الخميس، 27 فبراير 2020

تنبيه على نقلٍ فيه تصرّف.. أدّى إلى تحرّف!

تنبيه على نقلٍ فيه تصرّف.. أدّى إلى تحرّف!

قد يتصرف الناهل والناقل، -أحياناً- في نقل كلام؛ لينزله على واقع، أو يستدل به على مواضع!

وقد يكون هذا التصرف؛ مُخلاً بالقول، مخالفاً لمراد المنقول!

وهذا تصرف (أو قل تحريف وتزييف) غير نظيف؛ لأنه يعزو قولاً لشيخ، لم يقله، أو يتصرف في معنى لعالِم، لم يرده!

والتصرف الجائز في النقل: أن يتصرف الناقل في كلام المنقول عنه، من حذف ليس له فيه مرام، أو زيادة موصلة للكلام، أو تقديم وتأخير، ونحوه، وشرطه: أن لا يتغير معنى الكلام، ولا يؤثر على الانسجام.

ومن هذا النقل المبتسر المتصرف فيه، المقوِّل لمؤرخ لم يفهه فوه.. ما رأيته متداولاً عبر بعض مواقع التواصل، من نقل كلام للحافظ ابن كثير -سيأتيك-؛ وقد قذف في روعي، لوهلتها: أن في الكلام، اصطناعاً، وفي تنزيل النتيجة عليها، إخضاعاً، فعدَلت عن هذا القذف؛ لأن الناقل كان من أهل العلم والفضل، وممن عركته السنين، وبلغ من السن مبلغاً، وقد أثبت مصدره بالجزء والصفحة!
فخطأت حدسي، ووهمت نفسي، وجاوزته!

(كأني لم أقرأ، ولم يقل)!

والليلة، أرسلت إلي زوجي -عمرها الله-، بكلام قريب مما رأيته أولاً، ويتفق معه في الفحوى.. فعاد ما كنت حدسته، وحار ما كنت حبسته.. ولجأت إلى الفلي والبحث، فوافق الخُبر الخَبر! "والحمد لله رب العالمين".

وهاك نقلهم، وإن شيت، قلت: قولهم!:
"علاج فيروس كورونا! قال ابن كثير -رحمه الله-: "كثرت الأمراض بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم، وهاجت ريح سوداء، وتساقطت الأشجار، ووقعت الصواعق!
ثم أمر الخليفة: المقتدي بأمر الله.. بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وکسر آلات الملاهي، ثم انجلى ذلك".

قلت: هذا النص المنقول، عن ابن كثير، في (بدايته)، المتصرف فيه، والمبتسر له..
وواضح معناه، هو: أن العقوبات التي نزلت بذلك العصر، لم ترفع إلا بعد أن أمر الخليفة، بإزالة المنكرات!

هذا -باختصار- معنى الكلام المنقول عن ابن كثير!

وفي الحقيقة: إن ابن كثير، لم يقل هذا الكلام بهذا المعنى المركب والملفق، ولم يرتب الكشف والفرج، على ما وقع ونزل من الأمراض والطواعين؛ بتغيير المنكرات.. بل ذكر -رحمه الله- أن الكشف، كان من الله سبحانه وتعالى، دون مقابلة من الخلق بتغيير أو إزالة.

وهاك كلامه -رحمه الله-:
قال ابن كثير: "ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، في المحرم منها: زلزلت أرجان؛ فهلك خلق كثير من الروم ومواشيهم.

وفيها: كثرت الأمراض بالحمى والطاعون- بالعراق، والحجاز، والشام، وأعقب ذلك، موت الفجأة، ثم ماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم، حتى عزّت الألبان واللحمان.. ومع هذا كله، وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة؛ فقتل خلق كثير فيها.

وفي ربيع الأول: هاجت ريح سوداء، وسفت رملاً، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس: أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك -ولله الحمد-.

وفيها: ولد للخليفة، ولده أبو عبد الله الحسين، وزينت بغداد، وضربت الطبول والبوقات، وكثرت الصدقات.

وفيها: استولى فخر الدولة ابن جهير، على بلاد كثيرة، منها: آمد، وميافارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقرضت دولة بني مروان، على يده في هذه السنة.

وفي ثاني عشر رمضان، منها: قلد أبو بكر محمد بن مظفر الشامي، قضاء القضاة ببغداد، بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني، وخلع عليه في الديوان، وحج بالناس جنفل التركي، وزار النبي صلى الله عليه وسلم، ذاهباً وآيباً، قال: أظن أنها آخر حجتي؛ وكان كذلك!. 

وفيها: خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله؛ بتجديد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في كل محلة، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد، -أثابه الله ورحمه-".

ينظر: (البداية والنهاية: ١٦/ ٩٣) طبعة هجر، و (١٢/ ١٥٦) طبعة إحياء التراث، و (١٢/ ١٢٧) طبعة دار الفكر.

انتهى النقل عن ابن كثير بحروفه، من ثلاث طبعات، اتفقت على ما سقته لك من الأحداث، وفيها بعض الاختلاف في كلمات يسيرة، في غير ما عنه نتحدث.

وفيما نقلت.. يضح للعيان، أن ابن كثير، لم يرتب نتيجة رفع العذاب، على تغيير المنكرات، وكسر الرباب، بل يفهم من قيله: أن الكشف كان محض رحمة من الله تعالى وفضله.

وقد استعار النقلة -عفا الله عنهم-، جملة "ثم انجلى ذلك" ووضعها، بعد نقله هذا: "ثم أمر الخليفة: المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وکسر آلات الملاهي".. فكانت كالنتيجة لها.

بينما، نجد ابن كثير، يضع "ثم انجلى ذلك" بعد قوله: "وفي ربيع الأول: هاجت ريح سوداء، وسفت رملاً، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن القيامة قد قامت"، فكان الانجلاء، محض فضل الله ورحمته.

وبين المعنيين والنتيجتين.. بون شاسع، وبينٌ ناصع، وفرق واضح، وبُعد فاضح!

ولي وقفات خمس:
الأولى: يجب على الناقل.. أن يكون أميناً في نقله، ولا يجوز له تحريف الكلام، أو ليّ الحديث؛ ليوافق ما يشتهي ويبتغي، وإن كان قصده نصرة الدين، أو ترغيب أو ترهيب المسلمين، فليست هذه بدعوة صائبة، بل هي دعوى خائبة!

ويذكرني هذا الصنيع، بصنيع ذاك الوضاع.. وهو ميسرة بن عبد ربه (الأكول الشهير) عندما سئل، عن سبب وضعه حديثاً، في فضائل سور القرآن؟

قال: رأيت الناس، انصرفوا عن القرآن، فوضعتها، أرغّب الناس فيها!
ومثله: نوح بن أبي مريم.

قال السيوطي، في (ألفية الحديث):
والوضع في الترغيب ذو ابتداعِ *** جوّزه مخالف الإجماعِ!

الثانية: إن ما ينزل بالناس من بلاء ووباء، لا يجوز الجزم، بأنه عقوبة محضة؛ لأن ذلك علم غيب استأثر الله به، ولكن نقول: قد يكون عقوبة للكافر، وابتلاء للمسلم، فالأول: تعفير، والثاني: تكفير.

وبعد هذا وذاك: الواجب علينا، مدافعة البلاء، بالأمور الحسية والمعنوية المشروعة، ومن ذلك: التوبة والرجوع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

الثالثة: إن ما ينزله الله تعالى من رجز وعقوبات، قد يرفعه سبحانه وتعالى، محض منٍّ منه ورحمة، وفضل ونعمة، وهذا هو الأصل؛ إذ أن الناس، مهما جهدوا في العمل؛ فإنه لا يفي بشكر نعم الله تعالى، فضلاً عن رفع المصائب والبلاء، ولا بد مع هذا، من التضرع والرجوع، ولكن لا يرفعه إلا رحمة من الله الواسعة، "ورحمتي وسعت كل شيء".

الرابعة: يجب على الناس دائماً وأبداً.. التوبة الصادقة، والرجوع الجازم إلى الله تعالى؛ لأن الإنسان لا يخلو من ظلم وهضم، وإن كان يتأكد ذلك عند نزول البلاء، وانتشار الوباء، ولكن ليس ذلك شرط رفع وانكشاف.

الخامسة: يجب على الناس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع مراعاة توفر الشروط، وانتفاء الموانع؛ لأن عدمه؛ سبب في نزول العذاب، وغشيان الذل والمصاب.

ونحن نضرع إلى الله سبحانه.. أن يوفق قادة المسلمين؛ لإعلاء الحق وأهله، وإرفاع الطاعات، وإرفاق الحسنات، وإنفاع السابلات.
وفي المقابل: إخضاع الباطل وأهله، وإزالة المنكرات، وإطاحة المسكرات، وإخضاع المفقرات.

هذا ما أردت سطره وزبره؛ لأجل البيان والإيضاح، ووجوب أمانة النقل، والنصح للمسلمين، وأرجو الله أن أكون وفقت لما أردت تنبيهه، وأصبت ما رمت تنويهه.
تولانا الله بعنايته، وكلأنا برعايته.


وكتب: أو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٧/٤
ليلة الجمعة، بـ ح ي المأنوسة المحروسة.



وفاة الشيخ المقرئ المسند عبد الحميد شانوحة:


وفاة الشيخ المقرئ المسند عبد الحميد شانوحة:
#وفاة_علم

توفي اليوم الخميس ١٤٤١/٧/٣، مجيزنا فضيلة الشيخ المقرئ عبد الحميد منير شانوحة(١) -رحمه الله تعالى، وغفر له، وتجاوز عنه، وأحسن إليه، وأسكنه فسيح جناته-.

وشيخنا من مواليد سنة ١٣٦٦، بمدينة بيروت.
ودرس المرحلة الابتدائية والثانيوية، في جمعية المقاصدالإسلامية.(٢)

وقد درس المذاهب الأربعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي- درس كل مذهب، عند أهله المختصين.

ودرس الحديث، والنحو، والأصول وبقية الفنون، على أهل العلم والمعرفة.

وحضر في مكة المكرمة، دروس (صحيح البخاري)، و(سنن أبي داوود) على الشيخ المسند محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكي، وأجازه بجميع مروياته المعقولة والمنقولة.

وقرأ (سنن ابن ماجة) وغيرها من كتب الحديث، على الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمني المكي، وأجازه بمروياته.

وقرأ القراءات العشر وأتقنها، واختبره فيها: الشيخ سعيد العبد الله، والشيخ محمد نبهان المصري وأجازه بالقراءات العشر.

وكان الشيخ -رحمه الله- مكثراً من التحقيق، فقد حقق ما يربو على عشرين كتاباً، وصنف أشياء أخر، منها في القراءات (جامع القراءات العشر) في ثمانية أجزاء. 

وقد رزق الله الشيخ عبد الحميد، ذرية صالحة، قرّت بها عينه، وفرح بها قلبه؛ فقد درس عليه أبناؤه وبناته، القرآن والقراءات وغيرها من علوم الشريعة.

سُمع على الشيخ مجموعة من الكتب، وكان مما سمعته عليه عبر البث: بعضاً من (عمل اليوم والليلة) لابن السني، وسمعت مجلس ختم قراءة كتاب (الشمائل المحمدية) للإمام الترمذي، و(أحكام الاختلاف في هلال ذي الحجة) لابن رجب، و(فضل يوم عرفة) لابن ناصر الدين، في يوم عرفة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وقد جمع أسانيد الشيخ -رحمه الله- الأستاذ يحيى وسام أحمد حمزة، بعنوان: (الفانيد في أسانيد الشيخ عبد الحميد). 

رحم الله شيخنا، وبلّ بوابل الرحمة ثراه، وأحسن منقلبه ومثواه، وأخلف على أهله وأولاده وذويه خيراً وفضلاً.

اقتبست بعض الترجمة من مدونة الشيخ -رحمه الله- واستنبطت أشياء أخر.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٧/٣

ح............... 
وشانوحة: أسرة عربية، استوطنت الشام ومصر، وتوجد منطقة في جنوب لبنان، اسمها: شانوح.
ومعنى شانوحة.. قال الأزهري: الليث الشَّناحِي: ينعت به الجمل في تمام خَلْقه، وأنشد:
أعدُّوا كل يَعْمَلة ذَمُولٍ *** وأعْيَس بازل قَطِمٍ شَناحِي

(٢) جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية‌: جمعية خيرية إسلامية، أسست سنة ١٢٩٦هـ، في بيروت، تقدّم خدمات متعلقة بـ: التعليم، والصحة، والشؤون الاجتماعية.
ينظر: مقال (عمل عظيم) للأستاذ محمد بك كرد علي، في مجلة الرسالة.


الأربعاء، 26 فبراير 2020

بين الكتاب الورقي والإلكتروني!

بين الكتاب الورقي والإلكتروني!

الكتاب الورقي.. لم يمت، ولن يموت، بل له المستقبل الزاهر، والحاضر الباهر؛ وذلك لأن التكنولوجيا هي مرحلة زمنية فحسب، ذاهبة آيبة، والمجد والسؤدد؛ للورق والكاغد، بل لا أبعد -لا بعدتم- إذا قلت: ستعود اللخاف والسعاف، والرقاع والخفاف ونحوها من الأعتاق.

الكتاب الورقي.. سيظل شامخاً على أرفف المكتبات، وملموساً بالجارحات، ومنظوراً بالباصرات.

ما أجملك، وشباتك بين شناترك، تسقي بها مواطن القحط، وتتبع بها مواطن القطر، وتحوط بها مواقع الغلط، وتؤود بها أماكن اللغط.

تداعبه في حجرك، وتناظره من محجرك، وتضمه بلطف وعطف بين يديك.
وأحياناً، تتأبطه تحت إبطيك، أو في كميك، (كانت، ولم تكن الآن) وتارة تجعله بين أصبعيك؛ لتستكين أو تستعين.

الكتاب الورقي.. حبيب قريب، وأريب أديب، لا تخش انطفاء الكهرباء، ولا تعطل الجهاز، ولا تفرمت الذاكرة، ولا الانمحاء والانمحاش، ولا العزلة والإيحاش:

لنا جلساء ما نملّ حديثهم *** ألبّاء مأمونون غيباً ومشهدا

يفيدوننا من علمهم، علم ما مضى *** وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

بلا فتنة تخشى، ولا سوء عشرة *** ولا يتقى منهم لساناً ولا يدا

فإن قلت: أموات، فلا أنت كاذب *** وإن قلت: أحياء، فلست مفندا

الكتاب الورقي.. لا يستغنى عنه، ولا يستعاض به، ولا يمل منه، ولكنا أحياناً كثيرة، لا نستطيع الوصول إليه، والتملك له؛ إما لعدم وجوده، وإما لغلاء نقوده!
فحينئذ:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً *** فما حيلة المضطر إلا ركوبها! 

الكتاب الورقي.. له متعته وميزته، وعليه حلاوته وطلاوته، ولكن الحق يقال: أن الكتاب الإلكتروني؛ سهّل كثيراً، ويسّر كبيراً، لا سيما في البلاد التي ليس فيها الكهرباء، أو هي كثيرة الانطفاء، تجلس إليه توصوص، وعليه تنونص!

وهنا، تذكرت ما نقله ابن الجزري، في (المصعد الأحمد: ٣٩) عن الحافظ ابن كثير، عن كتابه (جامع المسانيد): قال: "ولا زلت أكتب فيه، في الليل، والسراج ينونص.. حتى ذهب بصري معه، ولعل الله أن يقيض له من يكمله"!
رحم الله ابن الجزري وابن كثير، ومتعنا بالخير الكثير، والفضل الوفير.

فحين زيارة الكرى، ومداعبة النوم؛ أداعب الكتاب حتى يغلبني، فأطبقه، وأنا صبٌ مستهام، والحمد لله على الفضل والإنعام.
وأحياناً، لا تستيقظ، إلا والكتاب على صدرك، إن لم تنقلب، وإلا وجدته متشحطاً!

وأما الكتاب الإلكتروني (المبدأف) أو (المنورق)!
فأقول: إن ما نشهده اليوم من إقبال كبير، وتسارع منقطع النظير، إلى تصوير الكتب، وبذلها للآخرين.. لهو مؤذن خير، ومؤشر يقظة، وباعث همة، وناهض عزيمة.

وإليكم يا أصحاب الدور والمكتبات، أقول: لا تخشوا على نقصكم الثراء، أو كساد سوق الشراء.. فإن الناس وإن اقتنوا الكتاب المنورق، فإن ذلك لسبب وعذر، يزول بزواله، ولكم أن تشبهوها، بالتيمم حين فقد الماء، أو العجز عن استعماله، أو قلته، أو بعدته، والقاعدة تقول: إذا حضر الماء؛ بطل التيمم!

أيها الناشرون: اعلموا، أن هناك جماعة من الناس، وسّع الله عليهم دنياهم؛ فلا يبغوا بالورقي سبيلا، ولو كلفهم الغالي والنفيس!

ولكم نصيحة: خففوا في قيمة الكتاب على الطلبة ما استطعتم، دون ضرر أو إضرار، "هو أقرب للتقوى" واحتسبوا الأجر، وإن تقاضيتم عليها أجرا!

والحقيقة: إنه لا يخشى على الكتاب الورقي من الهجران أو الانصرام، بل هو تجاف حبيب، وتمنع صبيب، لا يراد إلا العودة إليه بشغف أكبر، والحنو عليه بحدب أكثر، وليست هي جفوة دهرية، أو قطيعة أبدية..

فبالله عليكم..
حدثوني، من ذا الذي لا تستهويه حفيف الورق، ولا تعتريه نشوة العتق؟!

خبروني، من ذا الذي لا يحب الضم والشم والقبل.. إلا أن يكون أعن، لا يتأثر بالأغن!

علموني، من ذا الذي لا يسلو بالنظر إلى خرائدها، ولا يلتذ بافتضاض أبكارها؟!

إلا أن تكون أنفه زكمت عن زكي الأنفاس، أو أن نفسه نفست عن جلو الأعراس.. فقطب الجبين، وقطع الحنين، وعاد كالجنين!

حاشا ذات القِلّة من الجلّة، الذين (حبسهم العذر) عن شراء الكتاب وإحرازه، فحجبوا وعجزوا عن اقتنائه وإبرازه، فلجؤوا إلى الكتاب الإلكتروني؛ ليجدوا فيه لهم متنفساً، ولأفئدتهم متنسماً، فعبّوا منه، وكرعوا، ونهلوا حتى علّوا، مع حسرة بادية؛ إذ (استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو أولى) ولكن (ما لا يدرك كله، لا يترك جله) (ولله في خلقه شؤون) والحديث ذو شجون، "ولكن أكثر الناس لا يشكرون"! 

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤٠/٣/١٧
١٤٤١/٧/١


ضرر المطر لبعض البشر!

ضرر المطر لبعض البشر!

مُطرنا بفضل الله ورحمته، فابتلّت الأرض، و "اهتزت وربت"، وأخرجت أثقالها ونبت، وأبدت مَخباها ومُخباها.. فنتنت وأنتنت، وأزكمت الأنوف، وأضرت الأجساد، وعكرت الأجواء، وأفسدت الطرق، فلا تمشي إلا وأنت مشمر ثوبك عن ساقيك حتى لا يصيبه الأذى، وما رفعته من ثوبك، تضعه على أنفك حتى لا يصيبك الصنن والزكم!

لا أقول هذا، سخطاً أو غلطاً، بل إنا لنفرح بالمطر، ولكنا نشكو ما يصيبنا من الكدر والضرر، وتعكر المزاج، وتشويش الفكر.

والمطر لقوم.. نعمة ونماء، يبتهجون بنزوله، وينشرحون لقدومه، وذلك لأنهم لا يتضررون منه حين نزوله؛ لوفر بيوتهم، ولا يتأذون بعد نزوله؛ لتصريف ما عنه ينتج من تجمع الوحل، فيصيب بالأمراض..

والمطر لآخرين.. نقمة وشقاء، يكسفون لنزوله، ويضجرون بقدومه؛ وذلك لأنهم يتضررون منه حين نزوله؛ لخواء بيوتهم وضعفها، فينزل على رؤوسهم وأطفالهم ومواشيهم، ويبل أمتعتهم من فرش وحضائر، ويتأذون بعد نزوله؛ لوهاء بلادهم، فيتحقل في أماكن سيرهم، فيقطع عليهم معايشهم ومساجدهم ومدارسهم، ويمكث تجمع المياه، الأيام وربما الأسابيع، وتارة بالأشهر، فيسبب الأمراض والأوبئة التي لا قِبل للمساكين بها!

قال الزمخشري: "وقيل: يخاف المطر، من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف"!
(الكشاف: ٢/ ٥١٨).

وفي (روح البيان: ٤/ ٣٥٢): "والمطر يكون، لبعض الأشياء ضرراً، ولبعضها رحمة.. فيخاف منه المسافر، ومن فى خزينته التمر والزبيب، ومن له بيت لا يكف.
ويطمع فيه المقيم، وأهل الزرع والبساتين.
ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر، كأهل مصر؛ فإن انتفاعهم إنما هو بالنيل، وبالمطر يحصل الوطر".

قال الشافعي والأصحاب: "وإذا كثرت الأمطار وتضرر الناس به؛ فالسنة أن يدعو برفعها: "اللهم حوالينا ولا علينا".
قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: ولا يشرع لذلك صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصل لذلك، ودليل هذه المسألة حديث أنس قال: دخل رجل المسجد يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. قال أنس: والله وما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا بيننا وبين سلع، يعني: الجبل المعروف بقرب المدينة، من بيت، ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء؛ انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله أن يمسكها علينا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم حوالينا، ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر، فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس). رواه البخاري ومسلم".
ينظر: (المجموع شرح المهذب: ٥/ ٨٦).

وقال ابن حجر الهيتمي: "(ولو تضرروا بكثرة المطر) وهي ضد القلة مثلثة الكاف (فالسنة أن يسألوا الله) تعالى (رفعه) بأن يقولوا ندباً ما قاله صلى الله عليه وسلم، لما شكي إليه ذلك (اللهم) اجعل المطر (حوالينا) في الأودية والمراعي (ولا) تجعله (علينا) في الأبنية والدور.
وأفادت الواو؛ أن طلب المطر حوالينا؛ القصد منه بالذات: وقاية أذاه، ففيها معنى التعليل، أي: اجعله حوالينا، ولئلا يكون علينا.
وفيه: تعليمنا أدب الدعاء حيث لم يدع برفعه مطلقاً؛ لأنه قد يحتاج لاستمراره بالنسبة لبعض الأودية والمزارع، فطلب منع ضرره، وبقاء نفعه، وإعلامنا بأنه ينبغي لمن وصلت إليه نعمة من ربه، أن لا يتسخط لعارض قارنها، بل يسأل الله تعالى رفعه وإبقاءها، وبأن الدعاء برفع المطر، لا ينافي التوكل والتفويض "اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"".
(نهاية المحتاج: ٢/ ٤٢٨).

وإلا، فما أجمل الأمطار، التي تنعش القلوب، تبعاً لإحياء الأم (الأرض)، وتبتهج برؤيته النفوس، وتأنس القلوب، ويسرح الطرف يمنة ويسرة، إلى بديع صنع الله وخلقه، لا إلى الأوانس والعوانس!، "صنع الله الذي أتقن كل شيء" "فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها".

تأمل في نبات الأرض، وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ

عيونٌ من لجينٍ شاخصات *** بأبصار هي الذهب السبيكُ

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريكُ


وما ذاك النتن الحاصل بعد ذلك المطر النازل، إلا؛ لعدم الحفاظ على البلاد التي استودعنا الله غرسها وفلحها، وعَمرها، فلم نحسن إليها، وهي أمنا، (والإحسان إلى الأم؛ واجب) قال تعالى: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى".
فهي الأم التي لا غنى لنا عنها، لا قبل ولا بعد!

بعد ما أصابني من العكر والضجر.. أمسكت بخلي وصاحبي ونديمي وأنيسي وجليسي وونيسي؛ لأقرأه وأناجيه، وأُسمعه وأناغيه.

ولعمري، إن الكتاب المختار؛ لهو خير صديق!
رزقنا الله الاستكثار منه. وأما الخلق؛ فلا يستكثرن من الصحاب!

جعلت كتبي أنيسي *** من دون كل أنيسِ
لأنني لست أرضى *** إلا بكل نفيسِ

وإذا تملكك حب الكتاب، واستولاك واستهواك؛ لم تعد تطيق فرقاه، أو تقوى على هجراه، بل تفرق من الخلق، وتنأى عن الإنسان:

قال أحمد الصافي النجفي:
أطالع ما استطعت وجوه كتب *** فراراً من مطالعة الوجوهِ!


تشبثت كتابي، عند تنزل الرحمات.. أبثه أحزاني وأشجاني، فيعطيني الطمأنينة والانشراح.
أعرض عليه عويص المسائل، فيغمرني ريّ الجداول، وظل الخمائل.

ولكني لم أطق، ولم أستطع المواصلة، بعد الحول والمحاولة؛ لسوء ما أرى، ونتن ما أشم، وصك ما أسمع!
فاعتذرت إليه؛ لأنه طاهر، فلا يليق به إلا الطهر والنقاء والصفاء، ووعدته على أمل اللقيّ في وقت قريب؛ فإني لا أقوى على فراقه، ولا بد كل لحظة من لقائه.

شعرت بعد طرح خدني، بفراغ، لكني ملأته بكتب هذه الكلمات، التي أرجو أن يكون فيها تسلية لنفسي، وعزاء لجنسي.

وفيها نداء للجميع: أن نحسن إلى الأرض، بإزالة الأذى، وإماطة القذى: الحسي والجسي؛ لننعم بروحها وريحها.

فلنتكاتف ونتعاطف، ولو في قرانا وحوارينا، أو قل (حوافينا)، حتى ينعم الكل، ويأنس الخل، ويحلو الخروج والسمر، والمناجاة على ضوء القمر، بصحبة الحِبين، ومنادمة الصدوقين الصديقين: الكعاب، والكتاب!

رزقني الله وإياكم كل خير، وجنبني وإياكم الشر والضير.

محبكم: وليد بن عبده الوصابي،،
١٤٣٧/٣/١٥
١٤٤١/٧/٢

الثلاثاء، 25 فبراير 2020

تنبيه على بطلان قصة راويها كذاب!

تنبيه على بطلان قصة، راويها كذاب!

وقع نظري، على هاته القصة: ذكر ابن بشكوال بسنده إلى (أحمد) (محمد)(١) بن عمر بن يونس اليمامي(٢) قال: كنت بصنعاء، فرأيت رجلاً، والناس حوله مجتمعون عليه، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا رجل، كان يؤم بنا في شهر رمضان، وكان حسن الصوت بالقرآن.. فلما بلغ: "إن الله وملائكته يصلون على النبي" قال: إن الله وملائكته يصلون على (عَلِي) النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.. فخرِس، وجذِم، وبرِص، وعمي، وأقعد مكانه.

وعند قراءتي لها؛ قذف في روعي، وضعها واختلاقها، ليس اعتباطاً ولا كشفاً، وإنما نظراً إلى كبير الجرم، وجليل الوقح، وضعف السبك، وغمز الراوي! 
لكني، لم أجعل هذا دليلاً وحكماً، وإنما عدت إلى النبش والنكش..

أولاً: ذهبت إلى، (الصلة في تاريخ أئمة الأندلس)، للإمام أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، تـ٥٧٨.. فلم أجد ذكراً للقصة، أو راويها (محمد بن أحمد بن عمر)!

و(الصلة)؛ أشهر تواليف ابن بشكوال، وهو مظنتها، ولا أدري، إن كانت القصة، ذكرت في غير (الصلة)؟
أقول: وإن ذكرت؛ فلا يخرجها عن وضعها؛ لما ستعلمه في هذا الرقيم.

ثانياً: ذهبت أبحث عن مصادر ذِكرها.. فوجدت كلاً من:
-الإمام السخاوي، في (الإعلان بالتوبيخ: ١٠٣)، وفي (القول البديع: ٣٦)،
-والحطاب، في (مواهب الجليل: ٦/ ٢٨٦)،(٣)
-والمجلسي الشنقيطي، في (لوامع الدرر في هتك أستار المختصر: ١٣/ ٣٨٤)،
-والزرقاني، في (شرح خليل والبناني: ٨/ ١٢٥).

والثلاثة الأُول، عزوها إلى ابن بشكوال، إلا أن الحطاب، زاد عزوها، إلى كتاب (كنز الراغبين العفاة في الرمز إلى المولد والوفاة) قال: "ولم أقف على اسم المصنف"!
وأما الزرقاني.. فقال: قال بعضهم! 

ثالثاً: ذهبت إلى راوي القصة؛ فرأيت اضطراباً فيه.. فسماه السخاوي: أحمد بن محمد بن عمر اليماني، تـ٢٦٠. (الابن) 
وسماه الحطاب، والمجلسي: محمد بن عمر بن يونس. (الأب) 

قلت بداهة: لعل الابن (أحمد) رواها عن والده (محمد) فرواها السخاوي إلى الابن، والحطاب إلى الأب! 

لكني، لم أجد ترجمة للأب "محمد بن عمر بن يونس"(٤)، ثم رأيت شيخنا المحدث مقبل الوادعي -سقى الله جدثه- يصرح أنه لم يجد ترجمة للأب (محمد)، فاسمعه يقول:
"تنبيه: في "المستدرك" أن شيخ أحمد، هو أبوه، يرويه عن جده عمر بن يونس.
وفي كتب التراجم: أن أحمد، يروي عن جده عمر بن يونس، ففي (تهذيب الكمال) ذكر أحمد من الرواة عن جده، ولم يذكر محمداً من الرواة عن أبيه عمر.
فالظاهر أن قوله في (المستدرك): عن أبيه؛ عنى به جده عمر، وأن "ثنا" بين "أبي" و "عمر" مقحمة، أو هي من أوهام الحاكم، أو هي من كذب "أحمد" الكذاب، والله أعلم.
ثم إني بحثت في بعض المراجع؛ فلم أجد ترجمة لمحمد".
(رجال الحاكم في المستدرك: ١/ ١٨٧).

رابعاً: عدت إلى ترجمة رواي القصة (أحمد).. فوجدته يتقلب بين الضعف، والترك، والكذب، وهاك التفصيل:
-قال عبد الرحمن بن أبى حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: قدم علينا، وكان كذاباً، وكتبت عنه، ولا أحدث عنه بشيء".
(الجرح والتعديل: ١/ ٧١).

-وقال ابن المديني -عن جده عمر بن يونس بن القاسم اليمامي-: كان ثقة ثبتاً، ووثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والبزار.
وقال ابن حبان: يتقى حديثه من رواية أحمد بن محمد بن عمر بن يونس؛ لأنه يقلب الأخبار.
ينظر: (الثقات: ٨/ ٤٤٥) لابن حبان.

وقال ابن حبان: "يروي عن عبد الرزاق، وعمر بن يونس وغيرهما؛ أشياء مقلوبة، لا يعجبنا الاحتجاج بخبره إذا انفرد".
(المجروحين: ١/ ١٤٣)

-وفي (تاريخ بغداد: ٥/ ٦٦): كان سلمة بن شبيب.. يكذبه. 

-وقال الخطيب:" وكان غير ثقة". 
(تاريخ بغداد: ٦/ ٦٥).

-وقال الخطيب: "قرأت بخط أبي الحسن الدارقطني- وحدثنيه أحمد بن أبي جعفر القطيعي عنه، قال: أحمد بن محمد بن عمر بن يونس بن القاسم اليمامي.. متروك الحديث".
(تاريخ بغداد: ٥/ ٦٦). 

-وفي (ديوان الضعفاء: ٨) للذهبي. قال ابن صاعد: كذاب.

-وفي (ميزان الاعتدال: ١/ ١٤٣) للذهبي أيضاً، قال: "كذبه أبو حاتم، وابن صاعد". 

-وعن أبي نصر بن ماكولا قال: أما الجرشي، بضم الجيم وفتح الراء وكسر السين المعجمة.. عمر بن يونس بن القاسم الجرشي اليمامي، وهو جد أحمد بن محمد بن عمر بن يونس.. أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي نا إسماعيل بن مسعدة أنا حمزة بن يوسف أنا أبو أحمد بن عدي أخبرني إسحاق بن إبراهيم قال: ذكرت اليمامي(٥) هذا لعبيد
الكشوري (نسبة إلى قرية من قرى صنعاء اليمن) فقال: هو فينا، كالواقدي فيكم! 
(الإكمال: ٢/ ٢٣٤).

-وقال ابن عدي: أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي.. حدث بأحاديث مناكير عن الثقات، وحدث بنسخ عن الثقات بعجائب، وتكثُر عجائب اليمامي.
(الكامل في الضعفاء: ١/ ١٧٨). 

خامساً: ذهبت إلى رواية القصة، فوجدت اضطراباً فيها.. ففي بعض المصادر: أن راوي القصة (على الاضطراب في اسمه) هو الذي شاهد القصة، وروى تعليلها.
وفي بعضها: أنه هو الذي شاهد القصة، ولكنه لا علم له بالسبب والتعليل!

قال أبو نعيم: وبعد هذا التطواف.. نكون قد وصلنا إلى بطلان هذه القصة، التي تحكي أمراً كبّاراً، "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا" وهو تحريف آية من كتاب الله العظيم، الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
وذلك لأمور خمسة تقدم معك تفصيلها، وهاك الإجمال، مع زيادة خلال:
-أنها أُوردت دون خطام ولا زمام، وإنما توارد في النقل دون محص وفحص.
-الاضطراب في راويها.
-الاضطراب في روايتها.
-جهل مصدرها وأسانيدها.
-أن فيها تكفيراً لرجل مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن أن القرآن حق لا زيادة فيه ولا نقصان -على البراءة الأصلية-، وإن لم تثبت عينه، لكن حكاية القول، دليل على قائل!
-أن فيها إلماحاً إلى اتهام فرقة أو بلدة، بالاستهانة بكتاب الله المجيد؛ إذ وجد فيهم من ينال من قدسية القرآن الكريم، ولا رادع له أو زاجر، بل قعدوا ينظرون إليه مشفقين!
-أن فيها نزع ثقة الناس، من قراء القرآن وحملته؛ إذ أنهم يزيدون ما أرادوا، وينقصون ما شاؤوا! 

-وبعد هذا وذاك؛ إن رواي القصة متهوم في ديانته، وموصوم في أمانته، فكيف يقبل قوله في دين الناس وأماناتهم؟!

هذا ما أردت رسمه، دفاعاً عن كتاب الله العزيز، وذباً عن عرض المسلمين، وإماطة أذى عن طريق المؤمنين، وبالمعين سبحانه أستعين، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٦/١٣، ليلة الجمعة الغراء، بعد آخرة العشاء، بمدينة ح ي كلأها الحافظ.

ح...........
(١) جاء في بعض المصادر: (أحمد بن محمد بن عمر بن يونس) وفي بعضها: (محمد بن عمر بن يونس)!

(٢) لا يذهبن بك، أنه: اليامي، بدل اليمامي، فإنه يماني، ولكن قضى في اليمامة، فنسب إليها.
قلت: وقد ينسب إلى جده، فيقال: أحمد بن عمر بن يونس.
ينظر: (الكامل: ٥/ ١٥٢) لابن عدي. 

(٣) جل من عزاها من المتأخرين، فإنما يعزوها إلى (مواهب الجليل)!

(٤) هناك ثان، هو: أبو الفرج محمد بن عمر بن يونس البزاز، حدث ببغداد.
وثالث: محمد بن عمر بن يونس ابن الجصاص، تـ٤٢٧، سمع أبا علي بن الصواف، وأبا بكر بن خلاد النصيبي، قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان ديناً ثقة.
ويتأكد، فلعلهما واحدا.
ينظر: (تاريخ بغداد: ٣/ ٣٧) و (الإكمال: ٣/ ٢٥١) لابن ماكولا، و (الأنساب) و (تاريخ الإسلام: ٩/ ٤٢٨).
ورابع: أبو جعفر، محمد بن عمر بن يونس بن عمر بن دينار النميري السوسي.
(لسان الميزان: ٥/ ٣٢٦).

(٥) قلت: لعله يريد الحفيد (أحمد) لا الجد (عمر)؛ لأن الجد قد وثقه الدارقطني، وأحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والبزار، إلا ما يرويه عنه حفيده (أحمد)؛ فيحذر ويتقى.



السبت، 22 فبراير 2020

قراءة في مقدمة، كتاب "الكنى والأسماء" للإمام مسلم.. تقديم المحقق المدقق: مطاع الطرابيشي:

قراءة في مقدمة، كتاب "الكنى والأسماء" للإمام مسلم.. تقديم المحقق المدقق: مطاع الطرابيشي:

كتاب (الكنى والأسماء) للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تـ٢٦١.. صوّر مخطوطته العتيقة، وقدم لها: المتقن المفن: مطاع الطرابيشي -رحمه الله-.

وكنت أحسب بدءاً، أنه تصوير، فحسب، لكني فُجئت بمقدمة باذخة، وتحقيق بالغ، واستقصاء نادر، وجهد جبار، وعنت شاق، وتحمل مشاق.. بذله المحقق الخريت السبروت، في سبيل تقدمته لهاته المخطوطة العتيقة..

وهي عادة حسنة، من هذا العَلم المغمور، في جميع تواليفه وتحاقيقه -بلّ الله ثراه- فلا يرضى ببذل القليل، بل يجهد حتى العنت؛ لأنها أمانة العلم، التي لم يتحملها كثير من ذوي الأسماء اللامعة، في دنيا التحقيق والتأليف!
فاللهم غفراً.

وهذه بعض التقييدات، لدى قراءتي لمقدمته الرصينة، وتقدمته المتينة، أحببت مشاركتها إخواني؛ للاقتداء، والاحتذاء، والاهتداء، وأن لا ينسوا صاحبها من الثناء والدعاء.. فهاكها مسطورة مزبورة:

-الشكر لأهل الشكر؛ فهو لا يفتأ يولي الجميل، ويحمد القليل والجليل، لكل صغير وكبير، انظره يقول -في تقديمه، للكتاب: "ولقد كان لمجمع اللغة العربية بدمشق، فضل السبق إلى الخير؛ إذ أعان على هذا العمل، بالسماح بتصوير النسخة القيمة، المحفوظة في خزانة المكتبة الظاهرية العامرة، وما أمد به من تشجيع كريم.
ثم لدار الفکر بدمشق، فضل الجهد السخي؛ لإتقان العمل، وإخراج الكتاب في حلة قشيبة من الطباعة والتصوير.
نسأل الله التوفيق لما يرضيه من قول وعمل، "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".

-الأمانة التامة في العزو، وإن جلت وقلّت، بل تراه يعزو لمرجع نقل عن مصدر؛ لأنه وجده أولاً هناك!
وهذا غاية، في هذه البابة.

-الاستقصاء الشديد، والمكنة القعيدة؛ فتراه مثلاً: إذا ذكر مصدراً، لا يكتفي بذكر اسم الكتاب ومؤلفه، بل يفيدك بمن نقل عن هذا الكتاب، وقد يحدد الجزء والصفحة، ولا شك أن هذا دليل سعة اطلاع، وطول باع، وجلد على البحث والتحري، ونأي عن القذف والتجري، ومعرفة بخبايا الكتب وفحواها، ومزاياها ومحتواها.

-المعرفة العالية، بالمطبوع والمخطوط، بل والمنشور إذا كان في مجموع أو مجلة، أو سُجل في رسالة علمية، وذلك في طول البلاد وعرضها.
ولا يتأتى هذا التوسع، بعد توفيق الله تعالى، إلا بصبر وجلَد، وهمة قعساء، وحفظ للوقت، وطرد للكسل، وأمل حاد، وتفاؤل شاد.

-التفريق بين المتشابه، في الأعلام والأسماء والكنى والألقاب والبلدان، وضبط كل ذلك، بدليل وتعليل، وترجيح رجيح، لم يأت اعتباطاً أو تخميناً، بل بعد سبر وخبر.

-الإكثار من المراجع والمصادر، وليس إكثاراً، فحسب، بل لا يثبت مرجعه إلا بعد فلي وفتش، وربما طالعه كله؛ ليعرف كنهه وخبيّه.

-الاعتماد في الترجيح على أهله، ومن ذلك: اعتماده كثيراً على العلامة عبد الرحمن المعلمي، في حواشيه المؤنقة، وخوافيه المحققة.

-التنكيت العالي على بعض مصنفي الكنى وتصانيفهم، فتراه يعرج؛ لمناسبة داعية، كتعريجه على ذكر قاعدة في معرفة تاريخ نسخ كتاب ما.
وهو تعريج لطيف محبب، لا يخرج عن السمت.

-المحاولة للوصول إلى حاق الأمر وحقيقه، وإن كلفه جهداً ووقتاً؛ وذلك لأنه يرى أن التحقيق نوع من العلم، يحتاج إلى ديانة وأمانة، كجشبه في معرفة ناسخ نسخة الظاهرية، من (الكنى والأسماء)، للإمام مسلم، حتى توصل بأخرة، إلى تمييزه، وهو: أبو الحسن ابن الفرات، تـ٣٨٤، نسخه في سنة ٣٤٧.

-الولوع باكتشاف حقيقة، أو تزييف بهرج، كاكتشافه لتدليس فظيع، كاد أن يطمس هوية نسخة وناسخها!
وليس ذلك لتسجيل أولية، أو تتبع خطية، بل خدمة بحتة للعلم والمعرفة.

-الإظهار للمخبوء، والإبراز للمغمور، كإظهاره لعَلم نساخ مكثر مجود حجة، ولكنه خامل الذكر -مثل مطاع-، وهو أبو الحسن ابن الفرات!

-الاحتجاج لعمل غريب، ليس مألوفاً عند المحققين، كاحتجاجه لعمله هذا، (تصوير المخطوطة) كما هي بخط ناسخها، مشترطاً لها ثلاثة شروط: حسن اختيار المخطوطة، والتقديم لها بمقدمة وافية، وتذييلها بالفهارس المناسبة.
وعمله هذا؛ كان تنفيذاً، لإشارة له، في رسالته العتيدة (في منهج تحقيق المخطوطات).
قلت: وقد عمل بما شرط، بل أوفى وأربى.

-التأدب مع غيره من المؤلفين والمحققين، فهو غاية في الأدب ولو كانوا زملاءه، فتراه يقول: وسها فلان .. وهم فلان، ولكنه لرقته ولطفه؛ يستعمل أسلوب الظنية والترجية..، فيقول: وفي ظني أن الصواب كذا، أو لعل الأصوب كذا، وقد يكون جازماً في توهيمه وتوهينه، ولكنه الأدب العالي!

على أنه مكثر جداً، من التعقيبات والتعليقات على غيره، بل لا تكاد تفتش صفحة إلا رأيت له تنبيهاً أو تنويهاً، كل هذا، بأدب جم، واعتذار نادر، وعبارة عالية، وإشارة غالية.

ويا للأسف، ترى الواحد من الصغار، يوهّم الكبار، ويوهّن الأسفار، لأدنى عبارة، وأوهى إشارة، وربما اعتباطاً أو اغتلاطاً، وبعبارات فجة، وتكهنات مجة، مع تظنن وتجنن.
فاللهم غفراً.

-الهضم للنفس، وكبح الجماح، وعدم الاعتداد بعمله؛ فقد سمى عمله الرفيع هذا، في تقدمته: (محاولة) و(تجربة) و(عمل متواضع).
واسمع إليه في ختم تقدمته الباذخة، يقول: "وخلاصة القول: إنها نسخة محررة معمرة، حجة في خطها، ثقة في ضبطها، غنية بفوائدها، قد تعاهدتها بالعناية.. أقلام علماء أثبات، أتقدم بها إلى القارئ الكريم، مشفوعة بالجهد المتواضع في خدمتها ..."!

-الخفوت، والبعد عن الأضواء الزائفة، فقد رأيته، (ليس مرة) عند عزوه لكتاب من كتبه، يذكره في الحاشية، دون ذكر اسمه، (مطاع) بل يكتفي بالطبعة، وليس ذلك منهجه في ذكر سواه، بل يثبت اسم الكتاب والكاتب!
وهذا لعمري، وإن كان الذكر سائغاً، إلا أن عدمه؛ يشي بنفس كبيرة، وخلق أكبر.

-الدفع لما يتوهم، فقد يظن بعض الأغمار، أن تصوير المخطوطات، هو تخفف من الأعباء، أو تزلف إلى الإعطاء!
وكأنه حدَس إلى هذا الظن الخائب، فقال: "وقد يحسن التنبيه، إلى أن التصوير ليس وسيلة للاتجار الرخيص، أو ذريعة للتخفف من أعباء القراءة والتحقيق، بل هو في حقيقة الأمر: نحوٌ آخر من العمل في المخطوطات، له أهدافه، وعليه أعباؤه.
أنه باختصار: محاولة علمية جادة، للظفر بكل الفوائد التي يمكن أن تقدمها المخطوطات لقرائها.
ومن هنا: وجب اقتران الكتب المصورة، بمقدمات وافية تمهد للناس سبل الانتفاع بها، ثم قراءة الحواشي الدقيقة، وبيان غوامضها".

هذه بعض القراءات السريعة، من تيك التقدمة البديعة، التي تستأهل أن تكون نبراساً للمحققين، ومقباساً للمولفين، في طريقهم اللاحب، في هذا الزمن اللاهب!

وأختم قراءتي، فأقول: رحمك الله أيها المحقق الثقة، والمدقق المقة، فإنك -والحق-، قد عانيت الكثير، وبذلت الوفير، وأعطيتنا الجزل، وجنبتنا الهزل، ولكنها مروءتك الأبية، الملازمة لجميع أعمالك العلية.

ويا مطاع، أجرك عند من وسع سمعه الأسماع، "في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى".
أما الخلق: فقد أهملوك، بل جهلوا اسمك اللامع، فلم يعرفه إلا الخواص، ناهيك عن معرفة كنهك، واكتناه حقيقتك!
وسلام الله عليك في الأولين، وجعل لك لسان صدق في الآخرين.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٦/٢٧
ح ي


الثلاثاء، 18 فبراير 2020

الأدب البديع في الاعتذار لذوي العلم والفضل الرفيع!

الأدب البديع في الاعتذار لذوي العلم والفضل الرفيع! 

من جميل ما وقفت عليه، في العذران للسابقين، والغفران للفاضلين.. ما ذكره الإمام أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبو بكر بن محمد سابق الدين خضر الخضيري الأسيوطي، تـ٩١١، في مقدمة رسالته (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء)- من الاعتذار للإمام شمس الدين ابن الحمصاني، في قضية خفية، من قضايا تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي مسألة يُغفل عنها؛ فيقع فيها كثير من العوام، بله الأعلام؛ وذلك لغموض أمرها، وخفاء خطرها.

قال الجلال -رحمه الله- "فهذا جزء، سميته: (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء) والسبب في تأليفه: أنه وقع، أن رجلاً خاصم رجلاً، فوقع بينهما سب کثیر، فقذف أحدهما عرض الآخر، فنسبه الآخر إلى رعي المِعزی!
فقال له ذاك: تنسبني إلى رعي المعزی؟ فقال له والد القائل: الأنبياء رعوا المعزى، أو ما من نبي إلا رعى المعزى! -وذلك بسُوق الغزْل بجوار الجامع الطولوني- بحضرة جمع كبير من العوام، فترافعوا إلى الحكام، فبلغ قاضي القضاة المالكي، فقال: لو رفع إلي؛ لضربته بالسياط!
فسئلت: ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء- مستدلاً بهم في هذا المقام؟
فأجبت: بأن هذا المستدل، یعزر التعزير البليغ(١)؛ لأن مقام الأنبياء أجلّ من أن يضرب مثلاً لآحاد الناس،(٢) ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك؛ فبلغني -بعد ذلك-: أنه الشيخ شمس الدين ابن الحمصاني(٣) -إمام الجامع الطولوني، وشيخ القراء، وهو رجل صالح في اعتقادي-، فقلت: مثل هذا الرجل، تُقال عثرته، وتغفر زلته، ولا يعزّر لهفوة صدرت منه، وكتبت ثانياً بذلك.
فبلغني أن رجلاً، استنكر مني هذا الكلام، وقال: إن هذا القائل، لا ينسب إليه في ذلك عثرة ولا ملام، وإن ذلك من المباح المطلق: لا ذنب فيه ولا آثام، واستفتي على ذلك، من لم تبلغه واقعة الحال؛ فخرّجوه على ما ذكره القاضي عياض في مذاكرة العلم؛(٤) لأجل ذكر لفظ الاستدلال في الجواب والسؤال.
قال: "فخشيت أن تشرب قلوب العوام هذا الكلام، فيكثروا من استعماله في المجادلات والخصام، ويتصرفوا فيه بأنواع من عباراتهم الفاسدة؛ فيؤديهم، إلى أن يمرقوا من دين الإسلام؛ فوضعت هذه الكراسة نصحاً للدين، وإرشاداً للمسلمين، والسلام"(٥)
ينظر: (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء: ١٥ - ١٦) تحقيق الدكتور خالد عبد الكريم جمعة، وعبد القادر أحمد عبد الله، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، ١٤٠٨.
والرسالة موجودة ضمن (الحاوي في الفتاوي: ١/ ٢٧٢)

قال أبو نعيم: والأصل في إقالة عثرات ذوي الهيئات.. هو ما حدثت به عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود).
رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم.
والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في (الأحكام الصغرى: ٦٨٧).
وصححه ابن دقيق العيد في (الاقتراح: ٩٩). 

قال الشافعي: "ذوو الهيئات- الذين يقالون عثراتهم.. الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزلّ أحدهم الزلة". 
أخرجه البيهقي في (السنن الكبير: ٨/ ٣٣٤).

وقال العز ابن عبد السلام: "لو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام؛ لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى مَن أقيلت عثرته، وسترت زلته". 
(قواعد الأحكام: ١/ ١٥٠)

وقال السبكي: "فإذا كان الرجل ثقة، مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".
(قاعدة في الجرح والتعديل: ٩٣). 

وقال ابن قيم الجوزية: "والكلمة الواحدة، يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه". 
(مدارج السالكين: ٣/ ٥٢١). 

وقال أيضاً: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم، يعبر عن أهل التقوى والطاعة والعبادة؛ بأنهم ذوو الهيئات، ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمطيعين المتقين، والظاهر: أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد؛ فإن الله تعالى خصهم بنوع التكريم، والتفضيل على بني جنسهم؛ فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عصب صبره، وأديل عليه شيطانه.. فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حدّاً من حدود الله، فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف، كما يتعين أخذه من الوضيع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) وقال: (إنما هلك بنوا إسرائيل.. أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف؛ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف؛ أقاموا عليه الحد) وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة، وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد". 
(بدائع الفوائد: ٣/ ١٣٩)

وقال ابن حجر -في فقه حديث (خلأت القصواء)-: "جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها؛ لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء، لولا خارق العادة؛ لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك؛ لعذرهم في ظنهم". 
(فتح الباري: ٥/ ٣٣٥).

قال أبو نعيم: فقد تطابق هنا: القول والعمل، فبينا يقرر أهل السنة، هذه المسألة الذي ورط فيها أقوام، وخلط فيها أفدام.. نجد الجلال السيوطي، يُعملها واقعاً في حياته، ومع أقرانه، رغم ما يكون بين الأقران من النفاسة والأثرة غالباً، إلا أن "الحق أحق أن يتبع".

فحري بأهل العلم وطلابه.. أن يعملوا بما علموا، وإلا كان ذلك وبالاً عليهم "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تعلمون" "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
ولا يحملنكم مخالفة في المذهب أو البلدة أو المنهج؛ أن تعتدوا وتجوروا، "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، "والعاقبة للمتقين" "إن العاقبة للتقوى". 

قلت: وينظر، في هذه البابة.. جزء، (تصنيف الناس بين الظن واليقين) للشيح بكر أبو زيد.
وكتاب (حرمة أهل العلم) للشيخ محمد إسماعيل المقدم. 

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي. 
١٤٤١/٥/٧
ليلة الجمعة المعظمة، بمكة المكرمة. 
وراجعتها، يوم الأحد، بـ ح ي ١٤٤١/٦/٢٢

 
ح....................... 
(١) وفي نسخة: (تعزير البالغ).

(٢) جاء في (النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات: ١٢/ ٤٠٧) لأبي محمد عبد الله ابن أبي زيد القيرواني.
من رواية ابن أبي مريم، في رجل عيّر رجلاً بالفقر، فقال: تعيرني بالفقر، وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم، الغنم؟!
فقال مالك: قد عرّض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه= أرى أن يؤدب.
قال: ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا، أن يقولوا: قد أخطأت الأنبياء قبلنا.

وقال عمر بن عبد العزيز، لرجل: انظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً؟ فقال كاتب له: قد كان أبو النبي كافراً! فقال: جعلت هذا مثلاً؛ فعزله، وقال: لا تكتب لي أبدا.

وجاء بلفظ آخر: عن أحمد بن عبد الله بن يونس قال: سمعت بعض شيوخنا، يذكر أن عمر بن عبد العزيز، أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلماً، وكان أبوه كافراً، فقال عمر -للذي جاء به-: لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين؟ فقال الكاتب: ما ضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفر أبيه؟! فقال عمر: وقد جعلته مثلاً؛ لا تخط بين يدي بقلم أبدا.
(حلية الأولياء:) ٥/ ٢٨٣)

وجاء بلفظ آخر: عن علي بن أبي جميلة (وفي بعض المصادر: ابن أبي حملة. وفي بعضها: ابن أبي جملة، والله أعلم بالصواب) قال: قال عمر بن عبد العزيز، لسليمان بن سعد (قال أبو الحسين الرازي: وسليمان بن سعد هذا.. من أمراء دمشق، وهو أول من نقل الديوان من اللغة الرومية إلى العربية، وكان مولى من أهل الأردن): بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا، زنديق! قال: هو ما يضره ذلك يا أمير المؤمنين، قد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم، كافراً، فما ضره! فغضب عمر غضباً شديداً، وقال: ما وجدت له مثلاً، غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فعزله عن الدواوين.
ذكره الهروي في (ذم الكلام: ٥/ ٣٣). 

(٣) محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر، شمس أبو الفتح بن الشرف بن ناصر الدين المنوفي القاهري الشافعي المقري، ويعرف بـ ابن الحمصاني، ولد سنة ٨١١، وتوفي سنة ٨٩٧.
ينظر: (شذرات الذهب: ١٠/ ٤١٠) و (الكواكب السائرة: ٢/ ٦١) 

(٤) قلت: وهو ما ذكره القاضي عياض، في (كتاب الشفاء: ٢/ ٥٣٦)، قال: "الوجه السابع: أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يختلف في جوازه عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية به، ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به، وصبر في ذات الله على شدته- من مقاساة أعدائه، وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معاناة عيشته.. كل ذلك على طريق الرواية، ومذاكرة العلم، ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم- فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة؛ إذ ليس فيه غمص، ولا نقص، ولا إزراء، ولا استخفاف، لا في ظاهر اللفظ، ولا في مقصد اللافظ.. لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم، وفهماء طلبة الدين- ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك من عساه لا يفقه، أو يخشى به فتنته".

أقول: والكلام في مذاكرة العلم، ينزل منزلة غير تقرير الدرس، والحديث بين العوام؛ وذلك لأنه كلام غير مراد ولا مقصود، وإنما يكون لمعرفة كنه الأمر، ومعرفة حقيقته.
والأمثلة في مذاكرة العلم كثيرة، ومنها: ما حدث به وكيع بن الجراح، عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، بعد موته، قال عبد الله البهي: وكان ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه!
وهو خبر منقطع ومنكر.
فكاد أن يقتل -رحمه الله-؛ وذلك لأنه كان في المجلس بعض العوام.. لولا دفاع وشفاعة سفيان بن عيينة!

(٥) وينظر في هذه المسألة: (تاريخ دمشق: ٢٢/ ٣٢١) و(الوافي بالوفيات: ١٥/ ٣٩٠) و(الذخيرة: ١٢/ ٢١) للقرافي، و(أحكام القرآن: ٣/ ٢٥٩) لابن العربي، و(الجامع لأحكام القرآن: ١١/ ٢٥٥) للقرطبي، و(المدخل: ٢/ ١٤) لابن الحاج، و(تاريخ الخميس: ١/ ٢٣٨) للديار بكري، و(تفسير المنار: ٧/ ٤٥٩) لمحمد رشيد رضا، و(التعليق الحاوي لبعض البحوث على شرح الصاوي: ١/ ٩٧) للشيخ محمد بن إبراهيم المبارك، تـ١٤٠٤.



الاثنين، 17 فبراير 2020

تكافلٌ ولو بالدعاء!

تكافلٌ ولو بالدعاء!

بينا أصلي إحدى الصلوات؛ إذ سمعت في سجودي، بصوت خافت، رجلاً يقول: اللهم ارفع عنا ما نحن فيه!
وسبحان الله، عندما سمعته، دعوت بما به دعا، فله الأجر والثناء.

ثم قلت: لو أن كل فرد في اليمن، بل كل مسلم في العالَم = يدعو بهذا الدعاء لعموم المسلمين؛ لحصل الخير، واندفع الشر والضير؛ لأن دعاء المرء لنفسه، غير دعائه لغيره، خصوصاً ما تمر به بلاد الإسلام، من بلاء ووباء، لا سيما بلادي المنكوبة المنهوبة المغلوبة!

وللأسف، نحن اليمنيين، نعيش بين نارين:
-نار الفقر والقصف والحرب والمرض في الداخل!
-ونار التشريد والتجريد والتنغيص والمطاردة والمداهمة في بعض دول الخارج!

تخيلوا، الآن، وأنا أمشي في شارع فسيح عريض.. رأيت موقفاً، قفّ له شعري، وأوقفني مكاني، والله حقيقة، وقفت له وتوقفت!

رأيت امرأة محجبة مجلببة.. يبدو من ملامحها الظاهرة، أنها في العقد الثالث أو بداية الرابع.. رأيتها نائمة على رصيف الشارع، وأمامها طفليها الصغيرين، الذيَن لم يتجاوزا العاشرة تقريباً، وهم في نوم عميق، لا شك أنه في نظرهم عميق وهنيئ.. نوم هنيئ؟!
مساكين، لا يعلمون، أن أمهم في عذاب ممزق، وحياء محرق، ولكن:
وللضرورات حال لسن ندريه!

أرسلت صديقي؛ ليعطيها شيئاً ما، قال لي: إنها نائمة!
قلت له: اقترب منها، ونادها؟ ففعل.. فقامت -المسكينة- مذعورة من غفوتها، وناولها ما بيده.. فأخذته بكفها المرتعش، ورجعت لحالها الأول.. واضعة كفها تحت خدها، وذهبت تناجي نفسها، فهي خير صديق!
وخير لها -والله- من دنيا الزيف والكذب، والملق واللعب!

لا أكتمني، ولا أكتمكم.. أن حالها، لم يغادرني إلى لحظتي هذه، ولكن ما بوسعي أن أصنع، سوى ما صنعت!

وأجدني تالياً، قول ربي سبحانه، بملء فيّ، وعرض شدقي: "ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون".. بلى والله، منتقم في الدنيا، قبل الأخرى!

أخشى والله، (ولا نتمناه لأخواتنا المسلمات أياً كن، وحيث كن)، ولكنه سيكون، إن استمر هذا الظلم والهزء والذل!
أقول: نخشى أن نرى هذا الموقف المقض الممض، في بعض ديار المسلمين، الذين يصبحون ويمسون في بذخ شادخ، وسرف صارخ، وقد يكونون من الساخرين من هذه المرأة، ومن في مثل حالها، أو من الساكتين عن شأن غيرهم، وكأنه لا يعنيهم!
والله سنراه!

وقد رآه بعض آبائنا وأجدادنا.. رأوا ما هو أشنع وأفظع، وما هو للحياء أقطع، من هذا المنظر!
رأوا نساء شابات، قد غرزن أنفسهن استياء، وتذرعن بملحفتهن حياء، وهن يتسابقن إلى رجال ...؛ ليطحنوا لهم حبوب الذرة أو القمح؛ كفاء أكلة يأكلونها مع أهليهم!
نعم، والله، هذا ما حُدثته وأخبرته ممن شاهد هذا الموقف من نساء بلاد، هي اليوم في ذروة الثروة، أفلا يخشى من الدوران والدولان؟!

وما أشبه الليلة بالبارحة، ها نحن نرى إشارات واضحة، للعودة إلى ذاك الماضي المهين، ولا غرابة، فـ "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".

فيا أهل اليمن: ازدادوا استقامة فوق استقامتكم.. نعم، المساجد -بحمد الله- ممتلئة، والنساء متحجبة، والرحمة موجودة، ولكن: نتمنى الأحسن والأفضل، والأعلى والأكمل.

قال الشيخ حماد الأنصاري: "أهل اليمن، هم العرب حقاً، ولا نظير لهم في الأخلاق. 
وما وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (الإيمان يمان، والحكمة يمانية)؛ لم يوصف به عربي قط".
(المجموع: ٦٩٣/٢).

ويا أهل اليمن.. ويا أهل الإسلام: عليكم لزوم طاعة ربكم، وطاعة رسولكم عليه الصلاة والسلام، ولازموا المراقبة للرقيب جل وعلا، وألّحوا على ربكم الرحيم الرحمن المتعال، بالدعاء والتضرع والابتهال.. فوالله، ليفرجن عنكم، وليفتحن لكم أبواب الأرض والسماء، فأبشروا وأمّلوا، وتفاءلوا بالخير؛ تجدوه.

وكتب: وليد أبو نعيم.
ح ي ١٤٤١/٦/٢٣



الجمعة، 14 فبراير 2020

زيف ما يسمى: عيد الحب!

زيفُ ما يسمى: عيد الحُب!

إن الاحتفال، بما يسمى: عيد الحب.. روماني جاهلي بهيمي بوهيمي، وُضع من أساسه لقس كافر زان، مسرف في هذا الشان، يسمى: فالنتاين، فحكم عليه بالإعدام في ١٤ فبراير، عام ٢٧٠ ميلادي!

فلما أُعدم، وضعوا له يوماً، تخليداً للزنا، وترسيماً للبغا، ولا زال يحتفل به الكفار، ويشيعون فيه الفاحشة والشر، والفحشاء والمنكر.

وهذا غير بعيد على أولئك البهم النهم؛ فقد أمضوا حياتهم كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً "أوليك كالأنعام بل هم أضل سبيلا" "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" فهم لا يأنفون عن قول أو فعل، مهما عظم وضخم وفخم، ولا يستنكفون عن إعراء الأجساد، وإغراء الأطماع، وإلهاب الأسماع، وإمتاع الأبصار وافتضاض الأبكار، وعبادة الشهوات؛ لأنهم "ضل سعيهم في الحياة الدنيا" و"ليس لهم في الآخرة إلا النار" "فقد "ضل سعيهم في الحياة الدنيا" "وقد خاب من حمل ظلما"

لكن الغريب جداً.. أن يحتفل بهذا الحفل الماجن الآجن، العفن النتن.. بعض المسلمين، الذين يؤمنون بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً!

كيف يحلو لهم.. أن يشاركوا أعداء الإسلام، في هذا الحفل الإباحي .. وكيف يطيب لهم تبادل الورود الحمراء .. وكيف يفرحون بلبس وإلباس الملابس النكراء؟!

إن ما يسمى، بـ عيد الحب.. هو عيد النصارى والكفار، ومن وافقهم ورافقهم، ولا يجوز لنا نحن المسلمين؛ أن نسميه عيداً؛ لأن اللفظة شرعية توقيفية، فلا يجوز وضعها في مسمى آخر، ولا يجوز تقليدهم، ومجاراتهم، ففي ديننا ما يغنينا ويكفينا ويحمينا ويشفينا.

قال ابن تيمية: "الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك، التي قال الله سبحانه عنها: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" وقال: "لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه" كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد، وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد، موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه، موافقة في بعض شُعب الكفر، بل الأعياد، هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها، موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة".
(اقتضاء الصراط المستقيم: ١/ ٢٠٧)

وقال أيضاً: "لا يحل للمسلمين.. أن يتشبهوا بهم، في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس، ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة، أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء، ولا البيع بما يستعان به على ذلك؛ لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد، ولا إظهار الزينة.
وبالجملة، ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام، لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم".
(مجموع الفتاوى: ٢٥/ ٣٢٩)

وقال الذهبي: "فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد.. كانوا مختصين به، فلا يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم، ولا قبلتهم".
(تشبه الخسيس بأهل الخميس: ٤/ ١٩٣)

وربما جرى من البعض: الخروج مع امرأة أجنبية، أو الكلام، أو التواصل والتراسل والتعاضل والتناسل!
ولا قوة إلا بالله، هو ملاذنا ومعاذنا.

وأسفي والله.. أن يحتفل مسلم أو مسلمة، بأعياد النصارى، الذين ليس لهم من وطر إلا متعهم الدنيوية، ولا يدينون بشيء، حاشا الانفلات من ربقة الالتزام، والتخلي عن أزمّة الاحتكام.

والمحتفلون بهذا الاحتفال.. مخالفون لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء إلى المدينة، ووجد أهلها يلعبون في يومين، هما من أعياد الجاهلية، قال: (إن الله قد أبدلكم بهما، خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر).
رواه النسائي، وابن حبان بإسناد صحيح، عن أنس رضي الله عنه.

قال الحافظ ابن حجر: "استُنبِط منه: كراهة الفرح في أعياد المشركين، والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي -من الحنفية- فقال: مَن أهدى فيه بيضة إلى مشرك، تعظيماً لليوم؛ فقد كفر بالله تعالى".
(فتح الباري: ٢/ ٤٤٢)

والعجيب: أن من يزعم هذا الحب الواهم الهائم.. قد قتلَنا وشردنا وفرقنا وشتتنا وحاصرنا وعاصرنا، وأذاقنا الويلات، وجرعنا الصابات، وأكثر المحتفلين، في صمم أو عمى عن هذا الحق، "ولكن أكثرهم للحق كارهون"!

وإن الاحتفال بما يسمى: عيد الحب.. انهزامية روح، وضعف إيمان، وصغر نفس، وخور طبع، وانجرار وراء الغرب في كل ما يفعلون (حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه) رواه البخاري ومسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

أنترك الشرع الحنيف، ونتجه خلف كل خليف، ونلهث نحو كل عجيف؟!
اللهم براءة من صانعيه، وتبرؤاً من حافليه، وهذه الصيحة "معذرة إلى ربكم"

فحذار حذار، من هاته الاحتفالات الشائنة، والحفلات الخائنة، فإن فساد الظاهر، دليل على فساد الباطن، (والألسنة، مغاريف القلوب) و(كل إناء بما فيه ينضح) وإذا ثبت الإيمان في القلب، ظهر على الجوارح الطاعة والانقياد) فتنبهوا وانتبهوا ونبّهوا..

وكتب : أبو نعيم وليد الوصابي
١٤٤١/٦/٢٠

 

الخميس، 13 فبراير 2020

خصال شتى في رجل فذ!(أبو إسحاق الحويني)


خصال شتى في رجل فذ!(أبو إسحاق الحويني)

الشيخ المحدث أبو إسحاق الحويني.. ممن قذف الله حبه في قلوب خلقه، فلا تكاد تجد رجلاً، إلا، ويذكره بالخير، ويثني عليه الجميل، ويتشوف لسماع حديثه العذب، المؤسس، بالآية والحديث، والممزوج، بالنكتة المحبوكة، والبسمة المفكوكة!
ولعل هذا الحب.. هو نتيجة دعائه، بـ (اللهم حببني إلى قلوب عبادك)!

والشيخ -كلأه الله-، ممن إذا رأيته؛ ذكرت الله، وذكرك بالله تعالى.. فهو منور الشيبة، مشرق الجبين، براق الثنايا، بسام الثغر.

وهو -شفاه الله-، للأمراض مزُور.. حتى بترت قدمه، وأرجو الله، أن تكون سبقته إلى الجنان.
ووالله، إني في ألم شديد عليه، لترادف أمراضه، وتعكر صحته، ولكنه، مع هذا، تجده صابراً محتسباً -حسب ما ينقل عنه، وهذا هو الظن بأهل العلم والعمل- فلا يكاد يشفى من سقم، ونبشر بتماثله للشفاء، إلا وينمى إلينا أخرى: أن الشيخ أدخل المستشفى! فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون" ولا أظن هذا؛ إلا رفعة لدرجاته، وحطاً لسيئاته. -شفاك الله -شيخي -وإن لم ألزم ذاتك، فقد لزمت كتبك، ثم سمعت دروسك ومواعظك.
أسأل الله أن يرفعك إلى العافية، ويمسح عليك بيمينه الشافية.

وقد أعجبني في الشيخ خصال كثيرة، منها: سهولته في كلامه، وبسمته التي لا تكاد تفارقه، وحنوه ودنوه من الناس، ورفقه بالعوام، حتى أني سمعته يقول: (كل صفة نقص في المدعو، لا بد أن يقابلها صفة كمال في الداعية؛ وإن لم يكن كذلك؛ فليترك الدعوة، وليرحنا)!

والشيخ -شفاه الشافي- شديد التتبع لرسول الله عليه الصلاة والسلام، سمعته يقول: (أقول لكم عن تجربة، وأوصيكم بذلك-:
(من يوم أن عقلت، وعرفت يميني من شمالي؛ وأنا كلِفٌ غاية الكلَف بتتبع حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبحث عنها بالمنقاش)!
حتى أنه يذكر: أن هذا الاقتداء، جعله بعيداً عن الخصومات حتى بينه وبين زوجته.
وذكرني، بقول أبي عبد الله محمد بن خفيف: (ما سمعت شيئاً، من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا واستعملته حتى الصلاة على أطراف الأصابع، وهي صعبة)!

تلمس في الشيخ -عافاه الطبيب- تبحره في العلوم الشرعية بما فيها الأدب -الذي قلّ أن يجتمع أديب ومحدث-، أما علم الحديث؛ فهو جدوله ونهره وبحره ومحيطه!

والشيخ كثير الاستطراد في دروسه؛ فلا تسمع له درساً إلا وتخرج بفوائد جمة، ونصائح مهمة، ودرر نفيسة، وهمة كيسة، مع نكتة محببة، بلهجة قريبة، وبسمة حبيبة..

سمعته وهو يذكر حديث جابر، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام، له: (هلاّ بكراً؛ تلاعبها وتلاعبك) كما في البخاري.
قال الشيخ: وفي رواية للطبراني: (وتعاضضها وتعاضضك)!
ثم قال الشيخ: الرواية ضعيفة؛ واحنا مش عاوزين مشاكل، تجي واحدة تشتكي، أن زوجها عضها! خلاص بأ، الرواية ضعيفة!

والشيخ -أقامه الله- شديد التتبع لأحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وآثار الصحب الكرام، والتابعين الفخام، ولا يكاد يجاوزهم..

ولعلك تعجب، إن سمعت منه، وهو يقول: إني منذ سمعت قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)؛ وأنا شديد التتبع لآثار هذه العصور، ولا أكاد أخرج عنهم! -أو كما قال -شفاه الله-.

ترى في كلامه الحبك والسبك، كأنما يحفظه عن ظهر قلب.

ترى فيه -حفظه الله- طرح التكلف تماماً، والأخذ بما سهل ويسر.

ترى فيه، آثار العبادة والطاعة، والخوف من الله مع رجائه سبحانه وتعالى.

ترى فيه، وتسمع منه.. خشية الله تعالى، والخوف منه، والنأي عن الألقاب الدنيوية، وقد اشتهرت عنه، مقولته (اخلع نياشينك)!

الشيخ وجل القلب، غزر الدمع، ولكن دون شهيق، وهذا هو بكاء القلب!

الشيخ كثير الثناء للسلف الصالح، والعلماء السابقين، والترحم عليهم، والاقتداء بهديهم، ولزوم غرزهم.
وهو شديد التواضع للعلماء المعاصرين، حتى وإن كانوا في أسنانه!

لم ألتق الشيخ قط، ولكني أحبه .. أحب علمه .. أحب خلقه .. أحب رفقه .. أحب بسمته .. أحب نهمته .. أحب قربه .. أحب تواضعه .. أحب حرصه .. أحب دعوته .. أحب فيه خصال الخير والفضل والنبل..
وأتمنى -حقيقة- أن أتشرف بلقيّه، وأرتشف من معينه، وأكتسب من رصينه، وأكرع من نميره، وأعل من مصبه.. -يسر الله لي لقاءه، ولقاء أهل العلم العالمين العاملين النابهين النابغين-. رب أجب واستجب.

وقد قرأت له -شفاه الشافي- كثيراً من تحقيقاته الرصينة، وتواليفه المتينة، كـ تحقيقه، لـ "الديباج" للسيوطي، وغير ذا من الأجزاء الفخيمة، والأسفار القديمة، وتأليفه، لـ "غوث المكدود" و "النافلة" و"نهي الصحبة" و"بذل الإحسان" و"تنبيه الهاجد" فكنت أعجب من طول تخريجاته للحديث، خصوصاً في "نافلته" وكيف استطاع، أن يحصل على تيك الأجزاء والمشيخات، التي الكثير عنها بمعزل، ولكن يزول عجبي، عندما علمت عن شغف الرجل بعلم الحديث، وتتبع آثاره، وحرصه على التزود والتروي والتشبع والتنهل حتى نهل وعلّ، ثم كرع..

اعذروني؛ لم أقصدها، وإنما هي جرة قلم!

كتبه من طرف الثمام: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤٠/٥/٢٢

#أمالي_رمضانية
#أنابيش_الكنانيش
https://t.me/walidabwnaeem


الأحد، 9 فبراير 2020

عندما يُذَلّ العزيز!

عندما يُذَلّ العزيز!

رجعت الآن من المسجد.. مرّ بجواري رجل طويل القامة، نحيل الجسد، في الأربعين من عمره المرير- تقريباً.. حملق إلي وشزرني، فارتبت منه، لا سيما في هاته الأيام، ثم سألني سؤالاً غريباً، لم أفطن له!

دخلت البيت، وإذا بطارق يطرق الباب! قلت: اللهم طارقاً يطرق بخير!
خرج أبو النعائم، فوجد رجلاً، قال له: أريد أبا نعيم، خرجت، وإذا ذات الرجل، بيده ورقة؛ فرابني منه ما راب، وأخذني ما ناب وجاب!
قال لي -وهو منكس رأسه-: اقرأ، أنا فلان بن فلان، أسكن بالقرب منك!

أخذت الورقة، وانزوى الرجل في زاوية! قرأتها، وإذا فيها، شكوى ممضة، وحكاية مقضة.. يخبرني فيها، بـ: أنه أستاذ في (مدرسة ...) وهو أب لبنين وبنات، وللدهشة؛ لم أتبين عددهم!
يقسم بالله العظيم؛ أنهم لم يذوقوا طعاماً، منذ الصباح!

مشيت نحوه، وأنا مثقل الخطى، كسير الحال، مبلبل البال!
سلمت عليه، وأنا أسترجع وأحوقل، وإذا بالرجل يبكي بانتحاب! 
نعم، يبكي بكاء دموع!

بكيت لبكائه، وشجوت لشجوه، ونكست رأسي نحو الثرى، وشعرت بأني، أنا الذليل، وناولته نزراً نزيراً، على قدر الوسع والفسح!

حينها، تذكرت ما وجدته في بعض كتب الأدب: قبح الله الضرورة، فإنها توقح الصورة!
وزدت أنا: قبح الله الحاجة؛ فإنها ترقق الديباجة!

وقد صور هذا المعنى؛ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فقال:
ألا قبح الله الضرورة، إنها؛ *** تكلّف أعلى الخلق، أدنى الخلائقِ!

وسبحان الله، قبل أن أقرأ محتوى ورقته.. قرأت في صورته: الفقر والفاقة، مع صدق ووداعة.. ولما دخلت البيت؛ سألت عن اسمه وسكنه؟ فأخبرت بتطابق ما خط وكتب. 

أقول: إن هذا الموقف، ليس بقصي عن أي فرد في العالَم، ولا نئي عن الخلق أجمعين؛ لأن دوام الحال من المحال، والأيام دوارة، والدنيا في تداول، والدهر قلّب! "فاعتبروا يا أولي الأبصار".
يا نفس كوني على الأهوال صبارة *** هذي صروف الدهر، والأيام دوارة

إن هذا الأستاذ الفاضل، لم يخطر بباله.. أن يصل إلى هذا الحال، فهو موظف لدى الحكومة، وكان يستلم راتباً شهرياً، يكفيه ذل الحال، ويقيه حر السؤال!
ولكن، الغلاء في سعار، والراتب متوقف أو شبهه، والحرب في ازدياد وأوار!
كلما قلنا: عساها تنتهي؟ *** قالت الأيام: هذا مبتداها! 

لم أسطع الكتْب؛ لفدح الخطب، واضطراب القلب، واستيلاء الكرب؛ لذلك، اُرتج علي، فتناثرت الكلم، واختلطت العبارات.. فجاء كلامي فدْماً عياً سمجاً.. ولكن يكفيني: صدق الشعور، وتصوير الموقف، ووصول الهدف.
وأختم، بـ "إنا لله وإنا إليه راجعون" هو وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٦/١٥ الساعة الثامنة مساء، بـ ح ي.

الجمعة، 7 فبراير 2020

إزالة الغابشة في تعيين والد فاطمة وعائشة! أو: إزالة القاتمة في تعيين والد عائشة وفاطمة!


إزالة الغابشة في تعيين والد فاطمة وعائشة!
أو
إزالة القاتمة في تعيين والد عائشة وفاطمة!

كثيراً ما يمر بي في كتب التراجم والمشيخات، والبرامج والأثبات.. ذكر المسندتين الكبيرتين: فاطمة وعائشة ابنتا محمد بن عبد الهادي!

وكنت أظن آنذاك، أنهما ابنتا الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي.. بناء على أن حذف بعض أسماء الآباء من التراجم، من المتعارف، لا سيما إذا كان المحذوف مغموراً، والمثبت مشهوراً.

أقول: هذا ما كنت أحدس، ثم تاقت نفسي أن أتثبت من غور ذلك، وأقف على كنه ما هنالك.
فبدأت بحثي، ولكني فوجئت أني لم أجد -حسب اطلاعي- على من اسمها (فاطمة و عائشة) بنت محمد بن أحمد بن عبد الهادي!
فأدركت حينها، أن أباهما آخر، غير صاحبنا الشمس الحافظ الإمام!

وما يوقع في الإشكال، هو: تطابق اسم والدهما باسم صاحبنا، ثم زيادة اسم أحمد، ثم اتفاق نسبيهما تماماً؛ لأنه عمه!

فالحافظ، هو: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن قدامة المقدسي الحنبلي  الجماعيلي.

ووالد المحدثتين، هو: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن قدامة المقدسي الحنبلي  الجماعيلي.

ثم وجدت ما يزيح اللثام، ويزيل الركام..
قال تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي، تـ٨٣٢، -في ترجمة والد الشيختين-: "وهو والد شيختينا: فاطمة، وعائشة".
ينظر: (ذيل التقييد: ١/ ١٦٨).

وقال أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، تـ٨٥٢، -وهما شيختاه-: "فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسية ثم الصالحية، أم يوسف، كان أبوها محتسب الصالحية، وهو عم الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي ...".
قلت: فبان أن الحافظ ابن عبد الهادي، ابن عمهما.
وكأنهما -الفاسي والعسقلاني- حدسا إلى لبس وغموض، فأكدا ووكدا.
وقد رويا غليلي، وشفيا عليلي، فجزاهما الله خير الجزاء وأوفاه، وأجزله وأكفاه.

ثم بعد هذا الكشف من الحافظين الماهرين.. عدت إلى التاريخ (والتاريخ: كشف وكاشف وكشاف) ولم أتنبه وقتها، للتاريخ؛ اكتفاء بالشهرة!
فوجدت أن فاطمة قد ولدت سنة ٧١٩، وولادة عائشة كانت سنة ٧٢٤، والشمس الحافظ ابن عبد الهادي، ولد سنة ٧٠٤!
أي: عندما ولدت فاطمة، كان عمر الحافظ خمسة عشرة سنة، وحين ولادة عائشة، كان عمره عشرين سنة!
فكان رواء أنفع للغلة، وشفاء أنجع للعلة!


وهذه ترجمة مختصرة لكل منهما، ولوالدهما:
أما الوالد..
فهو: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن قدامة المقدسي، محتسب الصالحية، وبهذا عرف وشهر.

سمع على الفخر علي بن أحمد بن عبد الواحد مشيخته، تخريج ابن الظاهري.
ومات سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ٧٤٩.
ينظر: (ذيل التقييد: ١/ ١٦٨) و (الوفيات: ٢/ ٦١) لابن رافع.


وأما فاطمة..
فهي: فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسية ثم الصالحية، أم يوسف.

ولدت سنة تسع عشرة وسبع مئة، (٧١٩) وسمعت الكثير على أحمد بن أبي طالب الحجار، وأجاز لها أبو نصر ابن الشيرازي، ويحيى بن سعيد وآخرون من الشام، وحسن الكردي، وعبد الرحيم النشاوي وآخرون من مصر.

قرأ عليها ابن حجر كثيراً من الكتب والأجزاء بالصالحية.
قال: "ونعم الشيخة كانت، ماتت في شعبان، سنة ثلاث وثمانمائة، (٨٠٣) وقد جاوزت الثمانين".
ينظر: (إنباء الغمر: ٢/ ١٨٠) و (المجمع المؤسس: ٢/ ٣٥٠).


وأما أختها..
فهي: عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد ابن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسية ثم الصالحية.

ولدت سنة أربع وعشرين وسبعمائة، (٧٢٤) وأحضرت في الرابعة على أحمد بن أبي طالب الحجار، وسمعت عليه أربعي الطائي، وأربعي الحجار وغير ذلك، وأسمعت صحيح مسلم على جماعة من أصحاب ابن عبد الدائم، ومعظم السيرة على عبد القادر بن الملوك.

وشاركت أختها فاطمة في كثير من المسموعات والمجازات، وتفردت، وممن أجاز لها: إبراهيم بن صالح بن العجمي من حلب، والشيخ شرف الدين البارزي من حماة، والبرهان الجعبري من بلد الخليل، وعبد الله بن محمد بن يوسف من نابلس، وسمع منها الرحالة فأكثروا، وكانت سهلة في الإسماع، سهلة الجانب. ومن العجائب: أن ست الوزراء كانت آخر من حدثت عن ابن الزبيدي بالسماع، وماتت سنة ست عشرة وسبع مائة. (٧١٦)
ثم كانت عائشة.. آخر من حدثت عن صاحب (ابن الزبيدي) أبي العباس الحجار بالسماع، وبين وفاتهما مائة سنة!

قرأ عليها ابن حجر كثيراً، وأجازت لأولاده: زين خاتون، ورابعة، ومحمد.

ماتت في ربيع الأول، سنة ست عشرة وثمان مائة" (٨١٦)
ينظر: (إنباء الغمر: ٣/ ٢٥) و (المجمع المؤسس: ٢/ ٣٥٠).


وذكر الفاسي، في (ذيل التقييد: ٢/ ٣٦٥): امرأة أخرى، تسمى: دنيا بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسية.
ولم يذكر لها ولادة ولا وفاة ولا أشياخا!
قلت: ويظهر توافق اسمها مع اسمي: عائشة وفاطمة؛ فلعلها أختيهما. والله أعلم.


قلت: وهذه الأسرة العلمية.. غصن من دوحة المقادمة المقادسة الباسقة الواسقة، التي شمرت للعلم، وكابدت في سبيله، حتى بدّت غيرها، وبزّت من سواها.
وأصلهم من جمّاعيل بـ نابلس، ثم ارتحلوا منها، بسبب تسلط النصارى، في أول رجب، سنة ٥٥١، وكان أول المهاجرين، شيخ المقادمة وكبير المقادسة: الشيخ أحمد بن محمد ابن قدامة.
وكانوا كلهم على مذهب السلف في الاعتقاد.
وهم كثيرون، ومن كثرتهم.. ترجم إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، تـ٨٨٤؛ ترجم في (المقصد الأرشد) لنحو خمسين عالماً منهم، فـ "ما شاء الله لا قوة إلا بالله".

هذا ما صار وكان، من الإشهار والبيان، لهاته الأسرة الآسرة بالعلم، والمُسرة بالفهم، رحمهم الله وغفر لهم، وأسكنهم فسيح الجنات، وسقى بقعتهم صيب الودقات.

وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٦/٤
الساعة الثانية بعد منتصف الليل من ليلة الخميس. ح ي



الاثنين، 3 فبراير 2020

قراءة في "الرحلة الحجازية" لليوسي.. الرحلة العجيبة، والسفرة الغريبة!

قراءة في "الرحلة الحجازية" لليوسي.. الرحلة العجيبة، والسفرة الغريبة!


قرأت (الرحلة الحجازية) لأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، تـ١١٠٢، بعناية عبد المجيد خيالي، ومراجعة وتقديم أحمد شوقي بنبين..
قرأتها في جلسة اختلستها من غير الزمان، وتسنمتها من نوائب الحدثان، بعد أن هجعت العيون، وأطبقت الجفون، وتلاحمت الشؤون، وتلاطمت الشجون.. روّحت بها عن روحي مما أمضها، ونفست عن نفسي مما أقضها.. فسلا الخاطر، وقرّ الفؤاد، وانشرح الصدر.
والحمد لله على جليل نعمه، وجميل مننه، ولطيف حننه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه لا رب سواه، ولا إله غيره.

فأقول -وبه أستعين، وله أستكين-: الرحلة الحجازية.. هي رحلة قام بها العلامة الحسن بن مسعود اليوسي، واصطحب معه ابنه محمد، ومعهم جمع من المغاربة.. قصدوا في رحلتهم زيارة البيت الحرام، ويمموا صوب من تهفو إليها الأنام.

وسبحان الله، كيف يتمزع الإنسان شوقاً إلى تيك البقاع، ويتمعط حزناً على تلك الرباع، ويتقطع ألماً على ذياك التلاع.

ولعل هذا، هو إجابة دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، في إخبار الله عنه: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم".
قال ابن كثير: "فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار".
(تفسير القرآن العظيم: ٥/ ٤١٤)

يا كعبة الله الشريفة اشرقي *** للطائفين وحلقي بسماكِ

النور في مبناك باهر *** والعلم والتوحيد في معناكِ

وقد كان الواحد من المتقدمين إذا أراد سفر الحج؛ أعد العدة من سنين؛ لأنه سيمكث في سفره سنينا!
ولا يصبر على بلوى السفر ولأوائه إلا قوي القلب، صلب البدن، حديد الصبر، شديد الحمل.

شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا * فاستحمل القلص الوخادة الزادا

-واسمعوا إلى صاحبنا، مشيراً إلى وعثاء السفر ووصبائه، وهوله ونكبائه، حيث يقول: "وهذه الطريق لا بد فيها من زين وشين، وخشونة ولين، وفرح وقرح، وغنى وعنی، ... والعيد على الغيد، والنعيم للمقيم، والغريب لا يطيب، إن الزعفران عطر العذاری، وغبار الطريق عطر الرجال"!

-ويقول: "ومن أراد أن يكون كذلك.. فعليه باقتحام هذه المسالك، ويتجلد لهذه المهالك، ویری ویشم، ويخفض ويرفع، ويجوع ويشبع، ويعز ويذل، ويكثر ما لديه ويقل، والله تعالى هو الموفق والمعين".

-ويقول: "فإذا حصلت صحة القلب، وقوة الذهب، ومزجتا بقوة الرب..
فحينئذ يشفى الكرب، وتنال الرغب،  ويكمل الطلب، وفي الله الكفاية والرجاء، وإليه سبحانه الملتجا، وليس هذا مخصوصاً من مصر، وإنما هو من أول الأمر، وابتداء السير، وإلا فارقد في بيتك، واغتنم راحتك ودعتك، ولا تتكل على ما ليس في الحمل، فإنه قيل: (اعقلها وتوكل) وبذلك أمر الله تعالى: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، ومن حدثته نفسه أن يبلغ أرض الحجاز، بالخريطة والعكاز، فقد أكذبته نفسه وهو آثم، ويخلف لا قاعد ولا قائم، ويندم حيث لا ينفعه الندم، ويكو بين الوجود والعدم، والعدم أقرب إليه، والوصول أبعد عليه، وهذا ما شهدنا ورأينا، لا ما سمعنا وظننا، والله تعالى يبلغ الأمنية، ويصلح النية بالنبي وصحبه، وآله وحزبه.(١)

إذا امرؤ لم يركب الأهوالا *** ولم يقاس الهم والأثقالا

فأعطه المرود والمكحالا *** وعدّه من أهله عيالا!

-ويصلح هنا، أن أتمثل ببعض أبيات للعلامة جار الله محمود، حيث يقول:
سيري تماضر حيث شئت وحدثي *** أني إِلى بطحاء مكة سائرُ

حتى أنيخ وبين أطماري فتىً *** للكعبة البيت الحرام مجاورُ

يا من يسافر في البلاد منقباً *** إني إلى البلد الحرام مسافرُ

سأروح بين وفود مكة وافداً *** حتى إذا صدروا فما أنا صادرُ


وبعد، فهذه قراءة عابرة لهاته الرحلة الشاقة الحاقة:
*يظهر في الرحلة.. المنزلة العلمية الرفيعة التي وصل إليها العلامة الحسن اليوسي؛ فإنهم لا يكادون ينزلون منزلاً إلا وتهفو نحوه الأفئدة، ويقصد من جميع الأصعدة؛ للفتيا والقراءة والإجازة والاستفادة.

-فقد التقاه الفقيه محمد بن أحمد بن محمد، الملقب، بـ المكنى، وأنشده قصيدة حافلة بالألقاب العلمية، بل جعله مجدد ذلك العصر، ثم طلبه الإجازة له ولبعض أصحابه من أهل بلدته.
قال فيها:
أعالم أهل الأرض في كل ما قطر *** وعلامة الدنيا جميعاً بلا نکرِ

وقدوة أرباب الهداية والتقى *** مجدد دين الله حقاً بذا العصرِ

أيا شيخنا اليوسي یا شیخ وقته *** وعمدة أقطاب الوجود بذا الدهرِ(١)

مقيد هذا، المكنى محمد *** يحبكم سراً وفي ظاهر الأمرِ

يؤمل منكم أن تجيزوه بالذي *** رويتم وروّيتم من العلم والذكرِ

وإن لم يكن أهلاً لما رام منكم *** فإنكم أهل المودة والخيرِ

ومهما تفضلتم بذاك فعمموا *** لإخواننا في الله من أهل ذا المصرِ

كمثل ابن عفان المعظم قدركم *** وذكركم عبد السلام أخا البرِ

كذلك إبراهيم وهو ابن مصطفی *** كذلك سحبان أخي سالم الصدرِ

كذا علي وابن منصور الرضى *** وسائر أعواني على الخير والبرِ

كذاك علي عين أهل سفاقس *** وفاضل من فيها الملقب بالنورِ

فبالله، خذ يا سيدي بخواطري *** على ما ترى نظماً، وإن شئت بالنثرِ

فلا زلت مأوى للفضائل ترتجى! *** ولا زال نهر المجد في أرضكم يجري


-فلما تأملها سيدي الوالد، دفعها إلي، وأمرني أن أجيزه عن إذنه -حفظه الله ورعاه-، فكتبت له  هذه الأبيات:
أيا سيداً قد حاز كل فضيلة *** وعمم بالنعماء والفضل والبرِ

ويا محرز المجد الذي فاح نشره *** وملجأ هذا القطر في فادح الأمرِ

محمد المكنى ابن عالم عصره *** محط رحال الفاضلين مدى الدهرِ

وقد بلغت تلك المعاني کأنها *** حلی زانها الصواغ من خالص التبرِ

وما رمته منا فأهلاً ومرحباً *** وإن لم أكن أهلاً فملتمس العذرِ

أقول وحمد الله أول منطقي *** وذخري ذكر الله في السر والجهرِ

أجزت لكم في كل ما قد رويته *** وما قلت قيل من نظام ومن نثرِ

كذا الرفقاء الماجدون تعمهم *** إجازتنا من قاطنين بذا المصرِ

كذا الماجد النحرير عين سفاقس *** أبو الحسن النوري ذو المجد والفخرِ

وحدثتكم في ذاك عن شيوخنا *** ذوي العلم والعرفان والفضل والقدرِ

ومن شاء يستحصي ففهرس لنا *** تضيء بهم كالأنجم الطلع الزهرِ

على شرطها المعتاد في كل ذروة *** من الفهم والتحصيل والصدق في الذكرِ

فنسأل رب العرش أن يبلغ المنى *** ويصلح شأن الطالبين ومن يقري

بجاه النبي الهاشمي محمد ***  علیه سلام عاطر طيب النشرِ

وأصحابه والآل طراً وصحبه *** عليهم سلامي سرمداً دائم الذكرِ (٢)

فكتبت تحتها: وكتب عن إذن أبيه فلان بن فلان، فوقّع تحتها ما نصه: صحيح ذلك، وكتب الحسن بن مسعود اليوسي كان الله له.


-وقفة: عندما قرأت أبيات الفقيه المكنى، وحرصه على مشاركته الاستجازة بعض صحبه.. لما قرأت ذلك؛ سما في نفسي، ونبا في عيني؛ إذ كبرت نفسه حتى يشارك من لم يحضر فضل من حضر، ولم يحتجز الفضل لنفسه، ويخفيه عن بني جنسه!
كما هو غالب صنيع أهل زمننا الغابر؛ بل إن بعضهم يكذب حتى يدرك التفرد بالرواية، وهو خاوي الدراية!
قلت: وما يفعل هاته الأفعال، إلا صغير النفس، ضعيف الإيمان، قد طبعت الأثرة على قلبه، وقضت على لبه، "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله".

-وممن التقاه: الشيخ محمد الخرشي -شارح مختصر خليل-؛ فقد جاء إليه، وقرأ عليه ورقات من صحيح البخاري، وأجازه، ولما رجعوا من الحج، وجدوه قد مات -رحمه الله وغفر له-.


*ومن ذلك: أنه كثيراً ما يذكر توسلات بدعية، واعتقادات عجيبة في المشايخ والصالحين، والتبرك بهم!
-لما وصلوا مصراتة، قال: "وهذه هي بلاد الولي الصالح المتبرك به حياً وميتاً! القطب سيدي أحمد زروق، نفعنا الله تعالى به"!

-بل حكى عن بعض الناس: أنهم يذبحون شاة، ويمزقونها شذر مذر، ويرمونها في البحر؛ وقاية من الغرق. ولم يعقب!

-وهو كثيراً ما يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وآله.
وحاق الأمر: أن الوسائل في الدعاء توقيفية؛ لأنها في حكم الدعاء، وهو عبادة، كما جاء في الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة)، فلا يجوز التوسل إلا بما صح وثبت، ولم يثبت التوسل بجاه الأنبياء أو الأولياء أو الصلحاء ونحوهم.


*ومن ذلك: أنه يذكر المناطق التي ينزلها، ويحكم عليها وعلى أهلها ومياهها: مدحاً أو قدحاً..
-فلما ذكر مصر، ذكر أنها خالية من العلم سوى الأزهر!
قال: "وليس في مصر من المساجد المشهورة للإقراء سوى جامع الأزهر، والغير لا تكاد تجد فيه مجلساً للعلم أصلاً، وما كنا نسمعه قبل مشاهدتنا وحضورنا هذه البلد من إفشاء العلم والحث عليه، وكثرة العلماء والمتعلمين، وتعاطي الفنون ومداولتها.. لم نر شيئاً من ذلك، إما لدثوره وانقراضه بموت أهله -كما في الحديث الشريف- وإما لهراء المارين بهذه البلاد، وهدرهم وكذبهم وافتخارهم، بكونهم لقوا أهل العلم والصلاح"!

-وقال: "وأما أحكام القضاء في هذه البلاد، والوقوف على الحدود والفصل بحكم الله وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وامتثال أمر الله.. فذلك غير موجود، والموصوف بذلك عديم ومفقود".

-وقال: وهذا دأب قضاة القاهرة أيضا. (أعط الفلوس واقطع الرؤوس)!

-ثم اتجه إلى مدح المغرب، فقال: "وما زال التمسك بالسنة المحمدية بمغربنا، -والحمد لله-، وظهور الحق والعدل، وتغيير المنكر وإخفاؤه لمن ابتلي بشيء من ذلك، بخلاف هذه البلاد -والعياذ بالله-، لا حياء ولا خفية، ولا يعيب أحد لأحد فعلاً، فديار الخمر الصراح مشهورة وسط أسواق المسلمين، وديار البواغي كذلك -قبحهم الله وقبح سعيهم- أخرجنا الله منها في الحين، وجعلنا من السالمين، وحفظنا بمنه، آمين".

-ثم كر إلى مدح حمامات مصر، فقال: "والحمامات أيضاً أكثر مما يحصى ويُعد، وجزاهم الله خيراً عن فعلهم في الحمامات، فإذا دخل الإنسان يعطونه مئزرين، ويدخل فيجد بيتاً وحده، وفيها الماء الحار والبارد، فإذا خرج لبسهما أيضاً، فيكون في جميع أحواله مستوراً".

-ثم فر إلى ذم المغرب، فقال: "وأما حمامات المغرب.. ففيها المناكر المفضوحة من كشف العورة، وعدم مبالاتهم بذلك، وازدحامهم على برمة الماء وهم عراة، وينظر بعضهم إلى بعض، فهذا فعل شنیع قبيح".

-وذم أهل مكة، فقال: "واعلم أنه مما يؤذيك في الطواف.. أهل مكة؛ فإنهم لا يتركون لك رأياً ولا عقلاً، وتراهم يتسابقون إلى الحُجاج، ويطوِّفونهم ويطلبون منهم الفلوس، ومن أراد أن يطوف بنفسه، ويستفرغ قلبه لذكر الله وعظمته، ويستحضر نيته، فلا يتركونه أو ينغصون عليه!
وكنت أقاسي منهم العناء التام حتى إني إذا تعلق بي أحد منهم.. أعطيته؛ ليفارقني، و هيهات.
والحاصل: لا تنجو منهم إلا بعد انصرام الحياء، وقبح الوري!، فيا لها من بلية فظيعة، تجد الرجل لا يقدر أن ينظر إلى ما فوقه هيبة وحياء من تلك الأماكن الشريفة، ولا يزالون به حتى ينطق بغير اختيار، ويبدي النفار والفرار!
وبهذا وصفوا أهل مكة، فقد نقل الغزي -نزيل مكة المشرفة في كتابه- قال الشيخ مظفر الأمشاطي:
"أهل مكة: عندهم أنفة وكبر وحسد، والكذب فاشٍ بينهم، والنميمة والخداع، والطمع فيما في أيدي الناس، والبغض للغريب، إلا أن يكون مع الغريب شيء من الدنيا
هم عبيد له حتى يسلبون ما معه، ثم يلمزونه بالسوء، ويسلقونه بألسنة حداد، وقد أنشد بعضهم فيهم قوله:
لا تنكرون لأهل مكة قسوة *** والبيث فيهم والحطيم وزمزمُ

آذوا رسول الله وهو نبيهم *** حتى حماه أهل طيبة منهمُ"!

ثم ثنى بمدح أهل المدينة، فقال: "وأما أهل المدينة.. فمخالفون لهم، في كونهم يغلب عليهم الترحم، وحب الغريب ومواساتهم، والإحسان إليهم، وفي طبعهم الجود والكرم، "يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"".

-وذكر أن الترك: يجعلون الناس بين أيديهم كالذباب أو كالكلاب!

-وقال عن طرابلس: "طيبة الهواء، مسلية للخاطر، منشرحة للصدر، وأكثر أهلها الترك.
قال: وذكر لنا الثقات: أن فيها ثلاثة مساجد، وثلاثمائة خمارة"!

-وقال -عن نساء عين ماضي-: "وقد خص الله تعالى نساء هذه البلدة بحسن وجمال، لا يكاد يوجد في غيرها، وهم ينتسبون للشرف".

-وذكر عن صنهاجة، أنهم: لم يلقوا فيها داراً ولا جاراً، ولا منزلاً ولا قراراً، فبئست القرية، وأما ناسها فكأنهم خشب مسندة!
قال فيها:
فلو أبصر الشيطان صورة وجهها *** تعوذ منها حين يمسي ويصبح

-وقال عن تمززيت أولاد عباد: "وهي بلدة قليلة، خالية من شياطين الإنس، وأهلها همج مسلمون، لا ينفعون ولا يضرون"!

-وقال عن بسكرة: "وليس فيها من يضيف ولا من يقري"!

-وذكر أنهم منذ جاوزوا تازة.. ما رأوا أهل العقول والصلاح والكرامة!

قال أبو نعيم: والذي أراه -والله أعلم-، أن إطلاق المدح أو الجرح لبلدة كاملة بأهلها وما فيها؛ غير متوجه؛ وذلك لاستحالة الإحاطة، وتغير الأزمان، وتبدل بني الإنسان، فهي أحكام أشبه ما تكون بالفردية! والله أعلم.

*ومن ذلك: نقد الوالد العلامة لبعض الأشعار الغالية، والأفعال الخاطئة..
-مثل: نقده قول القائل:
يا ابن الأكارم من عدنان قد علموا *** وتالد المجد بين العم والخالِ

أنت الذي نزل الأيام منزلها *** وتمسك الأرض من خسف وزلزالِ

وما مددت مدى طرف إلى أحدٍ *** إلا قضيت بأرزاق وآجالِ

فقال: "قد والله أخطأ الشاعر، هذا من خواص الباري سبحانه وتعالى، هلا قال:
يا مالك الملك يا من لا شريك له ***  یا بارئ الخلق من سفل ومن عالِ

أنت الذي تنزل الأيام منزلها *** وتمسك الأرض من خسف وزلزالِ".


-ونقد بعض أفعال بعض الحجاج، كإيقادهم الشموع على ظهور الجمال في الوقدة، فحكم ببدعيتها.

-ونقد تولي المرأة، قال: "ونزلنا بموضع منها يسمونها: غابة ابن علوش، وسبب نزولنا: أن امرأة يقال لها: أم النون بنت بنو عكازة، ولها ولد يقال له: الكدوم، وأبوها كان ملكاً في قومه، ثم مات، وتولى الملك بعده ابنها، وهو الموجود الآن، وهي أيضاً ملكة، فأرادت أن تحج معنا، فحصرت الركب، فأقام عليها، فجاءت عشية النهار بالطبول والمزامر، وخيلها ورماتها، فضربت لها قبة من حرير ونزلت، وما رأيت أقلّ من هؤلاء الناس عقلاً وديناً وأمانة وتمييزاً.
ويدل على ذلك: تملك المرأة عليهم، وانقيادهم لطاعتها، حتى إنها تفعل فيهم ما أرادت، وقد قال عليه السلام: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة) ولا يلقاك أحد منهم، إلا وترى الخيانة في عينيه".


*ومن ذلك: أنه كان يعرّج على بعض المسائل والأحكام، كأحكام الحج والعمرة، والتنبيه على بعض البيوع.

-ومن ذلك: ذكره بعض التنبيهات الجغرافية والمعرفية والعبادية..
ذكر أن الميقات في زمنه.. في رابغ، ولم يعد الناس يعرفون الجحفة التي هي الميقات المحدد في الشرع، بل ليست على ممر الحاج، قال: "والحاصل أن العمل جرى برابغ حتى لا تجد من يعرف الجحفة، ولا من يخبرك عنها".

-وذكر أنه يقال: أن أهل الكهف في منطقة النكيزات، وأن هناك آثار البنيان العتيق، ولا ماء فيها، ووصفها بالقبح والصلابة!

قلت: لعله يعني بذلك، ما ذكره ابن عاشور، في قوله: "ويوجد مكان بأرض سكرة، قرب المرسى من أحواز تونس، فيه كهوف صناعية، حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس: أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين، اليهودية والنصرانية، خبر عن قوم من صالحيهم، عرفوا بأهل الكهف، أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته، وبني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم".
(التحرير والتنوير: ١٥/ ٢٦٤).

قلت: ولا يعرف -والله أعلم- على وجه التحديد، مكانهم ولا زمانهم..

قال الفخر الرازي في (تفسيره: ٢١/ ٤٥٣) -بعد أن ذكر عدة أقوال في تعيين زمانهم ومكانهم-: "العلم بذلك الزمان، وبذلك المكان.. ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود، فثبت أنه لا سبيل إليه".

قلت: وحدد بعض المؤرخين.. يقول ابن الأثير: "كان أصحاب الكهف أيام ملك اسمه: دقيوس، ويقال: دقيانوس، وكانوا بمدينة للروم اسمها: أفسوس، وملكهم يعبد الأصنام ... وكانوا من الروم، وكانوا يعبدون الأوثان، فهداهم الله، وكانت شريعتهم شريعة عيسى عليه السلام.
وزعم بعضهم: أنهم كانوا قبل المسيح، وأن المسيح أعلم قومه بهم، وأن الله بعثهم من رقدتهم بعد رفع المسيح، والأول أصح".
(الكامل في التاريخ: ١/ ٣٢٥).

-وذكر أن قرى الحجاز كلها.. أخصاص، وبنيان قليل!
قلت: أما اليوم، فعمائرها تناطح الجبال، بعد أن كان اعتمادهم على الجمال!

-ونبه أن وادي فاطمة هو مر الظهران.
قلت: وفاطمة، هي زوجة بركات بن أبي نمي -أحد حكام مكة المكرمة- لا كما يظن البعض، أن المقصود: فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.

-وأفاد أن باب بني شيبة.. هو باب السلام عند العامة.

-وأفاد أن مسجد نمرة.. بناه علي بن أبي طالب.
قلت: وقد يسمى: مسجد عرفة، ومسجد إبراهيم خليل الرحمن. -كما عند الأزرقي-.

-وذكر أن العمل في عهده جاري على التعجيل في المبيت بمنى، ومن أراد أن يزيد المبيت مخالفاً للناس؛ فإنه يخاف على نفسه وماله.
قال: "وقد كنا أردنا ذلك، فلم يتمكن الأمر، ولم يوفق أحد على ذلك"!

قلت: أما اليوم، فلعل كلا الأمرين يستويان: التأخر والتعجل، ولم يعب فعل أحدهما.

-وذكر أن كراء الديار في أيام الحج.. غال كثير، ومن لم يقدر على الكراء، يبني خيمته بـ باب الشبيكة، إلا أن السرق هناك كثيرون مع التحفظ.

-وذكر أن عنب وسفرجل ورمان الطائف من وادي العباس، ليس لذلك نظير في الدنيا أصلاً بلا ارتياب إلا أنه لا يشبعه إلا من كثر رياله، وقوي نواله!

-وذكر أن "ماء زمزم يتركك خاوي الركبتين والضلع، بادي الأنين والوجع، ضعيف الحركات، أصفر الوجنات، وذلك كله خير وشفاء من كل ضر"!

-وذكر أن ميزاب الكعبة.. صنعه السلطان أحمد بن محمد ابن السلطان مراد، وهو من فضة مموه بالذهب، منصوب فوق الحجر، وذلك سنة اثنتين وعشرين وألف (١٠٢٢)، وأخذ الميزاب العتيق، وهو الآن في خزائنهم بالقسطنطينية الكبرى يتبركون به".

-وذكر طواف الوداع، وقال: "واعلم أنه لا هدي على من تركه، بخلاف طواف القدوم، فعلى من تركه هدي، والله أعلم".

قلت: طواف الوداع واجب في قول الجمهور، وعلى تاركه فدية دم، سواء كان تركه لعجز أو نسيان أو سهو، ولا يعذر في تركه إلا الحائض.

-وقال -عن الحجر الأسود-: "ومن يطمع أن يجده خالياً فهو خال، ولكن مع هذا الزحام كله، واجتماع الخلق إليه من كل فج عمیق، فلكل نصيب، فمن رأى تخالف الخلق عليه، وازدحامهم.. ييأس من البلوغ، ثم لا يشعر حتى يقبله ويصدر مجبور الخاطر، ولله الحمد والمنة".

قلت: وهذه آية ظاهرة في بركة ذاك المكان الطاهر، الذي وطئه الأنبياء والصحابة، والأنقياء والقرابة.


*ومن ذلك: ذكره بعض عجائب وغرائب المياه والأرواح والموت والغارات..
-فمن أنواع المياة:
ماء دفنة، مثل اللبن لوناً وطعماً!
وثان: ماء يورث الحمى.
وثالث: ماء يقطع الأكباد.
ورابع وخامس: ماء عذب فرات، وماء مر أجاج، وهما قريبان من بعضهما.
وسادس: ماء يغلي كالقدر.
وسابع: ماء يستنبط بذراع، وماء يستنبط بأربعة حبال.
وثامن: ماء شربه يورث الهم والغم لا ينساغ بوجه ولا حال.
وتاسع: ماء يسهل البطن إسهالاً مفرطاً مضراً.
وعاشر: ماء من شربه وهو في صحة واعتدال، نفعه، ومن شربه وهو في ضعف وهزال، قتله.
وحادي عشر: ماء يقتل الإنسان كالسم الناقع.
وثاني عشر: ماء يفسد المزاج.
وثالث عشر: ماء يورث الكسل.
ورابع عشر: ماء يحرق لحرارته، وبجانبه ماء بارد.
وخامس عشر: ماء أمرّ من الحنظل.

-ومن أنواع الرياح:
ذكر ريحاً تحرق الفؤاد، وتمزق الأكباد، في مورد التميمي بالقرب من درنة، فإذا شرب الإنسان سقط على الفور!
وثانية: ريحا تخرج من البحر كريح الفرن، وقد أغشي على كاتب هذه الرحلة من الظهر إلى الليل.
وثالثة: ريحا كالنار، في وادي النار، من أصابته يلتوي عنقه ويخر صريعاً، وأمره والده أن يلبس ثياباً غليظة ثقيلة، وكان إذا ظهر من جسده شيء تحرق، ومات بهذه الريح سبعة عشر مائة جندي!
وكان هناك طبيب تركي يعالج من هذه الريح، بدقيق الفول ملتوتاً بالماء، فسأله كاتب الرحلة، فقال: إن هذه الريح تمزق في الفؤاد، فتحدث ثقباً في الرئة، فإذا شرب من هذا الفول، انسدت تلك الثقب فلا يضره شرب الماء بعد ذلك، وإذا شرب الماء وحده مات في الحين.
ورابعة: مثل هذه الريح، وهو ريح ناري في كركارش، ومات جراءه من الناس والإبل الكثير.
وخامسة: ريحا شرقي.. أذهب الماء، ونشف القرب، فترى القربة مشدودة ممتلئة، كما هي، فإذا فككت عفاصها لم تلق فيها إلا الريح، والجلد الصحيح" وذلك في مفازة مقطع الكبريت.
وسادسة: ريحا تقلع الثوب عن صاحبه، وتذهب به كرهاً، وكثير من الناس بلغ الدار عرياناً، وضل في هذه الريح خمسة وعشرون رجلاً فلم يظهر لهم أثر، ولا بلغ عنهم خبر!

-ومن الغارات:
ذكر أنهم رأو على شاطئ النيل قبالة بولاق نحواً من أربعمائة فارس، أظهروا أنهم يلعبون فرحاً بالحجاج، والكيد معرب عنهم، وما قهرهم إلا الرصاص والخوف من الموت.

وأخبر، أن هؤلاء قد يقتلون ويمثلون أشر ما يكون.

وهؤلاء القطاع النهاب السراق.. عانوا منهم في أكثر من موطن، ولكن دحرهم الله وقهرهم.

وذكر عن بعض الأماكن: أن فيها لصوصاً ماهرين، يقول عن أهل دمّد: يسرقون النوم من الأجفان!
وقال عن أهل تاجورة: فإنهم يسرقون هدب الأشفار!

-ومن الموت:
عجائب موت كثير من الحجاج بسبب الأوبئة القاتلة، والجوع والعطش، والرياح والأتربة القاضية
ففي ريح واحدة.. مات سبعة عشر مائة جندي!
وفي ريح كركارش.. مات جراءها من الناس والإبل الكثير.
وعلى كل، ففي هذه الرحلة، قد "مات من الناس، ما لا يعد ولا يحصى: عطشاً وحراً، وسيراً قوياً"


قلت: وقد طالت رحلتهم حتى ملّوا السفر، وملهم السفر، وتكبد أهليهم آلام الشوق، وأسقام الجوى..
فها هو أحد إخوته، يرسل بقصيدة كلها تولع وتلوع، وشوق وتباريح.

قال كاتب الرحلة: "ومن جملة ما كتبه إلى الأخ الشقيق الولي الرفيق:
كتبت ودمعي واكف يترقرق *** يجم على إنسان عيني فيغرقُ

وصار السهاد آلف العين واصطلى *** لظى البين قلب في جواه يحرقُ

ولم أر كالبين الممض مهنداً *** وثيئاً به بين الجوانح يرشقُ

إلى الله أشكو ما ألاقي من الأسى *** ومن عصبة دمعي بهم يتدفقُ

فواجري ماذا أجنّ من الجوى *** ومن عظم الشوق الفؤاد يمزقُ

أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** كما قال قبل العامري المموقُ

أخي وابن أمي بنتَ عني فلم أجد *** سلّواً وباب الصبر عني مغلقُ

وخلفتموني مفرداً لا أنيس لي *** ولا واجداً خلاً به أترفقُ

وسرتم وسار القلب نحو مسيركم *** فجسمي مغترب وقلبي مشرقُ

أقول -وقد سالث من العين عبرة-: *** متى يجمع الشمل الشتيت المفرق؟

فأسأل رب العرش تعجيل أوبة *** لكم دون ما سوء یکون ويعلقُ

فنعطى مطالباً، ونقضي مآرباً *** ونكفى مراهباً بشيء وتغلقُ

علیکم سلام الله ما ذر شارق *** وما ناح قمري بروض مطوقُ

سلام كعرف المسك طاب له الشذا *** يصبك منه حيثما کنت ریّقُ


قلت: هذه بعض القراءات والتقييدات لهذه الرحلة المتعبة الملغبة، التي أتعبتني وأنا قاعد على فراشي، وبين يدي أهلي وأطفالي؛ لأني كنت أسير معه بقلبي، وأتوقف إذا وقفوا، وكأني أشاركهم النجود والأعناق، وأشاطرهم الظفر والإخفاق -أظفرنا الله بمنه وكرمه-.

وقد استغرقت رحلتهم من يوم خروجهم من ديارهم إلى رجوعهم إليها؛ عشر سنوات وسبعة أشهر إلا خمسة أيام!

فقد خرجوا أول ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وألف ١٠٩٢، ثم توقفوا، ثم ابتدؤوا الرحلة من تمززيت، يوم الخميس الثاني عشر من جمادى الأولى عام أحد ومائة بعد الألف.
ورجعوا يوم الأحد الخامس والعشرين من شوال ١١٠٢.

فـ لا إله إلا الله.. من أجل حج أيام؛ تصرمت من أعمارهم أعواما، وأنفقوا أموالاً ضخاما، ولاقوا أهوالاً عظاماً!
إنه الإذعان للواحد الديان .. إنها الاستجابة لداعي الإنابة .. إنها التقوى الذي تورث القوى .. إنه الاستشعار بعظمة الآمر، التي تتقطع في سبيله المرائر!
ألم يقل خبيب بن عدي:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزعِ


فيا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، هب لنا قوة من عندك، تغنينا وتكفينا وتؤوينا وتحمينا وتهدينا وتقينا، أنت ولينا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت أرحم الراحمين.


وهذا ملخص الرحلة إجمالاً، بذكر مواطن نزولهم، وتسمية طرقهم، دون التعريج على تفاصيلها؛ لأنها قد تقدمت تضاعيفها:
وصلوا مراكش أول ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وألف، وسلكوا طريق رباط سلا، ثم رباط آزمور، وبعد ثلاث سنين رحلوا منها يوم الإثنين لثلاث بقين من صفر لقرية الزاوية البكرية، وخرجوا منها يوم الإثنين أوائل رجب عام ١٠٩٨هـ، ونزلوا بشعاب حمود، ورحلوا منها أول صفر إلى قرية صنهاجة صفرو، ونزلوها يوم الأحد التاسع من الشهر، ثم رحلوا منها يوم الأربعاء أواسط جمادی الثانية عام مائة وألف، ونزلوا فاساً يوم الخميس من غده بدار علي بن رحمون بدرب العلوج بالطالعة، ولها باب ينفذ لدرب السراج، فلم تستقم له أيضاً سکنی، وبقوا فيه سبعة أشهر ونصفاً، وخرجوا منه يوم الأحد لثمان بقين من المحرم لتمام المائة، ونزلوا بقرية تمززيت، وهناك خلفوا العيال، فخرج مع والده من الدار يوم الخميس الثاني عشر من جمادى الأولى عام واحد ومائة وألف، وتوجه والده لفاس، فأقام فيه شهراً ويومين، ثم خرج الركب ورحل منه يوم السبت الرابع عشر من جمادی الثانية، وباتوا عند أولاد الحاج، على حاشية وادي سبو، ورجع المترجم لأخذ ما بقي، وبات بمطيطة، ثم اجتمعوا مع الوالد عند أهل الوادي، ويوم الأربعاء بات عند مكناسة بوادي قنصرة، ورجع المترجم لمدينة تازة، ثم سافروا ووصلوا لعين ماضي، ثم نزلوا بقرية سيدي خالد، ورحلوا لإقليم الزاب، فدخلوا بسكرة، ومروا بمقام سيدنا عقبة، ثم حمة توزر، وباتوا بحمة قابس، ومن وادي الرأس إلى النيل ما ترى ماء حلواً يجري على وجه الأرض، وبلغوا قبالة جزيرة جربة، ونزلوا بمليتة، وأقاموا بطرابلس تسعة أيام، وباتوا بتاجورة، ثم مسراتة، وهناك آخر ما تراه من البنيان إلى مصر، وباتوا بخراب أجدابية، وصعدوا قبة الجبل الأخضر، وهو حد برقة البيضاء، وبلغوا مورد التميمي، ووصلوا سوق درنة، وبلغوا جرجوب، ووردوا منهل الشمامة، وبلغوا وادي الرهبان، ثم وصلوا قبالة بولاق يوم الجمعة الرابع عشر من شوال، ثم بلغوا عجرود ووادي التيه، وسطح العقبة، ثم وصلوا مكة، وأقاموا بها خمسة عشر يوماً،(٣) ثم زاروا المدينة المنورة، ثم رجعوا إلى مصر، وأقاموا بمصر أربعة أشهر وتسعة أيام، ثم خرجوا من مصر، يوم الخميس الخامس عشر من جمادی الثانية، وبلغوا عين ماضي خامس شوال، ثم بلغور تازة، وبلغوا الدار بتمززيت يوم الأحد الخامس عشر من شوال ١١٠٢.
ينظر: (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام: ١/ ٥ - ٦).
للقاضي عباس بن إبراهيم السملالي المراكشي التعارجي المالكي، تـ١٣٧٨.

"ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"


وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤١/٦/٧



ح..................
(١) قُطْب، جمعها: قطوب وأقطاب وقِطَبة.
والقطب لغة: المحور القائم المثبت في الطبق الأسفل من الرحى يدور عليه الطبق الأعلى.
وقد يطلق القطب، على سيد القوم، ويطلق أيضاً على ملاك الشيء ومداره، ولعل هذا هو ما اصطلح عليه أهل التصوف، من اعتقادهم بأن الأقطاب أو الأغواث أو الأبدال.. لهم التصرف في أقضية الوجود وأقداره! وهي عقيدة باطلة مائلة فائلة.
ينظر من مراجع القوم: (الفتوحات المكية: ٢/ ٤٥٥) للشيخ ابن عربي الحاتمي، و (اليواقيت والجواهر: ٢/ ٧٩) للشيخ عبد الوهاب الشعراني.
وينظر من مراجع أهل السنة (هذه هي الصوفية) للشيخ عبد الرحمن الوكيل، و (الفكر الصوفي: ٣٤٣) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

وأما الحديث، المروي في ذلك.. فيقول ابن القيم: "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد.. كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب ما فيها: (لا تسبوا أهل الشام؛ فإن فيهم البدلاء، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلاً آخر) ذكره أحمد، ولا يصح أيضاً، فإنه منقطع".
(المنار المنيف: ١٣٦)

(٢) الوسائل في الدعاء توقيفية، فلا يجوز التوسل إلا بما صح وثبت، ولم يثبت التوسل بجاه الأنبياء أو الأولياء أو الصلحاء ونحوهم.

(٣) وقد تعجبت جداً؛ أن تكون هذه الرحلة الطويلة العريضة؛ للحج والعمرة، ثم لم يكثوا فيها إلا خمسة عشر يوماً! فالله أعلم.