الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

علّموا أولادكم حب بلادكم!

 علّموا أولادكم حب بلادكم!


زارني أحد المشايخ المحدِّثين، فسأل صغاري، قائلاً: أتحبون بلادكم؟ فأجابوا: نعم، نحبها، ونتمنى أن نعود إليها، ولكن ...!


وهذا عنوان عرفان، وسلّم شرف، وآية مروءة.


ثم زرنا وإياه، آخرين، فسأل صغيرهم: أتحب بلادك؟ فأجاب: لا!


فعلق الشيخ -في ذكاء-، قائلاً: علّموا أولادكم محبة بلادهم؛ لأنهم سيعودون إليها يوماً!


قلت له: صدقت.


ولما خلوت بنفسي، ورجعت بيتي -وفي البيت، يجد المرء قراره واستقراره، وإن كنت، لم أستقر بعدُ -والحمد لله على كل حال-.


أقول: لما عدت البيت، أردت أن أزيد الأمر توكيداً، فقلت:

إن كل إنسان، يعتزي إلى بلد، وينتمي إلى قبيلة، وينتسب إلى أسرة، ولا يجوز له التخلي عن ذلك، أو التحلي بغير ما هنالك.


وقد جاء الوعيد الشديد، في ذلك، ومن ذلك:

عن أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر، ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب، فليتبوأ مقعده من النار).

رواه البخاري ومسلم.


وعن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام).

رواه البخاري ومسلم.


وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة).

رواه أبو داود.


 

قال ابن حجر: "وفي الحديث، تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والادعاء إلى غيره".

(فتح الباري: ٦/ ٥٤١)


وقال ابن دقيق العيد - في شرح حديث أبي ذر-: "يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والاعتزاء إلى نسب غيره، ولا شك أن ذلك كبيرة؛ لما يتعلق به من المفاسد العظيمة".

(إحكام الأحكام: ٢/ ٢٠٨)


قلت: فعلى العاقل.. أن ينتسب إلى بلدته وقبيلته وأسرته، دون خجل وحياء، أو مداورة ومراوغة، وهو أمر لا يد للإنسان فيه، فلم الحياء والاستحياء!


بل إن في الانتفاء أو تغيير الاعتزاء.. مذمة ومذلة، وانتقاص وانتكاس، ينمّ عن ضعة وصغار، ويشي باحتقار نفسه وهوانها عليه، زد عليه، ما تقدم من الوعيد الأكيد الشديد.


ثم إن حب الوطن.. من صفات الكرام، وسمات الأباة، وشيم الأحرار، وقد ضرب العرب، في ذلك الروائع، وأنشدوا البدائع، وتعنوا وتفنوا.


ولا يعلم عربي، استحى أو انتحى أو انتفى من نسبه، لكنا، نجد الاعتزاء حد الفخر والخيلاء!

وقد كان القوم يتبارون، وصاروا اليوم، يتوارون!


وقد ألّف كثيرهم، في فضائل بلدانهم، وفواضل أسرهم، فما لبعض أهل زماننا؟!


فها هو الجلال السيوطي، لم ير مسقط رأسه أسيوط في حياته كلها، ولم يزرها، لكنه ألف فيها مجلدة لطيفة، تحدث عنها، في كتابه (التحدث بنعمة الله: ١٦)


وللعلامة عمرو بن بحر الجاحظ، "الحنين الى الوطن"


وللعلامة أبي أبي الطيب الوشاء الأعرابي، "الحنين إلى الأوطان".


وللإمام عبد الكريم السمعاني، "النزوع إلى الأوطان"


وللأديب أبي الفرج الأصفهاني، "أدب الغرباء"


وللعلامة أبي الحسن على بن محمد المدائني، "كتاب الغرباء"


فيهما شعر مجموع، وأخبار عن الحنين إلى الوطن، والشوق إليه،

وهما متماثلان في التبويب.


وللدكتور عبد المنعم حافظ الرجبي، "الحنين إلى الديار في الشعر العربي إلى نهاية العصر الأموي"


فانزع إلى وطنك، إما ببدنك، فإن لم تستطع، فبروحك، فإن لم تسطع، فبلسانك، وذلك أضعف المروءة!


قال ابن الرومي:

‏وحبب أوطان الرجال إليهم *** مآرب قضّاها الشباب هنالكا


إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهمْ *** عهود الصبا فيها، فحنّوا لذالكا


ولشوقي:

وللأوطانِ في دم كل حُرٍّ *** يد سلفت ودَين مُستحقُّ


والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد وطنه، محبباً إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).

رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه.


ولم يسكن شوقه، ولم يسكت حبه، صلى الله عليه وسلم، حتى بعد سكناه المدينة، على إيواء الأنصار اليمنيين له ونصره، فدعا ربه سبحانه وتعالى، فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد).

رواه البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها.


ولما طابت له المدينة، كان يحبها كثيراً، ويشتاق لها إذا ارتحل عنها..  عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا قدم من سفر، فأبصر جدرات المدينة أوضع ناقته، وإن كان على دابة حركها؛ من حبها).

رواه البخاري.


وفي (قطوف أدبية) للعلامة عبد السلام هارون: "الوطن هو المهد الأول لجسم الإنسان، يحنّ إليه كلما بعد به المطاف في بلاد الله، ويشعر في قرارة نفسه بحبه وتفديته، والاستهانة ببذل المال والنفس في سبيل الحفاظ عليه، ويدين له أبداً بالولاء والاعتزاز مهما أغرته المغريات، وباعدت بينه وبين أرضه ضرورات العيش".


ووجد على طرة مخطوط:

ولي وطن آليت أن لا أبيعهُ *** وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا


بل إن من اغترب، كان يحمل معه من تربة بلده، وربما حملت إليه..

وقد روى أبو الشيخ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله عنه، مرفوعاً: (تمسحوا بالأرض، فإنها بكم برَّة).

قال الشيخ الألباني، في (الصحيحة، رقم: ١٧٩٢) "وسنده صحيح، ورواه ابن أبي شيبة عن أبي عثمان، قال بلغني، فذكره مرسلاً".


وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة، أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم، بأصبعه هكذا، -ووضع سفيان بن عيينة -وهو راوي الحديث- سبابته بالأرض ثم رفعها، وقال: بسم الله، تربة أرضنا، بِرِيقة بعضنا، يُشفى سقيمنا، بإذن ربنا).

رواه البخاري ومسلم.


قال ابن الجوزي: "المراد من هذا الحديث؛ أنه كان يأخذ بإصبعه من تراب الأرض، فيضعه على ذلك الجرح.

والاستشفاء بتراب وطن الإنسان، معروف عند العرب، وكانت العرب إذا سافرت، حملت معها من تربة بلدها، تستشفي به عند مرض يعرض".

(كشف المشكل: ٤/ ٣٦٨)


وقال بلال رضي الله تعالى عنه:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي أذخر وجليلُ


وهل أردن يوما مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيلُ


وقال رجل من بني ضبة:

نسير على علم بكنهِ مسيرنا *** وعدة زاد في فناء المزاودِ


ونحمل في الأسفار منها قبيضة *** من المنتأى النائي لحب الموالدِ


بل إن ‏تراب الوطن، له تأثير كبير، في حفظ المزاج، ودفع الضرر..

قال القاضي البيضاوي: "وتراب الوطن، له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا.. أنه ينبغي للمسافر، أن يستصحب تراب أرضه، إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة؛ جعل شيئاً منه في سقائه؛ ليأمن مضرة ذلك".

(فتح الباري: ١٠/ ٢٠٨)


ولم يقف هذا الحب، عند الإنسان، بل عُدّي إلى الحيوان.. فقد ذكر ابن الجوزي: أن امرأة خاصمت زوجها في تضييقه عليها وعلىٰ نفسه، فقالت: والله ما يقيم الفأر في بيتك إلا لحب الوطن، وإلا فهو يسترزق من بيوت الجيران!

(الأذكياء: ٢٢٥)


ومن أوصاف النسر: الحنين إلى الوطن!


وكلنا يعلم.. أن القطط ونحوها، إذا طُردت، رجعت، بل إني قضيت العجب، من قصص في هاته البابة المليحة!


وفي (إدام القوت) للعلامة ابن عبيد الله: "ومعاذ الله، أن تقطع رجالات العلم- صِلاتها بأوطانها وقراباتها، وهم أحق الناس بصلة الأرحام، والحنين إلى الأوطان، والقيام بحقوقها التي تفضل حقوق الأمهات على الأولاد".


وأسفي ونعيي، على أولئك الذين يذمّون بلدانهم، ويصمونها بالعيب، ويحقرونها وأهلها.. أولئك هم الحقراء الصغراء، الذين صغرت نفوسهم، وقبحت أرواحهم، فقاؤوا القيح -أصيبوا بالنيح-.


اُكفف يا هو، فإنك عاق هجن مقرف، ليس لك إلا القرع والطرق.. ألا يكفي وطنك، حمله إياك .. ألا يكفيه ضيمه .. ألا يكفيه ظلمه .. ألا يكفيه -إن كنت أصيلاً- فاكفف وانكفف، وإن لم، فليس مع الطغام، كلام!


قال الرافعي:

بلادي هواها في لساني وفي دمي *** يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي


ولا خير فيمن لا يحب بلادهُ *** ولا في حليف الحب إن لم يُتيمِ


ومن تؤوِهِ دار فيجحد فضلها *** يكن حيواناً فوقه كل أعجمِ


ومن يظلمِ الأوطان أو ينسَ حقها *** تجبه فنون الحادثات بأظلمِ


وقيل: "من علامة الرشد؛ أن تكون النفس إلى بلدها تواقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة".


بلاد ألفناها على كل حالة *** وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسنِ


ونستعذب الأرض التي لا هوى بها *** ولا ماؤها عذب ولكنها وطنِ


فارفع رأسك، والْهَج بأسرتك، واذكر بلدتك، بلا كبر وختل، ودون إزراء بالآخرين، أو إقصاء للمسلمين.. فقد جاء الوعيد في ذلك.. ففي مسلم، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).


هذا، ما أردت ذكره في إيجاز، دون شطط أو احياز، "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" "وعلى الله قصد السبيل" وهو حسبنا ونعم الوكيل.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

١٤٤٤/٤/١

الاثنين، 5 ديسمبر 2022

"لا تغثّوا أحد"!

 


"لا تغثوا أحد"!

عبارة جميلة، وكلمة خميلة، كان يكررها كثيراً، شيخنا العلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار-، ويوصي بها الناس، زرافات ووحدانا، ثبات وجميعا!


وإنها لوصية عظيمة، ونصيحة فخيمة، تأمر بحسن الخلق، وتحض على حفظ اللسان، وتحث على طلاقة الوجه، وتنهى عن كف الأذى، وتكرّه فعل العدا.


وهذه الكلمة الحبيبة، من هذا القاضي الأريب، تنمّ عن نفس كبيرة، وتشي بخلق رفيع، فقد عاش حياته كلها، لم يغثّي أحداً!


ولعل هذه الكلمة، تفسّر معنى حسن الخلق، الذي جاء في تعريفه، أنه: بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.


لا تغثوا أحد، أي: لا تحزنوا أحداً .. لا تغضبوا أحداً .. لا تؤذوا أحداً = فإن هذه أخلاق عالية غالية، تكون سبباً لدخول الجنة، مع الفرائض والواجبات الأخرى.


وقد جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على هذا المعنى الرفيع؛ قال رسول الله صل  الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة،  أحاسنكم أخلاقا) رواه الترمذي، عن ابن عمرو رضي الله عنهما.



أقول: ليت الناس، يسمعون هاته النصيحة المشفقة، من هذا الجهبذ الكبير.. فإن بعضهم -عياذاً بالله- قد جُبل على إدخال الأحزان على غيره، بأي طريقة كانت، لا يبالي، بحق أم بباطل.

لا، بل هو محض البطلان والباطل، من هذا العاطل العاظل!


إنه لا يراقب الله في خلق الله.. فهو لا يلوي؛ ينبز ويغمز ويهمز ويلمز، وينم ويغم، ويغتاب وينتاب، ويطعن ويرطن، ويخدش ويكدش.. إنه معول قاطع.. خنجر ناطع.. سيف صاقع.. موس باضع.. يفري في الأعراض، ويسقط على العيوب، ويتسقط العثرات!

لا يهدأ له بال في يومه، ولا يقر له قرار في ليله، إلا، وقد أرهق وأزهق -أُرهق وأُزهق-!


والمصيبة، أن بعض هؤلاء النوكى، يجعل الدين، ستاراً لأمراضه، وغطاء لأغراضه، ثم لا يستحي؛ أن يستدل بألفاظه النابية، عن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، أو عن سلف الأمة!


يا أهوج، هل تعي ما تقول، وهل تدرك استدلالك المقطوع.. إنك لم تدخل في الإسلام كافة.. إنك أخذت ما يوافق هواك .. إنك اجتزأت ما تهوى!

إن من تستدل ببعض أقواله وأفعاله.. كان أرفق الناس وأشفقهم وأنفعهم!


بل إن هذا القاضي الكريم.. لم تسلم كلمته هاته الجميلة، من نقد وتحميل؛ من أنه يدعو إلى تعطيل نقد من يستحق؟!


فيا لله العجب، من هؤلاء الناس.. ألم يقرؤوا تراثه، وما فيه من نقد لكثير من الأقوال والأفعال، دون محاباة أو مواربة!


إن القاضي بكلمته هذه.. يريدك أنت وأمثالك أيها الجارح، بدون دين أو روية، بل محض هوى وشهوة!

فهل ترعوي، أم لا تزال في عمهك وعماك؟!

اللهم ارزقنا حسن الخلق، وجمال الأدب.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/٣/١٢



الجمعة، 11 نوفمبر 2022

قلْب المحنة منحة!

 قلْب المحنة منحة!


أذن الله تعالى، للمعصرات، أن تتثجج بالماء، فبردت الأرض واخضرّت "واهتزت وربت" وننتظر النبت البهج.


فخرجت مع الأهل والولد؛ للتنزه والاسترواح، في أثناء هاته النعمة، حديثة العهد بربها جل وعلا.


وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يفعل ذلك.

عن شريح الحارثي قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبدو؟ قالت: نعم، كان يبدو إلى هذه التِّلاع.

رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان.

قال الخطابي: "التلاع، جمع تَلعة، وهي ما ارتفع من الأرض وغلظ، وكان ما سفل منها مسيلاً لمائها".

(معالم السنن: ٢/ ٢٣٤)


ولعل هذا، دأب السابقين، فقد قال تعالى، عن أولاد نبي الله يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون".


قال ابن رجب: "أما الخروج إلى البادية -أحياناً- للتنزه ونحوه، في أوقات الربيع وما أشبهه، فقد ورد فيه رخصة".

(فتح الباري: ١/ ١١٦)


أعود إلى ذكر نزهتي: بينا أنا في سيارتي -"العجوز الهرِمة" -وما يدريني، لعلها تعود شابة فتية :)-؛ إذ اشتد المطر، وكثف الماء وغزر، وصارت السماء كأفواه القرَب، وإذا بمركوبتي -التي أكل الدهر عليها وشرب-، تستأذنني الوقوف، فأبيت عليها، إلا مواصلة السير .. أحثها تارة، وأزجرها أخرى.. واصلت المسير على مضض، وفي حرض، وعلى ركض، ثم نادت حتى مادت، فزجرتها زجراً فيه عنف ولطف!


حتى إذا أيست ويئست، صاحت صيحة، خلتها تلفظ أنفاسها النفيسة، فتوقفت، وتصلّب مقوَدها، ولم تحل حراكاً.


ومن لطف اللطيف؛ أن وقوفها، كان في منأى عن قارعة الطريق، وفي نأي عن مستنقع المياة!

حمدت الله تعالى وشكرته.


ثم -وهنا، بيت قصيدي-.. نزلنا من دابتي الشاكية، وفرشنا سجادتنا، وأممتهم لصلاة المغرب، ولعب أطفالنا حولنا، ولم يشعروا بنغص أو مغص أو نقص أو بخس!


وهكذا، هي الحياة، لا بد، أن تقبلها وتتقبلها كما هي، مع سؤال الله العفو والعافية، فلا تتبرم من شيء، ولا تقلق من أمر، وكِل الأمور إلى باريها، فكل ذلك خير، "ألا إلى الله تصير الأمور" وفي الله عوض، ومنه الخلف "وعلى الله قصد السبيل" وحسبنا الله ونعم الوكيل.


وفي هاته اللحظات، يأتيني صديق صدوق؛ ليقلّنا إلى منزلنا، وأستودع الله دابتي المسكينة، إلى وقت آخر.

"والحمد لله رب العالمين"


وكتب: وليد أبو نعيم

الجمعة ١٤٤٤/٤/١٧

الاثنين، 17 أكتوبر 2022

مضيضُ أحزان!

 مضيضُ أحزان!


نعم، لعلي أكون أنا، أوسعكم حزناً، وأشدكم ألماً.. لفراق هذا العالم العامل، المحقق النحرير: محمد عزير شمس -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار-.


وذلك؛ لأن حزني عليه، مرتين:

الأولى: الحزن على فراق هذا القرم القمقام، الذي تقلب في أنحاء حياته، بين جد وكد .. بين بحث وفتش .. بين تحقيق وتدقيق .. بين تأليف وتصنيف .. بين نفع وبذل .. بين دأب وأدب .. بين شعر ونثر.. هذا الخريت الماهر، الذي ألهب -فراقه- الأنفس، وأدمع الأعين، وأعقد الألسن.

وهذا حزن الجميع.


أما الحزن، الذي يخصني دون غيري -ولعل من كان مثلي، أن يشركني-! إنه الحزن والأسى، لرحيل هذا الهمام الأمام، دون أن أحظى منه بجلسة، ولو خلسة!


تالله، إن في قلبي حرقة، وفي نفسي لوعة، وأحس بخطأ تجاه نفسي، وتجاه غيري، فاللهم غفراً.


ولي زفرة لا يوسع القلب ردّها *** وكيف وتيّار الأسى يتدفعُ


 لا أدري، كيف سوّفت .. كيف كسلت .. كيف فرطت؟!

لا أدري، هل تهيب من العلامة الجليل، التي أكسبته تيك المهابة، تحاقيقه الرصينة، وتصانيفه المتينة!


لا أدري، أهو الانزواء الذي أصبت به بأخرة، ليس زهداً، ولكن انكفاء على النفس والأهل والولد -ونعما هم-، مع ما صاحب الجم، من التصنع والبهرج -ولا نسلم-!


حتى أن بعض صحبي، حثني قبل أيام، على زورة المسند المعمر عبد الوكيل الهندي الهاشمي، وأنا في تعلل وتململ، إلى أن خلعت رداء الونى، وبادرته، والحمد لله.


وكم حزنت قبلاً، على الشيخ الحبيب أبي الحارث الحلبي -رحمه الله- وقد ضربت بيننا مواعيد، ولكن، لم تتم، فلا بلاغ إلا بالله.


إلى أن سمعت صائحه، ذات مساء، فرجفت ووكفت، لا سيما، وقد كان أحد أعضاء مجموعة شماء جامعة!


بكاك أخ لم تحوه بقرابة *** بلى، إن إخوان الصفاء أقاربُ



بل إن اللواعج تختلجني، والحسرة تجتاحني، حين قراءتي عن الرعيل الأول- سواء من عاصرتهم ولم أدركهم، أو من بيني وبينهم مطاوي السنين.. لكني، أعلل نفسي؛ باستحالة ذلك وعدم إمكانه، ولكن، كيف أعللها، بمن فقدته، وهو بين ظهراني؟!

اللهم صبراً وجبراً.


ولا أظنني فريد حاله، في هاته البابة، بل إنه ورد عن بعض التابعين، تأسفهم؛ أن لم يدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدهم قال: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع فارق المتأسَّف عليه!


إني أعالج اليوم، زفراتي المتتالية، وزجراتي المتوالية، ولم آسو بعدُ من جراح فقْد شيخي الحبيب (القديمي) وكنت قد فارقته منذ عام، -حينما أزمعت سفراً، أفرّ به من الإحن والمحن- وقد كان بي حفياً، فالله المستعان وحده.


ما مضيض الكلوم معتبطات *** كمضيض الكلوم فوق الكلومِ


وعزاؤنا.. أنهم تركوا لنا تراثاً، نشتم أريجهم بين معاطفه، ونقرأ حروفهم في سطوره، ونتخيل شخوصهم على أغلفته.


إن كان جسمك في التراب مغيّباً *** فجميل ذكرك في القلوب أقاما



ولعمر الحق، إني لآنس بمجالسة أهل العلم والفضل، وأتدثر بمسامرتهم، وأتفيأ ظلالهم، وأتروى نميرهم، وكأنني في رياض أريضة، وغياض مغيضة!


فيا إخوتاه، ترووا من بعضكم، وتجافوا عن خلافاتكم، واحرصوا على الزيارات الأنسية، واللقاءات العلمية، فإنها تعدل الدنيا بل وترجح.


ولا حسن إلا سماع حديثكم *** مشافهة يتلى علي، فأسمعُ



وإنها لنبثة نفس، ونفهة نفَس، فاعفوا واصفحوا..



وليد 

١٤٤٤/٣/٢٠

الأربعاء، 12 أكتوبر 2022

وانكسفت شمس الرواية والعلو!

 وانكسفت شمس الرواية والعلو!


بلغني الآن، نبأ وفاة شيخي الجليل، الأواه المتبتل، العالم العامل، الفقيه الحكيم، المسند المعمر الشريف: إبراهيم بن عمرو القديمي.. فأخذت في الاسترجاع: إنا لله وإنا إليه راجعون.


وقد كان الفقيد، يعني لي الكثير، فقد قرأت عليه كثيراً، ولازمته كثيراً، وجالسته كثيراً، وزرته مراراً بصحبة أولادي، وفي كل مرة أعود بطين العقل، مترع القلب، بالعلم والإيمان، طيب النفس، مطيب اليد والجسد.


ناف الفقيد المائة عام برتوات، وهو ممتع بحواسه كلها، سوى بطؤ خفيف في السمع، مع ملازمة العبادة، والاتشاح بالعبودية، والتزام الزهد والورع، والكفاف والانكفاف.


ملتزم بأوراد لا ينفك عنها ولا يفارقها، ويأبى أن يتكلم إذا شرع في قراءتها، لا سيما، بعد صلاة الفجر، وبعد العصر.


دائماً، سواكه في جيبه، يشوص فاه، لا سيما، قبيل الصلوات، متبعاً سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم متحرّيها.

ودائماً، يلازم طيبه، وتشتم منه رائحة جميلة، ثم لا ينسى، إحذائك من طيبه، فور سلامك عليه، أو عند مفارقتك إياه.


كنت أقرأ عليه في "صحيح البخاري" وهو كأحسن سامع وصاغ، لا يخرم شيئاً، بل يسابقني في القراءة .. يفكك الألفاظ، ويشرح بجوارحه، دون تبرم أو تورم، أو غضب وتعصب، بل تراه يتهلل وجهه، وتبرق أساريره.


وهو عال الإسناد جداً، وقد اُكتشف علو إسناده، أواخر عمره، -في مصادفة طريفة ظريفة- فهرع نحوه الطلاب، يقرؤون عليه، صباحاً ومساء، يفترشون الممر الصغير، بجوار بيته، وهو صابر محتسب لا يرد أحداً.


وعلى كبر سنّه، إلا أنه لا يكاد ينسى طالبه، مع طول عهده به، فبعد التحديق في نظره، والمسك بيده، ينطق اسمه بقوة وثبات، وربما معه، اسم الأب والقبيلة أو العائلة.


ومحاسنه جمة، وحسناته عمة، وسيرته حافلة، تحتاج إلى أوراق وأوراق، في ذكر شيوخه ورحلته وطلبه وقراءته وإقرائه وحياته وعبادته وعبوديته، وهذه نفثات ونبثات، أبديتها الساعة، فور سماعي الفاجعة.


وآخر زيارة له، كانت قبل سنة، وكنت أمنّي النفس بالتروي مرات وكرات من نمير علمه وخلقه وسمته ودله، لكني، سافرت ولم أتمكن من الرجوع، فواحزناه!


رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، وأحسن الله عزاءنا وعزاء أهله وذويه، وعزاء الإسناد والرواية.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/٣/١٦


#وفاة_علم

الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

عجبي من رجلين: سيف الدولة وشاعر كندة!

 


عجبي من رجلين: سيف الدولة وشاعر كندة!


كان شاعر كندة "المتنبي"، يعيش في كنف الأمير الكريم، في رغادة عيش، وطراوة حياة؛ حتى دُقّ بينهما عطر المشؤومة منشم بنت عامر، -وما أكثر دقه ودقوقه من الحقدة الحسدة، لا كثروا ولا وفروا-!


وبعد وشايات شعواء، ونكايات نكداء؛ تبدد ذاك الهناء، وتقوض ذياك البناء، فصُعر خد الحبيب، ودوى الغصن الرطيب؛ فلم يحتمل شاعرنا، ذاك التغير المريب، وأوحى له إباء نفسه، وشكيمة روحه، بالقفول، فأزمع الرحيل، وصارم البلاط؛ حفظاً لماء وجهه، واحتفاظاً بأصالة معدنه، على لواعج الشوق، وكوامن الذكرى، إلى تلك المرابع، وتياك المراتع!

ولكن:

فإن إراقة ماء الحياةِ *** دون إراقة ماء المحيّا



وأما السيف.. فإنه بعد رحيل صاحبه، ومضيه إلى الأرض يدّرعها..  تحسر على فرق مفارقته، وندم على قطع منادمته؛ على أن عنده الجم الكثير من الشعراء والأدباء، ولكنه تشاكل الأرواح:


وتأنسُ النفس في نفسٍ توافقها *** بالفكر والطبع والغايات والقيمِ!


حاول استرضاءه، وعالج إرجاعه، إلا أن أنف صاحبنا قد حمي (وحسبك من أنف العربي، إذا حم)!


ولما يئس من عودة توأم فؤاده، وأيس من رجوع شقيق روحه.. وصله بوصله الجزيل، ومد إليه حبله المتين، ولم يتركه يتيه في بيداء الحاجة، ويتضور ذل الفقر، بل حفظ له الود، وعرف الجميل، فلم يزل باعثاً إليه هداياه، وحاذياً له حذاياه!

وصدق شيخ العربية، في قيله: "ومعرفة الجميل؛ خلق لا ينبغي التهاون به"!


إن السيف، على حدة سيفه، واحتداد نفسه.. لم يوسِع الفجوة، ويوسّع الخرق، بل سعى إلى فتقه ورتقه، على قدر وكده وجهده، فما أحراهما بالمديحة، وأجدرهما بالمنيحة.

وما أجمله من هجر جميل، لا أذية فيه، ولا شكاية منه!


وإني على الحالَين في العتب والرضى *** مقيمٌ على ما كان يعرف من وُدّي!



تعريج: وإني أمحضك صحيح النصح وأصرحه.. أن تعود إلى كتاب "المتنبي" للعلامة أبي فهر؛ فإنك واجد فيه ما يخلب لبّك، ويفك غلك، ويشفي غليلك، فلم يترك لغيره متركاً، وحسبك بمحمود في فتشه ونكشه، و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"



تعريك: قال أبو نعيم: وإني أنفث نفثة مصدور، معقباً على ما جرى بين الرجلين، فأقول: هذا ما كان بين أمير وشاعر، من: رفيع الخلق، وجليل الأدب، ومعرفة الجميل، وعرفان العشرة، دون مناكفة ومداورة، ومن دون كشف أسرار، وهتك أستار..


على خلاف بعض أهل زماننا، الذين يبهتون مخالفهم، وينتهبون أفضالهم، ولو كانوا ممن يشار عليهم، أو يرحل إليهم!


لما كان موافقاً لهم، كان، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، وحسنة الأيام.

فلما خالفهم أو خالفوه؛ إذ ينقلب الشيخ والمفتي والحسنة.. جهِلاً جاهلاً جهولاً مجهالاً مجهلاً مجهولاً، وهلم جراً وسحباً!


وليس هذا فحسب، بل يحاول أفدعهم وأقذعهم؛ إلصاقه كل دهية، وإلباسه كل رزية، فأين الدين والخلق والمروءة؟!


ولم يقف هؤلاء الخصمون، عند حد، بل يجيشون الجيوش والدساكر، ويجلبون بخيلهم ورجلهم، في خلع المسكين، من كل فضيله، ووصمه بكل رذيلة.


بل يسعون جهدين جاهدين، في قطع رزقه، ووقف عمله، حتى يصير مشرداً ساهماً، فيحكمون بعقوبته، ويتلذذون بضعفه وحاجته.. إنهم "لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون" قطع الله دابرهم، وهو فاعل سبحانه، فـ "لا يحيق المكر السيء إلا بأهله" و"قُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".


وأجرؤ من رأيت بظهر غيبٍ *** على عيب الرجال أخو العيوبِ!


اللهم مسّكنا بالإسلام وأدبه.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢/٢٠

الاثنين، 26 سبتمبر 2022

آ"أدب الكاتب"، للمغفّلين؟!

  آأدب الكاتب، للمغفّلين؟!


وقفت على مقولة مقوِلة، للعلامة أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدِّيَنَوْرِي، في مقدمة كتابه الغالب، (أدب الكاتب: ١١)، يقول: "فلما أن رأيت هذا الشأن -يريد: العلم- كل يوم إلى نقصان، وخشيت أن يذهب رسمه ويعفو أثره؛ جعلت له حظاً من عنايتي، وجزءاً من تأليفي؛ فعملت لمغفّل التأديب، كتباً خفافا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد، يشتمل كل كتاب منها على فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل؛ لأنشطه، لحفظه ودراسته إن فاءت به همته، وأقيد عليه بها ما أضل من المعرفة، وأستظهر له بإعداد الآلة لزمان الإدالة، أو لقضاء الوطر عند تبين فضل النظر، وألحقه -مع كلال الحد، ويبس الطينة- بالمرهفين، وأدخله -وهو الكودن- في مضمار العتاق"!


هذا ما فاهه هذا القمقام المدرب، والسميدع المجرب.. وقد وقفت عندها وتوقفت، ووجف قلبي وأوجفت، وتساءلت: كيف يكون هذا السفر العتيق- الذي عدَّه ابن خلدون، في (تاريخه: ١/ ٧٦٣) من أمهات كتب الأدب العربي؛ حيث قال: "وسمعنا من شيوخنا، في مجالس التعليم؛ أن أصول هذا الفن وأركانه، أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها"!


فإذا كان هذا الأصل الأصيل، والمتن المتين، يخطه مفترعه، للمغفلين، -أي: الغافلين عن رصين العلم ومتينه، أو المشتغلين بغيره أكثر منه-.. فمن هو سالك جادّة العلم، وأين هو آمّ درب المعرفة؟!

اللهم عفواً وغفراً.


وأقول: عفا الله عنك، أبا عبد الله.. فإنك قد أزريت بنا، حتى كدنا أن نقع، إن لم يكن بعضنا، قد وقع حتى قعقع!

وقد أضر بنا إزراؤك، وآذانا ازورارك، ولو ترفقت بنا؛ لكان أولى بضعفنا، وأنسب لحالنا، وأخب لسيرنا!

فالله المستعان.



قال أبو نعيم: وقد كتب ابن قتيبة، هذا الكتاب النفيس، لأبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير الخليفة المتوكل، وأهداه له، وكانت وشائج العلم والأدب، بينهما في أوجها، وعلى أشدها.

فواهاً لهم واها.


وقد كسر ابن قتيبة، رائعه، إلى أربعة أقسام:

-كتاب تقويم اليد.

-كتاب المعرفة.

-كتاب معاني أبنية الأفعال.

-كتاب تقويم اللسان.



ولِعويص هذا السفر وغويصه.. شرحه جماعة من العلماء، ومنهم:

-ابن السيد البَطَلْيُوسي، في شرحه المسمَى: "الاقتضاب في شرح أدب الكتاب".

-وأبو منصور الجواليقي، في شرحه المعنون: "شرح أدب الكاتب".


والشرحان مطبوعان، على طرف الثمام، من شادي المعرفة وناهلها.



على كل، لقد أطلت ذيل المقالة، وذلك؛ لغضبي من الإغضاء، ومحاجفتي عن الإجحاف، لأدفع الهضم والقضم، وأرفع قومي إلى الهامة.


تولانا الله بعنايته، ورعانا برعايته، "إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين".


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/٢/٢٩



الخميس، 22 سبتمبر 2022

آلمحلّى للعامّة؟!

 


آلمحلّى للعامّة؟!

اقشعر جلدي، حين قرأت، هاته المقولة، للإمام الجهبذ أحمد بن علي ابن حزم، في (محلاه: ٥/ ٣٣) تحت باب: (صلاة الخوف): قال: "قد بيناها غاية البيان والتقصي في غير هذا الكتاب، والحمد لله رب العالمين. وإنما كتبنا كتابنا هذا، للعامي والمبتدئ، وتذكرة للعالم، فنذكر ههنا بعض تلك الوجوه، مما يقرب حفظه ويسهل فهمه، ولا يضعف فعله، وبالله تعالى التوفيق"!



قال أبو نعيم: حقاً، إن عقول الناس على قدر زمانهم، فإن الناس في هذا الزمن، لا يكاد عالمهم بله طالبهم، يلمّ بهذا الكتاب، إلا لِماماً؛ لعويص العبارة، وغويص الإشارة!


بل إن نفراً منهم، جعله غرضاً للرمي، وناصبه العداء، وأعلنها للناس جهرة: احذروا من المحلى!


قلت: وإن كان في المحلى، مسائل مرجوحة، أو شدة خصومة، وحدة حجاج، إلا أنه بالمكان العالي من العلم والفقه والفهم، بل هو أحدُ كتب الإسلام الأربعة التي عليها المعوّل!


قال العز ابن عبد السلام: "ما رأيت في كتب الإسلام، في العلم، مثل "المحلى" لابن حزم، وكتاب "المغني" لابن قدامة".

(سير أعلام النبلاء: ١٨/ ١٩٣)


وقال شيخ الإسلام: "ويوجد في كتبه، من كثرة الاطلاع على الأقوال، والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة.. ما لا يجتمع مثل ذلك لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث، يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح.

وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء".

(الانتصار لأهل الأثر: ٣١)



وكان العلامة الوادعي.. يوصي به؛ لنأيه عن التقليد، وهروبه من الجمود.


فيا شداة العلم، وطلاب المعرفة.. ترفقوا في نقدكم، وارفقوا بأنفسكم، وتدبروا: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً" وإلا، أصيبت المقاتل، وسيمت الكلاكل، و"إن أصل العلم، خشية الله"


رضي الله عن ابن حزم، (وسقى بقعته صوب المطر)


وقد أفردت ترجمة ابن حزم، بالطبع سنة ١٩٤١م في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، بتحقيق العلامة اللغوي سعيد الأفغاني، وقد ذكر أن هذه الترجمة، أرسلها إليه وجيه جُدة/ محمد نصيف، منقولة من نسخة، لسير أعلام النبلاء، بصنعاء، في خزانة الإمام يحيى حميد الدين.

"وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة"



وكتب: أبو نعيم الوصابي

١٤٣٧/١٠/١٥




الأربعاء، 21 سبتمبر 2022

تحرّق الأنفس من رثاء الأندلس!

 تحرّق الأنفس من رثاء الأندلس!


هذه قصيدة فذة فردة، في رثاء الأندلس "الفردوس المفقود"، للشيخ أبي البقاء الرندي الأندلسي.


وهي قصيدة مبكية مشجية، مدمية محمية، مدمعة مجدعة، تصوّر حال أهل الأندلس حين سقوطها، على يد الصليبية الحمقاء الهمجاء العوجاء الشوهاء.


وكيف أذيقوا الويلات والنكبات على يد النصارى الصليبيين الإرهابيين، الذين يتشدقون زوراً وميناً بـ (حقوق الإنسان)!

ولعمر الحق، إنه عقوق للمسلم، بل زهوق لروحه.


وقد سمعت الشيخ ابن باز، ينشج نشجاً عندما سمعها بصوت أحد الإخوة.


وكم تثور الغَيرة في نفوس الغيورين حين سماعها .. وكم يتفطر القلب حين قراءتها.. ولكنها، تجعل العقلاء، يعودون إلى ربهم، ويتبعون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويحذروا الذنوب والمعاصي؛ فإنها مَهلكة مُهلكة.


واليوم، تذهب بلاد المسلمين وتسلب، والخطب جلل.. فأين الحماة الكماة؟!

اتركوا الفلل، واتجهوا نحو القلل!


وكيف لا يغار المسلم، وهو يسمع عرضاً انتهك، وروحاً أُزهقت، وأطفالاً يتموا، ونساء رمّلن، وبلاد سلبن؟!


أعاد الله الأندلس إلى حَضارتنا الإنسانية، وخلصها من حضيرتهم الحيوانية.


وهذه القصيدة مكتوبة مضبوطة لمن أرادها، دون عناء:


رثــــاء الأنـــدلـس


لـكل شـيءٍ إذا مـا تـم نقصانُ *** فـلا يُـغرُّ بـطيب العيش إنسانُ


هـي الأمـورُ كـما شاهدتها دُولٌ *** مَـن سَـرَّهُ زَمـنٌ ساءَتهُ أزمانُ


وهـذه الـدار لا تُـبقي على أحد *** ولا يـدوم عـلى حـالٍ لها شانُ


يُـمزّق الـدهر حـتماً كل سابغةٍ *** إذا نـبت مـشْرفيّاتٌ وخُـرصانُ


ويـنتضي كـلّ سيف للفناء ولوْ *** كـان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدانُ


أيـن الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ *** وأيـن مـنهم أكـاليلٌ وتيجانُ؟


وأيـن مـا شـاده شـدَّادُ في إرمٍ *** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟


وأيـن مـا حازه قارون من ذهب *** وأيـن عـادٌ وشـدادٌ وقحطانُ؟


أتـى عـلى الـكُل أمر لا مَرد له *** حـتى قَـضَوا فكأن القوم ما كانوا


وصـار ما كان من مُلك ومن مَلِكٍ *** كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ


دارَ الـزّمانُ عـلى (دارا) وقاتِلِه *** وأما كـسـرى فـما آواه إيـوانُ


كـأنما الصَّعب لم يسْهُل له سببُ *** يـوماً ولا مَـلكَ الـدُنيا سُـليمانُ


فـجائعُ الـدهر أنـواعٌ مُـنوَّعةٌ *** ولـلـزمان مـسرّاتٌ وأحـزانُ


ولـلـحوادث سُـلـوان يـسهلها *** ومـا لـما حـلّ بالإسلام سُلوانُ


دهـى الـجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له *** هـوى لـه أُحـدٌ وانـهدّ ثَهلانُ


أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ *** حـتى خَـلت مـنه أقطارٌ وبُلدانُ


فـاسأل (بلنسيةً) ما شأنُ (مُرسيةً) *** وأيـنَ (شـاطبة) أمْ أيـن (جَيّانُ)؟!


وأيـن (قُـرطبة) دار الـعلوم فكم *** مـن عـالمٍ قـد سما فيها له شانُ


وأين (حِمص) وما تحويه من نُزهٍ ***  ونـهرهُا الـعَذبُ فـياضٌ وملآنُ


قـواعدٌ كـنَّ أركـانَ الـبلاد فما *** عـسى الـبقاءُ إذا لـم تبقَ أركانُ


تـبكي الحنيفية البيضاءُ من أسفٍ *** كـما بـكى لـفراق الإلفِ هيمانُ


عـلى ديـار مـن الإسلام خالية *** قـد أقـفرت ولـها بالكفر عُمرانُ


حيث المساجد قد صارت كنائسَ، مـ *** ـا فـيـهنّ إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ


حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ *** حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ


يـا غـافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ *** إن كـنت فـي سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ


ومـاشياً مـرحاً يـلهيه مـوطنهُ *** أبـعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ؟


تـلك الـمصيبةُ أنـستْ ما تَقدمها *** ومـا لـها معْ طولَ الدهرِ نسيانُ


يـا راكـبين عِتاق الخيلِ ضامرةً *** كـأنها فـي مـجال السبقِ عقبانُ


وحـاملين سـيُوفَ الـهندِ مرهفة *** كـأنها فـي ظـلام الـنقع نيرانُ


وراتـعين وراء الـبحر في دَعةٍ *** لـهم بـأوطانهم عـزٌّ وسـلطانُ


أعـندكم نـبأ مـن أهـل أندلسٍ *** فـقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟


كم يستغيث بنا المستضعفون وهم *** قـتلى وأسـرى فما يهتز إنسان؟


مـاذا الـتقاطع في الإسلام بينكمُ *** وأنـتمْ يـا عـبادَ الله إخـوانُ؟


ألا نـفـوسٌ أبيّاتٌ لـها هـممٌ *** أمـا عـلى الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ؟


يـا مـن لـذلةِ قـومٍ بعدَ عزِّهمُ *** أحـال حـالهمُ جـورٌ وطُـغيانُ


بـالأمس كـانوا ملوكاً في منازلهم *** والـيومَ هـم في بلاد الكفر عُبدانُ


فـلو تـراهم حيارى لا دليل لهمْ *** عـليهمُ مـن ثـيابِ الـذلِ ألوانُ


ولـو رأيـتَ بـكاهُم عـندَ بيعهمُ *** لَـهالكَ الأمـرُ واستهوتكَ أحزانُ


يـا رُبَّ أمّ وطـفلٍ حـيلَ بينهما *** كـمـا تـفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُ


وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت *** كـأنـما هي يـاقـوتٌ ومـرجـانُ


يـقودُها الـعلجُ لـلمكروه مكرهةً *** والـعينُ بـاكية والـقلبُ حيرانُ


لـمثل هـذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ *** إن كـان فـي القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

ُ

هل للجهادِ بها من طالبٍ فلقدْ *** تزخرفتْ جنة المأوى لها شانُ


وأشرق الحور والولدان في غرفٍ *** فازت لعمري بهذا الخير شُجعانُ


ثم الصلاة على المختار من مُضرٍ *** ما هبّ ريح الصبا واهتز أغصانُ



قال أبو نعيم: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أقيس ما مضى على ما أتى.. فلقد تخاذل المسلمون وتقاتلوا، وسلّموا بعضهم بعضاً للأعداء وتواصوا بذلك وتواصلوا.. "أتواصوا به بل هم قوم طاغون"!


وإن أقربهم مجلساً من مجلس الكفر، أحاسنهم مصانعة لهم، ومماكرة بنا!


في كل بلاد مذبح، وفي كل بيت منيح:

والناس في غفلة عما يراد بهم *** كأنهم غنم في بيت جزارِ


إي والله، كأنهم قطيع غنم، بل هم كذلك في أعين أعدائهم، بعد أن كنا أعزة، صرنا أذلة، وما ذاك، إلا بسبب: التخاذل والتقاتل والتعاضل والتصاول والتقاول وهلم جراّ وسحباً من صفات السوء، وسمات الشر.

فلا بلاغ إلا بالله العزيز الحكيم، هو الملاذ والمعاذ.



وكتب: وليد أبو نعيم،،

١٤٣٧/١٢/١٨

السبت، 17 سبتمبر 2022

أمَوسقةٌ للعلم!

 


أموسقةٌ للعلم!

إن العلم، أصل شريف، ومعدن منيف، لا يداخله الدخل، ولا يخالطه الدغل؛ لأنه نقي المنبع، تقي المنتع!


وإن مما يجر ويحر ويخز صفاؤه ونقاؤه، وقراحه ونقاخه.. ما يصاحبه ويساقبه، من مؤثرات مزعجة، وموسيقى مصخبة، تعمّ وتصمّ وتغمّ!


وقد يتزيا بالهوى غير أهله *** ويستصحب الإنسان من لا يلائمه!



تسمع درس علم عتيق.. فإذا في أوّله، هيشة سوق بل أهيش، وشوهة سوقة بل أشوه!


وما من لحظة إلا وفيها *** إلى فتن القلوب لها دواعي!



ما هذا الكدر المكدر .. ما هذا الخلط المجدر .. ما هذا الشوب المقذر.. ألم يكتفوا بموسقتهم حتى أرادوا موسقتنا .. ألم يقصروا شرورهم على أنفسهم حتى سعوا لإشراكنا .. ألم يحملوا أوزارهم حتى سعوا لوزرنا؟!


وإنك، لتأسى حقاً؛ على بعض شداة النور، وهداة الدرب، تساهلهم وتمايلهم، في هذا المهيع الصخيب، والمَمتح الآسن!

فاللهم هداية وكفاية ووقاية.



وكيف تريد أن تدعى حكيماً *** وأنت لكل ما تهوى رَكوبُ؟!




وأنتم -أيها المموسقون-.. ألا تكفّون عنا جشاء دندنتكم، وتصعرون خدود نتنكم؛ فإنكم قد آذيتم وآنيتم، وأقذيتم وأنكيتم، فسلوا الله العافية، قبل حرمانها.



وإن عجزت عن الخيرات تفعلها *** فلا يكن دون ترك الشر إعجازُ



وبعد،

فاللهم إن هذا داء دوي، وعاهة معيوهة.. آذت آمّي العلم، وأدمت حاملي المعرفة= فاكفناها بما شيت وكيفما شيت.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/٢/٢٠


الأحد، 4 سبتمبر 2022

قال لي ولدي! (٣)

 


قال لي ولدي! (٣)


كنت في حديث مع أهلي وولدي، في أمور العبادة والطاعة، والرزق والمعيشة..


هرع ولدي، يقول: بابا، نريد أن نعتمر، ونقبّل الحجر الأسود، لعل الله يستجيب لنا؟!


فرحت بتعلقه بالعبادة، وحبه للطاعة، وعجبت من شفقته على الرزق!


فقلت: نعم، صدقت، فما أعظم الاعتمار، والافتقار للواحد القهار، والعمرة محتوية على أذكار وأدعية، وأقوال وأفعال وأحوال، وطاعات وقربات، مع ما يصحبها من تطامن وإخبات، ولا شك، أن ذلك، مظنة الإجابة، لا سيما عند الملتزم، وهو: ما بين باب الكعبة والحجر الأسود.


وأما الحجر الأسود.. فيشرع التكبير عند استلامه، وتقبيله، وإن لم يستطاع؛ فتكفي الإشارة إليه!


ويسنّ عند استلامه، قول: (بسم الله، والله أكبر، وإن زاد: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم)



وأما الرزق، وما أدراك ما الرزق.. فهو المؤرّق والمقلق لجميع الخلق، ولكن، من توكل على الله، وعمل بالأسباب، وأيقن واستعان، مع صدق اللجأ إلى ربه المستعان.. أعانه الله ووفقه، ويسر أموره وسهلها.



قلت: وإن من النعيم العاجل والآجل.. نشوء النشء على العبادة، وحب الطاعة، والتعلق بالله سبحانه، ومراقبته في السر والعلن.



فيا أيها الآباء: اغرسوا في أبنائكم، مراقبة الله سبحانه، مع حمايتهم مما يضر.


وقد كان بعض السلف، يعلّم أطفاله الصغار، كيف يستحضرون رقابة الله عليهم، عن طريق ذكر الله بالقلب، فيعلّم ولده أن يقول: "الله معي .. الله يراني .. الله ناظري"

ويكرر ذلك مراراً، حتى يرسخ في قلبه هذا المعنى العظيم.


وهذا أسلوب نافع ناجع، إن استمر عليه الوالد والولد، مكّنه ذلك من استحضار مشاهدة الله له ومراقبته.


وللأسف، هذه تربية غائبة عن كثير من الآباء والأمهات، بل يلجؤون إلى مراقبتهم هم، وهم قاصرون!


وما أجمل، أن تجمع لولدك، بين: حمايتهم من المضار، ومراقبتهم للرقيب الجبار.


حفظك الله يا بني، وسددك وأسعدك، وإخوتك وإخوانك أجمعين.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/٢/١


الجمعة، 19 أغسطس 2022

قال لي ولدي! (٢)

 


قال لي ولدي! (٢)


كنت ماشياً وولدي إلى مسجد خديجة، لأداء فريضة المغرب، فإذا به يسألني قائلاً: بابا، هل في الجنة صلاة؟

قلت له: لا، ليس في الجنة صلاة؛ لأنها دار جزاء، وليست دار تكليف، بل التكليف، في الحياة الدنيا، فمن أحسن هنا، سعد هناك، ومن أساء هنا، شقي هناك!


كان هذا، ما دار بيني وبينه، ثم نظرت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيأكل أهل الجنة؟ قال: نعم، ويشربون، ولا يبولون فيها، ولا يتغوّطون، ولا يتنخّمون، إنما يكون ذلك جشاء ورشحاً كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النّفَس.

رواه مسلم.


وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في صفة أول زمرة تدخل الجنة.. (يسبّحون الله بكرة وعشياً)

رواه البخاري.



فإذا فيه.. أن في الجنة شيء من العبادات، والعبادات تكليفية، لكني، تدبرت الحديث، فوجدت فيه: "يلهمون"

والإلهام، ليس من التكليف في شيء، بل هو محض تفضل وتمنن بل وتنعم.


وقد قرر شيخ الإسلام، أن تسبيح أهل الجنة، من قبيل التنعم والتلذذ، فقال: "فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل، هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به".

(مجموع الفتاوى: ٤/ ٣٣٠)


فهي عبادات ملهمة، دون كلف ومشقة، مثل النفَس الذي لا يفتقر إلى عناء.


قال القرطبي: "هذا التسبيح، ليس عن تكليف وإلزام؛ لأن الجنة ليست محل تكليف، وإنما هي محل جزاء، وإنما هو عن تيسير وإلهام، كما قال في الرواية الأخرى: (يُلهمون التسبيح والتحميد والتكبير، كما تلهمون النفس)

ووجه التشبيه: أن تنفس الإنسان لا بدّ له منه، ولا كلفة ولا مشقة عليه في فعله، وآحاد التنفيسات مكتسبة للإنسان، وجملتها ضرورية في حقه؛ إذ يتمكن من ضبط قليل الأنفاس، ولا يتمكن من جميعها، فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة.

وسر ذلك: أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة ذكره، ورهينة بشكره، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره".

(المفهم: ٧/ ١٨١)


 

وعلى هذا، عقد ابن القيم، في كتابه: (حادي الأرواح: ٤٠٤) فصلاً، عنونه، بـ (فصل في ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة) ثم ذكر حديث جابر الآنف.



وقال تعالى -عن أهل الجنة-: "دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين"


قال ابن القيم: "ومعنى الآية، أعم من هذا، والدعوى مثل الدعاء، والدعاء يراد به الثناء، ويراد به المسألة، وفي الحديث: (أفضل الدعاء: الحمد لله رب العالمين) فهذا دعاء ثناء وذكر يلهمه الله أهل الجنة، فأخبر سبحانه عن أوله وآخره، فأوله تسبيح، وآخره حمد، (يلهمونهما كما يلهمون النفس) وفي هذا إشارة.. إلى أن التكليف في الجنة يسقط عنهم، ولا تبقى عبادتهم إلا هذه الدعوى التي يلهمونها"

(حادي الأرواح: ٤١٧)



وهنا مسألة: إذا تمنى أهل الجنة، العبادة، هل يمكّنون منها؟!

والجواب: أن الجنة، دار جزاء وإكرام، وإقامة العبادات، تنافي هذا، ثم إن أمور الجنة، على خلاف أمر الدنيا، ولا تقاس بها، ولا تشبهها، ثم إن هذا مما استأثر الله بعلمه؛ إذ لم يرد في الوحيين، ما ينبئ عن ذلك.


لكن جاء عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً من أهل الجنة، استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء.

ولكن، هذا في غير أمر العبادة، فالله أعلم.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/١/١٧



الأربعاء، 17 أغسطس 2022

قال لي ولدي! (١)

 


قال لي ولدي! (١)


بعد أن سلّم الإمام، من إحدى صلوات الجهر؛ إذ بابني، يهمس في أذني: بابا، أرى الأئمة، هذه الأيام، يقرؤون: سورة النصر؟!

قلت له -مبتدهاً-: هذا -إن شاء الله- إشارة، إلى نصر الله المسلمين، وفتح البلدان للإسلام!


ثم تدبرت ما قال وقلت، ونظرت إلى أحوال المسلمين، في كل مكان، فقلت مستشهداً:

أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصاً جناحاهُ


فالمذابح في كل بقعة، والمنايح في كل قرية، والدماء تسيل، والأشلاء تتقطع، والنفوس تزهق، إما بين كفر وإسلام، وإما بين إسلام وإسلام، ولا قوة إلا بالله.


ثم نظرت، فرأيت، أن الإسلام في اشتهار وانتشار، لكن المسلمين في اندثار واندحار!


وبيان ذلك:

أن الإسلام، دخل كل بيت في أنحاء المعمورة، وعمّ البسيطة، وهو مصداق، قوله تعالى: "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وقوله: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" وقوله: "ألا إن نصر الله قريب" وقوله: "والله غالب على أمره" وقوله: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله"


ومصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم، -كما عند مسلم-: (إن الله زوى لي الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها، ما زوي لي منها)


وفي رواية عند أحمد: (ليبلغن هذا الأمر، ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر، ولا وبر؛ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)


فلا يأس ولا أسى ولا قنوط، ما استمسكنا بديننا، وجاهدنا أنفسنا، وعملنا، واتكلنا:

إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق بما به الصدر الرحيبُ


وأوطأت المكاره وأطمأنت *** وأرست في أماكنها الخطوبُ


ولم ترَ لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريبُ


أتاك على قنوط منك غوثٌ *** يمنّ به اللطيف المستجيبُ


وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج قريبُ



وأما المسلمون، فقد أصيبوا بضعف وغربة، وانحسار واستحسار وانجرار، وكلف ولهث خلف الغرب الكافر، بعجره وبجره، وغثه ووعثه، فانهزموا في أنفسهم، وفشلوا رغم كثرتهم، وتنازعوا وتقاطعوا، وتدابروا وتنافروا، وقد حذرهم الله ذلك، فقال سبحانه: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".


إن نصر الله آت، وفتحه قادم، وهذا زمان الغربة، الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قيله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) رواه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.


وبعد الغربة والكربة، عودة وأوبة.. قال عليه الصلاة والسلام: (بشّر هذه الأمة، بالسناء، والدين، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض.. فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب)

عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، ورواه أحمد، وصححه الألباني.


لكن، النصر مشروط، بـ: "إن تنصروا الله ينصركم"، وبـ: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً"


فيا ويح، من تمسك بالإسلام، واستمسك بالسنة، (فإن له أجر خمسين شهيد)، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/١/١٥


الثلاثاء، 9 أغسطس 2022

حلقي حلقي!

 حلقي حلقي!

هذه كلمات الطفلة أسماء.. التي لم تجد ما تعبّر به عن نفسها .. عن وجعها .. عن ألمها .. عن شكواها.. لم تجد من يربت على كتفها .. لم تجد من يسعى في علاجها .. لم تجد ناساّ ولا إنسانية، ناهيك عن الإسلامية!


أسماء، عضها كلب كلِب.. فتأوهت وتألمت وتلوعت وتهلعت، لكنها، استراحت بعد ذلك، نعم، استراحت للأبد، إلى الجنة -إن شاء الله-.


يا أسماء .. هناك الملقى والملتقى، عند من لا تخفى عليه خافية.. عند الرحمن الرحيم، عن العلام العليم .. عند العزيز الحكيم، هناك، حيث "يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" .. هناك، حيث لا نصب ولا مناصب ولا أنصاب .. هناك، حيث الموازين والقسطاس المستقيم.


عذراً أسماء، ورب البنية العظيمة، لم أعلم بك إلا الساعة، ولو علمت، ما إخالني، أجد لك شياً، لكن، "معذرة إلى ربكم".


آه أسماء، هل أنت مسامحتني، وإن كنت لا تعرفني ولا أعرفك، لكن يجمعنا الإسلام وكفى.. أرجوك أسماء، لا تشتكيني إلى ربي سبحانه وتعالى؛ فإني أكتب هاته الكلمات، وأنا ساكب الدمعة، مثخن الجراح، موجوع القلب.. هل يشفع هذا لي؟ لا أظن، إنها كلمات على قرطاس، لا تنفع ولا تشفع!

أقسم لك بالله، أني لا أملك من الأمر شيئاً، ولست من أهل الحل والعقد، إنما أولئك الذين تبوؤوا المناصب، ولبسوا الشارات، وركبوا الفارهات، وسكنوا القصور والدور، وتولوا أمرنا، وغفلوا عنا، فبيننا وبينهم الله!


آه آه.. قتلوا الطفولة -قتلهم الله- ذبحوها ببطء -ذبحوا- دمروا البلاد -دمّروا-، أبادوا العباد -أبيدوا-!

وإلى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزانِ


رباه، نجأر إليك بشكوانا .. ببلوانا .. بلأوانا، رباه رباه رباه، لك العتبى حتى ترضى، ولا قوة إلا بك.


الموجع والموجوع،،

١٤٤٤/١/١١

الثلاثاء، 26 يوليو 2022

حُبّ جميع الصَّحبِ.. منهجي ومذهبي!

 حُبّ جميع الصَّحبِ.. منهجي ومذهبي!


اللهم إني أتقرب إليك؛ بحب نبيك صلى الله عليه وسلم، وحب جميع صحابة رسولك صلى الله عليه وسلم، وموالاتهم، وتوقيرهم، "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"


وهنيئاً لمن فاز، بحب جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يضطغن قلبه على أحد، ولم يجترر لسانه سب أحد، فـ "كلاً وعد الله الحسنى" "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم"


"ومن نظر في سيرة القوم- بعلم، وبصيرة، وما منّ الله به عليهم من الفضائل.. علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة- التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله تعالى".

(مجموع الفتاوى: ٣/ ١٥٦)


و"لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، معجزة إلا أصحابه؛ لكفوه في إثبات نبوته".

(الفروق: ٤/ ١٧٠)



ويا خسارة، من جاء القيامة، وقد نال من أحدهم، بفري لسانه، أو ضغن قلبه:

"وقد خاب من حمل ظلماً"

"ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا"

(والله لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه)


"‏فنصف مُد شعير يتصدق به أحدهم -أي: الصحابة- يفضل جميع أعمال أحدنا، لو عُمِّر مائة سنة؛ لأن نصف مدِّ أحدهم أفضل من جبل أُحُدٍ ذهباً ننفقه نحن في وجوه البر؛ وما نعلم أحداً ينفق في البرِّ زِنة حجر ضخم من حجارة أُحُد، فكيف الجبل كله"

(المحلى: ٢٠٧/٤)


وقال الإمام النسائي: "إنما الإسلام، كدار لها باب، فباب ‎الإسلام: ‎الصحابة، فمَن آذى الصحابة، إنما أراد الإسلام؛ كمَن نَقَر الباب، إنما يريد دخول الدار".

(تهذيب الكمال: ١/ ٣٣٩)


آمنا بالله، وسلمنا ما جاء عن الله، وعن رسول الله.. على لسان أصحاب رسول الله: الأَمنة البررة:

"ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"

"يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان"



قال الإمام مالك: "إنما هؤلاء، أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه؛ حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين".

(رسالة في سب الصحابة: ٤٦) عن (الصارم المسلول: ٥٨٠)



وقال الإمام أحمد: "إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء.. فاتهمه على الإسلام".

(البداية والنهاية: ٨/ ١٤٢)


وقال أبو زرعة الرازي: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم، عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".

(الكفاية: ٩٧)



وقال أبو نُعيم: "فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزللهم، ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة.. إلا مَفتون القلب في دينه".

(تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة: ٣٤٤)



ويقول أيضاً: "لا يبسط لسانه فيهم، إلا من سوء طويّته في النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته، والإسلام، والمسلمين".

(تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة: ٣٧٦)



(اللهم يا ولي الإسلام وأهله، مسّكنا بالإسلام حتى نلقاك به) (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)



وكتب: وليد أبو نعيم

١٤٤٣/١٢/٢٨

الخميس، 21 يوليو 2022

كلمة عابثة في حق الشيوخ الثلاثة!

 


كلمة عابثة في حق الشيوخ الثلاثة!


أرسل لي أحد إخواني الفضلاء، مقطعاً صوتياً، لدكتور يدعى عبد القادر محمد الحسين الأشعري الحنفي، يتساءل فيه، قائلاً: الألباني، وابن باز، وابن عثيمين.. هل هم علماء؟


نظرت المقطع؛ متعجباً من علوانه وغلوانه، لا سيما، وقد أشعرني أبا الحارث، بغلوائه!

أردت تجاوزه؛ ضناً بوقتي، لا ظن سوء، فالسوء حاصل دون ظن!

"ولتعرفنهم في لحن القول"


لكني قلت: سأسمع.. سمعت، ويا لهول ما سمعت، ويا ليتني لم أسمع؛ سمعت كذباً وبهتاً، وزوراً وتزويراً، وغمطاً وخلطاً، وتعاظماً وتفاخراً، إلى غيرها من تيك الخلال القميئة، والخصال القميعة!


وأقبح شيء أن يرى المرء نفسَه *** رفيعاً، وعند العالمين وضيعُ!


وحقيقة، لم أسمع لهذا الدكتور، بل لم أسمع به.. إلا الساعة -والحمد لله-!


واترك خلائق قوم لاخلاق لهم *** واعمِد لأخلاق أهل الفضل والأدبِ



ويضيق صدري، حين رؤيتي أمثال هؤلاء الأغمار، الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغون الطريق عوجاً، بل يقطعونها على السابلة!


ومن مكرهم.. أنهم يلبسون الحق بالباطل؛ تمويهاً على الناس، وتزجية لباطلهم، "ولا يَنْفَقُ الباطل في الوجود، إلا بشَوْبٍ من الحق"!

كم في (مجموع الفتاوى: ٥٣/ ١٩٠)


ومن أعاجبهم.. أنهم يأتون إلى أعظم رموز الأمة، فيغمطونهم حقهم، بل يسلبوهم، ويتناولونهم بالإقذاع والتشويه، ولكن، "والله متم نوره" ولو كرهوا.

وليس لهم فضل، "وإنما فضيلة أحدهم؛ باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل، ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح، ليس بعلم ولا فيه منفعة، وأحسن أحوال صاحبه، أن يكون بمنزلة العامي".

(الانتصار: ٤١)



فالشيخ الألباني وابن باز وابن عثيمين، وأضيف إليهم: الوادعي.. كل منهم قنة في فنّه وتفننه، وقمة في مكانه وزمانه.

وأربعتهم.. قد تواطؤوا -دون تواطؤ- على صفات العلم والفهم والاتباع، وشيات النهج والمنهج، وسمات الصفاء والوفاء والنقاء والإخاء.


فالشيخ الألباني، وطّد علم الحديث، حتى غدا سهلاً ميسوراً لدى العامة فضلا عن الخاصة، ولا زال اسمه يلمع بين السطور، ويفصح به في كل مجلس ودور، وسبحان من وضع له القبول، بين أهل القبول!

مع تمكن في الفنون الأخرى، لا سيما: العقيدة، والفقه، والسلوك؛ فإنه في الرأس.

وعندما تسمعه، تعجب من قوة استدلاله، ونصاعة تبيانه، ومتانة حجته، مع لين جانب، وخفض جناح.

ولكن القوم، ينقمون عقيدته!


والشيخ ابن باز، وطّد علم العقيدة والتوحيد، حتى شاع وذاع، في جميع البقاع.

مع تمكن من سائر الفنون، من: فقه، وحديث، وسلوك ونحوها، بل إنه صار أمة وحده، في: العلم، والكرم، والرحمة، والخلق:

وليس على الله بمستنكرٍ *** أن يجمع العالَم في واحدِ


وقد أعظم -الأشعري- الفرية، في زعمه؛ أن الشيخ، لا يحسن قراءة سورة الملك!

وحينما تسمع لقراءة الشيخ ابن باز.. تدرك الخشوع، وترى الخشية، وتحس الصدق، بقراءة محدورة، دون لحن أو إخلال.

ولكن القوم، ينقمون عقيدته!


والشيخ ابن عثيمين، وطّد علم الفقه، حتى غداً مشاعاً ميسوراً لدى الصغير والكبير، من دون نكير.

مع تمكن في كل الفنون، مصنفاً وشارحاً وناظماً، وسارت مصنفاته مسير الشمس، وصارت هي الدرس!

مع زهادة وعبادة، وتواضع جم، وكرم زائد.

وضحكت، حينما أخبر الناقد، عن الشيخ وشيخه ابن سعدي؛ أنهما لا يحسنان فهم بيتين من الألفية! والشيخ، قد شرحها، برصانة ومتانة.

لكن القوم، ينقمون عقيدته!



والشيخ مقبل، وطّد علم الدعوة، حتى دخلت كل بيت، لا سيما بلاد اليمن، واتسعت حتى وصلت كل فنن.

مع تمكن في بقية الفنون، من: حديث، وعلل، وعقيدة، وفقه، إلى هضم نفس، ولزوم عبادة، وسلامة صدر، وكرم وبذل.

وإن تصانيفه، تشبه تصانيف الأقدمين، في: الفحوى والمحتوى، والطريقة والمنهج.

لكن القوم، ينقمون عقيدته!



لا تظلموا الموتى وإن طال المدى *** إني أخاف عليكم أن تلتقوا



ولعمري، إن هؤلاء الأقرام القماقيم.. ليسوا بمحاويج، إلى دفاعي ومدحتي، ولكن، كما قال القائل:

جمالك غير محتاج لشعري؛ *** مدحتك، كي أزيد أنا جمالا!



فيا أبا الحارث، إنك لتشكّ في دخائل هؤلاء، وما يريدون، وإنْ كانت ألقابهم -لا أنسابهم-، تنبيك عن قصودهم -والقصود، يعلمها الله، لكن الدلائل فضاحة-.



وإنك لتجد الأتباع الرعاع، أشد الناس محاربة للعقد الصحيح، والسنة الصريحة.


ومن يك ذا فم مر مريض *** يجد مراً به الماء الزُلالا


وإنك لتعجب، من عظيم فريهم وافترائهم، وشديد بهتهم وتكفيرهم، فلا زال بعضهم، يصمُ شيخ الإسلام ابن تيمية، بالكفر، نعم، بالكفر، ولا أدري، أأضحك أم أبكي، لكن خير من ذاك وذلك؛ سؤال الله العافية، والحمد له على السلامة.


وإِذا الفتى عرف الرشاد لنفسهِ *** هانتْ عليه ملامة الجهَّالِ



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٢/٢١





الأحد، 10 يوليو 2022

التهاني: بين اليوم والقوم!

 


التهاني: بين اليوم والقوم!


اليوم، عصر السرعة في كل شيء، حتى صارت الحياة سريعة في كل شيء إلا في أمر الآخرة -إلا ممن رحم الله-.


ومن ذلك: تهاني اليوم؛ فإن أكثرها، تهاني صورية أو قل: وهمية، لم تنبع من شغاف القلب، ولم تنبت من حبة الفؤاد!


فأكثر هاته التهاني، ليس المهنِّئ هو كاتبها، وليس هو ابن بجدتها، ولا أبو عذرتها، ولا مفترعها ولا مخترعها، بل هو عالة على القالة، ومقتات على الفتات .. وجدها مكتوبة مرقومة مختومة ممهورة، فأخذ بخطامها، وأرسلها على غير بينة، ودون هدى!


فربما وقع في الحرج؛ إذ كتبها صاحبها لصديق باسمه، أو كتبتها امرأة لصديقتها، أو كانت لعيد الفطر مثلاً، ونحن في أضحى، أو العكس.. فأرسلها على علاتها وهناتها، فأصابت في مقتل!


وإما كانت التهاني، عبارة عن ملصقات جاهزة، لا عمل له فيها ولا يد، بل ربما لا يدري ما فيها.. فبعثها مقيدة دون انبعاث، فأفأدت!


وهذا في الحقيقة، يدل على ما وصلت إليه حياتنا وحالتنا، من سرعة وتسرع وجفاف وتشاغل وتثاقل!


وقد يُتعذر، بكثرة المرسلين أو المرسل إليهم، ولكن، مهما اُعتذر، فهذا هو الحال ليس به خفاء، ولا أستثني نفسي من هذا الحال، فاللهم غفراً وجبراً.


أما تهاني القوم.. فقد كانت تهاني مقصودة مفؤودة مصدورة منفوسة، تكتب بخط اليد، وتوشى بوشي الذهب والفضة، وتقرطس بقراطيس محكمة، و:

في قراطيس جياد أُحكمتْ *** وبخط أي خط أي خط!


ويتعنى في كتبها، ويبالغ في شذبها، وذلك؛ لأنها نابعة من الصميم، ونافذة من الصفاء، بل ربما غدت بعض تهانيهم، رسائل سائرة، أو أجزاء مجزئة.


وقد كتبوا عنها، الجم الغفير، ورووا فيها العم الكثير، وأدخلوها في شجرة إسنادهم؛ تخليداً وتمجيداً.

فيا ويلنا وويحهم.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٢/١١


الأربعاء، 6 يوليو 2022

وداعاً "حي النسيم"! سبعة أشهر حسوم في حي النسيم!

 وداعاً "حي النسيم"!

سبعة أشهر حسوم في حي النسيم!


جفاني الكرى، وعاودني الوسن، وزارني الحنين؛ لأيام خلت، وليالي مضت في حي جميل، ومحياً خميل، وجدت فيه مناي، وأدركت فيه مرماي، إنه "حي النسيم"، الذي كان لي كعليل النسيم؛ هبوباً وهدوءاً، وراحة وروحاً، وسكينة وطمأنينة!


وأنا رجل ألوف عيوف!

أما ألوفي، فكما قال الكندي:

خُلقت ألوفاً لو يعاودني الصبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا!


قال الخطيب البغدادي: "سمعت محمد بن عبيد الله بن توبة الأديب يقول: لا أعلم نقل في معنى الإلف، أحسن من بيت المتنبي:

خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا"

(تاريخ بغداد: ٥/ ١٦٤)


وقال الواحدي: "هذا البيت، رأس في صحة الإلف؛ وذلك أن كل أحد يتمنى مفارقة الشيب، وهو يقول: لو فارقت شيبي إلى الصبا، لبكيت عليه؛ لألفي إياه؛ إذ خلقت ألوفاً".

(شرح ديوان المتنبي: ٣١١)


وحالي، كحال الأديب الطنطاوي؛ حيث يقول: "ولا انتقلت من دار إلى دار، ولا من بلد إلى بلد، ولا تحولت من عمل إلى عمل.. إلا أسيت على فراق ما تركت ورائي، وخشيت ما سألقاه أمامي. فهل كان المتنبي ينطق بلساني، حين قال:

خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا"؟!

(ذكريات الطنطاوي: ٥/ ١٥٦)


وأما عيوفي، فكما قال البارودي:

خُلقت عيوفاً لا أرى لابن حرةٍ *** علي يداً، أغضي لها، حين يغضبُ!


فلله، ما أعز هذه النفس، وأبعدها عن مواطن التطامن، وأنزهها عن مواقع الاعتساف، لكنها، تحفظ حق الإخاء، لمن عرفه، أما من رأى نفسه، فوق صحبه، وصار يتوقى حين غضبه، فلا كرامة ولا شهامة، إن أغضي له، وهرع إليه.


‏قال المبرد:

إذا تاهَ الصديق عليك كبراً *** فَتِهْ كبراً على ذاك الصديقِ


فإيجاب الحقوقِ لغير راعٍ *** حقوقك؛ رأس تضْييع الحقوقِ


ومثلها:

زِنْ من وزنك بما وزنك *** وما وزنك به فزنهُ


من جا إليك، فرُح إليه *** ومن جفاك، فصد عنهُ


وعوداً، إلى حي النسيم، أقول: تفيأت ظلاله، وتروحت خلاله .. استعذبت نميره، واستروحت جويره .. استوطنت مساجده، وتوطنت معابده .. تنسمت أنواره، وتسنمت أغواره!


مساجده كبيرة كثيرة وفيرة، ضخمة فخمة .. نظيفة لطيفة، تزخر بالتهجد والعبادة، وتضج بالسجود والتلاوة.


فمسجد خديجة بغلف، الجامع الكبير الجميل، الذي لا يخلو من عبّاده وقصّاده، من شتى الأعراق والأجناس، يأتي بعضهم، قبل الأذان، ولا يزال في تهجد وإخبات، وقراءة للقرآن، لا سيما في رمضان.


ومسجد زهية لنجاوي، المسجد الزاهي بتواضعه، متوسط الحجم، إلا أنه معمور بالصلاة والقراءة، فبعضهم: لا يكاد يسبقه أحد، وثان: لا يغادر مصحفه، وثالث: لا يفتر عن القراءة، ونحوهم وغيرهم.


ومسجد رقية، تدخل قبل الأذان، لا سيما أذان المغرب، خاصة الإثنين والخميس، فترى الصائمين قد أخذوا مواطنهم في الصف الأول، ويأتي بعض موسريهم، فيوزع الماء والتمر والقهوة، ورأيت قراطيس، ربما فيها أكبر من ذلك!

وبعضهم، يجلس ما بين المغرب والعشاء، للذكر والقراءة، عدا طلاب التحفيظ، الذين كأنهم خلية نحل!


ومسجد الفتح، مفتوحة أبوابه للذكر والعبادة، كغيره من المساجد التي يذكر فيها اسم الله.


ومسجد الكوثر، كالكوثر في جماله، والقمر في جلاله، مع توزع الحلقات بين جنباته.


ومسجد الفردوس، تسأل الله الفردوس الأعلى حين ولوجه، وتسأل الله دوام الثبات، وإدامة الخير.


ومسجد اليحيى، رحب الفناء، واسع الأفياء، تقام فيه دورات علمية، وفي أيامي، أخبرت عن قيام دورة فيه، للشيخ خالد المشيقيح، ولكن للأسف، لم أعلم إلا بعد انتهائها، فالله المستعان.


ومسجد التقوى، تتوشح التقوى عند دخوله، وتلازمها حين خروجه، وتتفكر في آيات الله وهباته -جعلنا الله من أهلها-.


ومسجد الفرقان، جميلة أرجاؤه، رحيبة ساحاته، يقصده الشيوخ الطاعنين، والشباب النابهين.


ومسجد المحطة، صغير كالمفحص، ومتواضع كالكوخ، أحب الصلاة فيه؛ لأن ابني كان يتدرب فيه على الأذان، بل تجرأ مرة، وسألني أن يؤم آمّيه؛ فنهيته؛ لعدم نضج نُهاه!


كل هذه المساجد -وربما غيرها- في حي واحد، يؤمه جيرانها، ولا يتوانون عن شهودها، حتى أنها قد تمتلئ في بعض الصلوات.


وإني رأيت شيئاً، -ولا أدري- ربما لم أره في غيره من الأحياء، وهو: ازدحام المساجد، وكثرة عمارها، ووفرة زوارها!

وكنت أخبر بهذا، من يزورني، فيوافقني!


إنه حي جميل الأنحاء، خميل الأفياء، وافر الصلاح، هادئ الضجيج، قليل الصخب، هذا وصفي للديار والدور.


أما الإنس والأناسي.. فلم أكد أتعرف على أحد؛ لانزوائهم على ذواتهم، وإقبالهم على أنفسهم، ونفورهم من غيرهم، ومن طبعي.. أن لا أقتحم الناس في خصوصاتهم، ولا أفرض نفسي على غيري، بل إذا وجدت إقبالاً، أقبلتُ وأكثر، وإذا رأيت إدباراً، نفرتُ وأكثر؛ لأن نفسي علي عزيزة، لا أحب إهانتها ولا امتهانها.


كما قال حاتم:

‏ونفسُك أكرمها فإنك إن تهُن *** عليك، فلن تلقى لها الدهر مُكرِما!


‏‎ويقول آخر:

فنفسك أكرم عن أمور كثيرة *** فما لك نفس بعدها تستعيرها!


 وقال آخر:

‏‎إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها *** هواناً بها، كانت على الناس أهونا!


ولا أعمم تعميماً، يخرجني عن القسط والعدل؛ فقد صادفت رجالاً، وصادقت أبطالاً، ذوو شهامة وشمم، وكرامة وكرم، وهؤلاء اليوم في قلة ونزر، فإذا وجدتهم، فابسط إليهم يديك، وعض عليهم بناجذيك، فإنهم أنذر من الكبريت الأحمر!


قال يوسف بن أسباط: أتيت سفيان الثوري رحمه الله، فقلت: يا أبا عبد الله، أوصني. قال: أقلل من معرفة الناس. قلت: زدني يرحمك الله، قال: أنكر من عرفت. قلت: زدني يرحمك الله. قال: 


اُبلُ الرجال إذا أردت إخاءهم *** وتوسمن أمورهم وتفقدِ


وإذا ظفرت بذي الأمانة والتقى *** فَبِهِ اليدين قرير عينٍ فاشددِ


بعد هذا الوصف المعتصر والمختصر، لهذا الحي الحي، أحب أن أقول- لمساجده ودوره، وشوارعه ومروره، ولا بأس، حتى ناسه، أقول لهم: وداعاً وداعاً، فقد عشت أياماً حسنة، وليالي مباركة، ازددت فيها خيراً، وسيرت فيها سيراً، لم أحبك لغرض دنيوي، فلم أجد فيك دنيا، إنما وجدت فيك الدين والأخرى، والحمد لله في الآخرة والأولى.


مسافر أنت، والآثار باقيةٌ *** فاتركْ وراءك ما تحيي به أثركْ


وأقول: لولا أمور وأمور؛ لما رغبت عنها، ولما خرجت منها، ولكن، لا بد مما أراده الله وقضاه، وشاءه وقدره، فالحمد لله على كل حال.

ولا أدري، لمَ تذكرت القاضي عبد الوهاب البغدادي، تـ٤٢٢ -رحمه الله وغفر له-؟؟


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١١/١٦

السبت، 11 يونيو 2022

هَنـاءةُ هِنْـدِي!

 


هَنـاءةُ هِنْـدِي!

تعطّلت سيارتي في مكان لا أعرفه،  وعجزت عن الحول، وفقدت الحيلة، ولست بخبير؛ لأصلح ما تعطل، أو أوصل ما انقطع!


هاتفت صديقي الأريحي؛ لنجدتي، فجاءني من فوره، وعمل استطاعته، ولكنه هو الآخر، لم ينجح في بعثها أو انبعاثها!


تركتها هناك، على خوف وتخوف -على كسادها في سوق النخاس-، لكني استودعتها الله، وفي الحديث (إن الله إذا اُستُودع شيئاً، حفظه) رواه النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني.


استأجرنا مصلحاً؛ ليصلحها، بعد المشارطة والمماحكة -ولست بمماحك أو باخس- رجعنا إليها، بهانئها، لكنه هو الآخر، لم ينجع ترياقه، فطلب إحضارها إليه؛ ليفحصها على مهل وتؤدة!

إنها جاثمة، لا تحيل تحركاً، ولا تحاول حراكاً، لكنها، لن تُعدم مسانداً ومعاوناً، وقد يسره الله!


صلينا المغرب، في مسجد بالقرب من راحلتي المريضة .. خرجنا ونحن نضرب أخماساً بأسداس.. كيف نصنع .. وماذا نعمل؟

ولما كنا في تشاور وتحاور مع رفاقي الرفقاء؛ إذ بشاب ربعة، مرسل اللحية، حنطي اللون، تزينه ابتسامة خجولة، وفي كلامه لكنة= يقترب منا، ويعرض خدماته!

شكرناه، وأخبرناه بعلتها الدوية.. ابتسم ابتسامة جميلة، ثم خطا خطوات، ثم رجع، فعاود تقديم طلباته، فشكرناه أخرى، ثم غادر، ولم يرد المغادرة!

قال أحدنا: لو سألتموه، إعارة بطارية!

ناديناه وأخبرناه.. فرجع مبتهجاً منتهجاً، واستسرّ بطلبنا واستبشر، وذهب نحو سيارته؛ لينتزعها بطاريتها، وأعطاناها!


أخذناها، وذهبنا؛ لنستعين بها على النجح، إلا أن مغذي سيارتي، كان قد هلك، فلم تفد ولم يستفد!


رجعنا، وقد أذّن للعشاء، فإذا بصاحبنا المعير، يتأهب للصلاة، وحاول ثانية.. أن يضيفنا، لكنا، اعتذرنا، وانصرفنا، ولم نصرف قلوبنا نحو هذا الفتى، أعجمي الأرومة، عربي الكرومة، وألسنتنا تلهج بالدعاء له، والثناء عليه.

وتخيلوا، أخذنا بطاريته، دون معرفة، وبلا ضمانة، لكنه، حسن الظن، وسلامة الضمير، ثم التسخير والتيسير!


فلله دره، وعلى الله شكره، و"إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً"



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٠/١١




السبت، 21 مايو 2022

المقامة السيارية" سيارة ليست بِسارّة!

 


"المقامة السيارية"

سيارة ليست بِسارّة!


قُدّر لي.. أن أشتري راحلة مرحولة، لكنها هزيلة مهزولة، بادٍ كُلاها، ونادٍ علاها .. كانت بدراهم معدودة؛ بسبب الحال المجذوذة .. اشتريتها على علاتها؛ رجاء غلاتها، فكانت حديدة لا حميدة، ومذيقتي الويلات العديدة!


لقيت منها الألاقي، وأوقفتني على أطراف الطرق وفي التلاقي، حتى غبت ولغبت، وعبت وتعبت!


تقف عند الطلوع، حتى تتخالف منها الضلوع، وتخلّف لراكبها المزوع، فتسيل الدموع!


أشعر أني أنا الحامل لا المحمول، والعامل لا المعمول، فأبذل جهداً جهيداً؛ لأني أقاوم دابة حديداً!


أما سائسوها.. فحدث عنهم ولا حرج، فأكثرهم خدج وخرج؛ إما لفقدهم الأمانة، وإما لنقصهم الصيانة، فكم أتعبوا أرباب هذه الدواب، وأعطبوا عقول أولي الألباب؛ بِلَفّهم ودورانهم، وكذبهم وجورانهم!


واليوم، وما أدراك اليوم.. أردت اختبار مركوبي الجامح، بعد أن أصلحه صالح!


وللأسف الأسيف، والتعس الرعيف؛ فقد أزمعت التجربة المنحوسة، إلى الطائف المأنوسة، وما معي من صاحب أو صيال، سوى الأهل والعيال!


أردت النفه والنفس، عن وعثاء النفس، من أوضار الضجر، وأضرار السجر؛ فإذا بي وبهم نلقى الشدائد الكبار، والخدائد الكثار، في حرور الظهيرة، حتى وصلت الروح النحيرة!


توقفت بنا في بدء العقبة الكؤود، فلم تحلْ طلوعاً ولا عَود، أردت ضربها، فتذكرت أنها لا تعي ولا تسمع، بل ترغي وتدمع .. ارتفعت الحرارة، واشتدت الخرارة، وعظمت الجرارة!


طلبت العونة السمحة، فلم تقف لي إلا "السطحة"، حاشا القلة، التي لا تدري ما العلة، فتتركني مأوها، وفي بليتي مُدلّها!


ثم جاءني شاب من بني السودان، يعرض النجدان، ومعه دابة متهالكة، وفي طريقها متعارجة، لكنه صحيح الأقوال، صريح الأفعال، فحاول ترياقها، حتى تلمظت ريقها، وعادت لها الحياة، فابتسمت الشفاه!


ولما عرضتُ عليه الأجر، غضب وزجر، فحمدت له جميل الصنع، ودعوت له بسلامة النجع.


فلم أكد أخطو خطوات، مستعيذاً بربي من الخطيئات، إلا و"عادت حليمة لعادتها القديمة"، فحاولتها وصاولتها، وأقسمت لها، أن لا أواصل رحلتي، وإن غضبت عيلتي، فهادنتني وهاودتني!


ولما رجعت القهقرى، وعدت الطريق الأخرى، عائداً إلى منزلي، وراجعاً إلى مغزلي.. وقفتْ بي في نصف الطريق، حيث لا رفيق ولا وفيق، زجرتها، فصاحت صيحة، وناحت نيحة، كان فيها الهلاك، ونزلت أقلبها، فإذا بها لا حراك!


رجعت أجرّ أذيال الخيبة، خليَّ العيبة، لكني -والحمد لله- أتبسم تبسم الراضي، طالباً عوضاً من القاضي، جل وعز سلطانه، سبحانه سبحانه ما أعظم شانه.


ولست مريداً الشكوى، أو طالباً البلوى، وإنما هي محنة أرجو أن تكون منحة، أردت التخفيف عن لواعج النفس المتعبة، والتهوين من كوامن الروح المعذبة، والحمد لله على كل حال، في الآن والمآل.


هذه قصتي مع دابتي اللعيبة، وسيارتي التعيبة، التي بذلتْ لكنها بدّلت، وأعطتني لكنها عيطت، ولكل أجل كتاب، والحمد للملك الوهاب، الذي يعطي ويهب، ويكرم ويصب، ومنه البدل والعوض، والعافية من المرض.

"إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين" جُعلنا من الصالحين الفالحين الناجحين.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٠/٢٠




الأربعاء، 11 مايو 2022

اِصدع ولا تدَع!

 اِصدع  ولا تدَع!


قلِ الحق، بدون غمغمة ولا حمحمة، وبلا لجلجة ولا بجبجة ولا مجمجة، ومن غير ملامة ولا مذامة، وسوى مداجاة أو محاباة..

واتق الله، فإن الساكت عن الحق، شيطان أخرس، والناطق به، شيطان ناطق!


لا بأس، اُكس ألفاظك، أما أن تغيّر معاني الحق، وتُغِير على أهل الحق؛ فأف لك وتف عليك.


أقول هذا؛ لأنك تقرأ بين السطور لبعضهم، حياء وخجلاً، وكأنه عروس في يوم نطاقها!


وقد ذكرني صنيع هؤلاء المتفقهة المتفيهقة.. بوضع عبد الله بن صوريا اليهودي، يده على آية الرجم؛ كتماناً للحق الأبلج، "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً" وقلدهم بعض أهل ملتنا، فواخجلاه!


ما هذا يا قوم، أفي ديننا ما نستحي من فشوه، أو يستحيا من بدوه؟!


حاشا ذلك، "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" تنزيل من حكيم حميد" "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً" والحق واحد لا يتعدد، قد يخفى على البعض لا على الكل؛ لأنه "بلسان عربي مبين"


والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٠/١١


عاطفة قاصفة!

 عاطفة قاصفة!

مشكلة الكثير، سواء كانوا طلبة علم أو دعاة أو غيرهم.. أن العاطفة تغلبهم على تدبر النقل وتفكر العقل؛ ولذلك كان هذا من نقص المرأة..

لكنا، فجئنا ولا زلنا نفجأ بين فينة وحينة.. مَن كنا نظنه فذاً وقداً من الرجال، فإذا به يجاري المرأة في عاطفتها!


وإن شئتم دليلاً.. فانظروا إلى مقدار التعاطف الكبير، حين نبأ وفاة مشهور مجهور؛ في إطرائه وتطريته .. وليته كان تعاطفاً دنيوياً، أو مدحة خالصة.. إذن، لهان الخطب.. لكنه تعاطف ديني، من ترحم ودعاء .. إنه شأن بيد الله .. إنه أمر قد بتّه الله .. إنه حكم قد قضاه الله.. فما يبغي هؤلاء "إلا اتباع الظن" إنهم مسلمون، يقرؤون قوله تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى" إنهم يؤمنون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرؤون قوله: (والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم وغيره) ثم يلوونها أو يلوون أعناقهم، "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً"؟!


إن النصوص صحيحة صريحة، والإجماع منعقد، والفطرة تؤيده، والحس يقف معه.. لكن، العاطفة وحدها، من وقفت إزاء كل هذه الحجج الصلاد الصلاب.. فكان أن أطاحت بصاحبها (إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم)!

وعش رجباً، ترى عجباً!

فيا رب عوناً وصوناً وموناً.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٠/١٠

نحاسة ونجاسة!

 


نحاسة ونجاسة!


يا للتعاسة والرجاسة والنحاسة والنجاسة، من بعض الرخصاء الرخيصين المترخصين، الذين يظنون دين الله كلأ بخيساً، ويخالونه مرتعاً رخيصاً، لكل والغ وناعق وناعب وناهق ونابح وزاعق!


حسروا وخسروا وقسروا وقصروا.. فإنه لا خوف ولا مخافة.. على الإسلام؛ لأن الله تكفل بحفظه، "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".

وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِز عزيز أو بذُلِّ ذليل، عِزاً يُعِز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).

رواه أحمد وغيره. وقال الألباني في (تحذير الساجد: ١٥٨): "على شرط مسلم، وله شاهد على شرط مسلم أيضاً".


وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب مَن أسلم منهم؛ الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً؛ الذل والصَّغار والجزية.


وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ، ولا وَبَرٍ، إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيزٍ، أو ذل ذليلٍ، إما يعزهم الله، فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم، فيدينون لها).

رواه أحمد وغيره. وصححه الوادعي في (الصحيح المسند، رقم: ١١٥٩)


فالإسلام قادم، والمسلمون قادمون، ونحن نرى -بحمد الله- عودة الناس إلى ربهم ودينهم ونبيهم وفطرتهم وغيرتهم، فالمساجد ملأى بالمصلين القانتين الذاكرين- من الشبان والشيبان، والحجاب عاد بقوة، بل حتى الجلباب الذي لم تكن تكد تراه، "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين"


دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً *** من مات من غيظه، عندي له كفنُ!


ولكن، الخوف والألم.. على هؤلاء الحمقى النوكى، وأتباعهم الهوام الطغام- من غضب الله ومقته، وشديد عقابه وسخطه، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" "واتقوا فتنة لا تصيبين الذين ظلموا منكم خاصة" "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا"



ويا إخوتي.. كل شيء يهون، سوى دين الله تعالى .. كل غال يرخص، حشا الإسلام .. كل عزيز يسقط، خلا الحرمات.. إنها رأس المال .. إنها البقية الباقية .. إنها الغاية التي لا غاية بعدها .. إنها السلامة التي لا يعدلها شيء.


فسلّموا لأمر ربكم؛ تسلموا وتغنموا، واحفظوا رؤوس أموالكم "لا تظلمون ولا تُظلمون" "ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام" "ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"



ويأيها الناس.. لا تسمعوا للاغين الناعقين، ولا تقرؤوا للنافقين المنافقين؛ فإنهم -ورب البنية-.. أحقر وأقذر.. من ضياع دقيقة في قراءتهم أو سماعهم.. إنهم سامجون .. سامدون .. ساقطون .. نافقون .. منافقون .. موتورون .. مسجورون .. مصدورون .. مكبوتون .. منكوتون .. مقطوعون .. مبضوعون..


وعجبي.. أن يوجد من ينشد الرفق، ويرفع راية السلام، ويدّعي الإسلام؛ من يدفع ويدافع عن كلب نابح والغ، في عرض الإسلام وحماه!


سيأتي الآن، بعض (من لا أصفه).. من يقول: نزّه ألفاظك.. كيف تصف الإنسان بالحيوان، بل بأحطها وأخسها، وهو الكلب؟!


أقول له: كفّ عني جشاءك، واكففْ عني هراءك.. فإن ميزانك باخس مبخوس، فأنت مطفف، و"ويل للمطففين".


لم يتمعر وجهك، ولم يحم أنفك.. من نيل أشيمط أحيمر كأنه وحْرة.. في ذات الله تعالى، وخوضه في عظمة الإسلام، وهدره ومذره وقذره وزفره، في الأعراض.. ثم تنتفخ أوداجك، وتتورم أشداقك، حين أن نرد البغي والبهتان؟!

"ما لكم كيف تحكمون" "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان"



إن الولِغ الواقع، في دين الله تعالى، والمَحِق الراتع في حرمات الله عز وجل.. لهو أحط من الحيوان وأسقط، "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" "فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا"!


(اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) (اللهم يا ولي الإسلام وأهله، مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به)


هذا بلاغ لكم والبعث موعدنا *** وعند ذي العرش، يدري الناس ما الخبرُ!


وإلى لقاء تحت ظل عدالة *** قدسية الأحكام والميزانِ



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/١٠/١٠


السبت، 30 أبريل 2022

مـا أعـز العِـزّة!

 مـا أعـز العِـزّة!


الآن، رأيت رجلاً يبدو عليه الرياش، وطيب المعاش -ريش بلباس التقوى- يقول لآخر: هل تريد زكاة؟!

قال له: لا بأس، جزاك الله خيراً.


قال له: أنت يمني؟!

قال: نعم.


وإني لمن قوم كأن نفوسهم *** بها أنَف أن تسكن اللحم والعظما!


مضى الغني إلى سيارته، وأتى له بقليل من الأرز، ثم قال له: لكن، أمانة، تأكلونها!


فما كان من ذاك الفقير، إلا أن احمر وجهه، وزم شفتيه، وحملق نحوه، ثم قال له: خذ زكاتك، فإني لست بحاجة إليها!


إني أحرِّض أهل البخل كلهم *** لو كان ينفع أهل البخل تحريضي


ما قلّ مالي إلا زادني كرماً *** حتى يكون برزق الله تعويضي


رد الغني -بصَغار؛ لأنه هو من جلبه على نفسه، وقد كان في عزة وفسحة من أمره-: أرجوك، لا تردها، خذها!


رد الفقير -بشموخ-: لا، والله لا آخذها!


قال الغني: طيب، انظر فقيراً آخر، وأعطِها إياه؟!

قال الفقير: لا، لا أعرف، عليّ بإخراج زكاتي وكفى!


لا تطلبن معيشة بمذلةٍ *** واربأ بنفسك عن دنيّ المطلبِ


وإذا افتقرت فداوِ فقرك بالغنى *** عن كل ذي دني كجلد الأجربِ


فليرجعن إليك رزقك كله *** لو كان أبعد من مقام الكوكبِ


هذا ما كان وبان قبل دقائق وثوان..

وقد تمنيت من الغني -هداه الهادي-.. أن لا يستعمل هذا الأسلوب الجلف الجافي؛ وعليه، أن يتحرى لصدقته، دون سؤال أو جرح لمشاعر الناس، ونهنهة لعزتهم؛ لأن غضب الفقير "العزيز"، يقسم ويقصم!


أبلغ سليمان أني عنه في سَعةٍ *** وفي غنى غير أني لست ذا مالِ


شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزلاً، ولا يبقى على حالِ


والفقر في النفس لا في المال نعرفهُ *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالِ


وقد أعجبت بعزة الفقير، الذي أسقط الفاني على الباقي، فحبات أرز تفنى، وذلة النفس، أثرها باق لا يندمل!


فلا ترضى بمنقصة وذل *** وتقنع بالقليل من الحطامِ


فعيشك تحت ظل العز يوم *** ولا تحت المذلة ألف عامِ

 


بغض النظر، عن الأسلوب، إلا أني شعرت بالفقير، وهو يُصفع من هذا الغني، -ربما دون قصد- فثار وفار وطار، ولم يصبر على الخسف، بل رد الصفعة بأصفع وأفظع!


لو رشفة الماء بعض المنِّ كدَّرها *** ماتوا عطاشى على الرمضا وما رَشفُوا


الحلم والنبل والإيثار عن كرمٍ *** والعزم والحزم والإقدام والأنَفُ


وأقول: أيها المزكي والمتصدق: غلّف زكاتك، واكس صدقتك؛ بجمال الكلمة، وحسن النظرة، وطيب الطعمة؛ لأنها واجبة عليك، ليس لك فيها منّة، ولا يجوز أن يكون منك أذية ولا أذى "يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى".


وعجزت عن شكر الذين تجردوا *** للباقيات، وصالح الأعمالِ


لم يخجلوها بالسؤال عن اسمها *** تلك المروءة والشعور العالي


هذا ما أردت سطره؛ علّ فيها عبرة وذكرى، للأغنياء والفقراء، (اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك)


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢٩

الاثنين، 25 أبريل 2022

أداء المناسك من اليمن!

 أداء المناسك من اليمن!


الحاج أو المعتمر اليمني.. ما به؟! كل خلق الله يعتمر ويحج، فما باله اليمني؟!

نعم، الكل يؤدّي المناسك، ويزور البيت، ويقصد الروضة، ويزور بقعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، (وهي أفضل بقعة على وجه الأرض، لا لذاتها، ولكن؛ لاحتوائها ذاته ونفسه الشريفة، ينظر: (نسيم الرياض: ٣/ ٥٣١) و(التحفة اللطيفة: ١٢) و(الفتاوى الكبرى: ٤/ ٤١١) و(مجموع الفتاوى: ٢٧/ ٣٨)) ويسلّم على صاحبيه رضي الله عنهما.. من شتى الخلق والخليقة، ومن شت البلاد والبلدان، لكن مناسك أهل اليمن تختلف، ليست من حيث الصفة والكيفية، فالكل سواسية، ولكن من حيث الحال والوسيلة والأداة والدرب!


فحالته المادية -في الغالب- ضعيفة كليلة، قليل دخله، شحيحة موارده، لا يكاد يسد رمقه وأطفاله وعائلته، إلا أنه متدين بفطرته.. يحب الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الحق!

وهو شديد اللهف والكلف؛ لأداء وبأداء المناسك، فرغم عوزه، إلا أنه لا يصبر على بيت الله وحرمه، بل بعضهم: يبيع بيته، والثاني: يبيع بقرته التي عليها المعول في الحرث والحليب، والآخر: يستلف ويستدين!


هو النفس الصعّاد من كبد حرّى *** إلى أن أرى أم القرى مرة أخرى


وما عذر مطروح بمكة رَحله *** على غير بوس لا يجوع ولا يعرى


يسافر عنها يبتغي بدلاً بها *** وربك لا عذراً .. وربك لا عذرا


ولا غرابة أن ترى نزراً منهم، يؤمّون بيت الله الحرام، وليس لهم زاد ولا مزودة؛ لخلوّ وفاضهم، وبدوّ أنفاضهم، فما إن يتيسر لهم قيمة التأشيرة، إلا ويسرعون ويسارعون، ثم، ناشدين التوكل على الله، طامعين في فضل الله، ظانين أن الناس مثلهم، في الإيواء والإطعام والإكرام!


ولم يعلموا، أن الزمان غير الزمان، والرجال غير الرجال؛ فقد انشغل كل بنفسه، وانزوى في زاويته، وانطوى على بيته، لا يحب زورة ولا دورة، إلا من رحم الرحيم.


ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلْف كجلد الأجربِ


مات الناس، وبقي النسناس، مات الكرام، وبقي اللئام..

مات أهل الفضل لم يبق سوى *** مقرف أو من على الأصل اتّكلْ


وقال عمرو بن معديكرب الزبيدي:

ذهب الذين أحبهم *** وبقيت مثل السيف فردا


وقال مصعب الزبيري يرثي إسحاق الموصلي:

أرى الناس كالنسناس لم يبق منهم *** خلافك إلا حشوة وزعانف!


ومن المعلوم.. أن أهل اليمن، يضيفون الضيف، ويحبون الغريب، ولا يتضيقون من النازل، بل يوسعون له الدار، ويذبحون له الذبائح، ويمنحونه المنائح، وإن كان بينهم وحر وترة!


على أن هذا من الخطأ الغالط، لا ينبغي أن يكون، ولكن بعضهم لا يملك زمام نفسه، ولا يستطيع كبح جماح نفَسه!


يا من يسافر في البلاد منقباً *** إني إلى البلد الحرام مسافر


إن هاجر الإنسان عن أوطانه *** فالله أولى مَن إليه يهاجر


وتجارة الأبرار تلك ومن يبِع *** بالدين دنياه فنعم التاجر


وعليه، فإني أنادي إخواني من الموسرين أو المقيمين في أكناف البيت الحرام وما والاه: أن ارفقوا بإخوانكم، وأطعموهم، وآووهم، وزودوهم، "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"

هذا الأمر الأول..


الأمر الثاني.. بُعد الشقة، وشدة المشقة، في رحلة اليمني إلى بيت الله الحرام، وليس بُعداً فحسب، بل إن الطريق مخدد ومبدد، وصعب ووعر، ومحفر ومطبب، فلا يكاد يسلم كيلو متر من هذه الأوصاف المضة والممرضة.


فالرحلة، تستغرق في العادة من يومين إلى ثلاثة دون وقوف أو توقف، وأحياناً تستمر إلى خمسة أيام، وربما تضاعفت إلى عشرة أيام بلياليها؛ وذلك إذا صادف ازدحاماً في المنفذ، أو عراقل وعقابيل!


تخيلوا، رجال ونساء، وكبار وصغار، ومرضى وزمنى، يطوون هاته المسافات البعيدة، مع طول مكوث، وإطالة انتظار، وتطويل طريق!


طوت بهم المراحل في الفَيافي *** قَلائص تذرع الفلوات كوم


فَلَمسان فسر دد ثم مور *** فَحَيران لهن به رَسيم


إِلى حرض إلى خلب تراث *** إلى جازان جازَت وهيَ هيم


ومرت في ربا ضمد وَصيبا *** ولؤلؤة وَغَوان تهيم


وذهبان وَفي عمق وَحلى *** تساورها المفاوز وَالرسوم


وفي ببة وَفي كنفي قنوتا *** سرت وَاللَيل منعكر بهيم


فَذوقة فالرياضة فاستمرت *** بجنب الحفر يطربها النَسيم


إِلى الميقات ظلت خائضات *** غمار الآل يلحقها السموم


وباتَت عند ما وردت اذا ما *** تحن فَلا تَنام وَلا تنيم


وفي أم القرى قرت عيون *** عشية لاح زمزم وَالحَطيم


أولاك الوفد وفد اللَه لاذوا *** إليه بفقرهم وَهُوَ الكَريم


وطافوا قادمين يبيت رب *** فتم لهم طوافهم القدوم


وبين المروتين سعوا سبوعاً *** لكي يمحوا شقاءهم النَعيم


قلت: آه، يا عبد الرحيم، هيجت الأحزان، وألهبت المشاعر.. فقد كانت هذه هي طريق الحاج والمعتمر اليمني، منذ آماد وآباد، ولكن، قد تغيرت الدروب، وغيرت الطرق، وبوعد بين أسفارنا، فلسنا بالغيه إلا بشق الأنفس، والله وحده المستعان.


إلا أنه، ومع هذه المنكدات والمكدرات.. إلا أن الواحد منهم، يقلب المحن إلى منح، ويحوّل المشاق إلى أشواق، إلى بيت الله العتيق!


أهيم بروحي على الرابيه *** وعند المطاف وفي المروتين


وأهفو إلى ذِكَر غاليه *** لدى البيت والخيف والأخشبين


فيهدر دمعي بمآقيه *** ويجري لظاه على الوجنتين


ويصرخ شوقي بأعماقيه *** فأرسل من مقلتي دمعتين


أمرغ خدي ببطحائه *** وألمس منه الثرى باليدين


ونظرة عجلى إلى قصيدة عبد الرحيم البرعي، في تشوقه للحج، -مع قطع النظر إلى حال القائل-؛ تدرك قدر التلهف، ومقدار التمزق، ومنها:


ضربت سعاد خيامها بفؤادي *** من قبل سفك دمي بسفح الوادي


ما كان حجة من أقام بمكة *** أن لا يحدثني حديث سعاد


بعثت إليََ من الحجاز خيالها *** شتان بين بلادها وبلادي


يا هذه عوّدتني ألم الضنى *** وأراك لست أراك في العواد


فقف المطيّ ولو كلمحة ناظر *** بربا المحصّب أو منى يا حادي


وأعد حديثك عن أباطح مكة *** وعن الفريق أرائح أم غادي


ومسرّةً للناظرين بدت لنا *** ما بين سوق سويقة وجياد


ومن شعره أيضا وهو يخاطب الركاب:


قل للمطي التي قد طال مسراها *** من بعد تقبيل يمناها ويسراها


ما ضرّها يوم جد البين لو وقفت *** تقص في الحي شكوانا وشكواها


لو حملت بعض ما حملت من حرق *** ما استعذبت ماءها الصافي ومرعاها


لكنها علمت وجدي فأوجدها *** شوق إلى الشام أبكاني وأبكاها


ما هب من جبلي نجد نسيم صبا *** للغور إلا وأشجاني وأشجاها


ولا سرى البارق المكي مبتسماً *** إلا وأسهرني وهناً وأسراها


تبادرت من ربا نيّابتَي بُرَع *** كأن صوت رسول الله ناداها


ومنها، وهي مشهورة مجهورة:

يا راحلينَ إلى منىً بقيادي *** هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي


سرتم وسار دليكم يا وحشتي *** والعيس أطربني وصوت الحادي


حرمتمُ جفني المنام لبعدكم *** يا ساكنين المنحنى والوادي


فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا *** منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي


وتذكّروا عند الطواف متيماً *** صبّاً فني بالشوق والإبعادِ


لي من ربا أطلال مكّة مرغبٌ *** فعسى الإلهُ يجودُ لي بمرادي


ويلوحُ لي ما بين زمزم والصفا *** عند المقام سمعت صوت منادي


ويقول لي: يا نائماً جدَّ السُرى *** عرفاتُ تجلو كلّ قلبٍ صادي


تالله ما أحلى المبيت على منى *** في يوم عيد أشرفِ الأعيادِ


الناسُ قد حجّوا وقد بلغوا المنى *** وأنا حججتُ فما بلغتُ مرادي


حجوا وقد غفر الإلهُ ذنوبَهُم *** باتوا بِمُزدَلَفَه بغيرِ تمادِ


ذبحوا ضحاياهُم وسال دماؤُها *** وأنا المتَيَّمُ قد نحرتُ فؤادي


حلقوا رؤوسَهمو وقصّوا ظُفرَهُم *** قَبِلَ المُهَيمنُ توبةَ الأسيادِ


لبسوا ثياب البيض منشور الرّضا *** وأنا المتيم قد لبست سوادي


يا ربِّ أنت وصلتَهُم وقطَعتني *** فبحقِّـ"كـ"ـم يا ربّ حل قيادي


ويقول الشاعر أحمد سالم باعطب: يا مهجةَ الأرضِ يا ريحانةَ العُمرُ *** حبيبتي أنت في حِليِّ وفي سفري


كم بِتُّ أرسمُ أحلامي مطرَّزةً *** إليك بالشوق والتذكارِ والسَّهرِ


يا خير أمِّ رعَى الرحمنُ مولدَها *** ومنيةَ العاشقينِ: السَّمعِ والبَصرِ


طهورُها الحُبُ والإيمانُ حلَّتُها *** وعقدُها دررُ الآياتِ والسُّوَر


أنا سليل العُلى والسادة الغرر *** أنا المناجيكِ في الظلماءِ والسَّحَرِ


أنا الذي أرضعتْني كُلُّ ثانيَةٍ *** قبَّلْتُ فيها يدَيْك الحُبَّ من صِغَري


أنا الذي طَرِبَ العشاقُ من طَربي *** وزاحموا الشُّهْبَ أفواجاً على أثري


حبيبتي أنتِ أزكى حُرَّةٍ حمَلَتْ *** في راحتيها ضياءَ الشَّمْسِ والقمرِ


يا ربَّةَ الخُلُقِ المحمودِ والسِّيَرِ يا *** عَالمَ النور يجلُو ظلمةَ البَشَرِ


يا قلبَ أرضِ بلادِ اللهِ قاطبةً *** يطُوفُ حولَك طُهْرُ الحِجْرِ والحَجَرِ


إنْ كان حُبُّ الفَتَى في عرفهِ *** قَدَراً فإنَّ حُبُّكِ في عُرْفِ الهُدى قدري


لا شيءَ يملاُ أكوابي إذا فَرَغَتْ *** إلاَّ رضابُ المنى من ثغركِ العَطِر


وهذه نفحات من أديب العربية الحضرمي علي أحمد باكثير:


طف بي بمكة إني هدّني تعبي *** واترك عناني فإني هاهنا أربي


ودع فؤادي يمرح في مرابعها *** ففي مرابعها يغدو الفؤاد صبي


هنا أمرغ خدي صبوة وجوىً *** فتهتف الحور بشرى خدك الترب


فإن رأيت دموعي أنبتت حجراً *** فتلك مني دموع الفرحة العجب


هنا بمكة آي الله قد نزلت *** هنا تربى رسول الله خير نبي


هنا الصحابة عاشوا يصنعون لنا *** مجداً فريدا على الأيام لم يشب


كم هزني الشوق يا خير الديار وكم *** عانيت بعدك وجدا دائم السبب


إلا إليك أرى الأشواق تقعد بي *** وعند ذكرك أشواقي تحلق بي


وعند ذكرك أنسى أنني بشر *** وكالملائك أحيا في المدى الرحب


فتبدعين كياني من تقى وهدى *** فلا أحس بما ألقاه من وصب


ما غير زورة بيت الله ترجع لي *** شباب روحي إذا امتدت يد النوب


ربي حنانيك فاكتبها وخذ بيدي *** كي يهتف القلب يا فوزي ويا طربي


ومن أقدم الشعر في التشوق إلى مكة، ما قاله مضاض بن عمرو، يندب حظه وحظ قومه الذين خرجوا أو أخرجوا من مكة، وقد وصل إليها متعقباً إبلاً له، فوقف على جبل أبي قبيس، وأنشد قصيدة طويلة، منها:

وقائلة والدمع سكب مبادرُ *** وقد شرقت بالدمع منها المحاجر


كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** مقام ولم يسمر بمكة سامر


ولم يتربع واسطاً فجنوبه *** إلى المنحنى من ذا الأراكة حاضر


فقلت لها والقلب مني كأنما *** يلجلجه بين الجناحين طائر:


بلى نحن كنا أهلها فأزالنا *** صروف الليالي والجدود العواثر


والأمر الثالث: هو ما تشهده بلاد اليمن، من حرب دامية، وظروف قاسية، وما خلفته من انقطاع للكهرباء، وتقطع في الماء، وتدهور في وسائل تواصل النقل والاتصال.. إلا أنهم دائماً يتغلبون على المصاعب والمتاعب، فتراهم يخرجون من بيوتهم، ولا يملكون قيمة الغداء؛ لكن البسمة تعلو وجوههم، والأمل يداعب قلوبهم، ولا يخلو عملهم من كد ودأب وإدئاب!


تسأل أحدهم: كيف الحال؟ يرفع كفيه إلى السماء، ويقول: له الحمد والشكر، ثم يقبّلهما!


ملحوظة: كلامي هذا لا أعني به الجميع، بل أريد به المجموع، وإلا، فإن هناك شواذ وشذاذ لا يقاسون ولا يقاس بهم.


ملحوظة أخرى: ثنائي على أهلي وأهل بلدي.. لا أقصره عليهم، ولا أنفيه عن غيرهم، بل إن الكرم والكرام في جميع البلاد، ومن مجموع العباد.


هذا إيماض وإلماظ وإحماض عن أداء مناسك الرجل اليمني (وإن شيت، قلت: اليماني؛ فـ(الإيمان يمان، والفقه يمان) وأرجو لبلاد المسلمين- الأمن والأمان والإيمان، والسلم والسلامة والإسلام، والرخاء والرغد- أجمعين اكتعين أبتعين أبصعين، "وعلى الله فليتوكل المتوكلون" "ومن يتوكل على الله فهو حسبه * ويرزقه من حيث لا يحتسب".


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢٤

الأحد، 24 أبريل 2022

ليلة ٢١ من رمضان في المسجد الحرام!

 


ليلة ٢١ من رمضان في المسجد الحرام!


من عادتي أنا.. أن لا أحرص في رمضان، على الصلاة في الحرم؛ للزحام الشديد الذي يفضي إلى بعض المخالفات، من تبرج وتفنن، وتزين وتفتن!


مع ما في ذلك من اختلاط النساء بالرجال، والصغار بالكبار، في المخارج، وعلى الأبواب، وعند السلالم!

والله المستعان.


وصار وضع بعض النساء، كما قال القائل:

‏‎وليست كأخرى أوسعت جيب درعها *** وأبدت بنان الكف بالجمراتِ


وعلَت فتيت المسك وحْفاً مرجلاً *** على مثل بدر لاح في الظلماتِ


وقامت ترائي يوم جمعٍ فأفتنت *** برؤيتها من راح من عرفاتِ!


وكأن أبا حازم المدايني، يتحدث عن عصرنا هذا.. حينما نظر إلى امرأة تطوف بالبيت مُسفرة، وكانت من أحسن خلق الله تعالى وجهاً، فقال: أيتها المرأة، اتقي الله، لقد شغلت الناس عن الطواف! فقالت: أما تعرفني؟ قال: من أنت؟ فقالت:

أماطت رداء الخز عن حر وجهها *** وألقت على المتنين برداً مهلهلا


من اللائي لم يحججن يبغين حسبة *** ولكن ليقتلن البريء المغفلا


وقد كان بعض السلف: يطوف بالبيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:

أهوى هوى الدِّين واللذات تعجبني *** فكيف لي بهوى اللذات والدين؟!

فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.


نعم، صحيح، يجب على الرجل غض البصر، ومراقبة الرقيب، ولكن، يجب على المرأة أيضاً: ستر زينتها، وإخفاء مفاتنها؛ لأن لكل ساقطة لاقطة!



تخيلوا، هذا الموقف العجيب، من هذا الصحابي النجيب..

خطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر، ابنته، وهما في الطواف، فلم يجبه، ثم لقيه بعد ذلك، فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف، نتخايل الله بين أعيننا!


لا إله إلا الله، حقاً، إن من يتخايل الله بين عينيه؛ ينأى عن المآثم والمحارم والمغارم، وينفك عن المفاتن والمزاين!



ولا ينكَر.. أن في النساء بقايا، وفي الزوايا خبايا، وحالهن كما قال النميري:

يخمّرن أطراف البنان من التُّقى *** ويخرجن جنح الليل معتجراتِ


عذراً، أسهبت في هذا الأمر، وقد كتبت فيه مقالاً، عنونته، بـ "ظاهرة تبرج النساء في الحرمين الشرفين!

يا زائرة الحرم اتق الإثم واللمم!"


أقول: علاوة على ضيق النفس، وتضيق النفَس!

وإذا ضاقت النفس، وتأففت الروح؛ تعب الجسد، وتبلبل القلب، وتحير اللب، ولم يذق لذة العبادة، وحلاوة الطاعة!



والليلة، ليلة الواحد والعشرين، جاءني بعضهم، وحضني وحرضني على الصلاة في الحرم.

اعتذرت، فأصر وألح، حتى وقعت تحت إلحاحه وإصراره!


ذهبت، وليتني لم أذهب، ليس زهداً في هاته البقعة الشريفة التي صلاها وفضلها رسول الله عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام، ولكن، للزحام الممض والمقض!


أقول: ذهبنا بعد صلاة المغرب، حتى أذن للعشاء ثم أقيمت صلاته، ولا زلنا نخب ونوضع، ولم نصلْ بعد، حتى فاتتنا الركعة الأولى!


فلما خشينا فواتها.. صففنا في درب هناك، يمشيه الناس بأحذيتهم، دون فرش أو بساط، حاشا عِمّة أحدنا، تطوع بها الحاض!

صلينا مع من صفّ وصلى وافترش، ولا تسلني عن ما يخدش هذه الصلاة، من: تخط، ولغط، وغلط!


وحقيقة، إن قدسية المكان، وشرف الزمان.. أضفت عليه جلالة ومهابة،  فاهتبلناها فرصة، لنصلي بنعالنا، (والصلاة في النعال، سنة، تكاد تهجر، وقد صنف فيها شيخنا المحدث مقبل الوادعي، رسالة، على طريقة المحدثين الأقدمين، أسماها: "شرعية الصلاة في النعال")


انطلقنا بعد الصلاة، نهرول لا نلوي على شيء، سوى نشدان مكان لصلاة التراويح (هكذا تروايح أو قيام، في جميع الشهر، دون تفريق في التسمية والوقت، في العشر) لكن المسجد قد امتلأ عن آخره، حتى الساحات الوسيعة هي الأخرى ضجت واكتضت، ولا زلنا في سعينا حتى لغبنا، ثم منّ الله تعالى بموطئ لأقدامنا، أمام دورة للمياة، في إحدى الساحات، فاصطففنا هناك، فرحين بذلك، والحمد لله على كل حال.


ولا شك.. أن هذه الاجتماعات، تشي بخير، وتنم عن حب، وتدل على مسابقة ومسارعة، ولكن ليت الناس، لا سيما أهل مكة.. يتركون فرصة لغيرهم من البلدان البعيدة، الذين لا يكادون يرونه إلا مرة في العمر، وهم يأتونه كل يوم، بل بعضهم كل فريضة!

حتى أن أحد الإخوة أخبرني، عن أحد الإخوة.. أنه اعتمر في إحدى الرمضانات، ٤٠ عمرة!

فقال له صاحبي -ممازحاً، بلهجته-: أها، يعني: أنت مسبب الزحمة!


ناهيك، عن الحكم الشرعي، في حكم تكرار العمرة.. فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم.. أنهم كرروا العمرة في سفرة واحدة.

ينظر، للتوسع (المغني: ٥/ ١٧) وفعل عائشة، حادثة عين خاصة، كما في (مجموع الفتاوى: ٢٦/ ٢٧٣)


وهذا، وإن كان يدل على الحب، إلا أنه يسبب زحاماً خانقاً، وتدافعاً مؤلماً.. فإذا اجتمع هؤلاء الماكثين، بأولئك الزائرين.. اكتض الحرم بالآمّين، وغض بالمصلين، فلا تكاد تجد لرجلك موطناً وموطئاً.


وقد كان كبار العلماء، كابن إبراهيم، وابن حميد، وابن باز.. إذا أتوا مكة، لا يقصدون الحرم باستمرار، بل يصلون خارجه، كالعزيزية ونحوها من مناطق حدود الحرم -كما أخبر عنهم الشيخ الفوزان-.

والجمهور.. على أن المضاعفة، تعمّ الحرم كله، كما في (المجموع: ٩/ ٣٢٩) و(زاد المعاد: ٣/ ٣٠٣)



على كل، هذه خاطرة سنحت، وذكرى سمحت، فاقتنصتها، علّ فيها تذكرة وذكرى.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢١




الخميس، 21 أبريل 2022

ظلمات المنظمات!

 


ظلمات المنظمات!


لا زلت أذكر وأتذكر، تلك المحاضرة القيمة، التي ألقاها على مسامعنا- أحد مشايخ أهل السنة والجماعة، في عرصة عريضة، تسَع الآلاف والألاف (وكثيرة ما كانت تقام، أعادها الله في وئام) لكني لا أذكر على وجه اليقين أين كانت.. هل في الجراحي أو حيس أو الحسينية أو بيت الفقيه، وأجزم أنها في واحدة منها، محدساً، أنها في حيس؛ لأن بها منظمة -قمئت وقمعت-.


وأتذكر تماماً.. غيرة الشيخ، وارتفاع صوته، وانتفاخ أوداجه -وإن كنت لم أرها؛ لأني كنت صغيراً وبعيداً- (كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم) وكان مما حذر منه، وأنذر عنه: منظمة أدرى وغيرها من المنظمات التخريبية التغريبية التحريضية!


واترك خلائق قوم لاخلاق لهم *** 

واعمِد لأخلاق أهل الفضل والأدَبِ


حتى أذكر حينها، وأنا صغير، لا أعي معنى المنظمة، وما هي المنظمة، وما تريد المنظمة؟! إلا أني شعرت حينها بالخوف والوجل من الانتقام، ممن حذر منهم، وظلْت طيلة المحاضرة، أحاذر أن يقذفوا علينا بقاذف -قذفوا وحذفوا وخذفوا-!


انتهت المحاضرة، وعاد كل إلى داره، وظلّت "المنظمة" أحمل عنها السوء والشر والضر والمنكر -وهي كذلك- وإن دَسّت السم في الدسم!


وإِذا الفتى عرف الرشاد لنفسهِ *** هانتْ عليه ملامة الجُهّالِ


ولا زالت المنظمات تتوالى، وصوتها يتعالى، وعملها ينتشر، وصيتها يشتهر، في ربوع بلادي الحبيبة الفقيرة؛ زعماً لإطعام وإيواء، لكنها بلواء ولأواء!


وللأسف، لم يسمع بعض قومي لصراح الشيخ الصريح، وصراخه الصريخ، وتحذيره الجلل، حتى مُكن لهذا الخراب والحراب، والفساد والإفساد.


وما كل من مددت ثوبك دونه *** لتستره فيما أتى، أنت ساتره


وإني لأعجب جداً، بل وأسخر، بله أشنأ وأمقت.. من يحسن بهم الظن، ويتوقع منهم الخير الخالص، ويكأنه لم يقرأ قول الله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"؟!


ما قيمة الناس إلا في مبادئهم *** لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرتبُ


فحاشاهم، نعم، حاشاهم.. أن ينفقوا شيئاً من أموالهم، لله خاصة، وللمؤمنين خالصة، إلا أن يشوبوها بشوائبهم المقذية، ويخلطوها بأخلاطهم المعدية؛ لأنهم لا يرجون لله وقاراً، ولا يبتغون عند الله ثواباً، "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".


وإني لأعلم مِن وعَن كثير من بني قومي.. مَن يقول: نصبر على الجوع والعطش، ولا نصبر على وحر العار، وحر النار.


كل المصائبِ إنْ جلّت وإنْ عَظُمَتْ *** إلا المصيبة في دِين الفتى جَلَلُ


ولكن هؤلاء الأتن الأنتان النتنى؛ لا يكشفون عن وجوههم الكالحة، ولا يضِحون عن حقيقتهم الفاضحة، بل يدسون ويدلسون ويموهون، ويظهرون الطيب، ويتظاهرون بالحسن!


وأسفي.. أن يُستعمل بعض بني قومي أداة، ويركب مطية؛ لتمليح صورهم القبيحة، وتلميع أجسامهم القريحة؛ مقابل بعض وبضع دريهمات، فـ (تعس عبد الدينار) "ألا ساء ما يزرون" "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون".


فأنت امرؤ منّا خُلقتَ لغيرنا *** حياتك لا نفعٌ وموتُك "نافعُ"!


ونحمد الله تعالى.. أن قامت أمة بالحق وتقوم؛ فكشفت زيفهم، وأظهرت بهرجهم، وأحبطت سعيهم؛ فاستمع لهم العقلاء، الذين يبغون الله والدار الآخرة، ولا يبتغون الفساد في الأرض.

فالحمد لله رب العالمين.


أما من اتبع هواه، وأذعن للشيطان، وأراد الطريق عوجاً؛ فلا كلام معه؛ لأنه "اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله"؟!


إذا ما الهوى استولى على الرأي لم يَدَع *** لِصاحبه في ما يراه صوابا


آخر:

‏‎والنفس إن صلحت، زكت، وإذا *** خلت من فطنة، لعبت بها الأهواء


آخر:

‏‎إذا أنت لم تعصِ الهوى، قادكَ الهوى *** إلى بعض ما فيه عليك مقالُ


ونأمل من الحكام والمسؤولين، وذوي الحل والعقد.. أن يقطعوا الصلة، ويقطّعوا أوصال هاته المنظمات الفاسدة والمفسدة، التي تصد "عن ذكر الله وعن الصلاة"، وتدعو إلى تحرير المرأة، وتحرر الشاب، ووأد الفضيلة، ونشر الرذيلة، وخلع ربقة الشريعة، ونقض عرى الإسلام، والخروج من الدين بالكلية، والانسلاخ من الأسرة، والسفر إلى ديار الغرب؛ للعمل في السوء والشر والفحشاء والمنكر!


وليس بعامر بنيان قوم *** إذا أخلاقهم كانت خرابا


وقال:

كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم *** ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب


وقال:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن تولت مضوا في إثرها قدما


وقال:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا


ويا أهل اليمن.. إن لم تطرد الحكومات هذه المنظمات ويخرجوها من دياركم؛ فأخرجوها أنتم من قلوبكم، واطردوها من نفوسكم، واحفظوا بناتكم وأهليكم؛ فإنكم عنهن تسألون، إن لم تحوطونهن بنصح! و"فساد النساء سببه الأول؛ تساهل الرجال".

كما قال الشيخ بكر أبو زيد، في رسالته الفذة الفردة "حراسة الفضيلة" فاقرئيه يا كميلة؛ لتدركي خطر الحركات العميلة، حفظك الله في كل صغيرة وجليلة.


وحقيقة، إن البنت اليمنية.. بها يقتدى ويحتذى ويجتدى ويهتدى؛ لأنها أبت إلا التلفع بالخمار، والاعتجار بالجلباب، والتغطي بالحجاب، والحمد لله على أنعامه وإنعامه.


فلا تبالي بما يلقون من شُبهٍ *** وعندك "الدين" إن تدعيه، يستجبِ


وهؤلاء.. أسلافك:

قال ابن عبيد الله السقاف: "وكانت صبيخ -بلدة بحضرموت- مهد علم، ومغرس معارف؛ حتى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن (إرشاد ابن المقري)!


وذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب الأهدل.. أن نساء زبيد خصوصاً الأهدليات؛ كن يحفظن مسائل (المنهاج) ويراجعنها، وهنَّ يطحنَّ الذرة على الرحى!.


والمراكز والمساجد العلمية.. فيها الآلاف من حفظة كتاب الله تعالى، وحافظات سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدرسن ويدرّسن شتى الفنون، ومنهن المؤلفات والمصنفات والمحققات والباحثات والعالمات.. فناشدتكن الله، إلا لحقتن بركب الصالحات، "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" "والآخرة خير وأبقى".


والخير في نساء المسلمين، في أنحاء المعمورة، لا يهي ولا ينتهي، فـ (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله.. لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) رواه البخاري ومسلم، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.


اللهم خذ بأيدينا إليك، واجعل أعمالنا في رضاك، وارفع الغمة عن الأمة، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢٠


الاثنين، 18 أبريل 2022

اِعمل الذي عليك!

 اِعمل الذي عليك!


التقيت صديقي في سطح المسجد الحرام، بعد انقطاع أعوام.. كان الفرح عارماً، والبهجة مبهجة!


أقيمت الصلاة، وتهيأ المصلون للتكبير، ولا زلت مغتبطاً بمجاورة صديقي؛ إذ أشار إلي أحد من كان أمامي في الصف، بالتقدم إليه، والاصطفاف بجواره!


لم أعبأ لإشارته، فكرر علي، وقال: سدّ الفرجة يا أخي!

رددت: الفُرَج كثيرة في كل مكان! وبالفعل، كان كثير من الصفوف، مفرّجة غير مستوية!


فرد بكلمات لم أتبينها، ثم كبر!

لكن، صاحبي تبينها.. فتقدم إليه.


انتهت الصلاة، وإذا بصاحبي يقول لي: ما أحسن صلاة هذا الرجل! وسبحان الله، بعد التصافف صار بينهما كلام وتعارف، وكان الرجل من تونس المونس.


فقلت لصاحبي: ماذا كان يقول؟

فأخبرني أنه قال: اعمل الذي عليك!


وقفت مشدوهاً أمام جمال هذه العبارة، ومذهولاً من فعلي الخاطئ، وأخذت أكررها: اعمل الذي عليك!


أدركت أني كنت مخطئاً، تحت وطأة الإلحاح، وتشبثي بالصديق الوفيق -وما أقلّهم اليوم-، لكني أُبت وتبت -والحمد لله-.


وحقاً، إن على الإنسان.. أن يعمل الذي عليه من الواجبات والمستحقات والمندوبات والمستحبات، ولا يضره فعل غيره.

وفي حديث ابن مسعود: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) متفق عليه.


إن استطاع النصيحة، فالحمد لله، وإن لم، فليعمل الذي عليه ولا يضيره، "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" "لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين" "إن عليك إلا البلاغ" "فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر"

"يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"

قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين.. أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه: من أصلح أمره، لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً".


بل إن هذا الداء، ربما كان سبباً في ترك الواجبات، وهجر السنن، ونشر النقيصة، وبث التهاون، مع ما فيه من التبعية والتقليد والاتكالية.

قال تعالى مخبراً عن سبب شرك المشركين: "بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"


ولعمري، إن من عمل ما عليه.. عاش في هناء وسعد، ولم يبال بما عملت سعاد أو لم تعمل دعد!

فاعملوا واهنؤوا واسعدوا، بعمل ما عليكم واتركوا الخلق وما عليهم، "إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/١٥





الأربعاء، 13 أبريل 2022

مـع سائـق أُجـرة!


مـع سائـق أجـرة!


من عادتي الغالبة في معاملتي مع الآخرين -سواء كان شراء أو ركوباً أو نحو ذا-.. أن أبدأهم بالسؤال عن الحال والعيال، والبلاد والعباد، وربما مازحت قليلاً، ولكن ليست هذه صفة لازمة لي مع الكل، بل مع من أحدسه يحب ذلك؛ لأن الناس طبائع ومعادن!


وكثيراً ما تنتج الأسئلة، قاسماً مشتركاً بيننا، إما في معرفة رمز أو بلدة أو خُلق أو موهبة -والحمد لله-.


وأحسب فعلي هذا؛ من إدخال السرور على المسلم، فكم يسرّ المسؤول حينما تشاركه أحواله، ثم تتوج ذلك، بالدعاء والثناء.


على حدّ قول الشاعر:

وليس بأوسعهم في الغنى *** ولكن معروفه أوسعُ


وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال.. أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه دَيناً، أو تطعمه خبزاً)

عن أبي هريرة رضي الله عنه، رواه ابن أبي الدنيا، وحسنه الشيخ الألباني.


وكل يعمل بقدر وكده وطاقته، وهذا قدْري وقدَري.


ألا ليقل من شاء ما شاء إنما *** يلام الفتى فيما استطاع من الأمرِ


وسئل الإمام مالك: أي الأعمال تحب؟ فقال: "إدخال السرور على المسلمين، وأنا نذرت نفسي أفرّج كربات المسلمين!


فـ بخ بخ أيها الإمام اليماني، وأين نحن من أخلاقكم العالية، المشابهة لأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وهاكم قصتي مع سائق الأجرة:

ركبت بالأمس سيارة، سألت سائقها، عن الأجرة، فأخبرني بالقيمة، فقلت له ممازحاً: أعطيك نصفها؛ لأن سيارتك بدون مكيف!

ضحك، وقال: ما في مشكلة، أعطيني النصف، وأشغل لك المكيف كمان -أو عبارة نحوها-!


ضحكت، وأخذت في أسئلتي الخفيفة التي لا تضجر؛ -لأن بعض الأسئلة تمغر وتنغر، وتضجر وتسجر-! وأخذ هو في أسئلته البريئة.. حتى وصلنا قاسماً مشتركاً بيننا- في أشخاص نعرفهم، وبلاد نعرفها!


وإنا لنقري الضيف قبل نزوله *** ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك


ثم سألته سؤالاً، كان فيه كلْمه ووجعه وألمه وبثه وشكواه.. سألته عن أهله وولده؟!

فأجاب بتنهد: يا ليت وانا عندهم، نفطر سوى، لكن، ما نسوي، الظروف!


وكل باب وإن طالتْ مغالقهُ *** يوماً له من جميل الصبر مفتاحُ


كانت هذه الكلمة الجارحة لروحه ونفسه وقلبه، هي نهاية وصولنا إلى حيث أريد!


لا يعرف الشوقَ إلا من يكابدهُ *** ولا الصبابةَ إلا من يعانيها!


استأذنته، ودعوت له، وغادرته يفترّ عن بسمة ظاهرة، لكنها تخفي تحتها أواراً وناراً .. إن في قلبه جروحاً غائرة، وقروحاً نائرة .. بل إن روحه ممزعة ومنزعة!


فاصبر على نعمى الحياة وبؤسها *** نعمى الحياة وبؤسها سيانِ


يمسي ويصبح، وينام ويقوم، ويأكل ويشرب.. بمفرده، يعدّ النجوم إن كان يراها .. يبيت على وساوس، ويصحو على هواجس .. يمنّي النفس بالآمال من حين إلى حين .. يؤمل آمالاً ويرجو نتاجها .. يكد ويجد ويجهد من أجل لقمة العيش .. لا يريد غنى وثروة، بل ينشد عفافاً وكفافاً!


والحرب يبعثها القوي تجبراً *** وينوء تحت بلائها الضعفاءُ!



هذه قصة علي، وكم مِن مِثل عَلي هذا.. إنهم كمٌّ كثير كبير وفير، ولكن: لنا ولهم الله، وكفى بالله وكيلاً.


أنا الشقي بأني لا أطيق لكم *** معونة، وصروف الدهر تحتبسُ


ولإخواني: إن استطعتم إدخال سرور، ورسم بسمة، وفتح باب أمل.. فافعلوا، فـ "إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا" و(الراحمون يرحمهم الرحمن)


لا تهين الفقير؛ علّك أن تر *** كع يوماً، والدهر قد رفعهْ!


وإن لم تسطيعوا.. فأسألكم بالله، لا تقلقوا باب فأل، ولا تنكئوا جروحاً كامنة، ولا تنقشوا دمّلاً متورمة، فـ (كما تدين تدان) و(الجزاء من جنس العمل)


وإن عجزت عن الخيرات تفعلها *** فلا يكن دون ترك الشر إعجازُ



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/١١