الجمعة، 5 مارس 2021

أنتِ خائنة!


أنت خائنة!


هذه كلمة، طالما سمعت وتسمع ممن يتخذ له خدينة وصاحبة، قبل الزواج، أياً كان نوع هذه الصداقة، قلّت أم كثرت..


ويضيف الأرعن: خانت ربها وأهلها.. فلا بد أن تخونني!


تظن المسكينة.. أنها بصداقتها لهذا الذئب؛ ستحوز رضاه، وتكسب ودّه، وتكون عرسه الجميلة..


وما علمت، أنها نزوة وشهوة لا غير؛ فما إن تنتهي زمالة الدراسة، أو مهنة العمل، أو نحوها من اللقاءات، إلا ويفكر في اختيار شريكة عمره الحقيقية، لا الوهمية!


تناديه: ها أنا ذا.. ألست جميلة؟ ألم أربّي نفسي لك؟ ألا تذكر قَسمك، أن أكون زوجتك؟!


ينظر إليها، أو يكلمها من وراء حجاب، وهو يتأرنح ويبتسم ابتسامة ماكرة، قائلاً: أنت خائنة.. بلا شرف ولا مروءة، ولا دين ولا كرامة!


آه، ما أقسى هاته الكلمات، وما أحر هذه العبارات، وما أقض تيك الجمل، وما أمض هاتيك الكلم!

ولكن:

يداك أوكتا، وفوك نفخ *** أنت الجانية، فعلام الصرخ؟!


تصبح المغمومة.. مأكولة مأدومة، مرذولة مذمومة؛ كالشعير: مأكول مذموم!

يأكله الناس، ثم يذمونه، وهذا مَثل لمن يؤخذ منه ما يشتهى، ثم يرمى بعد المنتهى! 


ترد عليه المغلوبة، وقد علاها الرحضاء، وسيطرت عليها الدهشة، وتهيأت للسقوط والإغماء، قائلة: أنا خائنة.. أنا  .. أنا؟!


يرد عليها بصفاقة: نعم، أنت الساقطة.. ومَن غيركِ؟ أنت الذي خنت ربك، ثم خنت أهلك .. مشيت معي  .. هاتفتيني .. راسلتيني  .. واصلتيني.. مَن يؤمنني، أن لا تفعلي مع غيري، كما فعلت معي؟!


ثم يضيف الخبيث: والحمد لله، خطبتُ فتاة مؤدبة مهذبة، من بيتها، لا من هاتفها!

فتاة، لا تعرف إلا بيتها  .. فتاة، لم أعرفها، إلا من أخواتي  .. فتاة، لم تعرف صوت ذكرٍ إلا صوت أبيها وإخوانها ومحارمها .. فتاة، لم يرها أجنبي قط .. فتاة، لم تتزين إلا لي وحدي من دون العالمين .. فتاة، صبرت على نفسها، حتى أتاها نصيبها .. فتاة، لا يهمني جمالها الخلاب، بقدر ما يجذبني عفتها وعفافها..


تسمع -المغفلة- هذه الكلمات، وصدرها، يغلي كالمرجل، ونبضات قلبها في تسارع وازدياد، وضغطها قد ارتفع وزاد!

استعجم لسانها.. ماذا تفعل؟! ماذا تقول؟!


ولسان حالها:

تجنى علي الذنب، والذنب ذنبه *** وعاتبني ظلماً، وفي شقه العتبُ


وأعرض لما صار قلبي بكفه *** فهلا جفاني حين كان لي القلبُ


وكأني بها، تتمثل:

تجاهلت وصلي حين لجت عمايتي *** فهلا صرمت الحبل إذ أنا مبصر


ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته *** نصيب، وإذ رأيي جميع موفر


ولكنما آذنت بالهجر بغتة *** ولست على مثل الذي جئت أقدر


قال ابن القيم: "إن من أحب شيئاً، سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى، ولا لكونه معيناً له على طاعة الله تعالى.. عذِّب به في الدنيا قبل يوم القيامة.

كما قيل:

أنت القتيل بكل من أحببته *** فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي


فإذا كان يوم المعاد، ولى الحكَم العَدْل سبحانه، كل محب ما كان يحبه في الدنيا، فكان معه: إما منعماً أو معذباً، ولهذا، يمثل لصاحب المال ماله، شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمتيه؛ يعني: شدقيه، يقول: أنا مالك .. أنا كنزك، ويصفح له صفائح من نار، يكوي بها جبينه وجنبه وظهره، وكذلك عاشق الصور، إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى، جمع الله بينهما في النار، وعذِّب كل منهما بصاحبه؛ قال تعالى: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" ...  والمقصود: أن من أحب شيئاً، سوى الله - عز وجل؛ فالضرر حاصل له بمحبوبه.. إن وجده، وإن فقده، فإنه إن فقده، عذب بفواته، وتألم على قدر تعلق قلبه به، وإن وجده، كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته.. أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة".

(إغاثة اللهفان: ١/ ٣٨)


وقال: "وقد قضى الله تعالى.. قضاء لا يرد ولا يدفع: أن من أحب شيئاً سواه.. عذِّب به، ولا بد أن من خاف غيره، سلِّط عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره، كان شؤماً عليه، ومن آثر غيره عليه، لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه، أسخطه عليه ولا بد".

(الوابل الصيب: ١٥)


وإذا تم الزواج.. فإن انعدام الثقة، تكون ملازمة لهما، حية بينهما، ماشية إليهما، إلا أن يشاء الله تعالى.


وربما، أصيبا بالوسواس في تصرفاتهما، وإن تابا، إلا أنهما يحدثا أنفسهما، بماضيهما المظلم، فلا يزالا على ذلك، حتى يتركا بعضهما، أو تكون حياتهما، جحيماً لا يطاق.


جمعتْ -الممكورة- ما بقي من شرفها -إن كان بقي- ورجعت تجر أذيال القهر والذل والحرمان!


ولا أدري، هل تكتفي بهذه التجربة الفاشلة، أم ستعود كرة ثانية "تلك إذاً كرة خاسرة"!


ولا أدري، إن كن صديقاتها، أخذن العبرة من أختهن، أم يُردن، تجربة فاشلة، لا حد لها، ولا منتهى.


انتهت قصتها، في كلمة.. (خائنة).


ومن روائع المنفلوطي: "قلتم لها: إن الحب أساس الزواج، فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال، مصعدة مصوبة، حتى شغلها الحب عن الزواج، فعنيت به عنه!


قلتم لها: لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة، ثم الشقاء الطويل بعد ذلك، والعذاب الأليم!


قلتم لها: نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها، ويلائم ذوقُها ذوقَنا، وشعورُها شعورَنا، فرأت أن لا بد لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومباهج أنظاركم، لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس حياتكم، صفحة صفحة، فلم ترَ فيه غير أسماء الخليعات المستهترات، والضاحكات اللاعبات، والإعجاب بهن، والثناء على ذكائهن وفطنتهن، فتخلعت، واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف، تعرض نفسها عليكم عرضاً، كما تُعرض الأمَة في سوق الرقيق ، فأعرضتم عنها ونَبَوتُم بها، وقلتم لها: إنا لا نتزوج النساء العاهرات، كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات، إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة، وقد أباها الخليع، وترفع عنها المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت"!

(العبرات: ٤٥) 


والعجيب، أن هؤلاء العوجى العرجى.. يستدلون بحديث (ما رأيت للمتحابين مثل الزواج)!

والحقيقة: أنهم أتوا أمراً كبارا، وجاؤوا بمنكر من الفهم وزورا، ولا يخفى سقطهم، إلا على الرعاع المساكين، الذين لا يفرقون بين التمرة والجمرة، فاللهم مسكنا بالإسلام، حتى نلقاك به.


ومعنى الحديث باختصار (وإلا، فقد أشبعته بحثاً في مقال، بعنوان: "شَعْبُ الزجاج في توجيه حديث: لم يُرَ للمتحابَِّين مثل الزواج" فليراجع ثَم): إذا أحب رجل امرأة؛ عن طريق رؤيتها مصادفة، أو سماعه عنها، أو وصفها؛ فعلاجه ودواؤه: أن يتزوجها، وليأت البيت من بابه، لا أن يخبرها، أو يهاتفها، أو يراسلها؛ لأن بعدها: مقابلة ومغازلة، وبعدها: أمور تعرفونها!


ومن تأمل قوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة".. رأى أن التواد والتحاب، مشروط بالزواج، لا قبله، فمتى حصل النكاح المشروع؛ حصلت المودة والمحبة والرحمة. 

وفي الآية إشارة، إلى أن الحب قبل الزواج؛ حب زائف حائف جائف، بل يكون سبباً لاهتراء الأواصر، واجتراء العواصر. 


ولطالما واصلنني، فتيات.. باكيات شاكيات داميات، من هذه المواقف.. فأحزن وأشجن، وأكاد أجنن -حفظ الله علينا ديننا وعقلنا وعفافنا-.

فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون" و"حسبنا الله ونعم الوكيل" و"لا حول ولا قوة إلا بالله" العزيز الحكيم، العلي العظيم.


هذه كلمة، احتبست في فؤادي برهة، ثم نفثتها، فكتبتها، علّ فتاة صادقة، يكون بها نفعها، وأرجو ذلك، إن ربي على كل شيء قدير.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٣٨/٤/٢٥


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق