السبت، 25 ديسمبر 2021

من شبه المستأجرين: أنتم لم تقرؤوا ولم تسمعوا ما عند المنقودين!

 من شبه المستأجرين: أنتم لم تقرؤوا ولم تسمعوا ما عند المنقودين!


من أساليب العلمانيين والكافرين، التي لم يهتدِ لها ربما الشياطين.. أن يقولوا للمسلمين: أنتم لم تقرؤوا كتب فلان، ولم تستمعوا لعلان؛ جربوا اقرؤوا، ثم احكموا؟!

مريدين، بهذا التلبيس اللعين؛ إغواء المساكين، وإركاس الساذجين!


أقول: إن العاقل، لا يشترط لنفسه، أن لا يصدّق شيئاً ما، حتى يقف على الحقيقة بنفسه.. وإلا سيتَعب ويُتعب، والعمر قصير، ولم يبق وقتٌ لقضاء الواجبات، وقضاء الحاجات.


فينبغي للعاقل؛ أن يضن بوقته وعمره، عن أن ينفقه فيما لا ينفعه عند الله تعالى، ويبحث دائماً عن الأنفس لا الأتعس والأبأس!


وذلك؛ لأن الزنادقة في تجالد، والشبهات في توالد، ولا انتهاء للصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة!

وفي الحديث: يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال؛ فلينأ عنه)؛ وذلك لعظيم خطره، وشديد ضرره، وما الكافرون والعلمانيون والمنافقون.. إلا دجاجلة بين يدي الدجال الأكبر، فهم سفراؤه ووزراؤه، ورواده ورائدوه!


وجاء في الحديث: (لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه! قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) رواه الترمذي، وصححه الألباني.


ويقول أبو سليمان الداراني: إني لتعرص لي القولة من كلام القوم.. فلا أقبلها إلا بشاهدي: آية من كتاب الله، أو حديث!


وقال سفيان الثوري: من جالس صاحب بدعة؛ لم يَسلمْ من إحدى ثلاث: إمّا أن يكون فتنة لغيره، وإمّا أن يقعَ بقلبه شيء يزلُّ به فيدخله النار، وإمّا أن يقول: والله لا أبالي ما تكلّموا به، وإني واثقٌ من نفسي، فمن الله طرفةَ عينٍ على دينه؛ سلبه إيّاه.


وكان النأي؛ لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، والعصمة متعذرة.

(ومن لك بالسلامة إذا نشبتا)؟!


فالقلوب إذا أشربت الفتنة، نشبت، وإذا نشبت؛ صعب فكاكها؛ لأنها مقيدة (وقيد العقل، أشد من قيد الجسد)!


فلم يبق للعاقلين، إلا الفرار عن مجالس الآثمين، قال تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" وقال تعالى: "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا".


وانظروا إلى الشاعر الأعشى، عندما حزم أحزمته، وشدّ أمتعته؛ للقيا الحبيب عليه الصلاة والسلام، وإعلان الإسلام.. وقف له أهل الشر بأطرقه، ولم يزالوا به، حتى رجع من منتصف الطريق، مع هداياه من الإبل، فسقط عن إحداها، ومات بائراً كافراً!


وانظروا إلى أبي طالب (عم النبي صلى الله عليه وسلم)؛ فقد كان قاب قوسين من الإسلام.. فلم يزالوا به أصدقاؤه الضالون، حتى كان آخر، ما قال: هو على ملة الكفر!


ولا يشترط أبداً -لا عقلاً ولا عرفاً- أن تقف على كل حقيقة بنفسك، بل يكفيك من كفاكها، من أهل العلم والمعرفة.


ولأضرب مثلاً: لو سمعت أن أكلة معينة موصوفة، تقتل آكلها، مع إثبات بعض من فطس جرائها.. هل ستجرب أكلها، وتقف على الحقيقة بنفسك، أم تكتفي بتجربة غيرك؟!


ومثلاً آخر: لو أردت السير في طريق ما.. فرأيت الناس راجعين منها، وأخبرت: أنها طريق مقطوعة ممنوعة.. هل ستصدق، أم ستقف على الحقيقة بنفسك؟!


فيا أخي .. ويا أختي: سلوا الله العافية، وانأوا عن الشر، واثبتوا على دينكم، وتمسكوا بعفافكم، وأخرسوا كل ناعق، واطردوا كل عائق!


والآن؛ أخي .. أختي: هل تسمعوا لهؤلاء الناعقين الكاذبين الآثمين، أم تستمعوا كلام رسول الله الصادق الأمين؟ (عليه الصلاة والسلام).


قال الإمام ابن بطّة، في (الإبانة: ١/ ٣٩٠): "اعلموا -إخواني- أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة، واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفَتْح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم - فوجدت ذلك من وجهين:

أحدهما: البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا يعني، ولا يضر المسلم جهله ولا ينفع المؤمن فهمه.

والآخر: مجالسة من لا تؤْمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته". 


رب "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤١/٤/٢٧

السبت، 27 نوفمبر 2021

مطاولة أقزام في مصاولة أقرام!

 مطاولة أقزام في مصاولة أقرام!

ما أقبح وأوقح- تطاول بعض المنتسبين إلى العلم= على أهل العلم القناعيس، لا سيما من قضى منهم نحبه!


وليته بيان أخطاء وأغلاط فحسب، بل سباب وشتام، وتجهيل وتضليل!


ولعمري، إن هاته نبتة سوء، وبقلة فساد، وبزرة خراب!


ولله ابن الوزير، في شعره:

فاخسأ فما لك بالعلوم دراية *** القول فيها ما تقول حذام


وقد قدّر لي -والحمد لله على كل حال-.. أن دخلت صفحة تعج بالباطل العاطل، وتمج لعاب الذباب، تجاه قرم قمقام، وسيد سرسور، أضنى حياته، وأسهر ليله، وأجهد لبه، وأتعب قلبه، وأرهق جوارحه، في الذوذ عن حياض السنة المطهرة، والتحذير من الشرك، ومحاربة الرذيلة!


كل هذا.. ثم يأتي لكع خير منه بجع، فيلغ في عرضه، ويلسع ديانته، ويصمه بالجهل والطيش، ونحوها من تيك المقذعات، التي ينأى عنها من علم (أن له رباً، يأخذ بالذنب، ويجازي عليه)!

لا أقول بتعصيم أحد، ولكن لا تكون أعراض العلماء، كلأ مباحاً، لكل سائمة!

ومن أراد الرد والتعقيب، فدونه الطريق، لكن دون سباب وشتام، ممن لا يسواه!


ونظرة عجلى، إلى ردود العلماء بعضهم على بعض.. تدرك سموق الأدب، وبسوق العلم، ومحاولة الاعتذار، وتخريج الأقوال، وذرأ السوء والشر، ومن خير من تنعم فيه نظرك (سير أعلام النبلاء) للإمام الذهبي -رحمه الله- الذي لم يسلم هو الآخر، من نوكى وحمقى، فالله طليبهم.

ونماذج المتأخرين، كثيرة وفيرة، تجدها في تضاعيف سيرهم الذاتية، أو من تواريخ من ورخهم، كالعلامة أحمد شاكر، والعلامة ناصر الألباني ونحوهما من البزل الأقوام.

ولكن، الموعد الله، في كل من تناول أو تطاول، "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله" (ومن قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال)! -عوذاً بالله ولوذاً-.


وكتب: وليد أبو نعيم

١٤٤٣/٤/٢٣


الأحد، 21 نوفمبر 2021

ولَـحِـق لاحـق السـوابـق!

 ولَـحِـق لاحـق السـوابـق! 

#وفاة_علم


بلغني اليوم -وأنا في شغل وحزن، لمرض والدي العزيز -عافاه الله- وفاة العلامة المحقق المتقن محمد أحمد الدالي.. فزاد وجعي وألمي، وازداد حزني وهمي، وعجزت عن كتابة كلمات عنه، أراها واجبة علي، تجاه أمثاله من عماليق التحقيق، ودهاقين التدقيق!

ثم رجعت، إلى كناشتي، فوجدتني كتبت كلمة عنه قبل بره، فشذبتها، ونشرتها.


قلت فيها: العلامة محمد أحمد الدالي.. ربما يكون من أواخر، أو آخر من يتقفى خطا العمالقة الأوائل، من محققي التراث، ومصححي الكتب، وناشري الموات!

أمثال: العلامة عبد السلام محمد هارون، والعلامة محمود محمد شاكر، والعلامة محمود الطناحي، والعلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، والعلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي، والعلامة أحمد راتب النفاخ، والعلامة شاكر الفحام، والعلامة حمد الجاسر، والعلامة عبد الرحمن العثيمين، ولعل آخر هؤلاء الكبار موتاً: العلامة مطاع الطرابيشي -الذي لا زلت أتسنم البحث والفتش والسؤال، عن سيرته العطرة، ومسيرته النضرة، في هذا المهيع اللاحب-.


عذراً، فقد أطلت التمثيل -وهي وشلة من شلال، وقطرة من مطر، وقليل من كثير-.

وإني -والله-، حين أقرأ في تحاقيق أمثال من ذكرت؛ أجد السكينة والطمأنينة، والبهجة والسرور؛ لخبرتهم الطويلة، وحنكتهم الأثيلة، وخطاهم الوئيدة في هذا العلم العقم، الذي دخل فيه الدخلاء؛ فشوهوا جماله، وآذوا قصاده، برداءة ما ينشرون، من التواء في الطريق، وجنوح عن السبيل، ولا غرابة؛ فإن المادة قد طغت وبغت!


ونظرة فاحص، إلى تحقيق الدالي، لـ (جواهر القرآن)؛ تدرك قدر الوكد، الذي ناله في سبيله، وليس وكداً مجرداً، بل وكد، حاديه: العلم والفهم، والسبر والخبر، والخراتة والمهارة، وهكذا بقية أسفاره السفيرة.


رحمك الله أيها المحقق الأشم، وأسكنك فسيح الجنان، وعالي الرضوان.

و"إنا لله وإنا إليه راجعون"


وكتب: وليد أبو نعيم. 

١٤٤٣/٤/١٥

الأربعاء، 10 نوفمبر 2021

وانقطع صوت تحقيق الحديث!

 

وانقطع صوت تحقيق الحديث!


باسم الله، والحمد لله على قضائه وقدره، والصلاة والسلام على رسوله عليه الصلاة والسلام، الذي موته أعظم مصيبة.

وبعد:


فقد وصلني الآن، نبأ وفاة الشيخ الجليل، والمحقق النبيل، مجيزنا: شعيب بن محرم الأرناؤوط.


فهداني ربي، لقوله جل وعز: "إنا لله وإنا إليه راجعون" وهي العلاج للمصائب -وقانا الله المعاطب-.


وأعزي نفسي وإخواني وأبنائه وبناته وأهله جميعاً، قائلاً: أحسن الله عزاءنا، وأعظم أجرنا في فقيدنا العلامة المحدث.


ذاك العَلم العملاق، الذي نذر نفسه للعلم والمعرفة، وتحقيق كتب السنة، ومشرفاً على كمٍّ كبير من الرسائل والمؤلفات والتحاقيق والتخاريج.


كان دمث الخلق، طلق المحيا، نبيل الشيم، لين الجانب، خفض الجناح، لا ينهر أو يقهر أو يدحر.


هاتفته، فهشّ وبشّ، وساءل: الاسم والبلدة والعمل والحال؟

ودعا وبرّك، وختم الحديث بالدعاء والسلام.

رغم، أنه أول تواصل به، ولم يعرفني من قبل، أو يسمع بي! اللهم، إلا: الخلق الكريم، والصدر الرحيب.


وعندما مرض قبل أيام، اتصلت عليه، فأجابني أهله، وطمأنوني على صحته.

ففرحت ونشرت خبره؛ ليفرح المحب.


والآن، ذهلت لخبر وفاته، ولكني تذكرت العلاج الرباني، فاسترجعت مردداً، ودعوت له بالمغفرة والرحمة، ورجاؤنا، أن الله يجزيه خيراً، ويقيه ضيراً؛ كفاء ما ألّف وصنّف، وحقق ودقق.


رحمة الله تغشاك شيخنا الحبيب، ومجيزنا الأديب، ودعاؤنا: أن يسكنك الرحمن في الغرف العالية من الجنان، ونتضرع لربنا سبحانه.. أن يجمعنا في دار كرامته، ومستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

إنا لله وإنا إليه راجعون..


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/١/٢٧




الاثنين، 8 نوفمبر 2021

شرح قطعة من "المقامة الكوفية" من "مقامات الحريري"!

 شرح قطعة من "المقامة الكوفية" من "مقامات الحريري"!


غرد الشيخ محمد المهنا:


‏هذه القطعة من ‎مقامات الحريري أتمنّى أن يشترك في شرحها أديبٌ لوذعي، وطبيبٌ ألمعي:

رُبَّ آكلةٍ هاضت الآكل، وحَرَمته مآكِل، وما قيل في المثل الذي سار سائره: (خير العشاء سوافِره)، إلا ليُعَجّل التعشّي، ويُجتنب أكل الليل الذي يُعْشي، اللهمّ إلا أن تَقِد نارُ الجوع، وتحول دون الهُجوع!


فأجبت: لست بأديب لوذعي، ولا طبيب ألمعي، لكني، أردت الإسفار، عن برقع هاته القطعة المنيعة، وصادف رغبة من نفسي وهجسي، فقلت -مستعيناً بالمُعين، ومسترفداً من المَعين-:

‏(رُبّ) من حروف الجر، تقتضي التقليل، مختصة بالنكرة (أكلةٍ) بهمزة قطع، بالفتح: المرة الواحدة، وبالضم: اللقمة، وبالكسر: هيئة الأكل، (هاضت) أي: أضعفت، وسببت قيئاً وإسهالاً، لـ (الآكل) وهو فاعل الأكل، (وحَرَمته مآكِل) جمع مأكلة أو مأكل، وهو الأكل.

وفي المثل: (رب أكلة، تمنع أكلات)

قال ابن العلاف:

كم أكلة خامرت حشا شره *** فأخرجت روحه من الجسد


(وما) والذي (قيل في المثل) العربي (الذي سار سائره) أي: انتشر واشتهر؛ لوجيز عبارته، وبراعة صياغته: (خير العَشاء) أي: طعام العشاء (سوافره)، جمع سافرة، أي: بواكره، وقيل: (خير العشاء، بواصره) أي: ما أبصرته العيون، بضوء النهار، (إلا) أي: سبب تأخير العشاء؛ (ليعجّل) المتعشي (التعشّي)، أي: ليكون العشاء قبل حلول الظلام واحلولاكه (و) يجب عليه.. أن (يجتنب أكل الليل الذي) من صفته، أنه (يُعْشي) أي: يورث العشا والعمش، وهو ضعف البصر، (اللهم) في الأصل: دعاء، وهي هنا: حث للسامع على حفظ القيد المذكور بعدها (إلا) استثناء من منع أكل الليل، في حالة (أن تَقِد) أي: تتقد وتضطرم (نار الجوع) أي: شدته وقوته، وحرارته ومرارته، (و) أن (تحول) نار الجوع (دون) أي: من عدم (الهُجوع) والراحة، فتمنع من النوم.

والمعنى: أن الشره والنهم في المأكل؛ ممنوع في الشرع، ومذموم عند العرب، وربما كان فيه أضرار وأوضار. وعلى ناشد الصحة.. أن يجتنب أكل الليل؛ لأنه يسبب العمش والضعف، إلا إذا آذاه الجوع بقرصاته، ومنعه النوم بزفراته؛ فليأكل، وليخفف.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٤/٢

الجمعة، 5 نوفمبر 2021

عـايـش.. الكـتبي المغمـور!

 عايش.. الكتبي المغمور!

#وفاة_علم

"إنا لله وإنا إليه راجعون" لا نقول إلا مايرضي ربنا، وإلا يعلم الله، كم تحسرت وتألمت وتوجعت.

وصلتني الرسالة، وأنا مضطجع، فقمت مستوفزاً، متسائلاً: أحقاً ماتقول أيها المرسل؟

قال: نعم.


لست مكذباً، ولكن: لهول الصدمة، وشدة الفاجعة.. فقد قابلته، قبل أيام قلائل، وهو بكامل صحته، كما أرى، ولكن:

(إذا نزل القضا، ضاق الفضاءُ)


عايش: رجل عجيب، قصير القامة، ضخم الرأس، ممتلئ الجسد، متكفئ الخطى، حاد النظر، حنطي اللون، بشوش الوجه، طيب القلب، منشرح الصدر، أعزب!

نعم، أعزب، وقد تجاوز عمره الأربعين، فسألته مرة: ألا تتزوج؟

قال: لا أستطيع، وليس عندي تكاليف الزواج!

نكست رأسي، حياء وخجلاً؛ إذ كشفت ستراً كان في خفاء!


عايش: رجل نهم بالمطالعة، خبير بالكتب، كثير القراءة، ولا يعرفه إلا من عاشره.

تنظر إليه، فتخال باطنه كظاهره، وهو غير ذلك تماماً، بل يكاد يكون ملماً بكتب مكتبة (الفرقان)، على كثرتها وتشعبها وتنوعها.


