السبت، 29 مايو 2021

فقيدٌ لا أعرفه!

فقيد لا أعرفه!

رأيت وسائل التواصل الاجتماعي يضج بخبر رجل ويعج، قالوا في تحليته: الشيخ الحافظ: حسن الغراب.

ولم أرهم يمدحونه بحفظه وعلمه فحسب، بل أكثر المادحين له هو: سماحة نفسه، ودماثة خلقه، ورقة أسلوبه، وبسط يده، ورفقه بمن حوله، وكرمه لمن عرفه ونحوها من الصفات الكثار للكبار.

ثم رأيت صورة وجهه؛ فقرأت فيه: الوداعة، والنفاعة، والسماحة، والبشاشة، والطيبة والبشر..

حزنت على موته، وتمنيت لو أني عرفت هذه القامة العامة، الذي افتقدنا مَن حاز هذه الصفات العالية؛ فتأسفته وأكبرته..


استرجعت ربي سبحانه، وترحمت على فقيدنا المجهول المعلوم؛ مجهول لبعض خلق الله، ولكنه معلوم لدى الله جل في علاه.


وأهتبلها فرصة؛ لأشدّ على يدي ويد إخواني؛ على التحلي بصفات الكمال، وشيات الجمال، وسمات الجلال.. فلعمر الحق؛ لا يفيد علم بلا عمل:

لا تحسبنّ العلم ينفع وحده *** ما لَم يتوج ربه بخلاقِ

ما ينفع طلب العلم؛ وهو مع نفسه في حروب، ومع أهله في ندوب، ومع أولاده في غروب، ومع العالمين في هروب!

ما ينفع طلب العلم؛ وهو شرس الخلق، ضيق العطن، بذيء اللسان، لئيم الطبع، سباب صخاب نهاب لعاب ونحوها من صفات القحة والخسة -عياذاً بالله أن أكونها أو تكونوها- فهي صفات أهل النار، وبئس القرار.

رحمك الله أخي حسن، وبلّ ثراك الرحمات، وسقى جدثك الغفرات.

وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم مت، ويوم تبعث يوم الدين.

وعزائي لأهله وأولاده ووالده ووالدته وإخوانه وأخواته وأقربائه ومشايخه وطلابه وزملائه ومحبيه.


محبك: وليد أبو نعيم.

١٤٤٠/٩/٢٤



الجمعة، 28 مايو 2021

تفجع قهري لفراق الأستاذ عبد الله خادم العمري!

 تفجع قهري لفراق الأستاذ عبد الله خادم العمري!


رحم الله الأستاذ الأديب عبد الله خادم العمري.. فقد كنت ألمس تمزعه، وأحس تفزعه على بلاده اليمن المنسية القصية، لا سيما تهامة المهمة، في صدى تواليفه البديعة!


بالرغم أني لم أعرفه في الحقيقة، -وهذا من قصوري -غفر الله لي- لكني قرأت له بعض تراثه، فأعجبني وأطربني، ورأيت فيه تعباً وجشباً، غاص له بحور المخطوطات، وسبح عنه في لج الظلمات، حتى أخرج لنا صدفاً تتلالا، ودرراً تتغالا.


نعم، بعضها كان يعوزه بعض ترتيب أو تشذيب، لكن، لا يضير فذ مثله؛ لأن كثرة المعلومات، مظنة الشتات، وقد قال الأول:

تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيدُ!


وأجدني اليوم، في غصة وشجى؛ لفراق الأستاذ الكريم، وتمنيت لو أني نفضت عني غبار التسويف، وقشعت لحاف التواني، ولا أدري، مالذي أنآني وأقصاني عن الأستاذ؟! لكن: كل شيء بقضاء وقدر، و"لكل أجل كتاب".

غفر الله للأستاذ عبد الله العمري، وأسكنه فسيح الجنان، وأدخله جنة الرضوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤٢/١٠/١٦




الأربعاء، 26 مايو 2021

وفاة أحد الأقرام العماليق!

 وفاة أحد الأقرام العماليق!

#وفاة_علم


بلغني الآن، وفاة شيخنا العلامة محمد قاسم الوشلي.. وقد كان أحد العلماء المسندين، والمشايخ المبرزين، ومالكي المخطوطات النفيسة.


وقد زرته إلى بيته، بـ المنيرة، فكان نِعم الشيخ، ونعم المضيف.. ويا لجمالهما حين يجتمعان!


وقد سمعت عليه جمعاً من أسفار العلم والمعرفة -والحمد لله- منها: (صحيح البخاري)، و(الشمائل المحمدية)، و(بلوغ المرام) وغيرها، بقراءتي، وقراءة غيري من الأفاضل.


رحم الله -شيخنا الجليل- رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار.


وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤٢/١٠/١٤





الاثنين، 17 مايو 2021

نـمْ يا صـغيــري!

 

نـمْ يا صـغيــري!


(نم يا صغيري سوف تقتلك الدموع)

طاف المدينة يرتجي ماء أو خبزاً؛ ليسدّ بها رمقه مع أخيه.

طاف وطاف حتى تعب وأعيا، فدخل بيتاً مهجوراً، لا سكان فيه ولا جلاّس، -وهو لا يعلم أنه مهجور- يعلّل نفسه بنازل يراه، فيرقّ له ولأخيه ويرحمهما!

ولكن: خاب ظنه، وأخطأ حدسه.. طال الوقت، ولم يأت أحداً!


انتظر وانتظر، والجوع يسيطه بسياطه اللاهبة التي لا ترحم.

ينظر إلى نفسه، ثم إلى أخيه نظرة حزن وشفقة:

أخي، لا أملك لي ولك شيئاً!

أخي، ماذا أصنع.. بذلت الأسباب الشرعية، متوكلاً على الله تعالى، ولم أجد شيئاً!

أخي، ها أنت ترى جسدي الناحل الذي لا يقوى على العمل!

أخي، تعلم أنّا دون أب يكفينا المسألة، وأم نأوي إليها إذا مرضنا أو احتجنا!

أخي، ها هي أجسادنا عارية، إنها تقطعت وتمزقت، بعد أن بليت!

أخي، الجوع أضر بي كما أضر بك!

أخي، هل تظن أني وجدت شيئاً، وخبأته عنك؟!


لا وربي، لم أجد شيئاً، فالناس قلوبهم قاسية، ووجوههم كالحة، نسوا أن الأيام دول "وتلك الأيام نداولها بين الناس" والدهر قلّب، والأيام حبالى.


أرجوك -أخي- اصبر وتحمل وتجلد وتعزى، فالفرج آت لا محالة؛ فإن الله كريم حليم عظيم.. سيرحمنا ولا بد، ودعك من البشر، فإنهم كدر، وإن أعطوك، فلا تسلم من مَنّهم وتعييرهم.


-هيا، نمْ يا أخي؟

-لم أستطع النوم.. وكيف أنام، والجوع يوقظني، والعطش يجلدني؟!

-نم، واطلب النوم، وارتجيه.. ها هو حضني الصغير لك فراشاً، ويدي الصغيرتين لك دفاء!

أرجوك، نم، نم، نم.

أرجو أن نستيقظ، وقد جعل الله لنا فرجاً ومخرجاً..

لعل كريماً، يرجو الله والدار الآخرة.. يضع أمامنا خبزاً وماء، فنطرد به هذا الوحش الضاري بداخلنا!


ناما، ونامت معهما أحلامهما، ولم ينم جوعهما القارص!

ولا أدري،  هل استيقظا على حلمهما، أم أنهما ظلا طاويين؟!


وايم الله، لو رأيتكما، لكان لي معكما شأناً، وأناشد الله، من وجدهما.. أن يبلّ ريقهما، ويشبع بطنهما، ويكسو جسديهما، ويمسح دمعهما، وله الجنان -بإذن الرحيم الرحمن.


صغيراي.. اقبلا كليماتي المجتزأة، فإن نفسي حزينة جريحة، فتلعثم اللسان، واضطرب البنان، وتعثر الجنان.


أرجو لكما -حبيباي- شبعاً وريّاً، وثوباً وزياً، وحسناً ورِياً..


وسلام الله عليكما ورحمته وبركاته.



تتمة:

رأى الدكتور فوزي الحطيني، منشوري هذا (نم يا صغيري) فكتب هاته الأبيات مع مدخلها:

هذا منظر محزنٌ صاعق للضمير، مقلق لكل نفس فيها ومضة إيمان، أرسلها أخونا وليد بن عبده وعلّق عليها بألم ينزّ حسرة وقهراً، ولقد ثنّيتُ على مداخلته شعراً، ولكنّ ضغوط العمل شغلتني عن إرسالها، وها هي أمامكم عصارة ألألم :

بات الصغير وسوط الجوع يلهبهُ

      ويطرد النوم عن ذاوي مآقيه

البردُ يلسعُهُ ، والجوعُ ينهشُهُ 

         والغمّ أمطرهُ أقسى بلاويهِ

وحيد درب شقاء لا أنيس به

       إلا شقيق شريك الهمِّ والتيهِ 

لا حوْلَ له في درْءِ شِقْوتِهِ

      فالدهر حاربهُ بالويلِ يصليهِ

باتا ولا بيت يحمي من برودته

           ولا مُغيث فتنقذُهم أياديهِ

ضمَّ الكبير أخاهُ ضمّ والدةٍ

   بجسمه من صقيع البردِ يحميهِ

فاعجب لعاري بلا ثوبٍ يُدثّرهُ

         يأتي بدفءٍ لعريانٍ ويُدْفيهِ

واعجب لقومٍ عَمُوا عن بؤس واحدهم

        وبعضُ ما بذّروا قد كان يكفيهِ

               ••••  ••••  ••••

          د . فوزي الحطّيني 

            ١٧ /  ٥ / ٢٠١٦م



وكتب -من أدمعتموه-: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٣٧/٨/٨



السبت، 15 مايو 2021

تسلية لك، وتهنئة إليك!

 تسلية لك، وتهنئة إليك!


أبارك لك العيد، رغم الأسى والألم، ورغم القسى والجلم!


قائلاً: (تقبل الله: مني ومنك؛ صالح الأعمال)


آملاً، أن يعود علينا، ونحن في أمنٍ وأمان، وإسلام واطمئنان، وتمكين وإعلان.


عيد، بأي عيد عدت يا عيدُ *** بالهنا، أم بالغنا والتغاريد؟! 


ليكن، ما أراده الله، فلن أعمل إلا مايرضيه جلّ وعز.


فلن تراني يا عيد -بإذن الحميد المجيد-، فيك كئيباً، أو حزيناً، أو تعيساً..


فإنك، لم تزرنا إلا غباً، وليس من الأدب والإحسان، أن أقابلك بالأتراح والأحزان!


صحيح، أني أتألم وأتعلقم، وأجتوي وألتوي..


لكن..

واجبي نحوك: حسن الضيافة، وجميل القرى، (والجود، من الموجود) -كما يقول أهل بلدي-!

هذا واجبي نحوك أيها العيد السعيد..


وأما غيري: فلا أدري -والله- كيف يكون استقباله لك؟! 

فهم، ما بين: 

كسير وشريد.. 

وأليم وطريد.. 

ونازح عن بلده..

وفاقد فلذة كبده..


ولكني: أُصبرهم جميعاً، وأقول لهم: ثقوا: أن الصبح قريب، وقد بدت تباشير الفرج، لائحة.. "ألا إن نصر الله قريب".


فاصبروا وأبشروا، واستبشروا وبشّروا، وأحسنوا الظن بربكم، فوالله، ما عُبد الله، بأحسن من حسن الظن، وهو القائل -جل وعز- في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء"!


كم أفرح وأطمئن وأستبشر، عندما أقرأ وأنعم وأمعن النظر فيه!

يسلو خاطري .. تبرق أساريري .. يرتاح ضميري .. تهدأ نفسي .. يطمئن قلبي.


اعذرني، فقد طالت التهنئة، وعذري: أنها تهنئة وتهدئة، وتسلية وتعزية..


وسلام الله عليك بدءاً وختما،،



مهنئك: أبو نعيم وليد الوصابي.

عيد أضحى ١٤٣٦ُ

عيد فطر ١٤٤١


الأربعاء، 12 مايو 2021

العيد.. ومأساة الفقير!

 العيد.. ومأساة الفقير!

العيد: كلمة محبوبة، ولفظة مرغوبة، تعشقها الآذان، وتذلقها اللسان، ويعبقها الجنان!


العيد: رمز الفرحة والإخاء، والصدق والنقاء، والبذل والوفاء.


العيد: زائر حبيب، وضيف قريب، ونازل مهيب.


في العيد، نشتري الملابس الجديدة، ونأكل الحلوى اللذيذة، وننسى الأيام الشديدة، ونغضي عن الناس العنيدة! 



والناس في العيد، بين فارحٍ وكادح، ولا أتحدث عن الفارحين؛ لأن المحامين عنهم كثر، بعكس الكادحين؛ فإن الذابين عنهم نُزر!


دعوني -إذن- أتحدث عن هؤلاء الكرام الفخام؛ لأطفئ جمرة لاهبة في فؤادي، وأبل صدى عطشي، وأرضي أنب ضميري، بالحديث عنهم ومنهم، وإليهم وعليهم!


أقول:

يأت العيد على طائفة من الناس؛ ثقلاً وهماً، وعبئاً وغماً!

نعم.

ينظر أحدهم، إلى الأسواق مزدحمة، والمعارض ممتلئة، والطرقات مكتظة.. والناس، معهم فلذات أكبادهم، قد ارتسمت الفرحة على محيّاهم، وهم في فرح ومرح، بملابسهم الجديدة، الذي جعلت لهم من العيد، أعيادا.. 


ينظر المسكين، إلى هؤلاء الصغار، وقلبه يحترق، وفؤاده يمتزق، ثم يسارق النظر إلى أكباده الحيّة؛ فتنهمر دموعه سخية، على خديه، فتكون غُنية عن الكلام واكتفاء!

(وعن البحر، اجتزاء بالوشل)!


يتعلق الصغار، بأبيهم: بابا.. بابا.. (وهي فصيحة، وقد بينتها في مقال) اشترِ لنا ملابس العيد، مثل بني فلان؟!

هكذا بكل براءة، وليست -والله- جراءة.


آهٍ، ما أقساه من موقف وأنكاه، وما أشد وطأته وأضناه، على قلب الأب المكلوم، والأم المهمومة! (رب اغنهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك).


تُرى، ماذا يقول لهم، وبم يجيبهم، وكيف يقنعهم؟!

إنهم، لا يفهمون، إلا ملابس جديدة، عليها خيط جدتها، مدلاة به بطاقة تشير إلى القياس!

لكنهم، لا يدركون قياساً ولا مقاساً.. ولا يفهمون، إلا الإشارة، إلى أنها جديدة!

فيظهرونه للداتهم؛ ليقولوا لهم: هذه ملابس العيد!


إنهم أطفال، لا يجيدون لغة المال، بل الإزهاء على الأطفال!

لا يعلمون.. أن الملابس، دونها قطع أعناق، وإسالة مآق!


يطوي الأب عنقه، كاشحاً عنهم، لا يلوي على شيء، إلا التفكير في أمر أزغابه وأحبابه!


تنظر إليه، زوجه المسكينة، بنظرات حرّى، وقلب مكلوم، ودموع غزار، ووجه خجول، وجسد مضنى، قد أنهكه التعب واللغب!


إنها، تجيد لغة الكلام، ولكنها تعرف حال زوجها الكادح، الذي بالكاد يؤويهم ويبطنهم!

فلا تريد، أن تزيده همّاً فوق همومه، وغماً إلى غمومه!


فترجع هي الأخرى، ناكصة على عكبيها، كسيرة الخاطر، حسيرة الفؤاد، مهيضة الجناح!

لكن عاطفة الأمومة، ينتهشها ويهترشها، ويضربها بسياطٍ من نار! فتنظر، كرة أخرى إلى حبيبها، قائلة:

-أبو فلان؟

-نعم.

-هل تستطيع أن تستلف؛ لأجل الصغار، أما أنا وأنت، فعيدنا، الأطفال؟

-أتمنى، ولكن من سيقرضني؟ لكني سوف أحاول!


يذهب إلى جاره العزيز..

-السلام عليكم.

-عليكم السلام.

-تقبل الله منا ومنكم.

-ومنكم.

-كيف حالكم وأولادكم؟

-الحمد لله على كل حال!


يسمع هذه الكلمة الموحية، فيعلم أنها إشارة من جاره المثقف، إلى عَطَلِه، وأنه في ضيقة وإعواز، فينصرف دون إحراز!


يدخل بيته، وأطفاله، ينتظرون الباب، يحسبون كل حركة، هي طرقة والدهم الأسيف!

لكن الوالد المسكين، يرجع بخفي حنين، بل، حتى خف حنين، لم يجده، فقد أخذه صاحب حنين!


ولم يتنبه الصبية، إلى خلو والدهم، فيهتفون، بصوت جماعي: بابا.. بابا، اشتريت... وقبل أن يكملوا كلمتهم المتكسرة.. تتعثر أقدامهم، حين يرون اليد فارغة!


كيف له، أن يفهمهم.. أنه لا يملك النقود، التي تضع القيود؟ كيف يستطيع تصبيرهم؟! بأي لغة يخاطبهم؟


تنظر الأم إلى يديها، لتجترّ ما فيها؛ لتبيعه!

لكنها خالية.. فالسوار الصغير، قد بيع في أزمة حادة (وما أكثر أزماتهم)!


تتلمس عنقها، فليس فيه قلادة، وترى أن المثل العربي الشهير، (يكفي من القلادة، ما أحاط بالعنق) ليس صحيح المعنى.. فعن أي قلادة يتحدثون؟! إنها لا تعرفها قط في حياتها!


تنحني إلى أصابعها، فلا -والله- لا تجد خاتماً، ولا حتى فَصّاً!


تتحسس أذنيها، فلا تحس قرطاً، أو حتى خيطاً، بل إن خرصتها، كادت اللحم تغطيتها؛ لطول عطلها!


إنها، خلو إلا من: دينها، وعفافها وحيائها، (وما أبهاه وأهناه وأحلاه).

(وأكرم به من متاع)!


لقيتها، ليتني ما كنت ألقاها *** تمشي، وقد أثقل الإملاق ممشاها


أثوابها رثة، والرِّجل حافية *** والدمع تذرفه في الخد عيناها! 



ثم تنظر إلى أولادها، فتقول لهم: سنشتري لكم -إن شاء الله- تعليقاً لا تحقيقا!

فيهدؤون ويسكنون ويسكتون، ولكنه دواء مسكن، له وقت، وينتهي المفعول!


لا أدري، ماذا كان، بعد هاته التهدئة المؤقتة، ولا أعلم، ما فعلوا مع صبيانهم وصبياتهم، لكني رأيتهم: يحمدون، ويشكرون، ويثنون على الكريم سبحانه، أكمل الثناء، بل ويستعذبون حياتهم العذيبة!



وبعد هذا الطواف الحسي؛ لجأ صاحبنا المعدم، إلى التطواف المعنوي، يقلّب كواغده، ويفتش دفاتره؛ فرأى هاتين البيتين:


‏كم تشتكي وتقول إنك معدم *** والأرض ملكك والسما والأنجم!


ولك الحقول وزهرها وأريجها *** ونسيمها والبلبل المترنم!


فقنع بهذا المِلك العظيم، والمُلك العميم!


ثم نبش صفحة أخرى؛ فقرأ هاته الأبيات للإمام الكبير محمد بن علي بن وهب ابن دقيق العيد:


لعمري لقد قاسيتُ بالفقر شدةً *** وقعت بها في حيرة وشتاتِ


فإن بُحت بالشكوى؛ هتكتُ مروءتي *** وإن لم أبحْ بالصبر؛ خِفتُ مماتي


فأعظم به من نازل من مُلمةٍ *** يزيل حيائي، أو يزيل حياتي



ثم نكش أخرى؛ فرأى هاته، وهي لابن دقيق العيد، أيضاً:


وقائلة: مات الكرام، فمن لنا *** إذا عضنا الدهر الشديد بنابهِ؟ 


فقلت لها: من كان غاية قصده *** سؤالاً لمخلوق؛ فليس بنابهِ


إذا مات من يرجى فمقصودنا الذي *** ترجينه باقٍ، فلُوذي ببابهِ



فتسلى، وبالصبر تحلى، وتحمل، وبالجَلد تجمل.


ثم فتش؛ فوجد الشاعر الأميري، يقول:

يقولون لي: عيد سعيد، وإنه؛ *** لَيوم حساب لو نحسّ ونشعرُ!


أعيد سعيد، يا لها من سعادة *** وأوطاننا فيها الشقاء يزمجرُ؟!


ثم أقفل المسكين، قراطيسه، وجمع كراديسه في كرابيسه، وخلا بنفسه، وتمتع بنفَسه، عن بني جنسه!



رب كن لهم، واكسهم، وآوهم، وأطعمهم، وتولَ أمرهم، فأنت وحدك المؤوي والكافي والمكافي.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٣٧/٩/٢٩

١٤٤١/٩/٣٠


وداع الشهر!

 وداع الشهر!


جلجل صوت المؤذن لصلاة الفجر.. يوقض القلوب النائمة، ويحذر النفوس الغائمة، وينقذ الأرواح العائمة!


آه لحالنا، ترى ماذا صنعنا؟ ترى، ماذا عملنا؟

هل نفضنا عن أنفسنا، ما علق بها، من شوائب، وأزلنا ما بقلوبنا، من معائب؟!

ترى، هل صفت قلوبنا، فزكت أرواحنا، فحامت حول العرش، بعد أن كانت الأجساد تحوم حول الحش!


أمّن (رسول الأرض) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على دعاء (رسول السماء) جبريل عليه السلام.. أن من أدركه رمضان، فلم يغفر له، فأبعده الله!


يا الله، هل نحن من المقبولين، فنهني، ونهنى، أم من المطرودين، فنعزي، ونعزى؟!


قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أيها المقبول، هنيئاً لك، ويا أيها المردود، جبر الله مصيبتك) 


وكان علي رضي الله عنه، ينادي آخر ليلة، من رمضان: (يا ليت شعري، من المقبول فنهنيه؟ ومن المحروم فنعزيه؟)


إن من أدب الضيف في وداعه؛ أن لا نريه ما يكره، ولا نسمعه ما يبغض.. ورمضان، ضيف جميل، وزائر خميل، فلا نودعه بنقص وذنوب، وبخس وندوب.

والذي يحسن بنا ويجمل؛ أن نتبعه بأعمال صالحة، وأفعال راجحة.


خرج عمر بن عبد العزيز، يوم الفطر؛ ليخطب، فقال: (أيها الناس، صمتم ثلاثين يوماً، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم). 


وكان مطرف يقول: (اللهم تقبل مني صلاة يوم، اللهم تقبل مني صوم يوم، اللهم اكتب لي حسنة، ثم يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين).


وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لئن أستيقن، أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة؛ أحب إليّ من الدنيا ومافيها، إن الله يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين)


ومناسبة هذه الأقوال، في ختام هذه العبادة العظيمة.. هو أن من علامات قبول العمل.. الاستمرار على الخير، بعدها؛ لأن الذي رب رمضان، هو رب بقية الشهور، فعلامَ التفريق؟! 


سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمانِ


سلام على شهر الصيام فإنه *** أمان من الرحمن أي أمانِ


لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفانِ



تقبل الله منا ومنكم، الصيام والقيام والصلوات، وسائر العبادات والطاعات، ورزقنا مداومة على الخير والثبات، حتى الحشرجة والممات.



محبكم: أبو نعيم وليد الوصابي،

١٤٣٦/٩/٢٩

وقت أذان فجر يوم الخميس، وكأس الماء في يدي (قدراً لا قصداً)!


الثلاثاء، 11 مايو 2021

ثـلاثــون انـقـضــتْ!

ثلاثون انقضتْ!


وداعاً شهر رمضان..

وداعاً شهر الصيام..

وداعاً شهر القيام..

نستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.


فرحنا بقدومك، وبكينا شوقاً للقائك، وبينما نحن في لذة العيش بك وفيك، وقد صُقلت بك النفوس، واطمأنت لك القلوب، وانشرحت فيك الصدور، وهطلت منك العيون؛ إذ بنا نفجأ بوداعك ورحيلك!


أما لو أن لنا سبيلاً إلى بقائك؛ لفعلنا، ولكن "ذلك تقدير العزيز العليم".


أياماً محدودة، وليالٍ معدودة، قضاها وحدّها الرحمن، لا زيادة فيها ولا نقصان.


أيها الشهر ترفق، دموع الفراق تدفق، وفؤاد المحبين تمزق.

عسى بركب المقبولين نلحق.. وعسى من النيران نعتق..

فلا تفارقنا إلا ورضى الرحمن علينا تحقق.


ترفّق يا رمضان فما زالت القلوب قاسية، والأرواح عطشى، والعيون جدبى!


بالأمس كنا نقول: رمضان أهلاً، واليوم، نقول: رمضانُ مهلاً!


ما أسرع خطاك يا رمضان؛ تأتي على شوق، وتمضي على عجل!


فسبحان من وصفك بـ "أياماً معدودات".


والحصيف.. من أحسن إلى رمضان؛ لأنه زائر خفيف الظل، كثير الهدايا، سريع الارتحال!


وتعظم المصيبة وتزداد.. على من أتى عليه رمضان ورحل، وهو لا زال في تفريط عن الصالحات.


فقد دعا عليه أمين وحي السماء، وأمّن عليه أمين وحي الأرض: (رغم أنف امرئ، أدركه رمضان ثم انسلخ؛ ولم يغفر له.. رغم أنفه، ثم رغم أنفه! قل آمين؟ قال: آمين)

فهل أدركتم حجم الخسارة الفادحة، والجسارة القادحة؟!


وتزداد الخسارة عظماً.. لمن فرّط بعد رمضان، في طاعة الديّان، وترك لنفسه العنان، وخاض في بحار الشيطان، وعصيان الواحد الديّان "ألا ذلك هو الخسران المبين".


فأعزي نفسي وإياكم، لفراق هذا الإلف الذي يفوق الألف، ولكن، عزاؤنا: أن "لكل أجل كتاب" والرحمن تبارك وتعالى "كل يوم هو في شأن" يذهب بأيام، ويأت بأخرى "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" "يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا".


ووصيتي ونصيحتي لنفسي، ولبني جنسي.. بالاستمرار على عمل الصالحات، والمداومة على طاعة رب البريات، وإن قلّ العمل، فلا تقرب الزلل، وكن عنه بمنأى، وتذكر رقابة الله عليك، وأن من كنت تعبده في رمضان، هو رب بقية الزمان.. فلا تتعد حدوده، ولا تنتهك حرماته، فربك يغار؛ وغيرته أن يأتي المرء ما حرم الله.


هذه تعزية وتذكرة؛ علّها تصادف نفوساً صافية، وقلوباً خالية، فتتوب وتؤوب، إلى علام الغيوب، والله يتولانا في الدنيا والآخرة.


وتقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال والأحوال، وأعاد علينا ضيفنا ونحن في طاعة وصحة واطمئنان.


يارب تقبل منّا ما مضى، ووفقنا للحسن فيما بقى، واعتق اللهم رقابنا من النار.


وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/٢٧/٩

١٤٤٢/٩/٣٠



الثلاثاء، 4 مايو 2021

عين القِطْر في جواز إخراج المال في زكاة الفِطْر!

 عين القِطْر في جواز إخراج المال في زكاة الفِطْر!


زكاة الفطر واجبة من الواجبات، وفريضة من الفرائض، وعلى وجوبها الدليل- من الكتاب، والسنة، والإجماع.


ولكن وقع الاختلاف في نوع إخراجها، لا سيما، إخراجها مالاً.. فقد اختلف العلماء في ذلك، على ثلاثة أقوال:


القول الأول: المنع والتحريم، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء. 


واستدلوا بأدلة، منها:

ما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر.. صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير).


وما رواه البخاري ومسلم، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب).


القول الثاني: الجواز، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة من أصحاب المذاهب الأربعة، ووجه في مذهب الشافعي، ورواية في مذهب أحمد، وهو فعل بعض الصحابة والتابعين وغيرهم.


واستدلوا، بالتالي:


-عدم وجود نص، يحرّم إخراجها مالاً.


-ما رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، من أن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال -لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم-: (ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة، مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقال: هذا أنفع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).


-ما بوّب البخاري، في أبواب الزكاة المفروضة، كزكاة الحُلي، والحيوان وغير ذلك، فقال: باب العَرَض في الزكاة.


قال ابن رشيد: أن البخاري، وافق الحنفية، على كثرة مخالفته لهم.

(فتح الباري: ٥/ ٥٧).


-بفعل عمر بن الخطاب.. فقد روى سعيد بن منصور.. أخرج في سننه عن عطاء، قال: "كان عمر بن الخطاب، يأخذ العَروض في الصدقة من الدراهم".

ينظر: (المغني: ٣/ ٦٥)


-بما روي عن بعض الصحابة، كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، حيث قال: (إني لأرى مُدّين من سمراء الشام، تعدل صاعاً من تمر).


وكان هذا الفعل منه وأصحاب رسول الله متوافرون، فلم يعلم عن أحد الاعتراض سراً أو جهراً؛ فدل أنهم مقرّون له لأمور:

-لعدم الاعتراض منهم.

-ولأنهم النصحة الكملة الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يجوز البيان عن وقت الحاجة.

-ولأن فعل عمر، كان مشهوراً غير محصور؛ إذ هو خليفة المسلمين، وخير من يفهم النصوص؛ هم السلف الكرام.


-بفعل عمر بن عبد العزيز: عندما أرسل عامله، أن يأخذ منهم، القيمة في زكاة الفطر، فقد روى ابن أبي شيبة في (المصنف، رقم: ١٠٣٦٩) في كتاب الزكاة/ باب في إعطاء الدراهم في زكاة الفطر.

قال: حدثنا وكيع عن قرة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز: في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم"

ورواه ابن سعد، في (الطبقات) 


وكتب -رحمه الله- إلى عامله في البصرة: أن يأخذ من أهل الديون من أعطياتهم، من كل إنسان نصف درهم.

وعليه بوب الإمام حميد ابن زنجويه، في (الأموال): باب الرخصة في إخراج الدراهم بالقيمة.

قال يزيد: فَهُم حتى الآن، يأخذونهم به.


وفي مصنّف عبد الرزاق (٣/ ٣١٦) عن معمر، قال: كتاب عمر بن عبد العزيز: "على كل اثنين درهم -يعني في زكاة الفطر- قال معمر: هذا على حساب ما يُعطى من الكيل".


حدثنا وكيع، عن قرة، قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز، في صدقة الفطر: نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم.


وعن ابن المبارك، عن عوف، قال: قرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة رمضان: واجعل على أهل الديوان نصف درهم من كل إنسان، يؤخذ من أعطياتهم.


-بكثير من أقوال وأفعال السلف والعلماء، ومنها:

عن ابن شهاب، قال: أخذت الأئمة في الديوان، زكاة الفطر في أعطياتهم.


وعن الحسن، قال: إذا أعطى الدرهم من زكاة الفطر.. أجزأ عنه.


وعن أبي إسحاق الهمداني، قال: كانوا يعطون في صدقة الفطر بحساب ما يقوم من الورق.


وعن حميد: القيمة تجزي في الطعام -إن شاء الله-، والطعام أفضل.


وعن يحيى بن معين: قال يحيى في زكاة الفطر: لا بأس أن يعطى فضة.


وعن ابن معين أيضاً: سُئل عن زكاة الفطر؟

فقال: أحب إلينا أن نعطي ما أمر به التمر والحنطة والشعير. 

قيل له: فالدراهم؟

قال: إذا عسر عليه هذا، فلا بأس أن يعطى قيمة ذلك.


وعن الحسن البصري، قال: "لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر".


وعن أبي إسحاق السبيعي، قال: (أدركتهم، وهم يؤدون القيمة في زكاة الفطر)

(رواه ابن أبي شيبة: ٣/ ٦٥)


وعن سفيان الثوري: "لا يشترط إخراج التمر أو الشعير أو البر في زكاة الفطر، بل لو أخرج قيمتها مما هو أنفع للفقير.. جاز؛ لأن المقصد منها إغناء الفقراء عن المسألة، وسد حاجتهم في هذا اليوم".


وعن سفيان أيضاً: إذا أعطى قيمة نصف صاع من حنطة.. أجزأ عنه.


وقد ترجم ابن أبي شيبة، في مصنفه: (باب إعطاء الدراهم في زكاة الدراهم في زكاة الفطر)

ذكر تحته كثيراً من الأحاديث والآثار، ومنه ما قد مر آنفاً.


وقال القرطبي، عند تفسيره لآية مصارف الزكاة، وعند حديث: (اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) فقال: وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأَي شيء سد حاجتهم جاز، قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"، فلم يخص شيئا من شيء".

(تفسير القرطبي: ٨/ ١٧٥)


فعلامَ نحمل كلامهم.. وبعضهم قد أدرك ثلة من الصحابة، وبعضهم من أكابر التابعين؟!


 

القول الثالث: جواز إخراجها مالاً، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهو قول في مذهب الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: "وأما إذا أعطاه القيمة؛ ففيه نزاع: هل يجوز مطلقاً؟ أو لا يجوز مطلقاً؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة، أو المصلحة الراجحة؟

على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول هو أعدل الأقوال" -يعني القول الأخير-.

(مجموع الفتاوى: ٢٥/ ٧٩).


وقال في موضع آخر: "وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، الراجحة، أو العدل؛ فلا بأس به".

(مجموع الفتاوى: ٢٥/ ٨٢).


وقال في (الفتاوى الكبرى: ٥/ ٣٧٢): "ويجوز إخراج القيمة في الزكاة؛ لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة، مثل أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه، فهذا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشتري تمراً أو حنطة، فإنه قد ساوى الفقير بنفسه، وقد نص أحمد.. على جواز ذلك، ومثل أن تجب عليه شاة في الإبل، وليس عنده شاة، فإخراج القيمة كاف، ولا يكلف السفر لشراء شاة، أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة؛ لكونها أنفع لهم، فهذا جائز".


والذي يترجح مما مضى -والله أعلم- القول الثالث، وهو جواز إخراجها مالاً للحاجة؛ لموافقته للدليل، وإعماله للأدلة، والجمع بينها، وفيه تتحقق سماحة الإسلام ومقاصده، فمتى ما اقتضت الحاجة، وكان الانتفاع بالمال أكثر من الطعام، فيخرج المال، بلا ضير، بل يكون هو الأفضل.


ومتى ما وجد المزكّي.. المستحق للزكاة، والذي يغلب على ظنه، أن ينتفع بها، ولا يبيعها؛ فإخراجها طعاماً.. أولى وأحرى.


قلت: وحال الناس اليوم، الاحتياج إلى المال أكثر من الطعام، بل رأينا من يأخذ الزكاة من الناس طعاماً، فيذهب يبيعها بنصف قيمتها، بل ربما أقل، لحاجته إلى المال، أو لتكدسها عنده، أو لأنها من نوع لا يعجبه.. وفي هذا، تفويت لمصلحة الزكاة.


قال شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت: "وتكفي قيمة الحبوب من النقود، وربما كانت القيمة النقدية؛ أرفق للصائم، وأنفع للفقير، ونظراً لتنوع حاجة الفقير -وهو أدرى بها من غيره-، وقد لا يتيسر له الاستبدال، فكانت القيمة، أدخل في قضاء الحاجة.

والذي أستحسنه وأختاره لنفسي، أني إذا كنت في المدينة؛ أخرجت القيمة، وإذا كنت في القرية؛ بعثت بالتمر والزبيب والبر والأرز ونحوها هدية المسلم لأخيه في شهر التكريم وعيد السرور".

(الفتاوى: ١٥٦)


وهو اختيار شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، قال: (تقدّر عن كل شخص، بصاع، والصاع: أربعة أمداد، وإذا كانت المصلحة تقتضي إخراج زكاة الفطر نقداً، فتخرج نقداً، ويلاحظ فيها مصلحة الفقراء).

كما في فتوى نشرت عنه، في ٢٨ رمضان ١٤٣٨.


وهو توجيه العلامة عبد الوهاب الشعراني في كتابه: (الميزان) عند ترجمته لزكاة الفطر، حيث قال: (وأَما من جوز إخراج القيمة فوَجْهُه: أن الفقراء يصِيرون بالخيار، بين أن يشتري أحدهم حَبّاً، أو طعاماً مهيأً للأكل من السوق، فهو مخفف من هذا الوجه على الأغنياء والفقراء).


هذا ما منّ به المنان، وهو المان سبحانه المتفضل، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.


والله أعلم، وصل اللهم وسلم على نبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

١٤٣٨/٩/٢٣

١٤٤٢/٩/٢٣

صلاة التراويح.. بين الطُّول والقِصَر:

 صلاة التراويح.. بين الطُّول والقِصَر:


صلاة التراويح: هي اجتماع للنافلة في الليل في شهر رمضان.


وسميت بالتراويح؛ لأن الناس كان يراوحون بين كل تسليمتين، أو أربع.

وقيل: لأنهم كانوا يراوحون بين أرجلهم من طول القيام.


في (النهاية: ٢/ ٢٧٤): "لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. والتراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة تفعيلة منها، مثل تسليمة من السلام".


وفي (القاموس المحيط: ١/ ٢٢١): "وترويحة شهر رمضان، سميت بها؛ لاستراحة بعد كل أربع ركعات".


وأزيد: إن في التراويح؛ ترويحاً عن النفس، واستطابة للقلب، واستطباباً للروح والجسد، وسمواً بها، وراحة فيها، وانشراحاً إليها.


ترى الناس زرافات ووحداناً إلى المساجد لصلاتها، فتمتلئ بالمصلين، فتلِين القلوب، ويكثر الخشوع، وتصفو النفوس، وتطيب الصدور.



وفي هذه الكلمات، تُقت الكلام، عن إطالة التراويح وقصرها؛ فقد كثر الكلام حولها، وشاع وذاع، واشتد النزاع والإقذاع!


فأقول مستعيناً بالمعين:

إن صلاة التراويح سنة نبوية، وراشدية عمرية؛ فقد صلاّها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تركها؛ خشية أن تفرض.


ثم جاء الصدِّيق رضي الله عنه، وجهد بحرب الردة وغيرها من الأمور؛ فلم يجمع الناس على صلاتها.


حتى جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأعادها كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس لصلاتها.

ولم تزل، ولن تزال، ولا تزال إلى قيام الساعة، وصارت شعاراً لأهل السنة والجماعة.



وقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في القيام: طويلة حسنة.

فقد قالت عائشة رضي الله عنها -عن صلاته صلى الله عليه وسلم-: (كان يصلي اثنتين، فلا تسل عن طولهن وحُسنهن).

متفق عليه.


وكذلك هدي أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، كانت صلاتهم نحو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قال ميمون بن مهران -رحمه الله-: "أدركت القارئ، إذا قرأ خمسين آية؛ قالوا: إنه ليخفف!

وأدركت القرَّاء في رمضان؛ يقرؤون القصة كلها قصرت أو طالت، فأما اليوم؛ فإني أقشعر من قراءة أحدهم، يقرأ: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون"

ثم يقرأ في الركعة الأخرى: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" "ألا إنهم هم المفسدون"!

(مختصر قيام الليل: ٢٢٤)، لمحمد بن نصر المروزي.


وراجع باباً كاملاً في هذا الكتاب؛ ففيه الكثير من آثار السلف، وحكاية أقوالهم، ونقل أفعالهم.



قال أبو نعيم -كان الله له ومعه-: إن التطويل والإطالة؛ هي الأصل في صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وصلاة الصحب الكرام، وهذا هو المسطّر في تواريخهم، والمدوّن في دواوينهم.


ولكنك تجد أن هناك حالات، خرجوا فيها عن الطول إلى القِصَر، بل وذُمّ من أطالها، كما يعلمه من طالع سير القوم وأخبارهم.



ونحن في هذا الزمان الغابر الحاضر الآخر.. قد ضعُف الناس، وخارت العزائم، وفترت الهمم، وكثرت المشاغل -ولا قوة إلا بالله-.


فاحتاج الناس إلى تقصير الصلاة وتخفيفها؛ ليدركوها كاملة مع الإمام حتى ينصرف؛ ليكتب لهم قيام ليلة،

فإذا أطال الإمام؛ شقّ عليهم ذلك، حتى جعل الراغب في الإتمام، يخرج من الصلاة وهو أسيف كسيف!

والله المستعان.



وربما كان في تكثير القراءة، وإطالة الصلاة؛ حدْراً شديداً، فكان حذراً أكيداً.

أو إسراعاً مُخِلاً، فكان إثماً مضلاً.

وربما وصل إلى الهذرمة والقرمطة، وأكل للحروف؛ وهو مؤدٍّ إلى الحتوف!



وربما من طالت قراءته؛ قلّ عنده المصلون -غالباً- وخاصة العجزة، وكبار السن، وذوي الأعذار، وإن كانوا جيراناً للمسجد، وسيأتي عن الكاساني: "أن تكثير الجماعة؛ أفضل من تطويل القراءة".


وإن كان طول القراءة هو الأفضل والأكمل، كما هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، مع مراعاة تجويد الحروف، ومعرفة الحدود، ومواطن الوقوف.



لكن، مراعاة الزمان والمكان في العبادات؛ أمر ينتبه له، وينظر إليه بعين الاعتبار.


قال أبو داود: سئل أحمد بن حنبل، عن الرجل: يقرأ القرآن مرتين في رمضان يؤم الناس؟

قال: هذا عندي على قدر نشاط القوم، وإن فيهم العمَّال.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أفتان أنت؟



قال ابن رجب الحنبلي -معلقاً-: "وكلام الإمام أحمد؛ يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين، فلا يشق عليهم، وهذا قاله أيضا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم".

(لطائف المعارف: ١٨).



وهذا كلام متين للإمام الكاساني في مقدار ما يقرأ:

قال في: (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: ٣ /١٥٠): "أن يقرأ في كل ركعة عشر آيات، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وقيل: يقرأ فيها كما يقرأ في أخف المكتوبات وهي المغرب، وقيل: يقرأ كما يقرأ في العشاء؛ لأنها تبع للعشاء، وقيل: يقرأ في كل ركعة من عشرين إلى ثلاثين؛ لأنه رُوي: أن عمر رضي الله عنه دعا بثلاثة من الأئمة فاستقرأهم، وأمر أولهم أن يقرأ في كل ركعة بثلاثين آية، وأمر الثانيَ أن يقرأ في كل ركعة خمسة وعشرين آية، وأمر الثالث أن يقرأ في كل ركعة عشرين آية، وما قاله أبو حنيفة سنة؛ إذ السنة أن يُختم القرآن مرة في التراويح، وذلك فيما قاله أبو حنيفة، وما أمر به عمر، فهو من باب الفضيلة، وهو أن يختم القرآن مرتين أو ثلاثًا، وهذا في زمانهم.


وأما في زماننا، فالأفضل: أن يقرأ الإمام على حسب حال القوم من الرغبة والكسل، فيقرأ قدر ما لا يوجب تنفير القوم عن الجماعة؛ لأن تكثير الجماعة؛ أفضل من تطويل القراءة".


قال أبو نعيم: هذا في زمنه -رحمه الله- فكيف بزمننا الذي أصبحنا فيه في غربة وكربة، وقلّ النشاط والدربة، فالله وحده المستعان.



وسئل الشيخ ابن باز -رحمه الله-:

هل ينبغي للإمام مراعاة حال الضعفاء من كبار السن ونحوهم في صلاة التراويح؟


فأجاب: "هذا أمرٌ مطلوب في جميع الصلوات، في التراويح وفي الفرائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيكم أمّ الناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والصغير وذا الحاجة". (رواه البخاري ومسلم)؛ فالإمام يراعي المأمومين ويرفق بهم في قيام رمضان، وفي العشر الأخيرة، وليس الناس سواء، فالناس يختلفون؛ فينبغي له أن يراعي أحوالهم، ويشجعهم على المجيء، وعلى الحضور؛ فإنه متى أطال عليهم، شقّ عليهم، ونفرهم من الحضور؛ فينبغي له أن يراعي ما يشجعهم على الحضور، ويرغبهم في الصلاة، ولو بالاختصار وعدم التطويل، فصلاة يخشع فيها الناس ويطمئنون فيها -ولو قليلًا- خير من صلاة يحصل فيها عدم الخشوع، ويحصل فيها الملل والكسل".

(مجموع فتاوى ابن باز: ١١ /٣٣٦).


وقال الشيخ محمد العثيمين: "ويجب على الأئمة الذين يصلون بالناس صلاة التراويح؛ يجب عليهم أن يتقوا الله فيمن جعلهم الله هم أئمة لهم، فيصلوا التراويح بطمأنينة وتأنٍّ؛ حتى يتمكن مَن خلفهم من فعل الواجبات والمستحبات بقدر الإمكان.

أما ما يفعل كثير من الناس اليوم في صلاة التراويح؛ تجد الواحد منهم يسرع فيها إسراعاً مخلاًّ بالطمأنينة، -والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، لا تصح إلا بها-؛ فإن هذا محرم عليهم.

أولاً: لأنهم يتركون الطمأنينة، وثانياً: لأنهم ولو قدر أنهم لا يتركون الطمأنينة، فإنهم يكونون سبباً لإتعاب من وراءهم، وعدم قيامهم بالواجب، ولهذا؛ الإنسان الذي يصلي بالناس، ليس كالإنسان الذي يصلي لنفسه، فيجب عليه مراعاة الناس بحيث يؤدي الأمانة فيهم، ويقوم بالصلاة على الوجه المطلوب، وقد ذكر  العلماء -رحمهم الله- أنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأموم من فعل ما يسن، فكيف إذا أسرع سرعة تمنع المأموم من فعل ما يجب؟!".

(مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: ١٩/ ٣٤).



وهنا، ضابط حسن من الشيخ عبد العزيز بن باز -طيّب الله ثراه-:


السؤال: ما الضابط في عدم التطويل، فبعض الناس يشكون من التطويل؟


الإجابة: العبرة بالأكثرية والضعفاء، فإذا كان الأكثرية يرغبون في الإطالة بعض الشيء، وليس فيهم من يراعى من الضعفة والمرضى، أو كبار السن؛ فإنه لا حرج في ذلك، وإذا كان فيهم الضعيف من المرضى أو من كبار السن؛ فينبغي للإمام أن ينظر إلى مصلحتهم.

ولهذا جاء في حديث عثمان بن أبي العاص قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتدِ بأضعفهم". وفي الحديث الآخر: "فإن وراءه الضعيف والكبير" كما تقدم، فالمقصود أنه يراعي الضعفاء من جهة تخفيف القراءة والركوع والسجود، وإذا كانوا متقاربين؛ يراعي الأكثرية".

(مجموع فتاوى ابن باز: ١١/ ٣٣٧)



قلت: وهذا فقه غاب عن الكثير، ممن يحرص على قراءة جزء معين كل ليلة، وفي كل سَنة، فلا يترك قيد أنملة مما هو عليه.



وعلى ما سبق: فلا ينكر على من قصّر الصلاة، وخفف القراءة، ولا يشنّع عليه، ولا ينال منه، بل "كل يعمل على شاكلته" وكلٌ يصلي قدر استطاعته وطاقته، و"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" ما لم يقع في المحذور، أو يخالف المأمور.



ولا يلام أو يُنتقد، من أطال الصلاة، وطوّل القراءة، بل يدعى لهم بالتوفيق والإعانة، ومن لم يستطع أن يصلي معهم؛ فليذهب حيث يستطيع، فليست كل المساجد على حالٍ واحدة، فاذهب حيث أردت، دون اتهام بالتنطع والتشدد، أو التساهل والتردد.


ولا يصل الأمر إلى حد الانتقاص من فريق، أو النظرة الدونية لمن قصّر أو أطال، بل نعمل، وندعوا الله أن يتقبل، و"إنما يتقبل الله من المتقين".


فائدة: وقفت على مخطوط، بعنوان: (إقامة البرهان على كمية التراويح في رمضان)، للشيخ صالح النمازي، مخطوط بجامع صنعاء ٢٣٣٧.

ينظر: (مصادر الفكر: ٢٣٨)



هذا ما منّ به المنّان مما فاهه اللسان، وخطه البنان، من كلام أهل الشان.

وأسأله سبحانه أن يهدينا سبلنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.


وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

.١٤٣٧/٩/١١

وراجعته: ١٤٣٩/٩/٤.