الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

عبارة "إلا رسول الله": صحيحة فصيحة!


عبارة "إلا رسول الله": صحيحة فصيحة!


ضجت وسائل التواصل الاجتماعي، بهذا العبارة (إلا رسول الله).. رداً على بعض المهناء النتناء الأفناء العفناء اللخناء.. الذين نالوا من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.


أقول: ضجّ المسلمون وعجوا، وجلجلوا ودووا وصاتوا ولجبوا وهتفوا وصدحوا وصرخوا.. في الدفاع عن نبينا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم، بشتى العبارات والجمل، في السهول والقلل، وهي ردة فعل محمودة، من عوام المسلمين وعبادهم، وعلمائهم وزهادهم..


لكن، قامت فئة من الغيارى، تسدد الطريق، وتصحح الدرب، فأفتت، أن هذه عبارة لا تجوز: لغة وشرعا.


وتناول المسألة، كل بقدر جهده ووكده، وأحببت أن يكون لي تشارك لا تعارك، لا سيما، والأمر يتعلق بأعظم قائد، وأفخم رائد، وهو نبي البشرية ورسولها، محمد عليه الصلاة والسلام، وأنا في مشاركتي هذه، مقتات على موائد أهل العلم، غير خارج عن نهجهم وسلكهم وعقدهم.


فأقول -مستعيناً بالمعين، ومن استعان به، فلن يهين-:

إن هذه العبارة (إلا رسول الله)، صحيحة فصيحة نصيحة، ليس فيها انتقاد، حاشا الاعتضاد، وقد قيل ضرعها، بحضرة المعلم الأعلى، والمفهم الأَولى، ولم ينه عنها.


ففي المسند من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: (... وفي القوم رجل من الأنصار، كان لا يسبق، جعل ينادي: هل من مسابق؟ ألا رجل يسابق إلى المدينة؟ فأعاد ذلك مراراً، وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُردفي، قلت له: أما تكرم كريماً، ولا تهاب شريفاً؟! قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ...) الحديث.

قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.


قلت: وإن كانت هذه العبارة الحاصرة القاصرة، قيلت، في حادثة معينة معلومة، وهي: السبق على الإبل.. فكذلك، قول من يقولها اليوم، هو في حادثة معينة معلومة، وهي: الانتقاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوى الحكم.


ومعنى هذه العبارة: قد نحتمل نحن السب والشتم، في صدد هذا الخضوع والخنوع، لكن: إلا رسول الله، حذاركم، أن تقربوا جنابه، أو تطرقوا بابه، أو تجروا إهابه، فأعراضنا دون عرضه، وسهامنا دون سهمه، وأنفسنا دون نفسه- عليه الصلاة والسلام.


وعندي، أنها مثل مواقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم، في دفاعهم عنه، وبذلهم أرواحهم دونه- عليه الصلاة والسلام، عدا فرق: أنهم حققوا ذلك حساً ومعنى، ونحن -على قدر ضعفنا- حققنا ذلك معنى.


كما قال مسلم بن الوليد:

يجود بالنفس إذ ضنّ البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ


يقول زيد -حين أن سأله أبا سفيان قبل أن يسلم-: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟ فأجابه قائلاً: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي!

رواه ابن إسحاق مرسلاً.

ينظر: (سيرة ابن هشام: ٣/ ٢٤٥) و(الطبقات: ٢/ ٥٦) لابن سعد.


ويقول أبو طلحة الأنصاري -في غزوة أحد، عندما كان يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تشرف، يصيبك سهم من سهام القوم.. نحري دون نحرك.

رواه البخاري.


ويقول الشاعر اليماني حسان بن ثابت:

فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاءُ


ولا يتأتى أبداً، هذا المعنى العجيب: سبّوا من شئتم، وافعلوا ما أردتم، إلا رسول الله؛ لأمور -عندي- خمسة:


-أن الذي سُب، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمفرده، ولم يسب معه غيره.

فمثلاً: لو سب هؤلاء الكفرة الفجرة الحقرة، رب العزة والجلال، وبقية الأنبياء والمرسلين، في زمان متحد؛ لحضرتْ هذا المعنى الآنف، ولكانت الكلمة، ذات عوج وفجج.


-لا يفهم من الحصر والقصر، إباحة أو تحريم ما سواه، بل هو بحسب السياق والسباق واللحاق.

فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (لا ربا إلا في النسيئة) لا تعني، أن ما سوى النسيئة جائز ومباح، وإنما خُص؛ لمزيد اهتمام وبيان.


قال الباجي: "ولهذا، يقال: لا كريم إلا يوسف، ولم يرد به نفي الكرم عن غيره، وإنما يريد به، إثبات مزية له في الكرم، وكذلك قولهم: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا شجاع إلا علي، وما جرى مجرى ذلك، والله أعلم".

(المنتقى شرح الموطأ: ٧/ ٢١٥)


-لا يخطر على بال القائل، أو في ذهن مسلم.. هذا المعنى الخطير، وهو: إزالة السوء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإباحته لخالقه تبارك وتعالى، أو لإخوانه من الرسل والأنبياء! -أستغفر الله-.


-ليس كل استثناء لم يذكر مستثناه، غير جائز أو ليس فصيحا.. فقد جوز ذلك النحاة بشروط، وهي متوافرة في هاته اللفظة (إلا رسول الله) -كما أوضح الدكتور سليمان العيوني-.


-على أقل تقدير، يقال: إن العبارة محتملة، ويرجح جانب الحق والخير.. أنها قيلت من مسلمين، في صدد حملة ينال فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلا ينبغي فيها التشغيب والتنديد، إلا أن يكون الأمر لا يحتمل، فلا والله، لا مداجاة أو محاباة في دين الله تعالى، بل لا بد من البيان والتبيان، و(لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة).


 فإذن؛ (إلا رسول الله).. صحيحة شرعاً، وفصيحة قطعاً، فـ إلاك يا رسول الله.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٣/٩



الأربعاء، 21 أكتوبر 2020

وفاء حيوان .. وغدر بعض بني الإنسان!

 

وفاء حيوان  .. وغدر بعض بني الإنسان!


قرأت كلمة للعلامة الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني، الشهير، بـ الراغب الأصفهاني، يقول فيها: "الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء، صدق اللسان والفعل معاً، والغدر كذب بِهما؛ لأنَّ فيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان، فمن فُقِد فيه؛ فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق.

وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصيره قواماً لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتم تعاونهم، إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك؛ لتنافرت القلوب، وارتفع التعايش؛ ولذلك عظم الله تعالى أمره، فقال تعالى: "أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون".

(الذريعة إلى مكارم الشريعة: ٢٩٢).


فتعجبت من قوله (والوفاء يختص بالإنسان)!

وقد قرأت وسمعت قصصاً قديمة وحديثة عن حيوانات جاوزت الوصف في الوفاء لأصحابها، ودعت للعجب من أوصافها!


وإليك هذا النقل المسهب المُعجب، من كتاب (حياة الحيوان: ٢/ ١٣٥ - ١٣٦) للكمال الدميري الشافعي، قال: "وفي كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، لمحمد بن خلف المرزبان.. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً قتيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية، فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: قتل نفسه، وأضاع دِيته، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه)!


وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كلبٌ أمين؛ خير من صاحب خؤون)


قال: وكان للحارث بن صعصعة.. ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما، فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله؛ وجدهما قتيلين. فعرف الأمر فأنشأ يقول:


وما زال يرعى ذمتي ويحوطني *** ويحفظ عرسي، والخليل يخونُ


فيا عجباً للخل يهتك حرمتي *** ويا عجبا للكلب كيف يصونُ


وذكر الإمام أبو الفرج ابن الجوزي، في بعض مصنفاته: أن رجلاً خرج في بعض أسفاره، فمرّ على قبة مبنية أحسن بناء، بالقرب من ضيعة هناك، وعليها مكتوب: من أحب أن يعلم سبب بناءها؛ فليدخل القرية؟! فدخل القرية، وسأل أهلها عن سبب بناء القبة، فلم يجد عند أحد خبراً من ذلك، إلى أن دُلّ على رجل قد بلغ من العمر مائتي سنة، فسأله؛ فأخبره عن أبيه، أنه حدّثه: أن ملكاً كان بتلك الأرض، وكان له كلب لا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا نوم ولا يقظة، وكانت له جارية خرساء مقعدة، فخرج ذات يوم إلى بعض منتزهاته، وأمر بربط الكلب؛ لئلا يذهب معه، وأمر طبّاخه أن يصنع له طعاماً من اللبن كان يهواه. وأن الطباخ صنَعه، وجاء به، فوضعه عند الجارية والكلب، وتركه مكشوفاً، وذهب، فأقبلت حية عظيمة إلى الإناء، فشربت من ذلك الطعام، وردَته وذهبت.


ثم أقبل الملِك من منتزهه، وأمر بالطعام؛ فوُضع بين يديه، فجعلت الجارية تصفِّق بيديها، وتشير إلى الملك، أن لا يأكله؛ فلم يعلم أحد ما تريد، فوضع الملك يده في الصحفة، وجعل الكلب يعوي ويصيح، ويجذب نفسه من السلسلة، حتى كاد أن يقتل نفسه، فتعجب الملك من ذلك، وأمر بإطلاقه؛ فأُطلق؛ فغدا إلى الملك وقد رفع يده باللقمة إلى فيه؛ فوثب الكلب، وضربه على يده؛ فأطار اللقمة منها؛ فغضب الملك، وأخذ خنجراً كان بجنبه، وهمّ أن يضرب به الكلب؛ فأدخل الكلب رأسه في الإناء، وولغ من ذلك الطعام، فانقلب على جنبه، وقد تناثر لحمه!


فعجب الملك، ثم التفت إلى الجارية، فأشارت إليه بما كان من أمر الحية؛ ففهم الملك الأمر، وأمر بإراقة الطعام، وتأديب الطباخ على كونه ترك الإناء مكشوفاً، وأمر بدفن الكلب، وببناء القبة عليه، وبتلك الكتابة التي رأيتها.

قال: وهي من أغرب ما يحكى.


قال الدميري: وفي (الإحياء) عن بعض الصوفية، قال: كنا بطرسوس، فاجتمعنا جماعة، وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا باب الجهاد، وإذا نحن بدابة ميتة، فصعدنا إلى موضع خالٍ، فقعدنا، فلما نظر الكلب إلى الميتة، رجع إلى البلد، ثم عاد ومعه نحو من عشرين كلباً، فجاء إلى تلك الميتة، وقعد ناحية، ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكل إلى أن شبعت، وذلك الكلب قاعد ينظر إلى الميتة، حتى أُكلت، وبقيت العظام؛ فلما رجعت الكلاب إلى البلد؛ قام ذلك الكلب إلى العظام، فأكل ما بقي عليها من اللحم، ثم انصرف.


وفي (الشعب) للبيهقي وغيره، عن الفقيه منصور اليمني الشافعي الضرير، -وله مصنفات في المذهب، وشعر حسن- أنه كان ينشد لنفسه:


الكلب أحسن عشرة *** وهو النهاية في الخساسهْ


ممن ينازع في الرياـ *** ـسة قبل إبان الرياسهْ


وذكر الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء: ٧/ ٢٦٦) خبراً، عن  أبي نُعيم الأصبهاني، بإسناده إلى عارِم، قال: أتيت أبا منصور أعُوده، فقال لي: باتَ سفيان في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لِابني، فقال: ما بال هذا محبوساً.. لو خُلِّي عنه؟! قلت: هو لابني، وهو يهبه لك. قال: لا، ولكن أُعطيه ديناراً. قال: فأخذه، فخلَّى عنه، فكان البُلبل يذهب ويرعى، فيجيء بالعشيّ، فيكون في ناحية البيت. فلما مات سفيان، تبِع جنازته، فكان يضطَرِب على قبره، ثم اختلف بعد ذلك لياليَ إلى قبره، فكان ربما بات عليه، وربما رجع إلى البيت. ثم وجدوه ميتاً عند قبره، فدفن عنده!

هذا نزر من الزمان القديم..


وفي عصرنا هذا عجائب وغرائب..

ففي عام ١٤٣٦؛ شهدتْ قرية الدبيس، إحدى مديريات السدّة، في محافظة إب -وسط اليمن-، مشهداً نادراً؛ وهو أن جملاً؛ مات صاحبه وراعيه؛ فظلّ معتكفاً بجوار قبر صاحبه، وهو الحاج علي حسين النعناع، واستمر أسبوعاً، وهو مرابط حول القبر، تارة يقف، وأخرى يربض، مادّاً عنقه إلى القبر، شامّاً صاحبه، ومستنشقاً ترابه، ولم يغادر القبر إلا بقوة أهل الميت؛ خوفاً عليه من المؤذيات.


قال أهل قريته: عُرف الحاج علي النعناع، وسط أهل قريته، بحبه للحيوانات ورعايته لها، ووفائه معها، وعدم إرهاقها أو إتعابها.


قلت: وقد هاتفت بعض أهل القرية؛ فأكد لي الأمر على التمام.


قلت: فسبحان الله، كيف عرفتْ هذه الدابة العجماء؛ تمييز قبر صاحبها، بل كيف عرف هذا الحيوان؛ أنّ راعيه فارق الحياة، والأعجب؛ كيف استمر وفياً لصاحبه بعد مماته؟! "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".


قال ابن الحاج: وفي هذا؛ درس بليغ؛ لمن خلع ربقة الوفاء، وحسن الصنيعة، وتحلّى بحلية الغدر، وبخع الخديعة.


وهؤلاء الغدرة الفجرة؛ إذا فتشت عنهم؛ وجدتهم أقراف وأخلاط وأمشاج وأوزاع، لا تحويهم قبيلة، ولا يجمعهم شمل!


قال بعض الحكماء: "من لم يفِ للإخوان؛ كان مغموز النسب"!

(آداب العشرة: ٥٣) للغزي.


وقال ابن حزم: "إن من حميد الغرائز، وكريم الشيم، وفاضل الأخلاق؛ الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل، وأوضح البراهين على طيب الأصل، وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات، وأول مراتب الوفاء؛ أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب، لا يحول عنه إلا خبيث المِحتد، لا خلاق له، ولا خير عنده".

(مجموع رسائل ابن حزم: ٢٠٥/١)


وأوصتْ أعرابية، ابناً لها، فقالت: يا بني، اعلم أنه من اعتقد الوفاء والسخاء؛ فقد استجاد الحلة بربطتها وسربالها، وإياك والنمائم؛ فإنها تنبت السخائم، وتفرق بين المحبين، وتحسي أهلها الأمرّين.

(ربيع الأبرار: ٥/ ٢٩٩)


إن الوفاء على الكريم فريضة *** واللؤم مقرون بذي الإخلافِ


وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً *** وترى اللئيم مجانب الإنصافِ


ولله درّ الشاعرة لطيفة الحدّانية؛ فقد تزوجها ابن عمها؛ فولعت به ولعاً شديداً، وأوقع الله حبهما لبعضهما، فأقاما على أحسن حال مدة، وكان يأمرها أن تكون دائماً متزينة مطيبة، و يقول لها: لا أحب أن أراك إلا كذا، فلم يزالا على ذلك؛ فضعف الشاب؛ فمات، فوجِدت به وجْداً شديداً، فكانت تتزين بأنواع زينتها، كما كانت، وتمضي، فتمكث على قبره باكية إلى الغروب!


قال الأصمعي: مررت أنا وصاحب لي بالجبانة، فرأيتها على تلك الحالة، فقلنا لها: علامَ ذا الحزن الطويل؟


فأنشأت:

فإن تسألاني فيم؛ فإنني *** رهينة هذا القبر يا فتيان


وإن تسألاني عن هواي فإنه *** مقيم بحوضي أيها الرجلان


وإني لأستحييه والترب بيننا *** كما كنت أستحييه حين يراني


أهابُك إجلالاً وإن كنت في الثرى *** وأكره -حقاً- أن يسؤك مكاني


فعجبنا منها، ثم انحزنا، فجلسنا بحيث لا ترانا؛ لننظر ما تصنع؟!


فأنشأت:

يا صاحب القبر يا من كان ينعم بي *** عيشاً ويكثر في الدنيا مواساتي


قد زرت قبرك في حُلِّي وفي حللي *** كأنني لستُ من أهل المصيباتِ


لما علمتك تهوى أن ترانيَ في *** حلي، وتهواه من ترجيع أصواتي


أردت آتيك فيما كنت أعرفه *** أن قد تسر به من بعض هيئاتي


فمن رآني، رأى مولهة *** عجيبة الزي تبكي بين أمواتِ!


ثم انصرفت، فتبعناها حتى عرفنا مكانها، فلما جئنا إلى الرشيد قال: حدثني بأعجب ما رأيته؟

فأخبرته بأمر لطيفة، فكتب إلى عامله على البصرة، أن يمهرها عشرة آلاف درهم، ففعل، ووجّه بها إليه، وقد أنهكها السقم، فتوفيت بالمدائن.


قال الأصمعي: فلم يذكرها الرشيد مرة، إلا ذرفت عيناه.

(تزيين الأسواق: ١/ ٩٣) و (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور: ٣١٠).


فأين أين مثيلاتها من النساء، وأين أين أمثالها من ذوي السناء؟!


وإذا كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يروى عنه قوله:

مات الوفاء فلا رفْد ولا طمع *** في الناس لم يبق إلا اليأس والجزعُ


فاصبر على ثقة بالله، وارض بهِ *** فالله أكرم من يرجى ويتبعُ


فما عسانا أن نقول في هذا الزمان الخالف الصالف الراعف الحائف الجائف الزائف النائف الجارف القارف الذارف!

عذراً، ليس الزمان، وإنما أهل الزمان؟!


ويروى لـ عبد المطلب:

يعيب الناس كلهم الزمانا *** وما لزماننا عيب سوانا!


قال الحريري: "تعامل القرن الأول فيما بينهم، بالدين زماناً طويلًا حتى رقَّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني، بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث، بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع، بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة"!

(آداب الصحبة: ٧٣) للسلمي.


ولا أدري بمَ صرنا نتعامل اليوم مع بعضنا؟!

اللهم عفواً ولطفاً وعطفا.


ذهب الوفاء ذَهابَ أمس الذاهبِ *** فالناس بين مُخاتلٍ ومُواربِ


يغشون بينهم المودة والصفا *** وقلوبهم محشوة بعقاربِ


وقالت الحكماء: "لا شيء أضيع من مودة، مَن لا وفاء له، واصطناع، من لا شكر عنده، والكريم يودُّ الكريم عن لُقْية واحدة، واللئيم لا يصل أحداً إلا عن رغبة أو رهبة".

(العقد الفريد: ٢/ ١٩٢)


ونقل أن رجلاً من العوام؛ كان إذا قدم على الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ يقوم له!

فسئل عن ذلك؟ فقال: أنا سمعت منه: أن الكلب إذا بلغ؛ يرفع رجله عن البول، وأن الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة، واللئيم إذا ارتفع؛ جفا أقاربه، وأنكر معارفه، ونسي فضل معلميه.

(شرح مختصر خليل: ٨/ ٢٣٣) للخرشي.


وإن الأنصار اليمانيين.. ضربوا أروع الأمثلة في الوفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال عوف بن مالك رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا، فقلت: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، قال: ولا تسألوا الناس شيئاً. قال عوف بن مالك: فقد رأيت بعض أولئك النفر، يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً أن يناوله إياه).

رواه مسلم.


وإن الغدر -مع أنه صفة ذميمة، وسمة وخيمة-.. فإن عقابه مهين أليم عظيم.

روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفع لكل غادرٍ لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان).


قال النووي: "معناه: لكل غادر، علامة يشهر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء، الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفِلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك".

(المنهاج: ١٢/ ٤٣)


وقال القرطبي: "هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة، فيذمه أهل الموقف". 

ينظر: (فتح الباري: ٧/ ٢٣٢)


وقال الشيخ ابن عثيمين: "وفي هذا الحديث دليل: على أن الغدر من كبائر الذنوب؛ لأن فيه هذا الوعيد الشديد".

(شرح رياض الصالحين: ٦/ ٢٧٣)


ولم أُردْ الحصر إنما القصر، وفيه كفاية؛ لمن أراد الله له الهداية "ومن يضلل الله فماله من هاد" و"فماله من سبيل" و"فلن تجد له سبيلا".


نسأل الله أن يجعلنا من الأوفياء الأتقياء الأنقياء الأصفياء الأزكياء الأحفياء الأخفياء.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/٩/٢٥

الجمعة، 16 أكتوبر 2020

حكاية كرم.. عن علَم! (كلمة عن كرم المحدث مقبل الوادعي: الحسي والمعنوي)


حكاية كرم.. عن علَم!

(كلمة عن كرم المحدث مقبل الوادعي: الحسي والمعنوي)


قرأت لشيخنا العلامة المحدث: مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله-، طُرفة مليحة، وعِلقة وشيحة، تحمل أخلاقاً عالية، ونفائس غالية، فاجترني قلمي، لأعلّق عليها تعليقاً طفيفاً، -وأعوذ بالله من التطفيف-.


وهاكم كلامه -طيب الله جدثه-:

قال -رحمه الله-: "وﺃﺳﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﻨﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻲ، ﺣﺘﻰ ﺃﺗﺼﺪﻕ ﺑﻤﺎ ﺗﻴﺴﺮ، ﻭﻻ ﺃﻛﻮﻥ ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺎﻝ: ﺗﺼﺪﻗﻮﺍ .. ﺗﺼﺪﻗﻮﺍ ..

ﻓﻠﻤﺎ ﺗﺼﺪﻕ ﻭﻟﺪﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﺿﺤﻴﺔ، ﻗﺎﻡ ﻳﻀﺮﺏ ﻭﻟﺪﻩ، ﻭﻳﻘﻮﻝ ﻟﻪ: ﺇﻧﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ: ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻟﻢ ﻧﻘﻞ: ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﻧﺤﻦ"!.

(غاﺭﺓ ﺍﻷﺷﺮﻃﺔ: ١ / ٣١٥)


وهاكم تعليقي القاصر، على كلامه السائر:

قلت: ووالله، إن هذا السيد الكريم، والقِرم العظيم، قد بلغ الغاية والشأو، في الكرم والبذل والدحو، بل هو ممن عمل بهذه الآية: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".


فكم أعطى من قوْته، وكم باع ذهب بعض زوجاته؛ ليعالج أحد طلابه، أو ليشبع بطناً جائعة، أو يكسو جسداً عارية!

وما من هدية تأتي إليه، إلا أعطى حاملها منها نصيباً، وربما كان نصيب الأسد!

وهو في هذا، مؤتسياً بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومتسنماً خطى الأنصار رضي الله عن الصحابة أجمعين.


مقبل.. رجل عظيم، طلْق المحيا، خافض الجناح، ريان الفؤاد، زاهد في الدنيا، بل طلّقها بالثلاث، دون ارتجاع، فهو لا يعرف لها المهادنة والمداجاة، أو التملق والمحاباة!


بل إنكم تعجبون.. أن الشيخ -نوّر الله ضريحه- لا يستطيع عدّ المال، الذي يحسنه بعض الأطفال!


وكم له من القصص، التي يقف المرء حيالها: واجماً صائماً قائماً، لا ينبس ببنت شفة، سوى تحريك رأسه، والدعاء له، والتسبيح لله سبحانه وتعالى.


لذاك وذلك.. فإني أعظمت هذا الرجل أيما إعظام، وأكبرته أيما إكبار، -حاشا له التعصيم- وقد التقيته، واستمعت إليه، فلم أرَ منه إلا الرفق واللين، والصدق واليقين.


ولست أقول بعصمته -معاذ الله- لكني أشهد.. أنه ممن طغت حسناته، وعظمت خلاته، بل هو كبير النفس والخلق من الطراز الأول:

بيض الوجوه كريمة أحسابهم *** شم الأنوف من الطراز الأولِ


مقبل.. لا يعرف للحقد موضعاً، ولا للحسد مخدعاً، ومع هذا، كان صدّاعاً بالحق، خفّاقاً بالصدق، لا يخشى لومة لائم، ولم يبال حومة حائم، ولكنه: يجل أهل العلم والفضل، وكم له في ذلك، من الكلام المزبر المكرر، الذي هو أحلى من السكر.


وكلامه على الأحزاب والجماعات.. ناتج عن معاناة منهم، وسبر وخبرة بهم، فلا يعلم قدر الأذى الذي آذوه به إلا العليم سبحانه وتعالى!

وإن كان فيه تخشين وإيلام، فهو في موضعه وبقدر المقام.


وفي ترجمة الإمام الذهبي، لابن تيمية: "وكان قوّالاً بالحق، نهاء عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار.

ومن خالطه وعرفه، قد ينسبني فيه إلى التقصير في وصفه، ومن عانده وخالفه، ينسبني فيه إلى التعالي فيه، وليس الأمر كذلك، مع أنني لا أعتقد فيه العصمة كلا، فإنه مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين.. بشر من البشر، تعتريه حدة البحث، وغضب وشظف للخصم؛ يزرع له عداوة في النفوس، ونفور عنه، وإلا فلو لاطف الخصم، ورفق بهم، ولزم المجاملة، وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم وأئمتهم، خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرون بندور خطائه".

ينظر: (ذيل تاريخ الإسلام (ضمن ثلاث تراجم مستلة منه للعجمي: ٢٣)


ويكفي شيخنا الهمام.. ما خلّفه من دعوة عظيمة، في مشرق العالم ومغربه!

فقد اجتمع في مركزه الشامخ.. آلافاً مؤلفة ومولفة، من أقطار البسيطة المعمورة، من جميع القارات الخمس، بل لا أعلم دولة، إلا وقد  غادرها أفراد منها، إلى مهبطه اللاحب، ومخبئه الراحب، فرجعوا إلى قومهم: منذرين، ومبشرين، وهذا لعمري: أكرم الكرم، ورأس الهرم!


ما بالكم -إخوتي- برجل يخرج إلى طلاّبه، وهو مريض، يهادى بين الرجلين؛ ليلقي لهم درساً ونصحاً ورصفاً؟!


ومع كل هذا: لا ينسب كل فضل وخير في المعهد إلى نفسه، بل يحقّر نفسه كثيراً، ويعترف بفضل الآخرين!

ويقول: مقبل لوحده، لا شيء!


ومن كرمه وشهامته ونبله: أن يقوم أحد طلابه، أمام الحاضرين، -وهم بالآلاف-، ويخالفه في رأي رآه الشيخ، ولا يزالان في نقاش، حتى يرجع الشيخ عن رأيه، إن كان مرجوحاً، ويعترف بفضل الآخر، بلا تسفيه وتعنيف، أو سب وتقذيف، كما هو حال كثير من الأغمار الأطمار!


بل يقول، بكل عزة وإباء: أخطأ مقبل، وأصاب فلان!

بالله عليكم: ماذا تُسمّون هذا، وأي قلب يحمله هذا الرجل النحيل؟!


ترى الرجل النحيل فتزدريه *** وفي أحشائه أسد هصورُ


رجل لا أنتهي من عدّ وصفه وصفاته، ونبله وإباته، إلا بتسويد كثير من الصفحات، وضخ وابل من المداد، وليس هذا موطنه، إنما هو تعليق أردته، على كلامه المزبور أعلاه، ولكن جرّني قلمي، كاتباً وخاطاً ما يملي عليه فكري، فخشيت الإملال واللجوج، فكبحت جماحه، فللشيخ كلام آخر -بإذن الله-.

وأستودعكم الله..


وزبر: وليد بن عبده الوصابي

الخميس ١٤٣٧/٥/٢


عبثُ بعض المعدِّدين!

 عبثُ بعض المعدِّدين!


الحمد لله الذي شرع التعدد، لما في ذلك من الجدة والتجدد، والصلاة والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من أنذر وشدد، على من تلاعب بالأوامر وتمرد.

وبعد:

فنظراً لما كثر ويكثر من أوجه العبث من بعض المعددين، والراغبين في النساء، والمشتهين للأنثى؛ كتبت هذه الكلمة.. غَيرة لله سبحانه، ونصرة لنصفي العظيم وذائذاً عنه المهانة.

وأسأل الله أن يوفقني في القول والعمل.


أقول مستعيناً بالمعين، ومن استجار به فلا يهين:


إن التعدد مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وفيه من المصالح مالا يأتي عليه العد أو الحصر.


وأنا هنا في مقام بيان مسألة، وكشف مهزلة، كثرت وأربت وفرخت، وهي: عبث بعض المعددين -أقلهم الله- ببنات المسلمين، وهم لا يرضون هذا لبناتهم وقريباتهم ولا يرتضونه.


يتزوج الرجل ثانية ثم يطلقها بعد أيام، لا لعيب فيها، أو نقص في دينها، أو إساءة لخلقها، وإنما؛ لأن المرأة الأولى غضبت وأرعدت وأزبدت، وبكت وشكت!


 والمسكين لا يحتمل كسر قلبها.. فأقبل على كسر إناء الثانية، بل كسر قلبها! وربما ليس له عذر إلا التذوق والتشهي!

-ولي مقال آخر -بعون الله- عن هذا-.


وأنا هنا أنصحك أخي الكريم، وأناديك:

يامن يريد التعدد.. اتق ربك، ولا تُقدم على زواج الثانية إلا وقد حسبت للأمور حِسبتها، وسبرتها وخبرتها.. وعرفت حال زوجك الأولى..


ولا تكن كحال البعض، الذي يعلم من زوجه الأولى الغَيرة المفرطة، وأنها تقول بعلن: إما أنا، أو هي!

ثم يترك كل هذه التهديدات، ويقدم -الشجاع- على زواج الثانية، فما هي إلا أيام أو ساعات.. -وبعد أن ذاق عسيلة الثانية وذاقت عسيلته-، إذا بصاحبنا يطلقها؛ بناء على طلب الملكة الأولى!


ويأخذ في تعداد الأعذار الخائبة، والحجج الواهية، بأن الأولى أم أولادي، وصبرت معي، وضحت من أجلي و و و..

طيب، هلاّ كان قبل أن تفعل ما فعلت.. أم أنه العبث والخبث واللت؟!


ولا يكتفي -ربما- للتجربة الأولى.. بل يزيد ثانية وربما ثالثة!

وربما استغل دراهمه، أو منصبه، أو مركزه في بلده أو نحو ذا مما يثق فيه الناس!


والمسكينة، قد بَنت آمال على زواجها بهذا الكبير أو هذا التاجر أو ذاك الآخر النحرير.. وهي لا تعلم أنها نزوة، أو قضاء أرب وشهوة، فإذا بهذا البناء الذي لم يتم؛ يتقوّض، ويسقط على رأسها ويتهدم!

فهي لا تعلم أنه لاعب ببنات المسلمين، وعابث بمشاعرهن.. وكأنهن لا مشاعر لهن!


بلى، والله، لديهن شعور ومشاعر، ولكن أنت من فقدت شعورك ومشاعرك، بل حتى دينك لم تعمل به -كما أمر الله وأراد-: "وعاشروهن بالمعروف".


فإما أن تُعدد وأنت حاسب للعواقب، وإلا فاترك الأمر لغيرك يا صاحب.. ودعك من هذا الزيف والخطل: أريد تطبيق السنة!

حسناً، تطبق السنة، وتوقع المرأة في الحنة، وتسبب لها -ربما- الجِنة؟!


ولا يفترين علي مفتر، أني أحارب التعدد.. بل أنا من الداعين له، والمرغبين فيه.. ولكن: كما أمر الله، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد قال تعالى: "فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة" فكيف ما هو دون العدل، وهو اللعب والعبث؟!


ولا يفترين مفتر آخر، أني أحرم الطلاق أو أجرمه.. لا وربي، وإنما أنا هنا أشجب العبث الذي حرمه الله، وإلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تزوج وطلق، وعدّد وفارق، وهو المشرِّع.


فأنا أنادي هؤلاء: اتقوا الله في ذلك، وإلا، فانتظروا المهالك..

وأبشروا بعقوبة آتية إليكم لا محالة، "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" ولا تقل: لا إخاله.

والله الموعد.


كتبتها الآن على عجل، بعد قصة عرفتها اللحظة، فبكيت وأسيت، ولم أجد ما يخفف لوعتي، إلا دواتي وشباتي، فكتبت لك ما قرأت، والله يرزقنا التسديد والتعديد والتجديد والتمجيد..


أبو نعيم وليد الوصابي،،

١٤٣٨/٣/٢٤

الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

دعاة أسوياء أم غواة أدعياء؟!

 دعاة أسوياء أم غواة أدعياء؟!


أكاد أغص وأشرق، وأنص وأرهق.. من لفيف من المحسوبين على الدين، وشتيت من المعدودين من المصلحين..

كيف ينشر ما يحمي شوكة الباطل، وكيف يشهر ما ينمي صولة العاطل!


ألم يجد ما يتكلم عنه، إلا: كشف الوجه.. هل رأى الغالبة متحجبات، وهل شكون إليه متطلبات؟!


ألم يجد ما يتحدث عنه، إلا: التعريف بكتب العشق والعاشقين.. هل رأى الناس بحاجة إلى تعليمهم كيف يعشقون، أو شكوا إليه، كيف يصنعون؟!


ألم يجد ما يتحدث عنه، إلا: التجويز للاختلاط المشبوه.. هل رأى الناس بحاجة إلى هذا التفصيل المعين، وهو يرى أن أكثر المختلطين مخلِّطين!


لو سلمنا جدلاً، أن رأيهم رَجوح، ورأي غيرهم مرجوح.. ألم يكن من قواعد الشريعة ومقاصدها ومصالحها.. مراعاة الزمان والمكان والإنسان، والنأي عن الحديث عن مسائل، يخشى فهمها على غير وجهها، أو أن في إثارتها، قوة للباطل والمبطلين، أو أن في إشهارها، نبوة لأهل الاستقامة والدين؟!


والله، لا أزال أعجب من هؤلاء الخلق، وأتساءل وراء الدافع، ثم رأيت أنهم في ذلك طرائق قددا..


فمنهم، من الدافع له: الخير للمسلمين، ومحاولة تقويم البلوى التي عمت وطمت، ولكنه، لم يوفق لذلك؛ لأنه لم يراعي الزمان، وحال بني الإنسان.


ومنهم، من الدافع له: مجاراة السواد الأعظم، وخشية أن يوصم بالتشدد والتزمت.

وهذا مسكين، فوالله لو تنازل عن دينه كله؛ لما رُضي عنه "حتى تتبع ملتهم"!


ومنهم، من الدافع له: حب الشهرة والظهور، وأن ينظر إليه بوسطية واعتدال!

وهو في هذا واهم، فإنما هي مراهم موقتة، ثم تظهر الحقيقة، ويكشف الغطاء!


ومنهم، من الدافع له: رقة الدين، وضعف اليقين، ونقض الغزل بعد عقده..

وهذا، نتمنى له العودة إلى الأمر الأول العتيق، ونرجوه، أن يقصر الفتور على نفسه، ولا ينشره بين العالمين؛ لئلا يتحمل أوزار المسلمين.


ومنهم، من الدافع له: شراء ذمته، وبيع أمانته، لبعض الجهات أو المؤسسات أو الأفراد..

وهذا، لا كلام معه، سوى: سؤال الله كفايته عنا، وابتعاده منا.


ونصيحة لنفسي، ولبني جنسي: أن نحذر من الأخذ عن كل متحدث، أو عن كل كاتب، أو عن كل مؤلف، بل نتحرى الأمر، ونعرضه على الكتاب والسنة، فإن لم ندرك ونخبر، فلنعرضه على أهل العلم العالمين العاملين، الكبار الراسخين، فأمر الدين، أمر يتعلق به جنة ونار، فلنكن على حذر.


واعجب لبعض المغررين، من يقول: اقرأ ما يدفع إليك، واسمع ما يملى عليك.. ثم احكم بعقلك على الطيب والخبيث!


أقول لهؤلاء: لو كان الشأن -كما ترى- أنه بيدك؛ لهان الأمر وسهل، ولكنه ليس لك، ولا تملكه، بل بيد علام الغيوب، فـ(إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فأنت عرضت قلبك على الشبهات، فتحمل العواقب؛ لأن أقدار الله تنقسم إلى قسمين:

أقدار شرعية: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله تعالى.

وأقدار كونية: لا بد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه؛ وذلك ليتحقق أمر الخير والشر، وليقوم سوق الجنة والنار.


هذا، ما هجس في الخاطر، فانبجس على الدفاتر، ولعل غيري يوافقني في الكل، أو البعض، والآخر: قد يخالفني في البعض، أو الكل، "ولا يزالون مختلفين".

وما أردت بهذه الأكتوبة، إلا، "معذرة إلى ربكم ولعلهم ينتهون".


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٢/٢٦

السبت، 10 أكتوبر 2020

وفي الابتسامة دعوة!

وفي الابتسامة دعوة!

بالأمس، مررت على غلام، أظنه يناهز الاحتلام، وهو يسدر في خيالات، ويفكر في مآلات!
هكذا حدست؛ وذلك من نظرته الحادة والجادة نحوي!

ابتسمت في وجهه، وشافهته بالسلام، مع التلويح إليه بيدي، ومضيت في أربي وغرضي.

قدر القادر سبحانه وتعالى، أن أعود حيث جئت، وأصلي في مسجد قريب من مكان الغلام، وقد نسيته تماماً، ولم يدر في بالي، أو يدور في خيالي!

خرجت من المسجد، وإذا بغلام يقابلني، مبتسماً منتشياً، قائلاً: جزاك الله خيراً على النصيحة!

ابتسمت له، وحدقت فيه مستعجباً مستذكراً، فإذا به يزيد الابتسام والاحترام!

استحييت أن أحرجه، بعدم معرفتي له، فأطلت النظر والانبلاج، حتى تذكرته بعد عي ولأي، فإذا هو صاحبي السادر!، زدته ابتساما، ودعوت له اهتماما.

غادرته، فرحاً مرحاً، طرباً سرباً، وقلت لنفسي وفي نفسي: إذا عجزنا عن دعوة الناس بالكلام، فلمَ لا ندعوهم بالابتسام؟!

حقاً، إن فئاماً، من الدعاة -حسباً وزعماً- يعجزون عن حسن الكلمة، بل حتى عن البسمة!

ترى بعضهم، وقد قطب جبينه، وثنى عطفه، وصعر خده، وكأن من أمامه، لا يساويه أو يوازيه!

قال الشاعر:
فيمَ التكبر.. حتى السماء على علياء رفعتها *** تلاطف الأرض عند الجدْب بالمطرِ!

يقول الحافظ الذهبي: "أشر الكبر، من يتكبر على العباد بعلمه، ويتعاظم في نفسه بفضيلته؛ فإن هذا لم ينفعه علمه!
فإن من طلب العلم للآخرة، كسرَه علمه، وخشع قلبه، واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد".
(الكبائر: ٧٨)

قال الله تعالى -مخاطباً نبيه محمد عليه الصلاة والسلام-: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".

ففي الآية: إثبات كمال الخُلق، لأشرف الخَلق، صلى الله عليه وسلم، حيث زكاه ربه، فقال سبحانه: "وإنك لعلى خلق عظيم".

وفيها -أيضاً- دلالة، أن سوء الخلق، منفرة عن العلم والخير والفضل، وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، إن منكم منفرين) رواه البخاري ومسلم، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
وفي نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا) رواه البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

فيا أيها الناس، ادعوا الناس بأخلاقكم وأعمالكم، قبل علمكم وحسن هندامكم، واقربوا منهم، وتقربوا إليهم، وازرعوا في قلوبهم الفأل والأمل، مع صلاح العمل، ولا تقنطوهم أو تيئسوهم، فإنكم، عنهم ستسألون، وعن إهمالهم، ستساؤون.

اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وارزقنا حسن الخلق، والرفق بالخلق، و(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤٢/٢/٢٣

الخميس، 8 أكتوبر 2020

وانقطع صوت التدريس!

وانقطع صوت التدريس!


نبئت قبل لحيظات، بوفاة شيخنا العلامة المحدث محمد بن علي آدم الأتيوبي المكي، -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار-.


وقد كان هذا العالم العلامة العَلم، من أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وممن تربع للتدريس، عقوداً من الزمان، وتوشح للتعليم، رداء التفهيم.


فلا تراه إلا مدرساً في شتى أمات كتب العلم، في عويص العلم ومتينه، لم تلهه دنيا، ولم تشغله زوجة، بل تخاله، قد نذر نفسه، وأسهد عينه، وأسهر ليله؛ لإحياء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذب عنها، والذوذ عن حياضها، والدفاع عن أهلها.


وقد شهدته في درس من دروسه، في (ألفية السيوطي) وهو على عربة متحركة، لا يكاد يقوى على الحركة، ولكن صوته يطن في أذنك، ويرن بين جوانحك، وهو يفك العويص، ويحل المعضل، ويوضح المشكل.


ولا أريد هنا، أن أعرّج على تواليفه وشروحاته، فقد طمت السهل والجبل، وعمت الدروب والسبل، وهي على طرف الثمام، ممن أرادها أو طلبها، ليست في خفاء أو انزواء.



وقد سمعت عليه دروساً عديدة، في (البخاري) و(مسلم) و(أبي داوود) و(تفسير ابن كثير) و(ألفية السيوطي) وبعضاً من متون التوحيد، في أخريات حياته، عندما انقطع عن التدريس في الحرم، وكان سماعي لهاته الدروس، وأنا في بلدي، عبر تطبيق (المكسلر) والحمد لله رب العالمين.


وبفقده، فُقد صوت تدريس عال، وأطفئ نور تفهيم غال، وحسبه، أنه استوطن بيوت الله تعالى، وما أعظم من بيته الحرام، الذي استوطنه ردحاً من الزمان!


عزائي لأهله وأولاده وذويه ومحبيه، وعزائي لنفسي، ولأهل العلم من بني جنسي، ولا نقول، إلا: "إنا لله وإنا إليه راجعون" (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى).



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٢/٢١

الخميس، 1 أكتوبر 2020

سَرِقةٌ سَرَقتْ لذّة!

سَرِقةٌ سَرَقتْ لذّة!


كنت في سفر، فنزلت مسجداً، لأصلي المغرب والعشاء جمع تقديم.


صليت ومضيت.. وبعد فويقات، طلبت هاتفي فلم أجده!

بحثت حتى لهفت، ولم ألقَ ضائعتي! إنها سرقت، ولا أدري، كيف تمت السرقة، لكنها تمت وغمت!


حينها، أويت إلى الدواء الناجع، والترياق النافع.. فاسترجعت وحولقت واحتسبت.. فاطمئن قلبي، وسكنت نفسي، وسكت غضبي، وهدأت عصبي، والحمد لله على كل حال.


ويا لفداحة الضائع، فإني أحفظ في هذا الهاتف: آلافاً من الكتب المنورقة (المبدأفة)، وجمهرة من المقالات، وجوهرة من المقولات، وشتيتاً من الأرقام، ولفيفاً من الرسائل!


إن السارق -هداه الهادي- لم يدر أي ظلم ارتكبه، ولا يعلم أي هضم احتربه..


إنه فرّق بين محب وحبيب، استمرت علاقتهما قريباً من ثلاثة عقود!


إنه حرمه من لذة القراءة قبل النوم، وعند الهم في كتب محددة معددة، للإحماض، ودفع السأم والألم والإرماض!


إنه منعه من المدارسة في كتب أهل العلم، من متين العلم ومليحه وملحه- التي لا يملك أكثرها، إلا في هاتفه الأثير؛ لتعداد أسفاره، وعدم استقراره!


ولم يكتف اللص بهذا وحسبه -وأنى للحرام اكتفاء!- بل وفي صدد البحث اللاغب عن الهاتف الغائب.. اكتشف أن الخارب، قد سرق أيضاً نقود السفر!

أصدقكم، لم آسف على المال، أسفي على الجوال!


لكنه، لم يكتف بهاتين الجريرتين المبيرتين، بل أضاف إليهما ثالثة -ولعمري، إنها ثالثة الأثافي، ونافثة القوافي-؛ إنه سرق محمولي (اللابتب) الذي أراجع فيه أعمال الباحثين، والذي أكتب فيه بحوثي وتواليفي، وأحقق فيه تحاقيقي، والذي فيه مخطوطاتي، والذي فيه معلوماتي، والذي فيه مجموعاتي..


إنه يا قوم جرابي وصرابي، وجدي وكدي، وعطشي وغطشي، وسهري وسمري، وفرحي ومرحي..

ولكن، "عسى الله أن يأتيني بهم جميعا".


ماذا أقول، وبم أصول؟

والقدر محتوم، والقضاء مرسوم، والقدرة ضعيفة، واليد قصيرة، والبصر كليل، والجسد نهيك، والجناح مهيض، والزمن مكفهر..

لكني -من الكريم اللطيف الغني- واثق باللطف، وحادس للعطف، وطامع بالسلوى، وناظر للحلوى، ولا زلت مكرراً ومقرراً: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، (اللهم اجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها)، و(لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم).



وكتب: المسروق منه: أبو نعيم وليد الوصابي.

الجمعة ١٤٤٢/٢/٨