الاثنين، 25 أبريل 2022

أداء المناسك من اليمن!

 أداء المناسك من اليمن!


الحاج أو المعتمر اليمني.. ما به؟! كل خلق الله يعتمر ويحج، فما باله اليمني؟!

نعم، الكل يؤدّي المناسك، ويزور البيت، ويقصد الروضة، ويزور بقعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، (وهي أفضل بقعة على وجه الأرض، لا لذاتها، ولكن؛ لاحتوائها ذاته ونفسه الشريفة، ينظر: (نسيم الرياض: ٣/ ٥٣١) و(التحفة اللطيفة: ١٢) و(الفتاوى الكبرى: ٤/ ٤١١) و(مجموع الفتاوى: ٢٧/ ٣٨)) ويسلّم على صاحبيه رضي الله عنهما.. من شتى الخلق والخليقة، ومن شت البلاد والبلدان، لكن مناسك أهل اليمن تختلف، ليست من حيث الصفة والكيفية، فالكل سواسية، ولكن من حيث الحال والوسيلة والأداة والدرب!


فحالته المادية -في الغالب- ضعيفة كليلة، قليل دخله، شحيحة موارده، لا يكاد يسد رمقه وأطفاله وعائلته، إلا أنه متدين بفطرته.. يحب الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الحق!

وهو شديد اللهف والكلف؛ لأداء وبأداء المناسك، فرغم عوزه، إلا أنه لا يصبر على بيت الله وحرمه، بل بعضهم: يبيع بيته، والثاني: يبيع بقرته التي عليها المعول في الحرث والحليب، والآخر: يستلف ويستدين!


هو النفس الصعّاد من كبد حرّى *** إلى أن أرى أم القرى مرة أخرى


وما عذر مطروح بمكة رَحله *** على غير بوس لا يجوع ولا يعرى


يسافر عنها يبتغي بدلاً بها *** وربك لا عذراً .. وربك لا عذرا


ولا غرابة أن ترى نزراً منهم، يؤمّون بيت الله الحرام، وليس لهم زاد ولا مزودة؛ لخلوّ وفاضهم، وبدوّ أنفاضهم، فما إن يتيسر لهم قيمة التأشيرة، إلا ويسرعون ويسارعون، ثم، ناشدين التوكل على الله، طامعين في فضل الله، ظانين أن الناس مثلهم، في الإيواء والإطعام والإكرام!


ولم يعلموا، أن الزمان غير الزمان، والرجال غير الرجال؛ فقد انشغل كل بنفسه، وانزوى في زاويته، وانطوى على بيته، لا يحب زورة ولا دورة، إلا من رحم الرحيم.


ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلْف كجلد الأجربِ


مات الناس، وبقي النسناس، مات الكرام، وبقي اللئام..

مات أهل الفضل لم يبق سوى *** مقرف أو من على الأصل اتّكلْ


وقال عمرو بن معديكرب الزبيدي:

ذهب الذين أحبهم *** وبقيت مثل السيف فردا


وقال مصعب الزبيري يرثي إسحاق الموصلي:

أرى الناس كالنسناس لم يبق منهم *** خلافك إلا حشوة وزعانف!


ومن المعلوم.. أن أهل اليمن، يضيفون الضيف، ويحبون الغريب، ولا يتضيقون من النازل، بل يوسعون له الدار، ويذبحون له الذبائح، ويمنحونه المنائح، وإن كان بينهم وحر وترة!


على أن هذا من الخطأ الغالط، لا ينبغي أن يكون، ولكن بعضهم لا يملك زمام نفسه، ولا يستطيع كبح جماح نفَسه!


يا من يسافر في البلاد منقباً *** إني إلى البلد الحرام مسافر


إن هاجر الإنسان عن أوطانه *** فالله أولى مَن إليه يهاجر


وتجارة الأبرار تلك ومن يبِع *** بالدين دنياه فنعم التاجر


وعليه، فإني أنادي إخواني من الموسرين أو المقيمين في أكناف البيت الحرام وما والاه: أن ارفقوا بإخوانكم، وأطعموهم، وآووهم، وزودوهم، "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"

هذا الأمر الأول..


الأمر الثاني.. بُعد الشقة، وشدة المشقة، في رحلة اليمني إلى بيت الله الحرام، وليس بُعداً فحسب، بل إن الطريق مخدد ومبدد، وصعب ووعر، ومحفر ومطبب، فلا يكاد يسلم كيلو متر من هذه الأوصاف المضة والممرضة.


فالرحلة، تستغرق في العادة من يومين إلى ثلاثة دون وقوف أو توقف، وأحياناً تستمر إلى خمسة أيام، وربما تضاعفت إلى عشرة أيام بلياليها؛ وذلك إذا صادف ازدحاماً في المنفذ، أو عراقل وعقابيل!


تخيلوا، رجال ونساء، وكبار وصغار، ومرضى وزمنى، يطوون هاته المسافات البعيدة، مع طول مكوث، وإطالة انتظار، وتطويل طريق!


طوت بهم المراحل في الفَيافي *** قَلائص تذرع الفلوات كوم


فَلَمسان فسر دد ثم مور *** فَحَيران لهن به رَسيم


إِلى حرض إلى خلب تراث *** إلى جازان جازَت وهيَ هيم


ومرت في ربا ضمد وَصيبا *** ولؤلؤة وَغَوان تهيم


وذهبان وَفي عمق وَحلى *** تساورها المفاوز وَالرسوم


وفي ببة وَفي كنفي قنوتا *** سرت وَاللَيل منعكر بهيم


فَذوقة فالرياضة فاستمرت *** بجنب الحفر يطربها النَسيم


إِلى الميقات ظلت خائضات *** غمار الآل يلحقها السموم


وباتَت عند ما وردت اذا ما *** تحن فَلا تَنام وَلا تنيم


وفي أم القرى قرت عيون *** عشية لاح زمزم وَالحَطيم


أولاك الوفد وفد اللَه لاذوا *** إليه بفقرهم وَهُوَ الكَريم


وطافوا قادمين يبيت رب *** فتم لهم طوافهم القدوم


وبين المروتين سعوا سبوعاً *** لكي يمحوا شقاءهم النَعيم


قلت: آه، يا عبد الرحيم، هيجت الأحزان، وألهبت المشاعر.. فقد كانت هذه هي طريق الحاج والمعتمر اليمني، منذ آماد وآباد، ولكن، قد تغيرت الدروب، وغيرت الطرق، وبوعد بين أسفارنا، فلسنا بالغيه إلا بشق الأنفس، والله وحده المستعان.


إلا أنه، ومع هذه المنكدات والمكدرات.. إلا أن الواحد منهم، يقلب المحن إلى منح، ويحوّل المشاق إلى أشواق، إلى بيت الله العتيق!


أهيم بروحي على الرابيه *** وعند المطاف وفي المروتين


وأهفو إلى ذِكَر غاليه *** لدى البيت والخيف والأخشبين


فيهدر دمعي بمآقيه *** ويجري لظاه على الوجنتين


ويصرخ شوقي بأعماقيه *** فأرسل من مقلتي دمعتين


أمرغ خدي ببطحائه *** وألمس منه الثرى باليدين


ونظرة عجلى إلى قصيدة عبد الرحيم البرعي، في تشوقه للحج، -مع قطع النظر إلى حال القائل-؛ تدرك قدر التلهف، ومقدار التمزق، ومنها:


ضربت سعاد خيامها بفؤادي *** من قبل سفك دمي بسفح الوادي


ما كان حجة من أقام بمكة *** أن لا يحدثني حديث سعاد


بعثت إليََ من الحجاز خيالها *** شتان بين بلادها وبلادي


يا هذه عوّدتني ألم الضنى *** وأراك لست أراك في العواد


فقف المطيّ ولو كلمحة ناظر *** بربا المحصّب أو منى يا حادي


وأعد حديثك عن أباطح مكة *** وعن الفريق أرائح أم غادي


ومسرّةً للناظرين بدت لنا *** ما بين سوق سويقة وجياد


ومن شعره أيضا وهو يخاطب الركاب:


قل للمطي التي قد طال مسراها *** من بعد تقبيل يمناها ويسراها


ما ضرّها يوم جد البين لو وقفت *** تقص في الحي شكوانا وشكواها


لو حملت بعض ما حملت من حرق *** ما استعذبت ماءها الصافي ومرعاها


لكنها علمت وجدي فأوجدها *** شوق إلى الشام أبكاني وأبكاها


ما هب من جبلي نجد نسيم صبا *** للغور إلا وأشجاني وأشجاها


ولا سرى البارق المكي مبتسماً *** إلا وأسهرني وهناً وأسراها


تبادرت من ربا نيّابتَي بُرَع *** كأن صوت رسول الله ناداها


ومنها، وهي مشهورة مجهورة:

يا راحلينَ إلى منىً بقيادي *** هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي


سرتم وسار دليكم يا وحشتي *** والعيس أطربني وصوت الحادي


حرمتمُ جفني المنام لبعدكم *** يا ساكنين المنحنى والوادي


فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا *** منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي


وتذكّروا عند الطواف متيماً *** صبّاً فني بالشوق والإبعادِ


لي من ربا أطلال مكّة مرغبٌ *** فعسى الإلهُ يجودُ لي بمرادي


ويلوحُ لي ما بين زمزم والصفا *** عند المقام سمعت صوت منادي


ويقول لي: يا نائماً جدَّ السُرى *** عرفاتُ تجلو كلّ قلبٍ صادي


تالله ما أحلى المبيت على منى *** في يوم عيد أشرفِ الأعيادِ


الناسُ قد حجّوا وقد بلغوا المنى *** وأنا حججتُ فما بلغتُ مرادي


حجوا وقد غفر الإلهُ ذنوبَهُم *** باتوا بِمُزدَلَفَه بغيرِ تمادِ


ذبحوا ضحاياهُم وسال دماؤُها *** وأنا المتَيَّمُ قد نحرتُ فؤادي


حلقوا رؤوسَهمو وقصّوا ظُفرَهُم *** قَبِلَ المُهَيمنُ توبةَ الأسيادِ


لبسوا ثياب البيض منشور الرّضا *** وأنا المتيم قد لبست سوادي


يا ربِّ أنت وصلتَهُم وقطَعتني *** فبحقِّـ"كـ"ـم يا ربّ حل قيادي


ويقول الشاعر أحمد سالم باعطب: يا مهجةَ الأرضِ يا ريحانةَ العُمرُ *** حبيبتي أنت في حِليِّ وفي سفري


كم بِتُّ أرسمُ أحلامي مطرَّزةً *** إليك بالشوق والتذكارِ والسَّهرِ


يا خير أمِّ رعَى الرحمنُ مولدَها *** ومنيةَ العاشقينِ: السَّمعِ والبَصرِ


طهورُها الحُبُ والإيمانُ حلَّتُها *** وعقدُها دررُ الآياتِ والسُّوَر


أنا سليل العُلى والسادة الغرر *** أنا المناجيكِ في الظلماءِ والسَّحَرِ


أنا الذي أرضعتْني كُلُّ ثانيَةٍ *** قبَّلْتُ فيها يدَيْك الحُبَّ من صِغَري


أنا الذي طَرِبَ العشاقُ من طَربي *** وزاحموا الشُّهْبَ أفواجاً على أثري


حبيبتي أنتِ أزكى حُرَّةٍ حمَلَتْ *** في راحتيها ضياءَ الشَّمْسِ والقمرِ


يا ربَّةَ الخُلُقِ المحمودِ والسِّيَرِ يا *** عَالمَ النور يجلُو ظلمةَ البَشَرِ


يا قلبَ أرضِ بلادِ اللهِ قاطبةً *** يطُوفُ حولَك طُهْرُ الحِجْرِ والحَجَرِ


إنْ كان حُبُّ الفَتَى في عرفهِ *** قَدَراً فإنَّ حُبُّكِ في عُرْفِ الهُدى قدري


لا شيءَ يملاُ أكوابي إذا فَرَغَتْ *** إلاَّ رضابُ المنى من ثغركِ العَطِر


وهذه نفحات من أديب العربية الحضرمي علي أحمد باكثير:


طف بي بمكة إني هدّني تعبي *** واترك عناني فإني هاهنا أربي


ودع فؤادي يمرح في مرابعها *** ففي مرابعها يغدو الفؤاد صبي


هنا أمرغ خدي صبوة وجوىً *** فتهتف الحور بشرى خدك الترب


فإن رأيت دموعي أنبتت حجراً *** فتلك مني دموع الفرحة العجب


هنا بمكة آي الله قد نزلت *** هنا تربى رسول الله خير نبي


هنا الصحابة عاشوا يصنعون لنا *** مجداً فريدا على الأيام لم يشب


كم هزني الشوق يا خير الديار وكم *** عانيت بعدك وجدا دائم السبب


إلا إليك أرى الأشواق تقعد بي *** وعند ذكرك أشواقي تحلق بي


وعند ذكرك أنسى أنني بشر *** وكالملائك أحيا في المدى الرحب


فتبدعين كياني من تقى وهدى *** فلا أحس بما ألقاه من وصب


ما غير زورة بيت الله ترجع لي *** شباب روحي إذا امتدت يد النوب


ربي حنانيك فاكتبها وخذ بيدي *** كي يهتف القلب يا فوزي ويا طربي


ومن أقدم الشعر في التشوق إلى مكة، ما قاله مضاض بن عمرو، يندب حظه وحظ قومه الذين خرجوا أو أخرجوا من مكة، وقد وصل إليها متعقباً إبلاً له، فوقف على جبل أبي قبيس، وأنشد قصيدة طويلة، منها:

وقائلة والدمع سكب مبادرُ *** وقد شرقت بالدمع منها المحاجر


كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** مقام ولم يسمر بمكة سامر


ولم يتربع واسطاً فجنوبه *** إلى المنحنى من ذا الأراكة حاضر


فقلت لها والقلب مني كأنما *** يلجلجه بين الجناحين طائر:


بلى نحن كنا أهلها فأزالنا *** صروف الليالي والجدود العواثر


والأمر الثالث: هو ما تشهده بلاد اليمن، من حرب دامية، وظروف قاسية، وما خلفته من انقطاع للكهرباء، وتقطع في الماء، وتدهور في وسائل تواصل النقل والاتصال.. إلا أنهم دائماً يتغلبون على المصاعب والمتاعب، فتراهم يخرجون من بيوتهم، ولا يملكون قيمة الغداء؛ لكن البسمة تعلو وجوههم، والأمل يداعب قلوبهم، ولا يخلو عملهم من كد ودأب وإدئاب!


تسأل أحدهم: كيف الحال؟ يرفع كفيه إلى السماء، ويقول: له الحمد والشكر، ثم يقبّلهما!


ملحوظة: كلامي هذا لا أعني به الجميع، بل أريد به المجموع، وإلا، فإن هناك شواذ وشذاذ لا يقاسون ولا يقاس بهم.


ملحوظة أخرى: ثنائي على أهلي وأهل بلدي.. لا أقصره عليهم، ولا أنفيه عن غيرهم، بل إن الكرم والكرام في جميع البلاد، ومن مجموع العباد.


هذا إيماض وإلماظ وإحماض عن أداء مناسك الرجل اليمني (وإن شيت، قلت: اليماني؛ فـ(الإيمان يمان، والفقه يمان) وأرجو لبلاد المسلمين- الأمن والأمان والإيمان، والسلم والسلامة والإسلام، والرخاء والرغد- أجمعين اكتعين أبتعين أبصعين، "وعلى الله فليتوكل المتوكلون" "ومن يتوكل على الله فهو حسبه * ويرزقه من حيث لا يحتسب".


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق