الاثنين، 17 أكتوبر 2022

مضيضُ أحزان!

 مضيضُ أحزان!


نعم، لعلي أكون أنا، أوسعكم حزناً، وأشدكم ألماً.. لفراق هذا العالم العامل، المحقق النحرير: محمد عزير شمس -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار-.


وذلك؛ لأن حزني عليه، مرتين:

الأولى: الحزن على فراق هذا القرم القمقام، الذي تقلب في أنحاء حياته، بين جد وكد .. بين بحث وفتش .. بين تحقيق وتدقيق .. بين تأليف وتصنيف .. بين نفع وبذل .. بين دأب وأدب .. بين شعر ونثر.. هذا الخريت الماهر، الذي ألهب -فراقه- الأنفس، وأدمع الأعين، وأعقد الألسن.

وهذا حزن الجميع.


أما الحزن، الذي يخصني دون غيري -ولعل من كان مثلي، أن يشركني-! إنه الحزن والأسى، لرحيل هذا الهمام الأمام، دون أن أحظى منه بجلسة، ولو خلسة!


تالله، إن في قلبي حرقة، وفي نفسي لوعة، وأحس بخطأ تجاه نفسي، وتجاه غيري، فاللهم غفراً.


ولي زفرة لا يوسع القلب ردّها *** وكيف وتيّار الأسى يتدفعُ


 لا أدري، كيف سوّفت .. كيف كسلت .. كيف فرطت؟!

لا أدري، هل تهيب من العلامة الجليل، التي أكسبته تيك المهابة، تحاقيقه الرصينة، وتصانيفه المتينة!


لا أدري، أهو الانزواء الذي أصبت به بأخرة، ليس زهداً، ولكن انكفاء على النفس والأهل والولد -ونعما هم-، مع ما صاحب الجم، من التصنع والبهرج -ولا نسلم-!


حتى أن بعض صحبي، حثني قبل أيام، على زورة المسند المعمر عبد الوكيل الهندي الهاشمي، وأنا في تعلل وتململ، إلى أن خلعت رداء الونى، وبادرته، والحمد لله.


وكم حزنت قبلاً، على الشيخ الحبيب أبي الحارث الحلبي -رحمه الله- وقد ضربت بيننا مواعيد، ولكن، لم تتم، فلا بلاغ إلا بالله.


إلى أن سمعت صائحه، ذات مساء، فرجفت ووكفت، لا سيما، وقد كان أحد أعضاء مجموعة شماء جامعة!


بكاك أخ لم تحوه بقرابة *** بلى، إن إخوان الصفاء أقاربُ



بل إن اللواعج تختلجني، والحسرة تجتاحني، حين قراءتي عن الرعيل الأول- سواء من عاصرتهم ولم أدركهم، أو من بيني وبينهم مطاوي السنين.. لكني، أعلل نفسي؛ باستحالة ذلك وعدم إمكانه، ولكن، كيف أعللها، بمن فقدته، وهو بين ظهراني؟!

اللهم صبراً وجبراً.


ولا أظنني فريد حاله، في هاته البابة، بل إنه ورد عن بعض التابعين، تأسفهم؛ أن لم يدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدهم قال: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع فارق المتأسَّف عليه!


إني أعالج اليوم، زفراتي المتتالية، وزجراتي المتوالية، ولم آسو بعدُ من جراح فقْد شيخي الحبيب (القديمي) وكنت قد فارقته منذ عام، -حينما أزمعت سفراً، أفرّ به من الإحن والمحن- وقد كان بي حفياً، فالله المستعان وحده.


ما مضيض الكلوم معتبطات *** كمضيض الكلوم فوق الكلومِ


وعزاؤنا.. أنهم تركوا لنا تراثاً، نشتم أريجهم بين معاطفه، ونقرأ حروفهم في سطوره، ونتخيل شخوصهم على أغلفته.


إن كان جسمك في التراب مغيّباً *** فجميل ذكرك في القلوب أقاما



ولعمر الحق، إني لآنس بمجالسة أهل العلم والفضل، وأتدثر بمسامرتهم، وأتفيأ ظلالهم، وأتروى نميرهم، وكأنني في رياض أريضة، وغياض مغيضة!


فيا إخوتاه، ترووا من بعضكم، وتجافوا عن خلافاتكم، واحرصوا على الزيارات الأنسية، واللقاءات العلمية، فإنها تعدل الدنيا بل وترجح.


ولا حسن إلا سماع حديثكم *** مشافهة يتلى علي، فأسمعُ



وإنها لنبثة نفس، ونفهة نفَس، فاعفوا واصفحوا..



وليد 

١٤٤٤/٣/٢٠

الأربعاء، 12 أكتوبر 2022

وانكسفت شمس الرواية والعلو!

 وانكسفت شمس الرواية والعلو!


بلغني الآن، نبأ وفاة شيخي الجليل، الأواه المتبتل، العالم العامل، الفقيه الحكيم، المسند المعمر الشريف: إبراهيم بن عمرو القديمي.. فأخذت في الاسترجاع: إنا لله وإنا إليه راجعون.


وقد كان الفقيد، يعني لي الكثير، فقد قرأت عليه كثيراً، ولازمته كثيراً، وجالسته كثيراً، وزرته مراراً بصحبة أولادي، وفي كل مرة أعود بطين العقل، مترع القلب، بالعلم والإيمان، طيب النفس، مطيب اليد والجسد.


ناف الفقيد المائة عام برتوات، وهو ممتع بحواسه كلها، سوى بطؤ خفيف في السمع، مع ملازمة العبادة، والاتشاح بالعبودية، والتزام الزهد والورع، والكفاف والانكفاف.


ملتزم بأوراد لا ينفك عنها ولا يفارقها، ويأبى أن يتكلم إذا شرع في قراءتها، لا سيما، بعد صلاة الفجر، وبعد العصر.


دائماً، سواكه في جيبه، يشوص فاه، لا سيما، قبيل الصلوات، متبعاً سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم متحرّيها.

ودائماً، يلازم طيبه، وتشتم منه رائحة جميلة، ثم لا ينسى، إحذائك من طيبه، فور سلامك عليه، أو عند مفارقتك إياه.


كنت أقرأ عليه في "صحيح البخاري" وهو كأحسن سامع وصاغ، لا يخرم شيئاً، بل يسابقني في القراءة .. يفكك الألفاظ، ويشرح بجوارحه، دون تبرم أو تورم، أو غضب وتعصب، بل تراه يتهلل وجهه، وتبرق أساريره.


وهو عال الإسناد جداً، وقد اُكتشف علو إسناده، أواخر عمره، -في مصادفة طريفة ظريفة- فهرع نحوه الطلاب، يقرؤون عليه، صباحاً ومساء، يفترشون الممر الصغير، بجوار بيته، وهو صابر محتسب لا يرد أحداً.


وعلى كبر سنّه، إلا أنه لا يكاد ينسى طالبه، مع طول عهده به، فبعد التحديق في نظره، والمسك بيده، ينطق اسمه بقوة وثبات، وربما معه، اسم الأب والقبيلة أو العائلة.


ومحاسنه جمة، وحسناته عمة، وسيرته حافلة، تحتاج إلى أوراق وأوراق، في ذكر شيوخه ورحلته وطلبه وقراءته وإقرائه وحياته وعبادته وعبوديته، وهذه نفثات ونبثات، أبديتها الساعة، فور سماعي الفاجعة.


وآخر زيارة له، كانت قبل سنة، وكنت أمنّي النفس بالتروي مرات وكرات من نمير علمه وخلقه وسمته ودله، لكني، سافرت ولم أتمكن من الرجوع، فواحزناه!


رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، وأحسن الله عزاءنا وعزاء أهله وذويه، وعزاء الإسناد والرواية.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/٣/١٦


#وفاة_علم

الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

عجبي من رجلين: سيف الدولة وشاعر كندة!

 


عجبي من رجلين: سيف الدولة وشاعر كندة!


كان شاعر كندة "المتنبي"، يعيش في كنف الأمير الكريم، في رغادة عيش، وطراوة حياة؛ حتى دُقّ بينهما عطر المشؤومة منشم بنت عامر، -وما أكثر دقه ودقوقه من الحقدة الحسدة، لا كثروا ولا وفروا-!


وبعد وشايات شعواء، ونكايات نكداء؛ تبدد ذاك الهناء، وتقوض ذياك البناء، فصُعر خد الحبيب، ودوى الغصن الرطيب؛ فلم يحتمل شاعرنا، ذاك التغير المريب، وأوحى له إباء نفسه، وشكيمة روحه، بالقفول، فأزمع الرحيل، وصارم البلاط؛ حفظاً لماء وجهه، واحتفاظاً بأصالة معدنه، على لواعج الشوق، وكوامن الذكرى، إلى تلك المرابع، وتياك المراتع!

ولكن:

فإن إراقة ماء الحياةِ *** دون إراقة ماء المحيّا



وأما السيف.. فإنه بعد رحيل صاحبه، ومضيه إلى الأرض يدّرعها..  تحسر على فرق مفارقته، وندم على قطع منادمته؛ على أن عنده الجم الكثير من الشعراء والأدباء، ولكنه تشاكل الأرواح:


وتأنسُ النفس في نفسٍ توافقها *** بالفكر والطبع والغايات والقيمِ!


حاول استرضاءه، وعالج إرجاعه، إلا أن أنف صاحبنا قد حمي (وحسبك من أنف العربي، إذا حم)!


ولما يئس من عودة توأم فؤاده، وأيس من رجوع شقيق روحه.. وصله بوصله الجزيل، ومد إليه حبله المتين، ولم يتركه يتيه في بيداء الحاجة، ويتضور ذل الفقر، بل حفظ له الود، وعرف الجميل، فلم يزل باعثاً إليه هداياه، وحاذياً له حذاياه!

وصدق شيخ العربية، في قيله: "ومعرفة الجميل؛ خلق لا ينبغي التهاون به"!


إن السيف، على حدة سيفه، واحتداد نفسه.. لم يوسِع الفجوة، ويوسّع الخرق، بل سعى إلى فتقه ورتقه، على قدر وكده وجهده، فما أحراهما بالمديحة، وأجدرهما بالمنيحة.

وما أجمله من هجر جميل، لا أذية فيه، ولا شكاية منه!


وإني على الحالَين في العتب والرضى *** مقيمٌ على ما كان يعرف من وُدّي!



تعريج: وإني أمحضك صحيح النصح وأصرحه.. أن تعود إلى كتاب "المتنبي" للعلامة أبي فهر؛ فإنك واجد فيه ما يخلب لبّك، ويفك غلك، ويشفي غليلك، فلم يترك لغيره متركاً، وحسبك بمحمود في فتشه ونكشه، و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"



تعريك: قال أبو نعيم: وإني أنفث نفثة مصدور، معقباً على ما جرى بين الرجلين، فأقول: هذا ما كان بين أمير وشاعر، من: رفيع الخلق، وجليل الأدب، ومعرفة الجميل، وعرفان العشرة، دون مناكفة ومداورة، ومن دون كشف أسرار، وهتك أستار..


على خلاف بعض أهل زماننا، الذين يبهتون مخالفهم، وينتهبون أفضالهم، ولو كانوا ممن يشار عليهم، أو يرحل إليهم!


لما كان موافقاً لهم، كان، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، وحسنة الأيام.

فلما خالفهم أو خالفوه؛ إذ ينقلب الشيخ والمفتي والحسنة.. جهِلاً جاهلاً جهولاً مجهالاً مجهلاً مجهولاً، وهلم جراً وسحباً!


وليس هذا فحسب، بل يحاول أفدعهم وأقذعهم؛ إلصاقه كل دهية، وإلباسه كل رزية، فأين الدين والخلق والمروءة؟!


ولم يقف هؤلاء الخصمون، عند حد، بل يجيشون الجيوش والدساكر، ويجلبون بخيلهم ورجلهم، في خلع المسكين، من كل فضيله، ووصمه بكل رذيلة.


بل يسعون جهدين جاهدين، في قطع رزقه، ووقف عمله، حتى يصير مشرداً ساهماً، فيحكمون بعقوبته، ويتلذذون بضعفه وحاجته.. إنهم "لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون" قطع الله دابرهم، وهو فاعل سبحانه، فـ "لا يحيق المكر السيء إلا بأهله" و"قُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".


وأجرؤ من رأيت بظهر غيبٍ *** على عيب الرجال أخو العيوبِ!


اللهم مسّكنا بالإسلام وأدبه.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢/٢٠