لا تسأله عن كتاب، إلا بادرك، باسمه الكامل، واسم مؤلفه، ومحتواه وفحواه، وعن تعلقه بالكتاب الآخر!


حتى كنت مرة أنظر إليه، وأهز رأسي، وأتبسم وأتعجب من استحضاره، قائلاً: ماشاء الله!

فكان يضحك ضحكة المتبسم، إشارة إلى تعجبي منه.


وأذكر مرة، كنت أقرأ في كتاب، وكان متشوقاً لقراءته!

فكنت آتي المكتبة، ويسألني على استحياء -والله- هل انتهيت من الكتاب؟

فأبتسم.

ثم أتيته به، فسألته عنه اليوم الثاني؟

قال لي: لقد أنهيته!

معقول؟

ابتسم، وقال: نعم، سهرت عليه الليل!


عايش: انقطعت أخباره عني، من حين الفتنة التي عصفت باليمن -كشفها الله- لأني جعلت بيتي حلسي، وكتابي جليسي، فلم أذهب المكتبة، ولا إلى غيرها، إلا لما منه بد، من حينها -وكانت قبل جليستي- وهو موظف فيها.


وشاء الله، أن ألتقيه قبل أسبوع، في مكتبة، نعم، في مكتبة (الجيل الجديد) فكان كعادته، هاشاً باشاً، متسائلاً: لماذا لا تأتي المكتبة، يا وليد؟

وصفت له السبب.

ثم سألته عن سبب مجيئه؟

فقال: أنظر الكتب الجديدة، حتى أخبر بها المسؤولين عن المكتبة، لكي يشترونها!

ودعته، وذهبت.


وها أنا اليوم: أفجع بخبر رحيله، وأخبر بنبأ مسيره، فـ لا إله إلا الله "كل شيء هالك إلا وجهه"


رحمك الله يا عايش، أشهد، أنك طيب القلب، نقي الفؤاد، سليم الصدر، خلوقاً، بسوماً، هشوشاً بشوشاً، عفيفاً شريفاً، فقيراً معدماً، غير متكلف ولا مختال.

ليس لديك أصحاب إلا زملاءك، ومن عرفك، من رواد المكتبة:

عشت وحيداً..

ونمت وحيداً..

وها أنت الآن، وحيداً، حاشا عملك الصالح، وهذا ظني بربي الكريم، الرحمن الرحيم، أن يؤنسك في قبرك، ويجعلك في روضة من رياض الجنة، إن ربي على كل شيء قدير.


اعذروني، فقد أطلت، ووالله، لم أنته مما جاش في صدري وحاش، ولكن: ليرحمه ربه،،


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي،،

١٤٣٧/١/٢٢


الخميس، 4 نوفمبر 2021

الدمع السخين على العلامة محمد الأمين! أتكون الذلة والمهانة لذوي العلم والرصانة؟!

 الدمع السخين على العلامة محمد الأمين!

أتكون الذلة والمهانة لذوي العلم والرصانة؟!



جُل ناهلي العلم، وكارعي المعرفة.. يعرف العلامة الكبير، والفهامة الخطير: محمد الأمين الهرري.. بتواليفه وشروحاته، ودروسه وتقريراته، ونكاته وتحريراته، ووشيه وتعليقاته. 


نعم، عرفناه من خلال (تفسير الروح والريحان) الذي جمع فيه أشتاتاً من الفنون، ومكث في سبيله اثنا عشر عاماً!

عرفناه من خلال (مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه) الذي له فيه كرامة!

عرفناه من خلال (الكوكب الوهاج والروض البهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج) الذي سماه به من شرح كتابه!


عرفناه، من خلال تواليفه في شتى فنون العلم والمعرفة، من حديث وعقيدة وفقه ونحو وبلاغة ومنطق إلى غيرها من أفياء العلوم.. التي ناهزت الخمسين أو نافتها، وبلغت أكثر من مائة مجلد!


حياته كلها عمل وجد، ودأب وكد، سواء كان في علم أو عبادة أو تعليم أو تأليف!

تراه بجسده النحيل، وطوله الفارع، وبشرته السمراء، ولكنته الواضحة.. هذا ظاهره.. 

أما باطنه؛ فإنه منطوٍ على روح أبية، ونفس عصامية، وقلب أبيض، وصدر أغيض.. 


ترى الرجل النحيل فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصورُ


ويعجبك الطرير اذا تراه *** ويخلف ظنك الرجل الطريرُ


بغاث الطير أكثرها فراخاً *** وأمُّ الصقر مقلاة نزورُ


فما عظم الرجال لهم بفخرٍ *** ولكن فخره: كرم وخيرُ


هذا عن معرفة الجهبذ النحرير، والمؤلف الكبير، والخريت الخبير، العالم الجبل، والعارف الأمثل، والمدره المفن، والقوي المعن، العابد الزاهد، الورع النفع، الصوام القوام، الباكي من خشية الله، والشاكي إلى مولاه.. 

لا أحب المدح والإطراء، ولكنها حقيقة بجلاء دون مراء:


وليس على الله بمستنكرٍ *** أن يجمع العالم في واحدِ! 


(قال ذلك أبو نواس في مدح الفضل بن ربيع) 


وقال المتنبي -يظهر ابن العميد أنه جمع في علومه علوم أرسطو والإسكندر وبطليموس-:


ولقيتُ كل الفاضلين كأنما *** رد الإله نفوسَهم والأعصُرا


نُسقوا لنا نسقَ الحساب مقدَّما ***

وأتى فذلك إذ أتيت مؤخَّرا


وقال ابن الرومي في ممدوحه:


فلو حلفتُ لما كُذِّبت يومئذٍ *** أني لقيت هناك العُجمَ والعربا! 



وقال أبو مسلم العماني:


عجباً من نفسه تحمله *** فتية وهو على الكون اشتملْ


جمع العالم في حيزومه *** أترى العالمَ في القبر نزلْ! 


وقال الشاعر الدمشقي فتيان الشاغوري في ممدوحه:


يا من هو العالم في دهرنا *** يحويه جسم واحد في مكان



لا أبالغ إن قلت: أن هاته الأوصاف؛ تنطبق على شيخنا العلام؛ فقد كان يدري علوماً لم يسمع بها، ناهيك عن خبرها وسبرها.


ويذكرني بشيخ مشايخنا، بلديي العلامة المتفنن: حسين بن محمد الوصابي، تـ١٣٩٣؛ فقد حدثني شيخي العلامة قاسم البحر -حفظه الله في عافية- بما فحواه-؛ أنه كان يقال عنه، أن عنده ٨٥ علماً، لم يعرف منها علماء عصره، إلا بضع عشر منها!

"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم". 



وبعد؛

ما الذي أبكاني عن الشيخ؟!

الذي أبكاني وأضناني وأشجاني وأصماني؛ هو أني كنت أحسب أن الشيخ الفقيد؛ عاش حياة ملائمة، وحالاً موائمة، لائقة بفضله وعلمه، وسنه وقِدمه!


كنت أظن أن الشيخ كان محترماً ممن حوله!

كنت أحدس أن الشيخ كان يُتفانى في خدمته! 

كنت أخمّن أن الشيخ كان إذا قال سمع له، وإذا أمر أذعن إليه! 


هذا -وايم الله- ما كنت أظن، ولكن "إن بعض الظن إثم" فقد شدهت ودهشت.. حين أن قرأت بالأمس، عن الشيخ ما يشجي ويبكي ويدمي ويحمي، من سوء معاملة، وقسوة عبارة، ورقة حال، ورقيع خلق.. لا أظنني لوحدي الباكي والشاجي، بل كل من سيقرأ، ورزق قلباً على الحقيقة!


ألا يبكيكم.. أن الشيخ المعمر، كان يعامل من بعض مديريه في مدرسته؛ من الفظاظة والجلافة، ما لا يحتملها شاب فتي؟! 


سبحان الله! تذكرت كيف كان الطلاب يخفضون أصواتهم، وينكسون رؤوسهم، تواضعاً لعلمائهم، بين أيديهم! 


ألا يشجيكم.. أن الشيخ المكرم، منع من تدريسه الفجري المجاني، في مسجد المدرسة، فواصَله في حوشها نحو عقد من الزمان! 


سبحان الله! تذكرت قصة جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أنيس، في رحيلهم شهراً كاملاً، من أجل سماع حديث!


ألا يحزنكم.. أن الشيخ المعظم، كاد مرة أن يضرب من أحدهم، وهو يدرس في (فتح القدير) بل رمى -هذا الأصلم- الكتاب إلى الأرض؛ فدخل الشيخ الحمّام، وأخذ يبكي لمدة عشر دقائق أو تزيد! 


سبحان الله! تذكرت قول الشافعي: (كُنت أصفَحُ الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً؛ هيبة له لئلا يسمع وقعها)!

وهذا الأرعن؛ كاد أن يصفع الشيخ! يا رجل، إن لم تعلم قدر العلم، فتقدّر أهله، فلتحترم كِبَر الشيخ وشيخوخته، فلا أظن هذا يحتاج إلى تعليم! 



ألا يشجنكم.. أن الشيخ المفخم، يفصل من المدرسة التي درّس فيها نحواً من اثنين وأربعين سنة!

ثم يرسل إليه بالتهديد بالخروج النهائي إلى بلده؟! 


سبحان الله! تذكرت قول محمد بن واسع: (لا يبلغ العبد مقام الإحسان، حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة)! هذا قوله.

أما فعله: فكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري، ويقول: (قد كان لها معنا صحبة).


صوَّر أحدهم مرارة الجحود والتنكر إلى المحسن الذي يجازى بالحسنة السيئة، فقال:


عجباً لمن ربيته طفلاً *** ألقِّمه بأطراف البنانِ


أعلمه الرماية كل يومٍ *** فلما اشتد ساعده رماني


أعلمه الفتوة كل حينٍ *** فلما طر شاربه جفـاني


أعلمه الرواية كل وقت *** فلما صار شاعرها هجاني



ألا يصميكم.. أن الشيخ الموقر، كان يُبحث عن زلاته العقدية، وهناته العلمية، بل وترصد جائزة لخريت يجوس خلالها؟! 


سبحان الله! تذكرت بعض السلف؛ حينما كان يتصدق بشيء عن شيخه، إذا ذهب إليه، ويقول: (اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تذهب بركة علمه مني)! 



أليس عجيباً أن لا يواسى الشيخ في مرضه الممض، من كثير ممن يعرفه، بل لم يعزِّ أهله -من سلخ شطراً من حياته- في وفاته؟! 


لا أدري ما أقول، سوى ما قاله الشاعر المؤنق أحمد بن الحسين الكندي -وقد كان مُحسّدا-:


حسدوا الفتى؛ إذ لم ينالوا سعيه *** فالكل أعداء له وخصومُ


كضرائر الحسناء قلن لوجهها: *** -كذباً وزوراً- إنه لذميمُ


وقد كان شيخنا الباقعة.. يشعر بهذا، وصرح به أكثر من مرة، في كتاباته لمرؤوسيه؛ رجاء إنصافه! 



وقد اشتكى العلماء قديماً وحديثاً، من هذا الداء العضال، والمرض القتال..


فها هو ابن هشام النحوي، يقول حين تمّ شرح (قطره):

"وهذا آخر ما أردنا إملاءه على هذه المقدمة، وقد جاء بحمد الله مهذّب المباني، مشيّد المعاني، محْكم الأحكام، مستوفى الأنواع والأقسام.. تقر به عين الودود، وتكمد به نفس الجاهل الحسود:


إن يحسدوني فإني غير لائمهم *** 

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا


أنا الذي يجدوني في صدورهم ***

لا أرتقي صدراً منها ولا أَرِدُ


فدام لي ولهم ما بي وما بهم *** 

ومات أكثرنا غيظا بما يجدُ


وقد استشهد بهاته الأبيات؛ الشيخ ابن مهنة، بكتابه في الخطب المنبرية، واعتبره فريداً من نوعه، واعتبر نفسه موضع حسد بسببه!

ينظر: (تاريخ الجزائر الثقافي: ٨/ ١٢١) للمؤرخ أبي القاسم سعد الله. 


والأبيات: نسبها ابن عبد البر في (بهجة المجالس: ١/ ٤١٣) إلى لبيد بن عطار بن حاجب التميمي.


ونسبها الزركلي، في (الأعلام: ٦/ ٢٥٨) إلى محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الحضرمي تـ١٥٥.


وعزاها ابن عاشور، في (التحرير والتنوير: ٣٠/ ٦٣٠) إلى بشار بن برد.


وقال ابن عاشور: "... فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته؛ فيحمله على إيصال الأذى للمحسود؛ بإتلاف أسباب نعمته، أو إهلاكه رأسا". 

(التحرير والتنوير: ٣٠/ ٦٣٠)



وهذا ابن عنقاء اليمني النحوي، يقول -بسبب تعذر وصوله إلى الكتب في مقر إقامته الجديد في "ذي جبلة" وكثرة المعاندین له والحساد-: "هذا ما سنح للخاطر الفاتر، والقريحة القريحة، الجامدة الخامدة في هذا المقام، من غير مراجعة كتاب أصلاً إلا عند التبييض قليلاً، بل تسويداً من رأس القلم، بحسب الفتح الإلهي؛ لتعذر وصولي إلى الكتب، ولو بالعارية، أو الشراء؛ لرقة الحال، وصولة المعاندين على من يواصلني صولة أسد الشرى، ... لأن غالب رجوعي في كل مصنفاتي إلى حفظي، أو ذهني، وما عسى أن يكونا أو يغنيا عني ... ". 


واعجب لبعض من تسمى: طالب العلم، وتزيا بزيهم، وتشبه بسيهم، ولكن أخلاقه في الحضيض، وتعامله بغيض! 


ما وهب الله لامرىء هبة *** أحسن من عقله ومن أدبهْ


هما جمال الفتى، وإن فقدا *** ففقده للحياة أجمل بهْ! 



قال الإمام أحمد بن حنبل: (هم خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا).


وقال أيضاً: (لحوم العلماء مسمومة، من شمّها مرض، ومن أكلها مات). 


وقال ابن المبارك: (من استخف بالعلماء؛ ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء؛ ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان؛ ذهبت مروءته). 


وقال ابن الأذرعي: (الوقيعة في أهل العلم، لا سيما أكابرهم؛ من كبائر الذنوب). 


وقال أبو سنان الأسدي: (إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح). 


وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلم عنده على أحد الناس: (مه.. لا تذكر العلماء بشيء؛ فيميت الله قلبك). 


وقال ابن عساكر: (واعلم -يا أخي- وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب). 


قال ابن القيم: "وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه. وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره.

فما استجلب خير الدنيا والآخرة، بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب".

(مدارج السالكين: ٢/ ٣٦٨)


وأياً كان تذرعهم؛ فإنه ساقط، لا يخرجهم من سوء أدبهم، وبجاحة نفوسهم، وصفاقة وجوههم، وقلة توفيقهم..


وتذكر زوج الشيخ -أم رضوان-: أن فصله من المدرسة -بعد صحبة نصف قرن فيها- كان من أسباب موته؛ إذ أنه تألم غاية منه، وتكدر لبه، وتنكد عيشه؛ فتسارعت إليه العلل، وغادرنا -مؤسوفاً عليه- بعد سنة واحدة من الفصل "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" "يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" والله المرجع والموعد:


وإلى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزانِ



وأخيراً، أدعو بما دعا به بعض النساك: (اللهم صُنْ وجوهنا باليَسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذَمّ من منع، وأنت مِن دونهم وليّ الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء، ياذا الجلال والإكرام). 


وأضيف ما قاله الأديب مصطفى لطفي: (اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك، أمرت فأطعنا، وابتليت فرضينا، فأمطرنا غيث إحسانك، وأذقنا برد رحمتك، وألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين). 


وكتب: أبو نَعيم، وليد بن عبده الوصابي. 

١٤٤١/٤/٢٢

ليلة الجمعة المعظمة، بمكة المكرمة.




ورحل الزاهد العابد .. المكابد المجاهد!

ورحل الزاهد العابد .. المكابد المجاهد!

#وفاة_علم

رحمك الله أيها الفذ الفرد، وأسكنك جنة الخلد.

وكأني بك -بإذن الله- كما قال القائل:

فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قر عيناً بالإياب المسافر


فقد جاهدت نفْسك، وكابدت نفَسك، وأسهرت ليلك، فأنهرت غيلك.

لا أنسى تلك الوقفة التي وقفتها أمامك، وأنت ملقى على فراشك، لا تحيل حراكاً، ولكن كأن عينك لسان ناطق!


لا أنسى تلك الضمة الرفيقة الرقيقة على يدي بيدك المرتعشة، وكأنك تشير لي بالجلوس.. وأنت مضنى الجسد، لكنك مترع القلب، مشرح الفؤاد.


كم تمنيت أني جالستك وثافنتك، ولكن: قبح الله مقطعي الأوصال، ومفرقي الأخلال!


آهٍ شيخي؛ ليهنك العلم، ولتهنك التواليف، ولتهنأ -بإذن الله- بنومة العروس التي -لربما- لم تشغل بها في حياتك!

ولم يشغلك عن العلم أنيق روض، أو متين حوض!


ولم يشغلك عنه أنيق روضٍ *** ولا دنيا بزخرفها كلفتا


وعزائي للعلم وطلابه، وأولاد الشيخ وأحبابه، ولداته وأترابه، والمسجد الحرام ومحرابه، والبيت وترابه.. "إنا لله وإنا إليه راجعون".


أجزم؛ أنك لم تقدر حق قدرك، ولم توفِ حق سعيك؛ لكن: الله خير مكاف ومواف، ومواس ومؤاس، وأما الخلق؛ فهم مصدر الضر والغر والحر والشر "إن شانئك هو الأبتر".


وكتب -الأسف-: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤١/٣/٧

الأحد، 31 أكتوبر 2021

توالي الفقد على عائلة المحقق حسين أسد!



توالي الفقد على عائلة المحقق حسين أسد!

#وفاة_علم


توفي قبل سنوات، المحقق عبده كوشك، صهر الشيخ حسين أسد، وقبل عشرة أيام، توفيت زوجه، وبعدها بأسبوع، توفي ابنه المحقق مرهف.


واليوم، توفي (والدهم) المحقق القدير حسين سليم أسد الداراني، الشهير، بـ حسين أسد!(١)


هذا المحقق الذي كان مغموراً برهاً من الدهر، ثم قدّر لاسمه أن يلمع، وقيله أن يسمع!


ولطالما، صفَحت (مسند أبي يعلى الموصلي) فأجد علمه حاضراً، وحكمه بارزاً.

وله تحقيقات أخرى، منها: (مسند أبي يعلى) و(ومسند الدارمي) و(مسند الحميدى) و(موارد الظمآن) و(مجمع الزوائد) و(مسند عبد الله بن الزبير)


وكان مشتركاً في بعض أعماله مع غيره، أمثال: صهره عبده كوشك (زوج ابنته) الذي توفي في حادث سير، عام ٢٠١٥م ومع ابنه مرهف، الذي توفي قبله بأيام!


فـ إنا لله وإنا إليه راجعون، وأسأل الله.. أن يربط على هذه العائلة قلوبهم، ويلهمهم الاحتساب، ويوزعهم الشكر، ويعينهم على الصبر.


وإن موت أمثاله، من أهل العلم والتحقيق؛ لهي ثلمة في سماء المعرفة.

رحم الله هذا العالم العَلم- رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار.


وكتب: أبو نعيم الوصابي

١٤٤٣/٣/٢٥



ح..... 

أفادني الأستاذ أيمن ذوالغنى: أن أصل لقب أسرة الشيخ في الوثائق العثمانية (أبو أسد) ثم أسقطوا (أبو) اختصاراً.



السبت، 16 أكتوبر 2021

محمود شاكر.. متضلعاً لا متنطعاً!

 محمود شاكر.. متضلعاً لا متنطعاً!


ما بين آونة وأخرى، نسمع نقداً، أو قل: طعناً جلياً أو خفياً، في بعض العلماء الأفذاذ، من بعض الناس، وربما كان هؤلاء الناس، من الأساتذة أو الدكاترة!


وليت هذا النَّيل، كان نقداً لأجل التقويم والتقييم، كنا أفدنا نفعاً وخيراً، لكنه غمز وهمز ولمز، في الأعم الأغلب، وربما كان نقداً، لكنه نقد مثخن بالسخرية، ومغرق بالتهكم، ومشوب باللذع والخدع!

ثم يُزعم، أن ذلك، لإرادة الحق، وتوخي الصدق، والنقد عن هذا الزعم، بمعزل!


وإن العلامة محمود محمد شاكر.. قد نال قسطاً وافراً، وحظاً زاخراً، من هاته الطعون والمطاعن، وذلك في حياته وبعد مماته!


أما في حياته.. فقد كفى الجميع، مؤونة الرد والدفاع؛ إذ كان قلمه قائماً لا يكبو، وحجته واضحة لا تخبو، ورده المخرس، يلجم الخصم إلجاماً، ويتركه يتخبط حيراناً، فلله هو.


وأما بعد موته.. فقد أقام الله لمحمود، رجالاً "يهدون بالحق وبه يعدلون" فدفعوا ودافعوا عن هذا الأسد وعرينه؛ لأن محموداً، لم يكن فذاً يجادل عن نفسه، بل هو فرد ينازل عن أمة- ذاذ عن حياضها، ودفع عن حاضرها وماضيها، وجادل عن لغتها وعروبتها.

ولا نقول بتعصيمه -عوذاً بالله-، لكنا نزعم، أنه أراد الحق، ونشد الصدق، وجادل المبطلين؛ "لتستبين سبيل المجرمين"!


وإن مما نِيل من محمود، وقيل فيه: أنه متقعر اللفظ، متكلف العبارة، متشدق الكلمة!


ولعمر الحق، إن هذه عورة عرية، وصبوة جلية، تنادي على صاحبها- بضعف اللغة، أو قلة الإنصاف؛ لأن ما فاهه محمود في تواليفه، ومقدمات تحاقيقه وتضاعيفها؛ لهو السهل الممتنع، والعذب المنورق، والسليم المنور، ولا يخلو ما قاله، ولا يخرج عن: القرآن الكريم، والسنة النبوية، أو الكلام المعجمي، وفصيح الشعر، وصحيح المثل.

فماذا أنتم قائلون؟!


قال الرافعي -عن ابن عباس- في (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ٥٣): "وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان -رحمه الله- يقول: الشعر: ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب؛ رجعنا إلى ديوانها؛ فالتمسنا معرفة ذلك منه".


فكيف، إذن، نصف محموداً، بالتقعر أو التشدق أو التفيهق، وهو لم يخرج عن الأصل الأصيل، والحق الصريح، اللهم، إلا جهلنا بقلة فهمنا للعربية، أو تحاملنا على هذا المجاهد المغوار.

وإنا نبرأ إلى الله من قلة الإنصاف، ونأطر أنفسنا على درس العربية وفقهها.


وعن بعضهم -وقال له قائل: أسألك عن حرف من الغريب-، فقال: هو كلام القوم، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه!

(غريب الحديث: ١/ ٧١) للخطابي.


وإن التكلم والتخاطب والتكاتب، بالفصيح الصحيح الصريح.. ليس من التنطع والتكلف؛ لأن الغرابة نسبية من شخص وآخر، فكيف لنا أن نقيسها؟!


وإن المعتاد في قراءة كتب الأسلاف، وممعن النظر فيها، على اختلاف مشاربها ومشارعها؛ لا يجد فيما خطه يراع محمود.. غرابة، ناهيك عن التنطع، اللهم إلا غرابة، على من لم يسبر الطريق ويأنسها.


ولعمري، إن وجود محمود شاكر وأضرابه.. نعمة جلى، ومنة عظمى، أُسديت إلى هذا الزمن الغابر، وجيله الآخر، الذي بُلينا فيه، ببعض ذوي الرتب الأكاديمية في الأدب العربي ونحوهم من الناس- مَن يتناول أهل العلم والفضل والغيرة، مثل محمود وأمثاله؛ لأنه لم يفهم لغتهم الجزلة، وذائقتهم الباذخة، ومعانيهم الرفيعة؛ فوصفهم بالتقعر، ووصمهم بالتمحل!


إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ *** مصيب، ولم يَثْنِ اللسان على هُجْرِ

 

يُصَرِّف بالقول اللسان إذا انتحى *** وينظر في أعطافه نظرَ الصَّقْرِ


ويا أخي، بدل أن تسدّ عيبك، وتكمل نقصك، وتقيم أودك، وتقوم عوجك.. أتيت إلى البزل القناعيس، فرميتهم بدويهاتك؟!


ولا أدري، -وأستغفر الله- لعله يأتي زمن، يقال: أن في كتاب الله تعالى، الحوشي والوحشي -عوذاً بالله ولوذاً-!


قال الشافعي: "لسان العرب.. أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، وما نعلم أحداً يحيط بجميعها غير نبي، ولكنها لا يذهب منها شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها. والعلم بها عند العرب، كالعلم بالسنن عند أهل الفقه".


وقال الأزهري: "من جهل سعة لسان العرب، وكثرة ألفاظها، وافتنانها في مذاهبها.. فقد جهل جمل علم كتاب الله"!

(تهذيب اللغة: ١/ ٦) 


فهل درى النقدة القعدة.. معاني القرآن الكريم، وهل فهموا لغته المتينة، التي ألّف العلماء في غريبها، وصنفوا لتقريبها؛ ليفهمها من لم يعتدْ لغة العرب؟!


ولا غضاضة ولا إزراء، على محمود ونحوه، ممن يعيدون اللغة إلى رعيلها الأول، وزمانها الفصيح، وقرونها النصاعة، مع تزييف الدخيل والهجين، الذي يصك الآذان، وتلفظه الألسن.


ولا غرابة.. أن نلفى في كتابات محمود، البيان الناصع، واللفظ الأصيل، والكلمة القعيدة، فإنه حفل باللغة ولم تمط عنه التمائم، فقد اطلع على الشعر الجاهلي، وعالجه حتى هضمه، وهو دون العشرين، ثم أبداه على صفحات طروسه، فرد على المبطلين، وجادل أهل الانحراف، حتى نال ذلك من صحته، وخرج من بلدته!


إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ *** بمنطلقات لا ترى بينها فصلا


شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع *** لذي إرْبِةٍ في القول جداً ولا هزلا


وأحدّث هؤلاء الشانئين، بخبر عن العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر مع أخيه العلامة اللغوي محمود بن محمد شاكر..


جاء في (مجلة الأدب الإسلامي): قال أحد الأساتذة في كلية الآداب: كنت في بيت العلامة محمود شاكر، فأمسك نسخة من "لسان العرب"، وإذا بعلاَمة كل عدّة صفحات، أو ربما في الصفحة الواحدة وهي علامات غير منضبطة!

فتحيرت جداً لمغزى هذه العلامات، وما تدل عليه؟

فأردت أن أسأل الشيخ محمود شاكر؛ لكني خشيت هيبته وتوبيخه (فقد كان شديداً -رحمه الله-) إنْ كانت هذه العلامات تشير لشيء واضح؟!

ثم تشجعت، وسألته، فتبسم -رحمه الله- وقال: رحم الله أخي الشيخ أحمد؛ فقد كان يضع لي علامتين، ويقول لي: احفظ من هنا لهنا؛ وسأسمع لك!


صموتٌ إذا ما الصمت زيَّنَ أهله *** وفَتَّاقُ أبكارِ الكلام المخَتَّمِ


وعى ما وعى القرآن من كل حكمةٍ *** ونِيطت له الآداب باللحم والدمِ


وهذه جادة مسلوكة لأهل العلم الماضين؛ إذ أن حفظ اللغة من حفظ الإسلام.

ولكن، من يطيق ما أطاقه محمود؟! اللهم إن محموداً، لغب وجشب في سبيل لغة أمته، فاجزه كفاء ذلك ما أنت أهله.


وحري أن يرتفع القارئ والسامع، إلى هؤلاء الأقرام السمادع، لا أن يطلب نزولهم إلى المخادع، فإن العلو مطلب الشرفاء، وموئل الأصلاء، ولا يزال النازل يشدو ويحدو حتى يصل العلياء، ويصافح الجوزاء!


يقول الرافعي: "إن الأديب الحق.. هو الذي يحاول أن يرفع قراءه إلى مستواه درجة درجة، فيرقى بهم ويرقى بالأدب، لا الذي يحاول أن ينحط إلى مستواهم درجة درجة، فينزل بهم وبالأدب جميعا".


وأعجبني وصف الأستاذ أحمد أمين، لأستاذه عاطف بركات، حيث قال عنه، في (حياتي: ٢٣٧): "فهو يكره سفاسف الأمور، وتوافه القول، وإذا تدنّى محدِّثُه= رفعه هو إلى مستواه، فكان بذلك مهيباً جليلاً"!


وهكذا قابل المترجم عادل زعيتر، نقاده الذين انتقدوه في استعماله ألفاظاً معجمية غير معلومة.

كما في (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره: ١/ ٣٢٠)


وتحضرني قصة في هذا المعنى، سمعتها من شيخ البلاغة الدكتور محمد محمد أبو موسى، يتكلم عن مجلة الفصول التي يخرجها الأستاذ عز الدين إسماعيل، يقول -فيما معناه-: كنت أقرؤها فلا أفهمها، فأعود باللائمة على نفسي، حتى وجدت أحد الأدباء، فاشتكى لي نفس ما أجد!

فحمدت الله على ذلك.


ثم أجري مع الأستاذ عز الدين، لقاء، وسألوه: لماذا تكتب بهذا الأسلوب؟ فقال: أريد من القراء أن يرتفعوا إلى هذا المستوى!

علق الدكتور محمد أبو موسى: أنا لم أستطيع أن أرتفع على ما عندي، هذا ما عندي!

أو كلام هذا مؤداه ومعناه!


قلت: إن المذموم المذؤوم، هو ما كان أشبه بالرموز والطلاسم، الذي لا يفهمه الأساطين؛ لأنهم الحكم في وحشي الكلام وحوشيه، وجزله وسوقه، لا الأغمار الأقماع الذين لا يفرقون بين الفتيل والنقير والقطمير، ولا بين الكوع والكرسوع، ولا بين الشحمة والجحمة!


و‏في (البدر الطالع: ٢/ ٢٤٨) في ترجمة أبي الفضل المشدالي، تـ ٨٦٤، قال الشوكاني: "ودرّس الناس في عدّة فنون، فبهر العقول، وأدهش الألباب على أسلوب غريب، بعبارة جزلة، وطلاقة كأنها السيل، بحيث يكون جهد الفاضل البحاث.. أن يفهم ما يلقيه!

حتى قال له الطلبة: تنزل لنا في العبارة، فإنا لا نفهم جميع ما تقول؟! فقال: لا تنزلوني إليكم، ودعوني أرقيكم إلي، فبعد كذا وكذا مدة -حدها- تصيرون إلى فهم كلامي، فكان الأمر كما قال"!


وليس محمود وحده، مَن أخذت عليه هذه الآبدة -بزعمهم- بل هي سبيل أولي البلاغة والصدع، ودرب أهل الفصاحة والصدق.. أمثال: الأديب الغيور مصطفى صادق الرافعي، والأديب الغيور مصطفى لطفي المنفلوطي، والمترجم الكبير عادل زعيتر وغيرهم ممن نحى هذا المنحى المليح.


ويالله، كم فقد هؤلاء الناس، من لذة، وحرموا من متعة، في ذلك الكلام المزبور، الذي لا يملّ مع كثرة التكرار، بل يزداد جمالاً وجلالا.


قال الجاحظ: (ليس في الأرض، كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشدّ اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويماً للبيان.. من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء).

(البيان والتبيين: ١/ ١٣٦)


فاللهم نسألك.. أن تمتعنا بهذه النعم، وتديم علينا ذياك المنن، وتزيدنا من تياك اللذذ، غير جاحدين ولا حاسدين، وألحقنا بالصالحين الفالحين غير محرفين ولا مبدلين.

"إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين".



وكتب:

أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٣/٣


السبت، 9 أكتوبر 2021

ذِكَر.. مع قطرات المطر!

 ذِكَر.. مع قطرات المطر!


خلدت إلى فراشي بعد نهار طويل، ذهبت فيه وأتيت، وفرحت وأنّيت.

تقلبت بي الأطوار -والحمد لله- بين فرح وألم، وحزن وأمل، ثم جاء الليل، لتسكن فيه نفسي، وآوي إلى أولادي وعرسي..


ولكن الليل، وما أدراك ما الليل؟ مبثّ الآهات، ومزار الآلام، ومُشتد الهموم، ومجثم الأحزان، (والليل أخفى للويل) كما تقول العرب العرباء، فتشرب فيه الصهباء، ويكون فيه أنواع من البلاء، تحت ستر الليل الأليل، والظلام الأخيل. 


وهو نعمة عظيمة، وآية فخيمة: "وجعلنا الليل والنهار آيتين" فجعله الله آية: تسكن فيه النفوس، وتأوي إليه الأجساد، بعد اختفاء الشموس، لتجد الراحة والطمأنينة، فواعجبي ممن يُسخّر هذه النعمة، معصية ونقمة "ألا ذلك هو الخسران المبين"!


خرجت عن قصدي الذي أردت قوله، وهو: أني أرزح في نومي، وأشرع في عومي، بجوار نافذةٍ نافذة؛ إذ بي أسمع أملاً، وأحس خملاً، فإذا النوم يغادر، والنفس تبتهج، والقلب يسكن، ففزعت: حامداً شاكراً ذاكراً.


ما أرحمك ربي وأكثر عطاياك، وما أسوأ فعل بعضنا تجاه أنعامك وأفضالك: (اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا).


شممت ذلك الريح الرائح، والطيب العبق- الذي ينشره المطر، ويبعثه القطر، فيعطر أنوفنا المزكمة بالروائح الكريهة، التي بثتها المدنية الكاذبة، وجلبها الإنسان الظلوم الجهول.


المطر -يا قوم- نعمة جليلة من الله الكريم الرحيم، يبثها بين خلقه، بعد أن أمحلت قلوبهم، وأجدبت أرضهم، فيجعلها الله لهم متاعاً ونفعاً، "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" فلك الحمد ربنا، والشكر لك.


وناشدت الله رجالاً ونساء.. أن لا يتخذوا من هذه النعمة، معصية وانحلالاً، ولغطاً واختلالاً "ويحذركم الله نفسه" (فإن ربكم يغار، وغيرته؛ أن يأتي المرء ما حرم الله).

فاحذروا غضب الله وسخطه، فإن الله رحيم، ولكنه -سبحانه- يغضب حين تنتهك حُرمه.


إذا ما تجدد فصل الربيع *** تجدد للقلب فضل الرجاءِ


عسى الحال يصلح بعد الذنوبِ *** كما الأرض تهتز بعد الشتاءِ


هذه تذكرة لنفسي، ولبني جنسي، كتبتها حين رأيت الغيث همى، والنبات نمى، فبادرت أن لا يظل الإنسان في عمى، وأن لا يقترب من الحِمى!


وكتب: وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٧/٧/٢

١٤٤١/٤/٤



#مقالاتي_ومقولاتي

#أنابيش_الكنانيش



الأربعاء، 6 أكتوبر 2021

ماذا يصنع من أغلقت في وجهه الأبواب؟!

 ماذا يصنع من أغلقت في وجهه الأبواب؟!


اضطجعت قليلاً في المسجد، ريثما يؤذن لفريضة العصر؛ إذ جاءني شاب أحدسه في عقده الرابع، سلّم علي، قائلاً -بتلعثم وحشرجة-: عذراً على الإزعاج، ثم أردف: ماذا يصنع المكروب .. وتابَع: ماذا يصنع من أغلقت في وجهه الأبواب؟!


استويت جالساً، وقلت -متلعثماً؛ لأنه كان متلعثماً-: يدعو بدعوة نبي الله يونس (ذو النون) عليه السلام: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".


هز رأسه، وقال: والله، إني وأهل بيتي، لم نجد ما نتقوت به منذ يومين!

نظرت إليه، -ولم يكن معي شيئاً- وقلت له: أحسِن الظن بالله سبحانه، وفرَج الله قريب!

قال: والله أني محسن الظن بربي، -والحمد لله- ولكن تعطلت الأعمال، كنت أعمل في شركة، فلما أقفلت، أقفلت علي الأبواب!

انصرف، وفي قلبي من الحسرة واللوعة ما فيه، ولكن خير ما تعزيت به: الاسترجاع، والحولقة.


لمحته اليوم الثاني، فابتسمت له، فجاءني يجرّ خطاه، ويتعطف محياه، وقال: عندي مصحف مجزّأ إلى ستة أقسام، هل تشتريه مني؟!

أخرجه من جيبه، وأعطانيه.


أخذته وقلّبته، ثم أرجعته إليه، وسألته عن ثمنه، إذا هو باعه -دون قصد الشراء-.. فأعطيته نحواً مما قال، والكل -علم الله- في حياء واستحياء!

وقلت: اجعل المصحف معك!

قال لي: طيب، أيش الفايدة، أعطى قيمته، بدون ما تأخذه؟!


ثم قام متأبطاً المصحف الكريم، وهو يدعو ويشكر.


هذه قصة، مرّت بي، ومررت بها، آذتني وأقذتني، فأردت إبداءها لبني الإنسان؛ ليشكر الله تعالى ويحمده من يملك قوت يومه، وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حِيزت له الدنيا بأسرها).

رواه البخاري في (الأدب المفرد) والترمذي، وحسنه الألباني، عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي، وكانت له صحبة.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢/٤




الأربعاء، 29 سبتمبر 2021

تملّك منزلاً بعد عجزه عن الاستئجار!

 


تملّك منزلاً بعد عجزه عن الاستئجار!


مكتهل معول معيل، كان يزاول أشرف مهنة، ففقد راتبها مع الفاقدين، من أبناء بلدي السليب!


هدده مالك المنزل، بدفع الإيجار أو الخروج، دون مراعاة لحال أو صحة أو إعواز!


ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض برحبها .. لديه بنيّات -وما أثقل البنات في الحفظ والصون والرعاية والاكتساب!- كيف يصنع؟ ماذا يفعل؟ أين يذهب؟


ذهبت زوجته إلى أختها، واقترضت منها خاتم ذهب، ذهب لبيعه، فلقيه مقدم برنامج، فسأله سؤالاً: كم رمضان، صام النبي صلى الله عليه وسلم؟

أجاب على الفور: فُرض الصيام في السنة الثانية، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة الحادية عشرة = صام تسعة رمضانات.


أعطاه عشرين ألف ريال يمني.. مكافأة الإجابة، وهي طريقة فاضلة، إعطاء في شرف!


انبلجت أسارير وجهه، وافترّت أسنانه عن بسمة مخنوقة، ولهج بالدعاء والشكر والحمد.


ثم سأله المقدم عن قصته، وعن سبب بتر قدمه؟

فتأوه، وقال: خليها على الله. فلما أصر عليه، أخبره بأمراضه الكثيرة والكبيرة، وهو يحمد الله ويشكره.


ثم سأله المقدم سؤالاً آخر، وهو: ما هي دعوة ذي النون؟

فقال: دعوة ذي النون، هي دعوة كل مضطر -الأنبياء يعلموا الناس- والله إذا ضاقت، ما أقول إلا: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)


وأضاف: عندي أمنية في نفسي، وأنا دعوت الله عز وجل، وأسأل الله.. أنه ما يحرمنا.. أنا عارف، ربنا رزق العالم، ما يعجز بي أنا!


قال له المقدم: أيش أمنيتك؟

قال: أمنيتي ما حد يقدر لها إلا ربي.. أمنيتي، أن الله عز وجل الذي رزق العالم كلها.. أنه يؤوينا أنا وأولادي ببيت، أعيش فيها أنا وأولادي، لا حد يطردنا منها، وكل شهر يهددنا!


وأضاف: أنا أستاذ، أنا كنت أستاذ، والحمد لله رب العالمين، وهذا ابتلاء من الله.

لم تنته القصة الشريفة..


ذهب كل في حاله.. الرجل إلى بيته وأهله وأولاده، فرحاً مسروراً. والمقدم -جزاه الله خيراً- يسعى في تحقيق أمنية الأستاذ، فكدّ ودأب، حتى استطاع بإذن الله وعونه.. أن يشتري له أرضاً، ثم استطاع أن يبنيها له!

كل هذا بجده واجتهاده، ومعونة أهل الخير، وأحدس أن أكثر المتبرعين، ليسو من الأغنياء، كما هو عهدي ببني قومي.


فلما أطلعوه على البيت، وقابلوه فيها، أخبره المقدم، أن هذا البيت أصبح الآن ملكاً له، ولا يجرؤ أحد أن يخرجه أو يؤذيه!


نظر بدهشة إلى المتحدث، وبكى قائلاً: لا إله إلا الله، يا رب لك الحمد، هذه بيتي أنا؟ عمري، ما حلمت أنّي أمتلك بيت، لكن أملي في الله ما انقطع والله، أملي في الله ما انقطع!

وازداد بكاؤوه، وارتفع نشيجه، وقال: أنا ما أدري كيف أعبّر؟!

أنا رجل مصاب بثلاث جلطات، وعندي بنات أمانة وحِمل، وولد مسكين ما يعرف يشتغل، يستهزؤوا به الناس، ثم قال: المُلك لله، وأسأل الله أن يضاعف أجوركم.


ثم سجد سجدة شكر، أطالها بالدعاء والبكاء والثناء.


ثم أعطاه المقدم، مالاً، وقال له -مداعباً-: تكفي؟

قال: خير وبركة .. خير وبركة.. ثم زاده شيئاً، فردها، وقال مبتسماً: أحسّ بالاكتفاء، الحمد لله رب العالمين، كان هدفي، بيت أستأجره ستة شهور أو سنة أو أي شيء!


قال له المقدم: لكن أنت محتاج، وهذي لك؟

قال: في غيري محتاجين كثير .. في غيري محتاجين كثير، وربنا كريم، والدنيا لله، واحنا رايحين.. إيش بسوي بالفلوس ذي كلها، كلها بتنتهي، أنا كنت أعتبر نفسي فقير أولاً، لكن الآن أعتبر نفسي غني، ولا أحتاج إلى أي شيء.. أحتاج إلى من يقول لي: مبروك يا أستاذ خالد، الله يبارك لك.

فعانقه المقدم، وقال له: مبروك يا أستاذ خالد، الله يبارك لك.


ثم قال الأستاذ: ما أتصور دلحين ردة فعل زوجتي وأولادي، كيف تكون ردة فعلهم، ما أدري إيش بيقولوا.. إحنا آلفين من بيت لبيت، كيف لما نقول لهم: كذا مرة وحدة، ربي رزقنا بيت.


ثم قال له المقدم ممازحاً: باقي معانا حاجة واحدة، بعد ما وفرنا لك البيت بنزوجك، ما رأيك؟

فأجاب: البيت تمام، على عيني وراسي، الحمد لله، جزاكم الله خير، وحفظكم الله، لكن أم أحمد ما برضابهاش (ما أرضى عليها) أم أحمد تحملتنا، وصبرتْ علي، على فقري، وعلى نقلتي من بيت لثاني، وكنت أقول: أبغى بيت، فكانت تقول: يا ابن الحلال، خليها على الله، لا تفكر.

هي الذي تصبرنا في الموضوع.



هذه قصة جرت في أيامنا هذه، في بلدي المكلوم المكتوم المكظوم -شفى الله كَلمه، وكشف كتمه، وأبرأ كظمه- تَحمل في طياتها دروساً وعبراً.

أتركها لفطنة القارئ، وهو على إدراكها بصير، لا تحيج كد ذهن، أو إعمال فكر، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢/٣




الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

بابا، أنا جاوعة!

 بابا، أنا جاوعة!


هكذا -والله- سمعت هذه الكلمة الموجعة، من رجل في أواسط عمره، هكذا تقديراً مني، ولم أتبين وجهه؛ لأني لم أردْ أن أراه على حال لا يرضاها، (وأي حُرٍ يحب أن يرى ضعف الناس، سوى الأهجان؟!) ثم هو -كان الله له- كفاني هذا العذاب النفسي، فازورّ بوجهه إلى حيث لا يُرى؛ حياء وخجلاً! (وأي أبِيٍ يود إبصار الناس ضعفه؟!)


حينما ذكر ما قالت له ابنته، ولم يجد طلبتها.. نشج ونحب!

وحُق له -والله- ذلك.


وأي بلاء أمض وأحرض.. أن يطلب أولادك، ما يقيم أودهم، ويسدّ رمقهم، فتعجز!


والجوع، ليس بالمصطبر عليه، هذا للعتل الجافي، فكيف بالصغير الحافي؟!

وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم، من الجوع، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع).

رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني.


قال الطيبي: "استعاذ منه؛ لأنه يمنع استراحة البدن، ويحلل المواد المحمودة بلا بدل، ويشوش الدماغ، ويثير الأفكار الفاسدة، والخيالات الباطلة، ويضعف البدن عن القيام بوظائف الطاعات".

(الكاشف عن حقائق السنن: ٦/ ١٩١٧)


وكأني به، وقد تمنى أن لم يكن تزوج، أو لم يكن أنجب، بل وُدّ أن لا يكون وُلد، قبل سماعه هذه الشكوى المحرِضة!


لا أقول هذا اعتراضاً ولا انتقاضاً، وإنما من بابة قول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم)! متفق عليه.

 

إن البلاء طم وعم وغم وحم وصم، والبلاد دهستها الحروب، والمقتدر شح بما عنده؛ خوف النفاد!


ورأيت ديكاً مُتْخماً شَبِعاً ولمْ *** يرمِ الفُتات لجاره الجوعانِ!


والفقراء يصطلون بنار الغلاء، ويشكون قلة الحيلة!

لكنهم:


قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم *** لكنهم من قدور الغير ما أكلوا!


لكن، الناس (وأعني بالناس: الفقراء، أما المياسير، فقد اتكلوا على ما عندهم!) لم يعدموا الثقة بموعود الله تعالى، ولم يتخلوا عن التوكل على الوكيل، مع بذل الأسباب الشرعية، ولكن الأسباب، قد شحت جداً، وربما في بعض البلاد، عُدمت!


الجوع يسكن بيت كل معلّم *** والبؤس درساً في المدارس ساريا!


وهناك كلمة لا يزال طنينها يرن في أذني، لطالما لامستني: (لا أحد يموت من الجوع) وهكذا هم ماضون في حياتهم وحيواتهم، لا يفارقون الأمل، وإن ضاجعوا الإملاق، ولم يغادروا الفأل، وإن توسدوا الإعواز!


واليقين بالله سبحانه، والثقة بما عند الله.. أن يزول هذا البلاء، ولن يطول بإذن الله تعالى؛ فإن الأيام دول، والدهر قلّب، والأيام حبالى، يوشك أن تلد السمان، والرحمن كل يوم هو في شان!


ولو عليك اتكالي في الطعام إذاً *** لكنت أول مدفون من الجوعِ


فاصبروا يا قوم وتصبروا، وتمسكوا بإسلامكم، وتدثروا إيمانكم، وتوشحوا الإحسان، وتراحموا فيما بينكم، و"لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا" فالصبح لائح، والفرج آت، والنصر قريب "أليس الصبح بقريب"؟!


اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، وارزقنا التحمل والتجمل، والصبر والرضا، والفأل والأمل.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢/٣




الأحد، 12 سبتمبر 2021

ربي ما ينساش أحد!

 


ربي ما ينساش أحد!


هكذا سمعت هذه الكلمة الموحِّدة المؤمنة المتوكلة، من صغير، أظنه في عشره الأولى -أطال الله عشراته-.


وهذه الشين، تقرب من شين الكشكشة، وإن كان فيها توسع في الاستعمال؛ لأن الكشكشة -كما قال الليث- هي: إبدال الشين من كاف الخطاب المؤنث خاصة.


أقول: لا أدري دوافعها، ولا أعلم مكتنفاتها.. إلا أني رأيته راكباً دراجة نارية، وأمامه أنبوبة (أسطوانة) غاز، وهو فرح مسرور، ثم فاه بتيك الكلمة الصادقة.


وأحدس.. أنه حينما حصل على نصيبه من الغاز؛ -وحصول الغاز عندنا، مشح متعب- سُرّ وابتهج، فعبر عن فرحه وإيمانه، في آن واحد، بذلك الرضا القلبي، والشرح الروحي!


ودرجة الرضا.. منزلة منيفة، ومرحلة شريفة "ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم"، هذا للمكلفين العاقلين، فكيف بصغير لم يبلغ الحلم، بل لم يناهزه!


لم أتمالك نفسي، أن قلت -متلفظاً مكرراً-: الله أكبر!

ثم إني اتجهت لنفسي موبخاً مبكتاً: أيكون طفلاً، أولى بهذا الفضل- منك؟!

ثم عدت إلى بعض الآيات في الموضوع، منها: "وما كان ربك نسيّاً" "في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" وهنا النسيان، بمعنى: نفي الغفلة والذهول عن الله تعالى، جل وعلا وتقدس وتعظم.


وجاءت آيات أخر، فيها ذكر النسيان، بمعنى: الترك والإهمال، وهذه من صفات المقابلة، مثل، قوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم" و"فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" و"فذوقوا بما نسيتم لقاء ربكم إنا نسيناكم" و"إذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل" و"قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم" و"لا تكونوا كالذين نسوا الله من قبل فأنساهم أنفسهم".


فيلحظ من الآيات.. أن الله تعالى، لا ينسى عباده، من: رزق، وتدبير، وإحاطة، وحساب، ومراقبة.

وما دام الإنسان، مؤتمِر بأمر الله، ومنته عن نهيه تعالى.. فإن الله تعالى يوفقه ويهديه ويعينه ويسدده.


قال ابن عباس: نسيهم اللّه من الخير، ولم ينسهم من الشر.

وجاء عند مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول اللّه تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتي).

رواه مسلم.


اللهم رضنا، وارض عنا، وارزقنا الرضا بالقدر، واجعل فيه اللطف، والرضا بالنصيب، واجعل لنا منه الأوفر.

اللهم اجعل قلوبنا ساعية إليك، باحثة عنك، غنية بك عن العالمين.

اللهم ارزقنا الرضا الذي يجعل قلوبنا عامرة، وهمومنا عابرة، ونفوسنا غامرة.



وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤٣/١/٢٥



الجمعة، 10 سبتمبر 2021

قِتْلة من قَتَلة رقّ لها العتلة!

 قِتْلة من قَتَلة رقّ لها العتلة!


بينا أنا أقلّب هاتفي؛ إذ وقع بصري على اسم (عبد الله الأغبري)! لا أدري، ما الذي دعاني لقراءة القصة -وليست هي عادتي-!


قرأت القِصة .. ورأيت القَصة .. شاهدت مقصلة .. وناظرت مذبحة .. ثم وجدت بأسفل الخبر، مقطعاً مرئياً قصيراً، (وأستغفر الله من مشاهدته؛ لأننا أصبنا بتبلد الأحاسيس .. شاهدنا، فكان ماذا؟!).


أقول: أثناء قراءتي ومشاهدتي، التي لم تتجاوز دقيقتين.. قفّ شعري، ورفّ بشري، ولم أكد أصدق ما أقرا، ولم أوقن بما جرى، وقلت: لعله عملاً مفبركاً منمقاً مزوقاً؛ وذلك لبشاعة الجاثمة، وشناعة الحائمة!


والله، لا زلت إلى ساعتي، وأنا أسائل نفسي: كيف نزعت الرحمة من قلوب هؤلاء الرعاع؟ كيف تحملوا تلك الآهات، وهي تلهب الأسماع؟ كيف صبرت هذه الأنفس الجريئة، على نظر تيك الدماء الشاخبة، وهي تُنتزع من روح بريئة؟!


تساؤلات، ذهبت كلها أدراج الرياح، فقد حصلت الجريمة وتمت وعمت وغمت وجمت وصمت ورمت ونمت وقمت، ولا بلاغ إلا بالله القوي الجبار.


ما الدافع .. ما الحامل؟

ما هو الخطب .. ما هو الجرم؟!

لم يعرف الجواب الفيصل الفاصل، ولكن مهما كان هو السبب وفداحته.. فلا والله، لا يشفع لجريمتهم النكراء، وجريرتهم العقراء، أي علة أو سبب، فقد تجاوزت كل المقاييس والنواميس، والحدود والسدود!


كنت أتساءل: كيف كان حال عبد الله -رحمه الله- وهو يلاقي اللكمات، ويكابد الكدمات .. كيف كان حالك يا عبد الله، وأنت تشاهد أمامك افتراساً وحشياً ذاتياً حقيقياً؟! (ولا أدري، إن كنتَ قد شاهدت، افتراس الحيوانات، وإخالك، كنت تشفق على المفترَس، وتشجب المفترِس)!


لكنها تساؤلات، لا تنفع ولا تشفع ولا تدفع، فقد رأيتَ المفترسين، وهم يأكلون لحمك، ويكسرون عظمك، ويسيلون دمك!


شاهدتهم، وهم يكتمون نفَسك، ويزهقون نفْسك، فقد كانوا، أشد قساوة، وأحد ضراوة، من الحيوانات المفترسة؛ فإنها تخنق فريستها حتى الموت، ثم تأكلها، دون عقاب وعذاب!


أما مفترسوك.. فقد تفننوا في عذابك، وتجننوا في عقابك، في برهة يسافَر فيها إلى أقصى العالَم، وأنت ترزح تحت نكالهم، وتهان تحت نعالهم -وُصموا بالنعال، ووُصبوا بالنكال-. 


فيا عبد الله.. إن كانوا قد قتلوك، فقد قتلوا أرواحهم، ولعنوا أنفسهم، وضيقوا حياتهم، وأسخطوا خالقهم، وأجلبوا عليهم الخلْق، ثم حقّت عليهم كلمة العذاب!


فكرت في الأمر، فرأيت أن (وراء الأكمة ما وراءها) فقلت -والعلم عند العلي العليم-: لعل هذه ليست جريمتهم الأولى؛ لأنهم كانوا في مأمن عجيب، وفي حال غريب، وفي شأن يُرق فيه، لولا استمرارهم واستمراؤهم.

ثم إن هذه العقوبة، وراءها أمر جد خطير، يعلم به اللطيف الخبير!


وأخيراً، لا نملك، إلا أن ندعوا الله تعالى، على هؤلاء القتلة، بالعذاب النفسي والجسدي -ولا شك أنهم ملاقوه "ولعذاب الآخرة أشق" "ولعذاب الآخرة أشد وأبقى" "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر".


ونرجوا الله تعالى جلت قدرته.. أن يسمعنا شراً وضيراً ونيراً، لهؤلاء العتاة القساة الطغاة البغاة، وكل من بغا الطريق عوجاً، وسعى في الأرض عرجاً، بقتل أو زنا أو فساد. (اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم) يا رب يا رب يا رب يا رب يا رب يا رب يا رب. 


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٢/١/٢٣




الثلاثاء، 24 أغسطس 2021

رَحْمةُ الخالِق وحِكْمة الصانع!

 رحمة الخالق وحكمة الصانع!


صيف خانق، وجو حارق، وفقر خارق، وهم حانق .. أرض ملتهبة، وسماء ملبدة، وكهرباء لم تزر إلا غباً، وإذا زارت، فعلى ضعف واستحياء، وفي خفر واستخذاء، وإذا قويت وسفرت، فلم يحظ بها بعض المُعدَمين؛ لضعفهم، وعدم قدرتهم على الإيواء!


والرحيم، لَـيُخيل إليك: أن الأرض تنُّور موقد، وضع عليه صفيح حديد!

هذا وصفي وتصويري، حينما سئلت عن حرارة هذه البلاد؛ لفرط الحرارة، وغياب التلطيف!

هذا كان قبل شهر من الآن..


والآن، نزلت رحمات الرحيم سبحانه وتعالى، "إن رحمت الله قريب من المحسنين" "ورحمتي وسعت كل شيء" "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته" "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته" "ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله" "ألم تر أن الله أنزل من السماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير" "وما ننزله إلا بقدر معلوم".. 


غيّر الحكيم سبحانه، ذاك العذاب المرهق، وذياك الجو المحرق، برحماته العامة الآمّة؛ فنشر رحماته تترى- ليلة وراء ليلة، "وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها".


نظرنا يا ربنا، إلى آثار رحمتك؛ فوجدناها في وجوه الناس العاتمة، فصحت ونصعت، وفي شفاههم الناضبة، فبسمت ونبست، وفي أجسادهم الذابلة، فارتوت ورويت، وفي الأرض الجاذبة، فـ "اهتزت وربت"، وفي الأشجار اليابسة، فنضت ونضرت، وفي الحرارة الكاسرة، فذهبت وانكسرت، وفي الكون كله، فتغير وتبدل..


تذكرت الحديث، الذي تعددت رواته، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غِيَرِهِ، ينظر إليكم أزِلين قَنِطين، فيظلّ يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب). 

رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه ابن تيمية، في (مجموع الفتاوى: ٣/ ١٣٩) وابن القيم، في (زاد المعاد: ٣/ ٥٩١) والألباني، بطرقه، في (السلسلة الصحيحة، رقم: ٢٨١٠).


قال الحافظ ابن رجب: "والمعنى: أنه سبحانه، يعجب من قنوط عباده، عند احتباس القطر عنهم، وقنوطهم ويأسهم من الرحمة، وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده، بإنزال الغيث عليهم، وتغيره لحالهم، وهم لا يشعرون".

(جامع العلوم والحكم: ١/ ٤٩١)


كاد الناس أن يهلكوا من شدة القيظ، واشتداد الحر، حتى أن أحد الشباب الجَلِدين، يقول لي: أذهب إلى صلاة الظهر، فما أرجع، إلا وأنا في رهَق واختناق!


فـ لا إله إلا الله، يا رب، ما أرحمك وأكرمك وأحلمك وأعلمك وأحكمك وأعظمك، ولكن حال الناس "وما قدروا الله حق قدره" فيا رب "لا إلا إلا أنت سبحانك (إنا كنا) من الظالمين"!


لا تكاد الشمس، تضّايف للغروب، إلا ويأتي جو لطيف، وهواء عليل، يلطف الأجساد العليلة، وينفس عن الأرواح الكليلة، ويروي القلوب المكروبة!


فإذا صُليت صلاة العشاء، تبدأ تلك القطرات المُحيية، التي تحمل في مطاويها البشر والسرور، وينزل ذلك الحيا، الذي تحيا به الأرواح والأجساد!


يظل ذاك الرذاذ، يتردد ساعات على هذه الأرض- المظلومة المهضومة المحرومة (من بني البشر)، وكأنه إيذان لهم بنوم مريء هنيء، بعد يوم طويل كليل عليل، من أعمالهم الشاقة في البَّر والبحر والهواء! (الدراجات النارية، أو سيارات الأجرة).


ومن لطيف صنع الصانع الخبير.. أن المطر، ليس بالشديد أو القصير، بل خفيف وقعه، وطويل وقته، وذلك؛ لأن الأرض، لا تحتمل؛ لانعدام تصريف المياه، فتنشأ المستنقعات في الطول والعرض، والناس، لا يتحملون؛ لوهاء بعض البيوت!


ومن لطيف صنع الصانع الحكيم.. أن المطر، يكون في الليل؛ لتنام النفوس في راحة وبهجة، فإذا بدا النهار وظهر، وانبلج الصبح وأسفر.. طلعت الشمس كسيرة منكسرة بعد طول سير، في ليل ممطر ندي، ناشرة ضوءها في الآفاق، فتُبدد ما تجمع من المياه، وتعقم ما تلبد من الأرض "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" "صُنع الله الذي أتقن كل شيء" "الله لطيف بعباده".


(سبحانك من لطيف ما ألطفك، ورؤوف ما أرأفك، وحكيم ما أتقنك.


سبحانك من مليك ما أمنعك، وجواد ما أوسعك، ورفيع ما أرفعك، ذو البهاء والمجد، والكبرياء والحمد)


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤١/١٢/٧


الاثنين، 16 أغسطس 2021

فقْد جهبذ مغربي!

 


فقْد جهبذ مغربي!


مولاي أحمد المحرزي أبا عبيدة المراكشي..

هكذا (أبا عبيدة) في جميع حالات الإعراب؛ لأنه لقب اتخذه جده، حينما جاء المحتل الفرنسي، استخفافاً به، واستهجاناً له، فكان لقباً على عقبه من بعده!



أعترف أني لم أعرفه، بل لم أسمع به إلا اليوم!

ويا ضيعة العلم والعلماء، حينما يغيّبون عن المشهد، ويرفع السفلة والسفهاء!


سمعت له كلمة في جلسة، بعد تأبٍّ منه وتمنع؛ لأنه كان ميالاً للخفوت والعزلة، -وما أحسنها اليوم-!

حمد الله وأثنى عليه، وخطب خطبة الحاجة، ثم قال في افتتاحيته: فإني قدمت بين أيديكم، ولست بخيركم، وإن من عادتي: أن أتهيب اللقاء فضلاً عن الإلقاء  ... فقد اجتمع علي الآن.. تهيب اللقاء، وتهيب الإلقاء!


وإذا بهذا الهياب.. ينحدر كالسيل الهادر من عل، لا يلوي على شيء.. ماضٍ على سجيته، وقادح زناد فكره، وغارف بحار علمه، مع تواضع ظاهر، وإخبات رهيب، وخشوع جم، وخفض جناح، وحسبك بمن اجتمع فيه كمال العلم، مع جمال الأدب، مع جلال الخوف!


أقول: سمعت هذه الدقاق، الـ ٤٤، فجهرني علمه، وبهرني فهمه.. سمعت علوم الغاية والآلة  .. والعُقد والمُلح!

سمعت نتفاً من كافة هاته العلوم: العقد الصحيح، والفقه الرجيح، والسلوك القويم، والحديث الشريف، والأثر الأثير!

سمعت اللغة، والنحو، والبلاغة، والصرف، والضبط، والرسم، والقراءات!

سمعت حسن الربط بين الآيات، وجمال الاستشهاد بالقرآن، ولطافة الضبط، ورهافة الحس، وحسن الكلام، وتمام الانسجام!


كان النوم يغالبني، والنعاس يداعبني، لكنه سرعان ما خفت وخفي، حينما جهره نور العلم، وضياء المعرفة!


قدّرت، أن دقائقه، متناً مفناً، يصلح أن يُشرح، ويحشى عليه، و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"



ولم يعكر علي الصفو والحبور، إلا قطع أحد الحضور، قائلاً: جزاك الله خيراً، لو لم تتهيب الإلقاء واللقاء، فماذا كان سيكون؟! (أو كلمة نحوها)

فقطعه الشيخ، مكرراً: أستغفر الله .. أستغفر الله.

وانتهى كلام الشيخ، ولا أظنه إلا كان مزمعاً المضي، في كلامه المضي!



هذه كلمات كلمى، وعبارات خجلى.. أخرجتها على علاتها، نحو هذا القرم القمقام، وللأسف، بحثت عن ترجمة له، فما وجدت إلا نتفاً لا تفي ولا تكفي!

والله المستعان.


رحم الله هذا العالم العلَم، وأسكنه فسيح الجنان، ووسيع الرضوان، ولقاه نضرة وسروراً، وإستبرقاً وحريراً.

و"إنا لله وإنا إليه راجعون"



وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤٣/١/٨




الاثنين، 9 أغسطس 2021

دعاء دخول الشهر أو السنة: إيضاح وبيان!

دعاء دخول الشهر أو السنة: إيضاح وبيان!

عن عبد الله بن هشام، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعلمون هذا الدعاء كما يتعلمون القرآن، إذا دخل الشهر أو السنة: (اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وجوار من الشيطان، ورضوان من الرحمن).

رواه الإمام الطبراني في (المعجم الأوسط: ٦٢٤١).
وقال الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد: ١٠/ ١٤٢): "إسناده حسن".
وقال ابن حجر، في (الإصابة: ٢/ ٣٧٨) "وهذا موقوف على شرط الصحيح".

قلت: وهو دعاء شامل كامل، قد جمع خيري الدنيا والآخرة، من طلب الأمن والإيمان، وتحقق السلامة والإسلام؛ وذلك لأن أحدهما، يطلب الآخر، فإذا ثبت الإسلام ورسخ؛ أثمر لصاحبه السلامة من الآفات والهلكات، القدرية والشرعية.

وإذا وقر الإيمان في القلب، تبعه الأمن، قال تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
وقد يتخلفان لضعفهما؛ فلذلك، ناسب: أن يستفتح المسلم عامه، بهذا الدعاء، حتى يتحققا، وفي تحققهما، سيادة وريادة.

ثم بعد ثبوت الإسلام، ورسوخ الإيمان.. لا يعدم صاحبهما من نزغات الشيطان ووساوسه، فناسب: أن يدعو ربه سبحانه، أن يكون في جواره وأمانه وحمايته، حتى يصرف عنه أذاه وبلواه، "وهو يجير ولا يجار عليه". أي: يغيث ويحمي ويمنع من طلب جواره وإجاره.

ثم كان الختم.. أن يسأل الله تعالى، أن يكون دائماً في رضوانه سبحانه وتعالى، ووَفْق مرضاته، حتى يرضى عنه، وإذا رضي الله عن العبد.. أحبه وأزلفه إليه، وفي الحديث القدسي: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)
فيا فوز عبْدٍ، عبَدَ ربه واتقاه، وناب إليه ودعاه.

وأما المراد بـ "جوار من الشيطان": فهو مصدر جاور، بمعنى: استجار، أي: طلب الحماية والأمان والمنع والحفظ والنصرة.

ومنه قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأَجِرْه".
أي: طلب منك أن يكون جاراً لك وعندك، وفي جوارك.. فاحمِه وانصره واحفظه وامنعه من عدوه.

ومنه قول الرجل: أنا في جوار فلان، أي: في حمايته ونصرته، وهو مما يقتضيه الجوار، أي: القرب في المنزل.

تنبيه: جاء في بعض النسخ: (وجواز من الشيطان) أي: من المجاوزة والتخطي، يقال: جاز الطريق، إذا تخطاها، وجاوزه الرمح، إذا تعداه.

اللهم اجعلنا في رضوانك، واحمنا من كيد النفس والهوى والدنيا والشيطان، إنك وحدك المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
والله أعلى وأعلم.

وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤٢/١/١

السبت، 7 أغسطس 2021

الإمعان الفكري في حكم التهنئة بالعام الهجري!

 الإمعان الفكري في حكم التهنئة بالعام الهجري!


أو


قبسٌ من الذِّكْرِ  في حكم التهنئة بالعام الهِجْرِي!



بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.


 


وبعد:


فها نحن نودِّع عامًا مضى وانقضى، بما فيه: من محاسنَ ومساوئ!


ونحن نسأل الله أن يكون ختَم لنا بخيره، وتجاوز لنا عن سقطِه وشرِّه.


 


وها نحن أولاء نستقبل عامًا جديدًا من أعوامنا وأعمارنا، ونحن نسأل الله أن يجعله عام عزٍّ ونصر وتمكين لجميع المسلمين، ويوفقنا فيه للعلم النافع، والعمل الصالح.


 ويشرع لمن دخل عليه العام الهجري الجديد، أن يقول هذا الذكر:

قال البغوي في (معجم الصحابة: ٣/ ٥٤٣): حدثني إبراهيم بن هانئ بن أصبغ قال: أخبرني ابن وهب، عن حيوة، عن أبي عقيل، عن جده عبد الله بن هشام قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون هذا الدعاء كما يتعلمون القرآن، إذا دخل الشهر أو السنة: (اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وجوارٍ من الشيطان، ورضوانٍ من الرحمن).

ورواه الطبراني، وقال ابن حجر -رحمه الله- في كتابه "الإصابة" في ترجمة عبد الله بن هشام رضي الله عنه (٢/ ٣٧٨): وأخرج له أبو القاسم البغوي من طريق أصبغ عن ابن وهب بسند الحديث الذي أخرجه له البخاري في الشركة.


وفي منسلَخ كلِّ عام ومفتتَحِه يكثر الحديث عن حكم التهنئة بذلك، وإن الناظر إلى أصل التهنئة لا يخفى عليه الحكم، ولا يشتط في الحكم بالبدعة.


 


فالتَّهنئة كما قرَّر غيرُ واحد من العلماء أنَّها (من العادات، وليس مِن العبادات)، والتهنئة ما قرَّر العلماء- يُنظر فيها إلى المعاني والمقاصد.


 


وللتهنئة أصلٌ في الشريعة؛ فقد هنَّأ بعضُ الصَّحب كعبَ بن مالك بحضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأيضًا: شرع سجود الشُّكر عند تجدُّد نعمة، أو دفع نقمة.


 


ولا شك أن انتهاء العام -كما أشار العثيمينُ- فيه تجددُ نعمة العبادة، والانتهاء من عبادة عام كامل.


 


وهنا نقلٌ مفيد في رسالة السيوطي: (وصول الأماني)، نقَل فيها عن القمولي في "الجواهر" أنه قال: "لم أرَ لأصحابنا كلامًا في التهنئة بالعيدين والأعوام والأشهُر كما يفعله الناس، ورأيتُ - فيما نقل من فوائد الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري- أنَّ الحافظ أبا الحسن المقدسيَّ: سُئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين: أهو بدعة أم لا؟


فأجاب بأن الناس لم يزالوا مُختلفين في ذلك، قال: والذي أراه أنه مباح؛ ليس بسُنة، ولا بدعة، انتهى".


 

وهنا نقل مفيد للشيخ ابن سعدي، قال -رحمه الله-:

"هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرّم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

فهذه الصور المسؤول عنها وما أشبهها من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد.

أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور، ويشوش الخواطر.

ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة، وهي: أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يُلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضارّ ما يُلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً"..انتهى كلامه رحمه الله، من (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي- الفتاوى ص(٣٤٨).


وقد طبق كلامه هذا فعلياً، فقد كتب الشيخ ابن سعدي لتلميذه ابن عقيل كتاباً في ٣/ محرم ١٣٦٧ه‍ وكان في ديباجة رسالته: "... ونهئنكم بالعام الجديد، جدّد الله علينا وعليكم النعم، ودفع عنا وعنكم النقم".


وسُئل شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني -رحمه الله- عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد؟

فأجاب: 

لا مانع من التهنئة، بالعام الهجري الجديد.


وبعض المعاصرين -أمثال: الباز، والعثيمين، والبرَّاك، والخضير- يرون أن من ابتدأك بالتهنئة، ترد عليه.


وعليه؛ فلا يتناولها حكمٌ من الأحكام الخمسة، حاشا الأخير، وهو (المباح).


والمباح هو: ما لم يُؤمر به، ولم يُنهَ عنه؛ هذا تعريفه.


وحكمه: ما لا يُثاب فاعله، ولا يُعاقب تاركه.


وعليه؛ فمن هنَّأ فلا حرج، ومن لم يهنئ فلا عوج.


ومن المعلوم أن المباح إذا احتفَّت به معانٍ ومقاصد، رفعَته إلى الأجر، أو أدخلته في الوزر.


 فمن قصد بالتهنئة تقليدَ النصارى في أعيادهم -وهذا فيه بُعد؛ إذ العكسُ أولى- أو اعتقد أنَّها عبادة، أو والى وعادى مِن أجلها؛ كان عليه وزرٌ وإثم؛ لِمَا ترتَّب على المباح من المقاصد السيئة.


 


ومَن قصد إدخال السرور على المسلمين، والتنبيهَ إلى التزوُّد من العمل الصالح، والتحذيرَ من طول الأمل، فهي مقاصدُ حسنة جليلة، نرجو له الأجر والمثوبة.


 


والله أعلى وأعلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/١٢/٢٧

١٤٣٨/١٢/٢٦

الجمعة، 30 يوليو 2021

الثج لمن رجع من الحج!

 

الثج لمن رجع من الحج!


باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.

وبعد:


فإن الحج نعمة عظيمة، ومنّة فخيمة، يسرها الله وسهلها على من شاء من عباده "يختص برحمته من يشاء" وكم فيها من دروس وعظات، وكم تسكب فيه من دموع وعبرات!


وإن الراجع من حجّه؛ يستقبله زواره وأحباؤه بالبشر والسرور، والحب والحبور، فناسب ذلك: أن يصنع لهم وليمة؛ ليجتمعوا، ويقص عليهم قصص الحج؛ لينتفعوا.

ويحدثهم عمن لقي من أهل العلم والفضل والتقوى، ومن أجاز أو استجاز أو استفتى.. حتى يرغبهم ويرشدهم، ويكون لهم زاداً "ومتاعاً إلى حين".


ومن حج؛ فقد قرّبه الله وكرمه، وخصّه ونعمه؛ وشكراً لنعمة الله عليه؛ ناسَب إذا رجع من سفره إلى بلده.. أن يولم وليمة، تسمى: النقيعة.


والنقيعة: مشتقة من النقْع، وهو الغبار؛ لأن المسافر قديماً.. كات يأتي وعليه غبار السفر؛ لأن وسيلة تواصلهم كانت الإبل ونحوها من المركوبات.


وأما اليوم، فقد تطورت وسائل السفر، وأقلها: ركوب السيارة، ولا أظن راكبها يصيبه النقع والغبار، إلا في بلادي المنكوبة. (١)


وإن كان المسافر أياً كان، لا يعدم شقة ومشقة، ولو سافر في الطائرة؛ فمشقة السفر، ثم الحج؛ لا يكاد يسلم منها أحد!


ومن لطائف الشيخ عبد الرحمن السعدي، قوله في وصف السيارة، أول ما ركبها مسافراً للحج:


يا راحلين إلى الحمى برواحل *** تطوي الفلا والبيد طي المسرعِ


ليست تبول ولا تروث وما لها *** روح تحنّ إلى الربيع الممرعِ


ما استولدت من نوقها بل صنعها *** من بعض تعليم اللطيف المبدعِ


كم أوصلت دار الحبيب وكم سرت *** بحمولها نحو الديار الشسّعِ!


أقول: إذا رجع الحاج؛ استحب له، أن يذبح ذبيحة لله عز وجل؛ شكراً وحمداً له تعالى، على قدومه سالماً لأهله، ورجاء أن يقبل الله منه حجه، فيكون ذلك كالقربان.


والدليل على ذلك.. ما ذكره البخاري، في صحيحه، وبوّب عليه: (باب الطعام عند القدوم)

وذكر حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لما قدِم المدينة؛ نحر جزوراً أو بقرة)

وفي رواية: (أمر ببقرة؛ فذُبحت، فأكلوا منها)


واستدل به النووي، وقال: "يستحب النقيعة، وهي: طعام يُعمل لقدوم المسافر، ويطلق على ما يَعمله المسافر القادم، وعلى ما يعمله غيرُه له".

(المجموع: ٤/ ٤٠٠)


وبوب أبو داود، في سننه: (باب الإطعام عند القدوم من السفر)

قال صاحب (عون المعبود: ١٠/ ١٥٢):(٢) "والحديث؛ يدل على مشروعية الدعوة عند القدوم من السفر، ويقال لهذه الدعوة: النقيعة".


وقال ابن بطال: "فيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف، ويسمى: النقيعة، بنون وقاف، وزن: عظيمة".

ينظر: (فتح الباري: ٦/ ١٣٤)


واختلف العلماء في مَن يصنعها، هل الحاج، أم أهله؟

قال النووي: وقول الأصحاب النقيعة لقدوم المسافر، مستحبة؛ ليس فيه بيان من يتخذها، أهو القادم أو المقدوم عليه.

وفيه خلاف لأهل اللغة؛ فنقل الأزهري عن الفراء: أنه القادم. وقال صاحب المحكم: هو طعام يصنع للقادم. وهو الأظهر.

ينظر: (فص الخواتم: ٧)


وقال الحليمي: "ويستحب للمسافر إذا رجع واستقر في منزله؛ أن يطعمه الناس؛ فعله الصالحون من سلف هذه الأمة.


قال نافع: كان ابن عمر.. لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر، إلا أن يمرض، فإنه كان رجلاً كريماً، يحب أن يؤكل عنده.


وقال حماد بن زيد: كان أيوب السجستاني(٣) رضي الله عنه: إذا قدم من سفر، أطعم الناس ثلاثة أيام، يأتيه إخوانه، فيضع مائدته، ويضع يده مع كل ما جاء، ثم يقول: لقد أكلت اليوم كذا وكذا مرة، قال: وقدم من مكة، فجعل يدخل عليه ناس من إخوانه، فيقرب إليهم فسمعته من آخر النهار، وقد قرب إلى قوم شيئاً، يقول: أكلت اليوم عشرين مرة".

(المنهاج في شعب الإيمان: ٢/ ٤٦٠)


وعليه، فمن رجع من الحج أو من غيره، -على أن الحج يتأكد-.. استحب له، أن يذبح لأهله وأصحابه ذبيحة، ويأكلوا منها؛ لما تقدم من النصوص وشرحها، ولما فيه من تطييب الخواطر، والسؤال عن الحال، وهذا من جليل وجميل الخصال.


وفيه تأنيس القلوب، وتآلف الأرواح، وإزالة الشحناء، والتنفيس عن الفقراء، وهذا مما يحبه الله ويرضاه.

والله أعلى وأعلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

١٤٣٧/١٢/٣٠


ح.......

(١) وإن شيت جواباً، فارجع إلى مقالي: "٤٥ ساعة سفر" ولعلها اليوم، زادت وجادت!

فلا بلاغ إلا بالله.


(٢) هو متنازع بين العلامتين الشقيقين: شرف الحق محمد أمير الصديقي، وبين أخيه أبي الطيب شمس الحق العظيم ابادي، وإن شيت، فعد إلى مقال طويل للشيخ مشهور حسن، فقد جمع له جراميزه، وأبان باجسه بدليل وتعليل.


(٣) ابن أبي تميمة كيسان، ويقال: السختياني، وهو الأشهر.


الاثنين، 26 يوليو 2021

المراد بكلمة "السواد" عند المتقدمين، وفي بعض المخطوطات!

 

المراد بكلمة "السواد" عند المتقدمين، وفي بعض المخطوطات!


نشر الشيخ عادل العوضي، قبل مدة، في (مجموعة المخطوطات الإسلامية)، صورة مخطوطة، مزبور عليها: "النظر في السواد، من الضلال، خذ العلم من أفواه الرجال"!

(فيض الله ٥٥٦)


فحصل تحاور، حول كلمة (السواد) مالمراد بها؟

وأدلى البعض بدلوه، ورمى بسهمه، وكان مما قلت -حينها، مع زيادات طفيفة، لا تطفف!-:


الذي أفهمه، أن: (السواد) هنا.. يقصد بها: الكتب؛ لأن الكتاب، يكون في الغالب بالسواد، فهو من باب تسمية الشيء، بما يؤول إليه.


ومثله قول الشاعر:

فدع عنك الكتابة لستَ منها *** ولو سوّدت وجهك بالمدادِ


وقول الشعبي: "ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت من رجل حديثاً، فأردت أن يعيده علي".

رواه زهير بن حرب، في كتاب (العلم: ١٢)


وهذا كناية عن عدم اتكاله على الكتابة، واعتماده على ذاكرته.


ولو قال قائل: آلنظر في الكتب.. ضلال؟

فالجواب: النظر في الكتب ليس ضلالاً، ولا هو من الضلال، بل هو أفضل زاد، وخير رافد، ولكن إن كان المقروء، غير مأمون، فالضلال مظنون، أو جهل القارئ، بمؤدى الكلام؛ فإنه يقع في التحريف والتصحيف، فيكون وصفه بالضلال؛ ليس لذات النظر، ولكن لمؤداه.

ونحن نعلم، كم من ضلال، نشأ عن قراءة خاطئة، بل أزهقت أنفس -كما في "نقطة الإحصاء"، ولي فيها مقال-!-.


قال عبد الرحمن الأوزاعي: (كان هذا العلم كريماً، يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله).


قال الذهبي مُعلقاً: "ولا ريب.. أن الأخذ من الصحف، وبالإجازة، يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ، يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر".

(سير أعلام النبلاء: ٧/ ١١٤)


وقال ابن أبي زيد: "وكان يقال: لا يؤخذ العلم من كُتُبِي، ولا القرآن من مُصْحَفِي، وإن كانت الكتب في آخر الزمان، خزائن العلوم؛ فإن مفاتيح مغالقها، الصدور، وقد كان العلم في الصدر الأول: خزائنه الصدور ولم تكن كتب، وصار في آخر الزمان أكثره في الكتب وأقله في الصدور".

(النوادر والزيادات: ١/ ٨)


ثم وجدت هذه الكلمة، أشكلتْ بادي بدي، على العلامة عبد العظيم الديب، في تحقيقه، لـ (نهاية المطلب)؛ لأن الجويني، كان يكررها كثيراً، مثلاً، يقول: "ولكن الجريان على ترتيب السواد أولى" و"نحرص أن نتبع ترتيب السواد" و"ثم نرجع إلى ترتيب السواد" ونحوها.

فانظره يقول: "مرة ثانية، تُقابلنا لفظة "ترتيب السواد"، ولا ندري المقصود بها، وإن كنا نظن ظناً.. أن المراد: سواد المؤلفات والمصنفات، مجرد ظن لا قرينة تعين عليه.

بل ترجّح عندنا، إلى ما يشبه اليقين: أن (السواد) هو مختصر المزني، أما لماذا يسميه السواد؟ فلم نصل إلى تفسير له.

قلت -عبد العظيم-: هذا التعليق كتبته قبلاً على مرتين -كما يظهر من قراءته- بينهما فترة زمنية، ربما تصل إلى سنوات، فقد استغرق العمل في هذا الكتاب، أكثر من عشرين عاماً.

والذي نزيده اليوم، هو ما أخذناه عن شيخنا أبي فهر "أن لفظ (السواد) يستعمل بمعنى: الأصل والمتن، وعليه شواهد، وإن لم يكن منصوصاً فيما بين أيدينا من معاجم".

مقدمة (النهاية: ٥/ ١٧٣) 


وقال في موضع آخر: "السواد: أي: مختصر المزني، ولفظ (السواد) يأتي بمعنى: المتن والأصل، وهذا غير منصوص في المعاجم، ولكني أخذته عن شيخي شيخ العربية، الشيخ محمود محمد شاكر، -برد الله مضجعه-".

مقدمة (النهاية: ١/ ٢٦٨)


وقال في موطن آخر: "والمراد بالسواد.. (الأصل) أو (المتن) هكذا يستخدم هذا اللفظ، من قبل الأئمة والمؤلفين القدماء في كتبهم ومؤلفاتهم، وسيرد هذا الاستعمال كثيراً في كلام الإمام، وهو غير موجود في المعاجم".

مقدمة (النهاية: ١/ ٤)


قلت: فبان ووضح من هذا الإيضاح والبيان: أن المراد بالسواد.. المتن على وجه الخصوص، أو الكتاب على سبيل العموم.

والله أعلى وأعلم.


وكتب: وليد أبو نعيم

١٤٤١/٤/٦ 

يوم القر ١٤٤٢ 





السبت، 24 يوليو 2021

أبِخضرار الأرض.. يُخدش العِرض؟!

 أبِخضرار الأرض.. يُخدش العِرض؟!


تكون الأرض مجذبة، والقلوب متربة، والنفوس ضيقة، حتى يمنّ الكريم المنان؛ فيرسل الرياح ملقحات للسحاب، فتنشر السماء غيثها، وتروى الأرض، فيأنس القلب: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير".


إنّ نزول الغيث، نعمة من الرحيم الرحمن، يجب على الإنسان أن يكون لذلك من الشاكرين، ولا يكن لنعم ربه من الكافرين.


أقول هذا؛ لأني أرى اليوم الذي تنزل فيه الأمطار؛ يفرح الناس، ويخرجون إلى المتنزهات والحدايق؛ من الكروب والضوايق، وهم في مرح وبهج؛ لكن أكثرهم ليس على النهج!


يخرج الرجل مع الأهل والمحارم؛ ليُذهب الوطأة، ويجلو القلوب الصدئة.. 

وقد كان حبيبي صلى الله عليه وسلم؛ (يبدو إلى هذه التِّلاع -أي: مسايل الماء-) كما قالت أمي عائشة رضي الله عنها، والحديث عند البخاري في ‎(الأدب المفرد: ٥٨٠) بسند صحيح.


‏وفي سنن أبي داوود، عن المقدام بن شريح، عن أبيه أنه قال: سأل عائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبدو؟ فقالت: نعم، إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرة، فأتى بناقة مخرمة، فقال: اركبيها يا عائشة وارفقي؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع منه إلا شانه). 


قال الحافظ ابن رجب، في (فتح الباري: ١/ ٧٧): "فأما الخروج إلى البادية أحياناً، للتنزه ونحوه، في أوقات الربيع وما أشيهه؛ فقد ورد فيه رخصة".


قلت: ولكن -للأسف الأسيف- إذا أردنا الخروج، للنفه والنفخ والنزه؛ نرى ما يكدر الخواطر، ونسمع ما يعكر الصفو، ونسمع ما يصم الأذن.. من لبس فاضح، وتماجن صارخ، وتمازح وتعافس وتضاحك وتناكت بعض الفتيان مع بعض الفتيات!


تراهم على الشواطئ والطرقات، أو في الحدائق والمتنزهات؛ في حال مزرية، وفي ريبة مردية، تقشعر منها جلود المؤمنين الغيورين، فلا يملك الإنسان حينها، إلا: الاسترجاع والحولقة أو الحوقلة!


فيا أيها الناس: رجالاً ونساء؛ عودوا إلى ربكم، واحمدوه على نعمة الأمطار، ولا تحولوها إلى ذنوب وإصرار؛ فيخشى عليكم من الأضرار والأخطار والنار؛ فتندمون، ولات ساعة مندم.


وتذكروا فيضان تسونامي، الذي أغرق أمة من الأمم، وخرب بيوتهم، "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين" "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا"!


فتوهموا غضب الله وسخطه، وذلك (إذا انتهكت محارمه) فعُفّوا أنفسكم، وحجبوا نساءكم، وابتعدوا عن نساء غيركم، فوالله، إنه خزي وعار وشنار، في الدنيا والآخرة.


والذي يليق بالمؤمن: أن يشكر الله تعالى عند تجدد النعمة، "لئن شكرتم لأزيدنكم" وإن لم يحصل الشكر، بل حصل ما يضاده، قال الله: "ولئن كفرتم إن عذابي لشديد".


هذا بلاغ لكم *** والبعث موعدنا

وعند ذي العرش *** يدري الناس مالخبرُ



وكتب: وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٧/٦/٢٧

وراجعتها: يوم القر ١٤٤٠.

الاثنين، 19 يوليو 2021

اِفْرحوا يا هؤلاء!

 


اِفْرحوا يا هؤلاء!

إن العيد.. فرحة عامة لجميع العقلاء، دون استثناء، فلا يختص الفرح بالأغنياء ولا الأصحاء ولا الأقوياء، ولا الرجال دون النساء، بل هو شامل للفقراء والأغنياء، والمرضى والأصحاء، والضعفاء والأقوياء، والنساء والرجال!


العيد هو أنت من يصنعه.. فرحة عارمة، وسكينة مبهجة، وراحة مفعمة، فلا يصدنك صاد، أو يمنعك مانع!


آلفقر، مانعك من فرحة العيد؟! لا، بل أُراه ألصق بالفقراء منه بالأغنياء؛ لأن الغنى حائل -في الغالب- من الفراغ والتفرغ!


تجد الفقير، بين أهله وأولاده، وقد اجتمعوا على خشارة من الطعام، الساد للرمق، وهم يتناغون ويتناغمون!


ليس العيد باللباس الجديد، أو الحلوى الفاخرة، أو الطعام الفائق، بل هو عيد الطاعة والأنس والسرور.. لأننا رأينا أغنياء، وقد لفّهم الحزن، وغشيهم الحزن في يوم العيد!


قد يتذمر الفقير؛ إذ لم يجد جديد اللباس، ولا لذيذ الطعام، ولكنه يجد هذا، حين المقارنة بغيره (والمقارنة قرينة الأحزان)! فلا تقارن نفسك بأحد، إلا في أمور الآخرة.


فافرح أيها الفقير  .. وافرح أيها المريض  .. وافرح أيها المغترب  .. افرحوا يا هؤلاء؛ فما عندكم من أسباب الفرح، أكثر وأوفر من أسباب الترح، فافرحوا وفرّحوا!


أبارك لكم العيد، رغم الأسى والألم، ومع القسى والجلم!


قائلاً: تقبل الله: مني ومنكم، وكل عام وأنتم في خير وستر.


وليعلنها وليعليها كل فرد منكم قائلاً: لن تراني يا عيد -بإذن الحميد المجيد-، فيك كئيباً، أو حزيناً، أو تعيساً..


وأضيفوا: إنك -يا زَورنا- لم تزرنا إلا غِبّاً، وليس من الأدب والإحسان، أن أقابلك بالأتراح والأحزان!


صحيح، أني أتألم وأتعلقم، وأجتوي وألتوي!

لكن..

واجبي نحوك: حسن الضيافة، وجميل القِرى، (والجود، من الموجود) -كما يقول أهل بلدي-!

هذا واجبي نحوك أيها العيد السعيد.


آملاً، أن تعود علينا، ونحن في أمنٍ وأمان، وإسلام واطمئنان، وتمكين وإعلان.



وكتب: أبو نعيم وليد، في مصلى (مسجد) العيد!

أضحى ١٤٤٢.


الأحد، 18 يوليو 2021

وانهد الركن الحنفي في الحديدة!

وانهد الركن الحنفي في الحديدة!


#وفاة_علم

العلامة الفقيه الحنفي: محمد حسين فقيرة.. من العلماء العاملين، والمربين المخلصين -نحسبه الله والله حسيبه-.


درّس مدة مديدة في مسجده، يغذي الطلاب كشجرة وارفة ظلالها، ولم ييأس أو يبأس حتى أصيب بجلطة كلية أقعدته في بيته!


وقد زرته في بيته قبل عامين تقريباً، وكان لا يعي شيئاً، سوى أنه كان يرفع مسبحته إلى السماء، ويحملق ببصره نحونا.. يودّ النطق فلا يسطيع!


وهو من تلاميذ العلامة أحمد عثمان مطير -صاحب (الدرة الفريدة)- وقد وصفه، بـ "النباهة والعلم" وهو صغير السن آنذاك!


وها أنا اليوم أسمع نبأ وفاته، فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون"

إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

وعزائي لأهله وذويه، وخصوصاً الدكتور حسين فقيرة.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/١٠/٢٣

وصايا الآباء للأبناء عند البناء!

 وصايا الآباء للأبناء عند البناء!

فتاة صغيرة في الـ ١٦ -من قريباتي؛ لكنها عاقلة طائقة، تحفظ كتاب الله عز وجل، وتدري كمّاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تربّت على الأخلاق والآداب، حتى فاقت لِداتها والأتراب، فلا تعرف عتبات الأسواق إلا لحاجاتها، ومع أمها الخلوقة الفاضلة.


هذه الفتاة؛ أوشكت على دخول عتبة الزواج؛ (والآن، قد دخلت، والحمد لله).

طلبتُ مهاتفتها؛ لأقول لها كلمات؛ علها تنتفع بها، وتكون لها نبراساً ومقباساً ومئناسا.


هاتفتها، وقلت لها فيما قلت: بعد التهنئة والتبركة..

يا (...) أنت الآن ستقدمين على حياة جديدة، أرجو أن تكون أفضل من السابقة.

حياة جميلة خميلة ظليلة مليحة أنيسة ونيسة..

كوني تقية لربك، مطيعة لزوجك، واعلمي أن لزوجك عليك القوامة بالمعروف، وفي حدود المألوف.

ولتكن حياتكم مبنية على: النصح والاحترام، والمحبة والوئام.

وتجاوزوا أي خلاف -لا قدّر الله، ولا بد منه- بينكما، وأحسنوا الظن ببعضكما، وأرفقوا بنفسيكما، وتشاوروا في أمركما.


ثم هاتفت زوجها الشاب، الذي هو في الـ ١٩ تقريبا، ولكنه طالب علم، يحفظ القرآن، وطائفة مباركة من أحاديث سيد ولد عدنان، مع حسن خلق، وجميل أدب..


هاتفته، وقلت له: نحواً مما قلت لزوجه؛ ففرح جداً، وقال لي: أبشر، بإذن الله تعالى.



التعليق:

ليت كل أب أو أُم أو قريب؛ يوصي ابنته أو ابنه أو قريبه إذا أراد الزواج؛ بالتآلف والتحالف، لا التعارف والتجارف، ونحو هذا من وصايا نبيلة، ونصائح فضيلة، وكلمات جميلة؛ يكون لها أبلغ الأثر في حياتهما.


وللأسف؛ نجد أن بعض الآباء أو الأمهات أو الأقرباء؛ يوصون أبناءهم وبناتهم؛ بوصايا مشؤومة، ونصايح مذؤومة.. يحضون الشاب: أن يكون رجلاً، لا يسمع لإملاءات زوجته، ولا بد أن يكسرها، وأن يريها الشدة والحزم من أول ليلة، وأن لا يطلعها على ماله وعمله.. إلى غيرها من كلمات الفتنة والمحنة!


وكأنه داخل معركة مع ندّ له، يلعب حديد أو كمال أجسام!

لا أنه يدخل على حمل وديع، وذات ضلع أعوج؛ تؤثر فيها الكلمة اللطيفة، والقبلة الصادقة، واللمسة الحانية، والجسة الحقة..

ومن هنا؛ تكرث الكارثة!


وبالمقابل: الفتاة، يوصونها؛ بأن تكون امرأة حازمة، لا تضعف أمامه، ولا تسلّم له نفسها بسهولة، بل تطالبه بحقوقها، من: دُخلة وخنة وإنة وحنة وسنة وشنة!

وأن تكون صارمة في رأيها، ولا تتنازل عن حقوقها، ولا تسمع له أمراً أو نهياً!

ومن هنا؛ تجثم الجاثمة!


فيا أيها الأب، ويأيتها الأم، ويا أيها القريب: كونوا سعاة صلاح، ومريدي فلاح، ومحبي نجاح.


وأكتفي هنا، بكلامي عن نقل نصائح القدماء ووصاياهم؛ فكتب الأدب والتاريخ والتراجم والسير؛ طافحة بنصائح آباء لأبنائهم، وأمهات لبناتهم؛ فيها: العقل والحكمة، والمحبة والرحمة؛ فأنشات جيلاً موائماً، ونشْأً ملائماً.

وأكتفي بثلاثة أمثلة؛ لئلا يخلو مقالي من مليح قولهم، ومنيح فعلهم:


الأول: ‏يقول شريح: تزوجت امرأة من بني تميم، يقال لها: زينب؛ فصحبتني، ثم هلكت قبلي؛ فوددت أني قاسمتها عمري، أو مت أنا وهي في يوم واحد!

ثم قال:

رأيت رجالاً يضربون نساءهم *** فشُلّت يميني يوم أضرب زينبا!


قال أبو نَعيم: لم تصل زينب هذا المبلغ من الحب عند زوجها القاضي الكبير؛ إلا بوصية فذّة، من أبوين نصوحين ناصحين.


والثاني: أن الفرافصة الكلبي؛ قال لابنته حين جهّزها إلى عثمان رضي اللّه عنه:

يا بنية؛ إنك تقدمين على نساء قريش، وهنّ أقدر على الطِّيب منك، فلا تغلبي على خصلتين: الكحل والماء، تطهري حتى يكون ريحك ريح شنّ أصابه المطر!


والثالث: أن امرأة، أوصت ابنتها عند زفافها، فقالت: يا بنية، لو تركت الوصية لأحد.. لِحسن أدب، أو لكرم حسب؛ لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.

يا بنية؛ إنك قد خلّفت العُش الذي منه درجت، والموضع الذي منه خرجت، إلى وكْر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه..

كوني له أمة؛ يكن لك عبداً، واحفظي عني خصالاً عشراً؛ تكن لك دركاً وذكراً:

أما الأولى والثانية: فحسن الصحابة بالقناعة، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة.

ففي حسن المصاحبة: راحة القلب، وفي جميل المعاشرة: رضا الرب. 

والثالثة والرابعة: التفقد لموضع عينه، والتعاهد لموضع أنفه؛ فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك خبيث ريح.

واعلمي؛ أن الكحل أحسن الحُسن المودود، وأن الماء أطيب الموجود.

والخامسة والسادسة: فالحفظ لماله، والرعاية لحشمه وعياله.

واعلمي؛ أن الاحتفاظ بالمال؛ حسن التقدير، والإرعاء على الحشم؛ حسن التدبير.

والسابعة والثامنة: التعاهد لوقت طعامه، والهداء عند منامه، فحرارة الجوع؛ ملهبة، وتنغيص النوم؛ مغضبة.

والتاسعة والعاشرة: لا تفشين له سراً، ولا تعصين له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سره؛ لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره؛ أوغرت صدره.


هذا ما أردت قيله، وأوردت نيله؛ فهل أنتم قائلون أيها الآباء والأمهات والأقرباء، وهل أنتم فاعلون أيها الأبناء والبنات؟!

أرجو ذلك؛ حتى يحل عليكم الأمن والأمان، والسلامة والسلام، والحب والوئام، والمودة والاحترام.

وسلام الله عليكم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/١١/١٧

السبت، 17 يوليو 2021

شكراً على السلام!

شكراً على السلام!

رأيته يمشي مكبّاً على وجهه، لا يلوي على شيء، (قد سئم تكاليف الحياة) ومَللها ومِللها، وخللها وعللها، وعنتها وعنائها، فهو قد بلغ السبعين أو ما حولها، ولم يتزوج بعد!


أتيته مسلّماً، فرد السلام بأحسن، وسأل كل منا عن الآخر وعن أحواله، وعن هذه الحياة الكليفة وتكاليفها المكلفة!

ثم قال لي: (شكراً على السلام)! تعجبت جداً من هذه الكلمة.. أوَصَلنا في هذه الأيام، أن نشكر بعضنا على السلام؟!


كأني بهذا الشيخ الخلي، وقد صار وحيداً فريداً، وافتقد كل قرب وقريب وقرابة، حتى السلام، افتقده!


سبحان الله، آلسلام، يبخل به، وفيه أجر وفضل، و(الله هو السلام)؟!

أي جهد في إلقائه  .. وأي عناء في إبدائه؟!

ليس هناك أي جهد أو جهاد في إفشائه، ولكن: القلوب قد ضاقت، والصدور قد حرجت، فعجزت وتعاجزت!


فيا أيها الناس: (أفشوا السلام بينكم) "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها".


وحقيقة، تشعر بالأمان، وتحس بالمحبة، تجاه من ألقى إليك السلام، كيف لا، وهو يلقي إليك السلم والسلام والسلامة، ويدعو لك بذلك؟!


بل إن في السلام، علوّاً لصاحبه.. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام؛ كي تعلوا).

رواه الطبراني.


قال المناوي، في (الفيض: ٢/ ٣٠): "أي: يرتفع شأنكم؛ فإنكم إذا أفشيتموه، تحاببتم، فاجتمعت كلمتكم، فقهرتم عدوكم وعلوتم عليه. وأراد الرفعة عند الله".


فاعجب، ممن زهد عن العلو والرفعة، في الدنيا والآخرة!


والمسلِّم؛ أولى الناس بالله تعالى.. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أَوْلى الناس بالله، مَن بدأهم بالسلام).

رواه أبو داود والترمذي.


قال في (عون المعبود: ١٤/ ٧٠): "قال الطيبي: أي: أقرب الناس من المتلاقيين إلى رحمة الله، مَن بدأ بالسلام"!


فاعجب، إلى المُتوانين عن هاته الفضيلة الجليلة!


فسلِّموا على أنفسكم، وعلى أهليكم، وعلى غيركم "تحية من عند الله مباركة طيبة".. تسلموا وتغنموا وتنعموا.

وسلام السلام عليكم.



وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤٢/١٢/٦


الرِّحلة النبوية لحجِّ بيت رب البرية

 الرِّحلة النبوية لحجِّ بيت رب البرية


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وجنده.

وبعد:


فإنني في هذه المقالة، أردت لنفسي تشريفاً، ولغيري تعريفاً، بـ (رحلة نبينا عليه الصلاة والسلام، إلى بيت الله الحرام)؛ لتكون لنا رائداً ومحتدى، وقائداً ومقتدى.


وقد جرّدت مقالتي من كل شيء، سوى ذكره عليه الصلاة والسلام؛ لينسجم قارئها، فيمتع لبه، ويريح قلبه، بأعظم رحلة في التاريخ.


وأنا في هذا مرتشف من معين العلماء، ومحتذٍ فقه الفقهاء، فليس لي فيها إلا الرصف، ولكم الرشف.

وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


وها كم بدء الرحلة:

خرج عليه الصلاة والسلام، من مقامه في المدينة، بجميع نسائه، وطاف عليهن ليلته تلك، ومعه جمع غفير من الصحب الكرام.


ثم توجهوا إلى ميقات المدينة (ذي الحليفة)، فأَهَلّ من ميقاتها ما بين الظهرين، وصلى بها العصر ركعتين، وذلك بعد أن اغتسل عليه الصلاة والسلام؛ وتطيّب لحله قبل حرمه، طيّبته زوجه عائشة رضي الله عنها، وباتوا ليلتهم بذي الحليفة.


ثم أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مصلاه، فأهّل بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). 


ثم ركب عليه الصلاة والسلام، ناقته القصواء، ولبّى، ثم رقى البيداء؛ وأهلّ -متابعاً- بالتوحيد، وتابع التلبية، ولم يزل يُلَبِّي حتى استلم الحَجَر.


وأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، حينما بلغوا فَجّ الرَّوْحاء حتى بُحّت أصواتهم -وفَجّ الرَّوْحاء: يبعد عن المدينة نحواً من سبعين كيلاً-.


ثم انطلق عليه الصلاة والسلام، حتى إذا أتى سَرِف، وهو: وادٍ قبل مكة -ويسمى اليوم بـ (النوارية)- حاضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبكت؛ فطمأنها الرسول عليه الصلاة والسلام.


ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نَزَلَ بـ (ذي طُوَى) ويقال لها: (آبار الزاهر) فباتَ بها ليلة الأحد لأربعٍ خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ودخل مكة نهاراً من أعلاها من الثنية العُلْيا- التي تشرف على الحجون.


وأول ما ابتدأ به عليه الصلاة والسلام، حين دخل المسجد هو: طوافه بالبيت، ولم يركع تحية المسجد؛ لأن تحية البيت؛ الطواف.


ولما حاذى الحجر الأسود؛ استلمه ولم يزاحم عليه، ولم يذكر له ذكراً خاصاً به.


فطاف عليه الصلاة والسلام، السبعة الأشواط، مبتدئاً باستلام الحَجَر، ثم اضطبع، ورمل الأشواط الثلاثة الأُوَل، ومشى الأربعة الباقية، وكان يقرأ بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".


ثم إنه صلى الله عليه وسلم، كان كلما حاذى الحجر الأسود؛ أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، وقال: الله أكبر.

(والمحجن: عصاً محنية الرأس).


وأما الركن اليماني؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام، يستلمه، ولم يثبت عنه أنه كان يقبّله، ولم يقبّل يده عند استلامه.


وبعد أن فرغ عليه الصلاة والسلام، من طوافه بالبيت؛ أتى المقام، وجعله بينه وبين الكعبة، ثم تلا الآية: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". ثم كبر، فصلى عليه الصلاة والسلام، ركعتين، قرأ في الأولى: بسورة (الكافرون) وفي الثانية: بسورة (الإخلاص).


ثم أتى زمزم؛ فشرب منها، ثم رجع وقبّل الحجر، ثم انطلق إلى الصفا، فتلا الآيات قبل أن يرقى جبل الصفا: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم"، ثم قال: (أبدا بما بدأ الله به).


ثم رقى الصفا، حتى رأى البيت؛ فاستقبله، فكبّر الله عز وجل ثلاث تكبيرات، ثم قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده).


ثم دعا عليه الصلاة والسلام، ثم رجع مرة ثانية، وكبر ثلاث مرات، ثم هلل مرتين، ثم دعا، ثم رجع مرة ثالثة، فكبر ثلاثاً، وهلل مرتين ودعا، وابتدأ سعيه ماشياً، ثم ختمه راكباً؛ لازدحام الناس عليه.


ولما فرغ من دعائه عليه الصلاة والسلام؛ نزل الوادي، وخبَّ وسعى واشتد سعيه، والرداء يدور على ركبته من شدة سعيه.

وقال وهو يسعى: (أيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي؛ فاسعوا).


ثم رقى المروة؛ وصنع عليها مثل ما صنع على الصفا، واحتسب سبعة أشواط، مبتدئاً بالصفا، ومنتهياً بالمروة.


وكان يُصلي مدة مقامه بمكة، وهي أربعة أيام، الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، إلى يوم التروية بمنزله، بظاهر مكة، بالمسلمين، يَقْصُر الصلاة.


فلما كان اليوم الثامن -وهو يوم التروية- وهو يوم الخميس، توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مِنى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وكان بياته عليه الصلاة والسلام فيها، وكانت ليلة الجمعة.


ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة الفجر إلى عرفات من طريق ضب -وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبة- فلما وصل عرفات؛ نزل بـ نمرة، بعد صلاة الظهر والعصر -ونمرة هو: المنبسط الفسيح الذي بين حدود الحرم، ووادي عُرَنة، وهو يقرب من خمسائه متر، وليست من عرفة-؛ ضُربت له القبّة في ذلك الموضع؛ فنزل فيه، ولما زالت الشمس، حرّك ناقته القصواء، وأتى وادي عرنة، وخطب الناس خطبته المشهورة الفردة، التي تعرف بخطبة (حجة الوداع) وقد أحاط فيها بمقاصد الإسلام، وأوصى بالنساء والذِّمام، وحرّم انتهاك الأعراض والأموال والدِّماء.


واجتمع له فيها؛ قرابة مائة وعشرين ألف من الصحابة.

ومما قال فيها عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.. ألا هل بلغت؛ اللهم فاشهد) وكان يرفع أصبعه، ثم ينكتها على الصحابة، قائلاً: (اللهم فاشهد).


وبيّن فيها عليه الصلاة والسلام، عظيم الحرمات، قائلاً: (إن رِبا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه، ربا عمي العباس بن عبد المطلب).


ثم استقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه، ثم رفع يديه، وما زال يتضرع ويدعو؛ حتى غابت الشمس.


فلما أتمَّ الخطبة؛ أمَر بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسَرَّ فيهما بالقراءة -وكان يوم الجمعة- ثم أقام، فصلى العصر ركعتين، ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.


وكان يكثر أن يقول: (خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) وحثّ الناس على ذلك.


ثم مشى إلى عرفة، ووقف في ذيل الجبل عند الصخرات، ووقف بها، وقال: (وقفت هاهنا، وجَمْع كلها موقف).


فكان نزوله بـ نمرة، وخطبته بـ عرَنة، ووقوفه بـ عرفة، وهذا مفرق دقيق، يغيب عن البعض ويعزب.


وفي عرفة؛ نزلت آخر آية، من القرآن: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" وكأن فيها إشارة؛ إلى أن الحج كان متمماً للإسلام، فلما قضي أهم أركانه، وهو: الوقوف بعرفة؛ كان الإكمال والتمام والرضى -فلك اللهم الحمد والمنة-.


وبعد أن فرغ من الدعاء؛ انتظر حتى غابت الشمس، ثم دفع إلى مزدلفة، بعد مغيب الشمس وذهاب الصفرة التي تلي المغيب، وهو يسير العَنَق -وهو السير الذي بين الإبطاء والإسراع- فإذا وجد فجوة؛ نص -والنص: فوق العنق-.


وكان الناس أمامه ووراءه، ويمينه وشماله -عليه الصلاة والسلام- يمدّ بصره، ويقول: (أيها الناس: السكينة السكينة، فإن البِّر ليس بالإيضاع) -والإيضاع: هو تكلف الإسراع في السير-.


وأخَّر المغرب والعشاء إلى مزدلفة،

فلما أتى الشعب -وهو الذي قبل المشعر- دخل عليه الصلاة والسلام، فيه، وقضى حاجته، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، وكان رديفه: أسامة بن زيد رضي الله عنهما.


ثم أمر عليه الصلاة والسلام، بلالاً؛ فأذن، ثم أمره فأقام، فصلّى صلى الله عليه وسلم، بالناس المغرب، ثم انتظر بقدر ما يحط الرَّحل، ثم أمره أن يقيم؛ فصلى بالناس العشاء، ولم يسبّح بينهما، ولا على إثرهما.


ونام حتى أصبح، ثم في صبيحة يوم العيد؛ غَلَّس -عليه الصلاة والسلام- بصلاة الفجر، فصلّى صلاة الفجر في أول وقتها؛ لأجل الدعاء.


وفي طريقه؛ أمَر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن يَلْقُط له حصى الجمار، سبع حصيات؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول:(بأمثال هؤلاء؛ فارموا، وإياكم والغلو في الدِّين).


ثم مضى عليه الصلاة والسلام، إلى مِنى، وكان رديفه: الفضل بن العباس رضي الله عنهما، فلما بلغ وادي مُحسِّر؛ أسرع عليه الصلاة والسلام، ولما أتى منى؛ حيّاها برمي جمرة العقبة.


ولم يزل يُلبّي، حتى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات راكباً، بعد طلوع الشمس، من بطن الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، يكبّر مع كل حصاة.


ثم رجع منى؛ فخطب الناس خطبةً بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وفضله، وحرمة مكة، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وعلّمهم مناسكهم.


وبعد أن رمى عليه الصلاة والسلام؛ نحَر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة -بعدد عمره المبارك- ووكَّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن ينحر سبعاً وثلاثين بدنة؛ لتتم المائة.

وأمره، أن يتصدق بها في المساكين، وأن لا يعطي الجزار في جِزارتها شيئاً منها.


ثم حلَق رأسه عليه الصلاة والسلام؛ فأعطى الحلاّق شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، ودفع شعره إلى أبي طلحة رضي الله عنه، وقال: (اقسمه بين الناس) ودعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة، وطيّبته عائشة رضي الله عنها، قبل أن يحل.

وتحلل التحلل الأول؛ فباح به وله كل شيء، إلا النساء.


وبعدها: وقف عليه الصلاة والسلام، للناس يسألونه؛ فخففّ عليهم ويسّر، ثم مضى إلى البيت، وطاف يوم النحر طواف الإفاضة، راكباً؛ ليبرز للناس، فيروا ما يفعله -عليه الصلاة والسلام- في مناسكه، وهو القائل: (لتأخذوا عني مناسككم).

ولم يطفْ غيره، ولم يسعَ معه، ولم يرمل فيه، ولا في طواف الوداع، وإنما رمل في القدوم فقط.


ثم جاء سقاية بني العباس؛ فشرب منها -عليه الصلاة والسلام- ثم انطلق إلى منى، وصلى بها الظهر والعصر، وبات بها ليلة الحادي عشر، فمكث حتى إذا زالت الشمس؛ بدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصوات، ثم أسهل جهة الوادي، فرفع كفيه، ودعا -عليه الصلاة والسلام- دعاء طويلاً، قدر سورة البقرة.


ثم انطلق؛ فرمى الجمرة الوسطى بسبع حصيات، ثم أسهل ودعا -عليه الصلاة والسلام-، قريباً من دعائه الأول.


ثم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي، فأتمّ الرمي للجمرات الثلاث، وانصرف عنها، ولم يقفْ داعياً.


ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، بات ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ولم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، وأفاض بعد الظهر إلى المحصّب، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة، ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سَحَراً.


ثم طاف -عليه الصلاة والسلام- طواف الوداع، ولم يرمل في طوافه هذا، ثم مضى إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام-.


وبعد..

فهذا مجمل رحلته عليه الصلاة والسلام، إلى حج بيت الله الحرام، وهي حجته الأولى والأخيرة، فلم يحج -عليه الصلاة والسلام- غيرها، بل ظهرت مؤشرات موته، ومبشرات عمله، فودّع ذلك الجمع المهيب، وكان الوداع الأخير.


أسأل الله بمنه وكرمه، وفضله وإحسانه.. أن يمنّ علينا بحج بيته الحرام، عاماً بعد عام، ونحن في أمن وسلام، وفضل وإنعام، إنه سبحانه جواد كريم، بر رحيم.

"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين"،

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.


انتخبها: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/١٢/٧

الأحد، 11 يوليو 2021

وانقضّ كوكب صنعاء!

وانقضّ كوكب صنعاء!

العلامة الكبير، والقاضي النحرير، والفقيه الخطير، مجيزنا وشيخنا: محمد بن إسماعيل العمراني.. يغادر دنيانا الأفنة، وحياتنا العفنة، بعد عشرة عقود مباركة، قضَاها في أروقة الدرس، ثم قضّاها في ردهات التدريس: مفتياً، وقاضياً، ومعلماً، ومدرساً، ومجيزاً.. لا يكلّ ولا يمل، بأناة وصبر وتؤدة وورع ووجل، دون تسرع أو عجل!


يعرف فضل من سبقه من أهل العلم والمعرفة .. عفّ اللسان، بل منافحاً عن سبيل المؤمنين وعلمائه، من المتقدمين والمحدَثين!

صعَد إلى ذرى المجد بعلمه، وتصدر العلماء بفقهه، ونجم نجمه بفهمه، لم يتنكب طريقاً، أو يتنكف صديقاً، سليم قلبه على المسلمين.


شهدته، يأتي إلى مسجده (الزبيري) قبيل المغرب بردهة، فيصلي ركعتين في محرابه، ثم يرفع سجادته، ليتناول تحتها لفيفاً من مزع الورق وقطعها، وضعها هناك من أرداد التفقه والتثقيف، فيبدأ بالإجابة والرد على كل سؤال، دون تبرم أو يأس، ولا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً!

وهذه عادة بينه وبينهم، استمرت لسنوات!


أول زيارة له، كانت في ٢١ جمادى الأولى لعام ١٤٣٠، في مسجده بصنعاء.

سلّمت عليه، وأجازني، وحضرت له درسه بعد المغرب، الذي ظل سنوات بل ربما عقوداً، يحضره لفيف من الكبار والصغار، من القضاة والوزراء، ويفهمه الجميع!


وقد شرح في هذا المسجد.. كتباً كثيرة، كـ (بداية المجتهد) و(زاد المعاد) وبعض كتب الشوكاني، إلى غيرها من الأسفار الكبار.

وكنت أتحسر لفوات هذه الكنوز، ولكن هاتفني أحد الإخوة، في رمضان (١٤٤١) وأخبرني: أنهم كوّنوا لجنة من المشايخ والأساتذة؛ لإخراج كل تراث الشيخ، قال: وهم الآن في صدد الجمع، ولعله يكون في نحو من مائة مجلد!

فحمدت الله على ذلك، وشكرته، وشددت من عضده.

والله يوفقهم ويسددهم.


وقرّظ لي حينها، شرحي على (لامية ابن الوردي) كل ذلك، بخط يده المعلوم لدى طلبة العلم.


ولم يكن هذا الفضل كله، إلا بعد قصة طريفة ظريفة، جرت بيني وبينه، لم تخلُ من حدة وشدة، لكنها مشوبة بحرص وحزم، سرعان ما ذابت وزالت!


ثم توالت بعدها.. زياراتي له، تارة في بيته، وأخرى في مسجده المعلوم، وأحياناً، لم ألقه -وذلك لأمراضه الأخيرة المتكررة- فأرجع أجرّ أذيالي، دون تبرم أو يأس، بل أعود أخرى لمثلها.


آتيه بعض الزورات.. وهو يصلي في جماعة، على كرسي من التعب والكبَر!

وهكذا الأيام والكِبَر، تهدان الإنسان، وتفلاّن قواه، وتنهكان جسده!


إن الثمانين وبلّغتها *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان!


قلت: بل هو قد جاوز الثمانين، بل خنق المائة، بل تعداها بسنوات!


أهل الحديث طويلة أعمارهم *** ووجوههم بدعا النبي منضّرة


وحينها.. كنت آتيه، فأراه مقبلاً يجرّ خطاه جراً، ويسحبها في الأرض سحباً، ولا يكاد يرفعها عن الأرض،

حتى نهاديه يميناً وشمالاً، فيقعد على الأرض، ثم يستند إلى جدار، ويتكئ بنصف جسده على متكأ، ولتوه، يخرج قلمه؛ ليوقّع على فتاوي الناس!


وتعجب له، في هذا السن الطويل، وهو يحرص على نفع الآخرين، بل إني قرأت عليه، وهو في حاله هذا (الأوائل السنبلية) في جلسة واحدة، وكنت أحدِر قليلاً؛ خشية الانقطاع أو التقطع، فكان يستفهمني أحياناً، ويشير إلي بالتمهل، فاعجب!


ثم أقيم على كرسي، وأخذنا نسأله بعض الأسئلة، وهو يجيب بصوت شاحب خافت متهدج، قد أنهكه كثرة الكلام على مدار الأيام، من تدريس وتعليم.


ثم قطع المجلس.. بأن رفع يديه وصوته مكبراً: الله أكبر؛ لصلاة الضحى!

ثم نظر إلينا، قائلاً: قوموا صلوا صلاة الضحى "صلاة الأوابين"


ولا يزال كل يوم، يجلس في بيته صباحاً، حتى ما شاء الله؛ ليصادق على فتاوي الناس!


فسبحان الله، كيف يعطي الله هؤلاء العلماء، جلَداً على العلم وتبليغه.


فالشيخ.. طود شامخ، وقامة شادخة في العلم والفتيا، مع ظرافة ولطافة وإحماض.


والقاضي.. خزانة علم ومعرفة، وخزينة قصص وأمثال، ومخزن مآثر وآثار.


دروسه لا تمل؛ لاحتوائها على التأصيل والفكاهة، وفتاويه لا ترد؛ لما تحويه من الدليل والتعليل.


هو من الكبار الأساطين: قولاً وعملاً .. سناً وقدرا.


ولم أردْ في هاته العجالة الحزينة، أن أترجم له، فهذه ليس أوانها، وليست لي، بل لآخرين، عاشوا معه، وصحبوا أنفاسه، طيلة سنوات، فهنيئاً لهم.


رحم الله -شيخنا الجليل- رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، ولقاه نضرة وسروراً، وكساه إستبرقاً وحريراً، وعوضه الله جنة الفردوس، كفاء ما أحيا من النفوس.


"إنا لله وإنا إليه راجعون"، و(إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)


وعزائي لأهله وذريته وطلابه وتلاميذه ومحبيه، بل لربوع اليمن أجمع، بله للعالَم الإسلامي كله، فهو شيخ الكل، وأستاذ الجميع، فالمصيبة عامة غامة، والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/١٢/٢