الأربعاء، 6 مايو 2020

فقير عزيز مع تاجر بزيز!


فقير عزيز مع تاجر بزيز!

جَرَتْ أحداث هذه القصة، والتي سبّبت لصاحبها غُصّة، وهو صغير- في الثانية عشر من عمره تقريباً.

والحقيقة، أن الزمان عفا عليها، وطواها النسيان، ولكن ذكّره بها اليوم؛ هو عَيشه في هذه الأيام الفاضلة؛ لأنها وقعت في مثلها..

كان الصبي معتكفاً في العشر الأخيرة من رمضان، فدخل رجل وقت الإشراق، يحمل كيساً في يده، مكفهراً وجهه، مشمخراً أنفه، وكأنه لا يرى أحداً أمامه، بلى، يراهم، ولكنهم صغار في عينه الكبيرة!
أستغفر الله من التألّي على الله، والتعلّي على خلق الله، والتخلّي عن عباد الله.

يقولون: إنه تاجر، يملك أموالاً طائلة.. هيئته، وحتى اللباس؛ كان مميزاً عن الناس، فقد كان لابساً قلنسوة (طاقية - كوفية) لم يقلنسها، أحد من الموجودين آنذاك!

دخل هذا التاجر، وأكثر الناس في نوم مغط، بعد طول ليلة قيام، ولعلها ليلة السابعة والعشرين ٢٧ (ولا أدري، لمَ تخصيصها، بزيادة طول؟!) 

تسارع المستيقظون نحوه -وكانوا قليلين-، فأيقض كل أخ أخاه، وكل صديق صديقه، فكثروا؛ حتى أحاطوا بالتاجر، إحاطة السوار بالمعصم؛ وذلك لفقهرهم وخلّتهم؛ فغضب، وقطّب جبينه المقطّب من قبل، ولعله تلفظ بكلمات فجّة، وقال: من أراد مالاً؛ فليصُفّ هنا صفّاً!

هرَع الفقراء والمساكين، يكبّون ماء وجوههم!

وإن إراقة ماء الحياة *** دون إراقة ماء المُحيّا

فصفوا بأجسادهم، التي أنهكها السهر، وأتعبها الفقر، وأمضها الضجر، حتى بدا كُلاها، ولم تُسم!

فالمنع منه عطية مقبولة *** والفقر إكرام وبر عاجلُ

وصاحبي هذا، -والله- فقير منهم ومثلهم؛ لكنه لم يحتمل ذلك البؤس، وذياك الخسف، ولم يستسغ ذاك الذل؛ فصفّ قدمه بين يدي ربه، وصلى الإشراق -والحمد لله-.

إني لأظمأ للكرامة والندى *** ويهزّني عطشي إلى العلياءِ

ويلٌ لنفس في حَطيم شعورها *** ما هزّها ظمأ لغير الماءِ!
(عبدالله الرشيد)

فلما انتهى من صلاته؛ رأى جل المسجد، قد انزوى في زاوية منه، والناس بالأجسام يتدافعون، وبالألسنة يتراشقون، وبالأعين يتناظرون، وبالأوجه يتحازرون، وبالقلوب يتباغضون!
وكل واحد ينظر إلى الآخر، ويسائله: كم أُعطيتَ من المال؟!

الفقر يزري بأقوام ذوي حسبٍ *** وقد يسوّد غير السيّد المال
(الطرماح)

كان صديقي، حينها، لا يملك شيئاً من المال، بل لم يكن عنده ملابس ذلك العيد!
وقد عرفتم، أنه كان صغيراً، وتعرفون؛ كيف يكون الصغير حريصاً على ملابس العيد الجديدة؛ ليتباهى أمام لِداته، بل ويجعل علامة المقاس من الخارج؛ مؤكداً لقرنائه؛ أنها جديدة!
إنها البراءة التي فقدت ووئدت -وئد وائدها-!

وأطوي على الخُمص الحوايا كما انطوتْ *** خيوطة ماريٍّ تُغار وتُفتلُ

وأغدو على القوت الزهيد كما غدا *** أزلّ تهاداه التنائف أطحلُ
(الشنفرى)

بعد انقضائه من الصلاة؛ جاء بعض الأصدقاء، إلى صديقي الصغير، ناصحاً، وقال له: اذهب، وصُفّ مع الناس؛ لتعطى زكاة؟!

فقفّ شعىه، ووجم لسانه، من هول صدمة الكلمة الرقيقة والرقيعة، وأبى هاته المهانة، وربأ بنفسه، أن يذلها، وأنف بها، أن يدسها؛ فقام ثانية إلى ربه: يناجيه ويناديه..
وشتان شتان بين اصطفاف- بين يدي الملك القدوس، وبين اصطفاف لضعفاء النفوس!

وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى *** وما علموا أن الخضوع هو الفقرُ

وبيني وبين المال شيئان، حرّما *** عليّ الغنى: نفسي الأبية، والدهرُ

إذا قيل: هذا اليسر، أبصرت دونه *** مواقف خير من وقوفي بها العسرُ!

فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي *** أضيق به ذرعاً؛ فعندي له الصبرُ
(الجرجاني)


ولا يتذكر صديقي، هل أعطاه ذاك التاجر شيئاً من ماله، أم لا؟! لكن الذي يذكره ولا ينساه؛ أنه لم يصُفّ ذاك الصف المشؤوم، -والحمد لله على جميل نعمائه، وجزيل آلائه- فقد صف بين يدي الحي القيوم.


خُلقت أبيّ النفس لا أتبع الهوى *** ولا أستقي إلا من المشرب الأصفى
 
ولا أحمل الأثقال في طلب الغنى *** ولا أبتغي معروف من سامَنِي خسْفا

ولا أتحرى العز فيما يذلني *** ولا أخطب الأعمال كي لا أرى صَرْفا

ولست على طبع الذباب متى يُذَدْ *** عن الشيء يسقط فيه، وهو يرى الحتْفا
(منصور بن الهروي) 

وليس عيباً؛ أن يؤخذ من الزكاة، فقد قال ابن كثير، في ترجمة الشيخ الصالح أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمار الصالحي، من (البداية والنهاية: ١٨/ ٣٠٥): "وكان فقيراً، ذا عيال، يتناول من الزكاة والصدقات- ما يقوم بأوْدِه".

لكن العيب؛ أن يُبذل ماء الوجه -الذي لا عوض للإنسان عنه- لتاجر قاهر؛ من أجل لعاعة!

وما أحسن قول أبي تمام:
ما ماء كفك، إن جادت وإن بخلت *** من ماء وجهي، إن أفنيته عوض!

و‏‏رحم الله بلديي العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، إذ يقول في إحدى مراسلاته، لأخيه أحمد: "... أنا مشتغل في تأليف رسالة مهمة، وأحب أن أطبعها على نفقتي .. ولا تطاوعني نفسي، أن أطلب المساعدة من أحد".
(المدخل لآثاره: ١/ ٢٢٢).


وأختم، داعياً بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر) (اللهم (اقضِ عني الدين، وأغنني من الفقر) (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.


وكتب: أبو نعيم
وليد بن عبده الوصابي. 
١٤٤٠/٩/١٣
١٤٤١/٩/١٣

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق