الخميس، 14 يناير 2021

صديقي.. يتمنى الموت!

 

صديقي.. يتمنى الموت!


التقيت مساء اليوم، شاباً فقيراً، بلغ من فقره، أن بدت فقاره، -ومن هنا، جاءت تسمية الفقير-!


نقُه اليوم من مرضه، فلما قابلني، نظر في وجهي، قائلاً: يا وليد: الحياة.. هم وغم .. أتمنى الموت، فهو خير من الحياة!


كنت متكئاً، أقرأ في مكتبة عامة، كتاب درس، بجوار نافذة، تهب هواء عليلاً، لكنه مشوب، فلم يرو غليلا!


لما سمعت قوله المُصم المُغم.. (أتمنى الموت).. جلست، وأمعنت فيه النظر وأنعمته، قائلاً: لمَ .. لماذا .. ما لك .. ما بك؟!


عزيزي: إن الدنيا، ليست دار مكافأة، وإنما دار عمل ومدافعة.


أخي: إن الحياة، ليست بالمال، ولا بالجمال .. الحياة ليست مادية جسمانية، وإنما هي روحانية إيمانية.


حبيبي: إن تمني الموت، ليس المناص، للخلاص!


ألم تسمع إلى خبر العالم المحدث: أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي البصري، -رحمه الله- الذي تقطعت أطرافه، وتمعطت أوصاله، ولم تبق جارحة فيه إلا أصيبت!


قال الذهبي: "وقد أخبرني عبد المؤمن -شيخنا-: أن أبا قلابة، ممن ابتُلى في بدنه ودِينه، أريد على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات بعريش مصر سنة أربع -أي: أربع ومائة-، وقد ذهبت يداه، ورجلاه، وبصره، وهو مع ذلك حامد شاكر".

(سير أعلام النبلاء: ٤/ ٤٧٤)


وينظر، قصته بتوسع، في (كتاب الثقات: ٥/ ٣/ ٣٥٦١)


لماذا تتمنى الموت.. هل أنت مستعد له؟

قال: لا، ولكن: رحمة الله عظيمة، وأنا لست فاجراً، كما تعرف يا وليد؟


قلت له: قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضُر أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)

رواه البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.


والضر: عام شامل، سواء كان ضراً حسياً أو معنوياً، وسواء كان مرضاً أو فقراً، أو غيره، فكلها أضرار وأوضار.


ولسنا -حقيقة- من الصلاح، كما قال القائل:

جزى الله عنا الموتَ خيراً فإنه *** أبَرُّ بنا من كل بَرّ وألطَف


يُعجّل تخليص النفوس من الأذى *** ويُدني إلى الدار التي هي أشرف


وقد كان الشيخ عبد الله بن عمر الحضرمي.. كثيراً ما يتمثل بهما -كما يقول ابن عقيل-.


وكان يقول لأبنائه -وقد بلغت منه الأوجاع مبلغاً عظيماً-: "ما أحب البقاء في الدنيا إلا للصلاة، وخصوصاً صلاة الليل، وللدعوة إلى الله تعالى، ولتعليمكم".

ينظر: (تذكرة الأحياء بذكر بعض مناقب سيدنا عبد الله بن عمر بن يحيى) مخطوط.

وعنه (السيوف البواتر لمن يقدم صلاة الصبح على الفجر الآخر: ٤٨) لوالده الشيخ عبد الله بن عمر الحضرمي، تحقيق صلاح بن عبد اللاه بلفقيه.



يا صديقي، أتظن أنك وحدك من تشكو الفقر والفاقة، والعوز والحاجة؟!


انظر إلى أدبار الصلوات، في مساجدنا، كيف ترى الناس.. هذا حامل ابنه، وذاك ابنته، وذياك والده! أحالهم أفضل منك؟


يا عزيزي: الجل يشكو ويشجو، ويهتم ويغتم، ويحزن ويشجن، وتمر المنغصات والمنقصات، ولكن: نحمد الله على كل حال، ولنا أسوة وقدوة بنبينا عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام، كيف عاشوا، وكيف كانوا؟


يا رفيقي: أتظن أن التجار والموسرين، هم في خلاء وجلاء وحلاء؟!

كلا، والله، إنهم يعيشون، في مرارات وحرارات، وإن كانت حاجتهم مقضية.. إلا أن منغصات الحياة، لا يسلم منها أحد؛ لأنها دار بخس ونقص:

جبلت على كدر، وأنت تريدها *** صفواً من الأقذار والأكدارِ


مرّ أحد الإخوة مع صاحبه، بجوار فلل فارهة، وعمائر مشمخرة.. فقال أحدهما للآخر: آه، لو تدري، كم في هذه القصور، من آهات وعاهات؟!


يا أخي: انظر للطير، كيف يتغنى ويغرد ويشدو، وعمره بعض يوم، ولا يملك قوتاً أو بوتاً أو كوتاً، وبينما هو يغرينا بتغريده؛ إذ جاءه نسر أو صقر أو حِدَأة، فاختطف وانتتف!


أتراه، وقف عن هديله، والماء، توقف عن هديره.. أذلك.. أعزم وأحزم وألزم؟!


ياصديقي:

(كن جميلاً، ترى الوجود جميلا)


كانت مني، هاته الشوارد والسوانح، فما كان منه بعدها.. إلا أن انبلجت أسنانه، بله الأضراس، وأبرقت أساريره، وذهب عنه التقطيب، وشعر بالتطييب، ثم قال: صدقت يا أخي، حقاً، إن الحياة، جميلة، وأنا أحب الحياة، وسأعمل فيها بطاعة الله، وأرضى بقسمة الله، مع بذر أعمال، وبذر أسباب.

حييته، وودعته، داعياً له بالتوفيق والتحقيق، والسلامة والغنامة.



وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/٢/١٩

وراجعتها: نحيرة جمادى الآخرة، لعام ١٤٤٢.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق