ، إلى خاتمته لتكميله التفسير.

ينظر: (حاشية الصاوي: ٢/ ٣١٧) و(تنوير العينين: ص: د) و(تفسير الجلالين: ٢٩٣) تحقيق د فخر الدين قباوة.


تنبيهات خمسة:

الأول: قال الحاج خليفة: "ولم يتكلم الشيخان، على تفسير البسملة، فتكلم عليها بأقل ما ينبغي من الكلام- بعض العلماء من زبيد، وكتب ذلك حاشية بالهامش". 

(كشف الظنون: ١/ ٤٤٥). 


الثاني: قال القاضي كنعان: "لم يضع الجلالان -رحمهما لله تعالى-، لهذا التفسير اسماً، بل عرف بين العلماء، بـ تفسير الجلالين، أو بالجلالين، -اختصاراً-، نسبة إليهما، وسماه بعضهم: كتاب الجلالين في تفسير القرآن العظيم.


الثالث: اعتمد الجلالان، في تفسيرهما هذا؛ على عدد من التفاسير، أشار إليها الجلال السيوطي -رحمه الله تعالى- في كتابه (بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة)، عند ترجمته للإمام موفق الدين الموصلي، فقال: "وله التفسير الكبير والصغير، جوّد فيه الإعراب، وحرر أنواع الوقوف، وأرسل منه نسخة إلى مكة والمدينة والقدس، قلت: وعليه اعتمد الشيخ جلال الدين المحلي في تفسيره، واعتمدت عليه أنا في تكملته مع الوجيز، وتفسير البيضاوي، وابن كثير.


الرابع: لم يكتب الجلال المحلي مقدمة ولا خاتمة للقسم الذي فسره، أما الجلال السيوطي.. فقد كتب مقدمة مختصرة في أول سورة البقرة، وكتب خاتمة للقسم الذي فسره".

(تنوير العينين: ص: د). 


الخامس: قال أبو نعيم: لم يكن إكمال التفسير، هو باكورة تواليف الجلال السيوطي، بل سبقه (شرح الاستعاذة والبسملة) ألفه، وهو في السابعة عشرة من عمره، وأثنى عليه شيخه عَلم الدين البلقيني! 


هذا، وأحب أن أوضح لك تحديد سنّ تكميل هذا النابغة، لتفسير كتاب الله الكريم.. 

فأقول:

-ولد السيوطي؛ مساء يوم الأحد غرة شهر رجب، من سنة ٨٤٩.

-شرع في تكميل التفسير؛ مستهل شهر رمضان من سنة ٨٧٠.

-أكمله في العاشر من شوال، من نفس السنة!

-توفي شيخه الجلال المحلي، في سنة ٨٦٤، ودفن بمدينة رشيد بالبحيرة، وقد تقدم أن السيوطي شرع في تكميل تفسير شيخه، بعد وفاته بست سنين. 

-مكث في إكمال التفسير؛ أربعين يوماً.


فتلخص؛ أنه أكمل تفسير شيخه، وعمره عشرون سنة وشهران! 


وقد حدد القاضي كنعان، في (قرة العينين: ص ج) سن السيوطي، باثنتين وعشرين سنة أو أقل منها بشهور!

ولم أطلع على كلام القاضي إلا الساعة، وقد استنطقت هذا واستنبطته؛ في سنّ الغرارة، والحمد لله. 


قال أبو نعيم: فاعجب أيها الطالب، من هذا الاعتداد بالنفس، مع بذل السبب لهذه الثقة الجازمة، وليس اتكالاً أو اعتباطا.


واعجب ثانية: من نفسك، ومن بني جنسك؛ الذين تأتي عليه هذا السن، وهو يعدّ نفسه طفلاً!

فيقتل وقته، ويقضي على عمره، بمرأى ومسمع من الآباء والأمهات!

"وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"! 


ثم نعجب ثالثة: من حال كثير، ممن تقدمت بهم السن، وجاوزوا الثلاثين، وهم في تمنٍ باللحاق والسباق، ولم يركبوا العتاق، بل ضاجعوا الراحة، وصافحوا الدعة، وثافنوا الكسل!


ثم نعجب رابعة: لحال بعض من بعض الأدعياء، الذين انتشرت تواليفهم أقطار الأرض، وهم في جنابة عنها، لا يجوز لهم مسها أو جسها أو كشفها؛ لأنهم ليسوا محارمها ولا من ذوي أرحامها، بل هي بنات أفكار آخرين، تقاضوا أجراً على كدّهم وجدّهم، ثم سلّموا بناتهم لأجانب دون زواج شرعي، بل هو سفاح سفاح سفاح، ولا شك أنهم سيخدجون ويحدجون! 

والله الموعد. 


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤١/٤/٤

مكة المعظمة.

ح ي س


ح......................

(١) طَر، أي: هو في إبان طرور شاربه، كناية عن حداثته.

وغرير: هو الشاب الذي لم يجرب الأمور، وخصها بعضهم: بأمور الشر، وهي كناية عن الحداثة والصغر، وحسن التربية والخفر.


(٢) وقد وهم الحاج خليفة؛ في نسبة ما فسره السيوطي، للمحلي!

قال في (كشف الظنون: ١/ ٤٤٥): "تفسير الجلالين: من أوله، إلى آخر سورة الإسراء، للعلامة، جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي"!


قلت: وربما وقع غيره في هذا الوهم؛ وذلك لأن المتبادر.. أن المتقدم يبدأ أول التفسير، والمتأخر يكمل ما ابتدأه الأول!

ولكن الأمر يختلف هنا؛ فالمتقدم بدأ بالنصف الآخِر، والمتأخر بالنصف الأول!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق