الخميس، 21 مايو 2020

تزيين رقبة الغيد في تعيين خطبة العيد!

تزيين رقبة الغيد في تعيين خطبة العيد! 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.
وبعد:

إن العيد.. يبهج النفوس، ويشرح الصدور، ويؤنس القلوب.
ومما يُتم هذه الفرحة ويزكيها.. حضور صلاته، وشهود خطبته.

وقد تنازع العلماء، في عدد خطبة العيد.. هل واحدة، أو اثنتان؟

وفي هذه العجالة؛ أتناول المسألة، مسترشداً، بكلام العلماء، ومسترفداً، كلام الفقهاء.

أقول: إن الناظر في فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ يرى أنه -عليه الصلاة والسلام-، خطب خطبة واحدة، وإنما ذهب وتحول -عليه الصلاة والسلام- إلى مكان النساء؛ إما لأنهن، لم يسمعنه، أو أنه، خصّهن بمزيد موعظة.

بل وجدت، ما يجزم بهذا الشك.. فعن عطاء قال: أشهد على ابن عباس، أو قال: قال ابن عباس: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لصلى قبل الخطبة، فظن أنه لم يسمع النساء فأتاهن، فحثهن على الصدقة، فجعلت المرأة تعطي القرط والخاتم، وجعل بلال يجعله في كسائه، قال: ففرقه على فقراء المسلمين).
رواه الفريابي، في (أحكام العيدين: ١٣٢)

ومما يعضد هذا الفهم.. خطبته، صلى الله عليه وسلم، على راحلته، ولا يكون إلا جالساً، فكيف يجلس إذا كانت خطبتين؟! ثم إن قيل: يقوم؛ ففي الفعل، كلفة، وفي القول به، تكلف.
وقول: أنه عليه الصلاة والسلام، خطب على الراحلة، قائماً.. بعيد؛ لبعده من الواقع، ولم ينقله الشارع.
وقول: أنه لا يلزم من الفصل بين الخطبتين، القيام، بل يكفي السكوت.. غير واضح، ولو كان؛ لم يعد فصلاً حقيقياً، إلا بنص، ولا نص، فمن أين لنا إثبات الفصل؟! 
هذا فعله عليه الصلاة والسلام.

ولم يرد شيئ صريح، من قوله عليه الصلاة والسلام، في تحديد خطبة العيد.

ولكن، جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، ما يفهم منه؛ أنها خطبة واحدة.

عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: متى كان من مضى، يخرج أحدهم من بيته، يوم الفطر، للصلاة؟
فقال: كانوا يخرجون، حتى يمتد الضحى، فيصلّون، ثم يخطبون قليلاً سويعة -يُقلل خطبتهم-.
قال: لا يحبسون الناس شيئاً، قال: ثم ينزلون، فيخرج الناس، قال: ما جلس النبي صلى الله عليه وسلم، على منبر، حتى مات- ما كان يخطب إلا قائماً، فكيف يخشى أن يحبسوا الناس؟ وإنما كانوا يخطبون قياماً، لا يجلسون، إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان.. يرتقي أحدهم على المنبر، فيقوم كما هو قائماً، لا يجلس على المنبر، حتى يرتقي عليه، ولا يجلس عليه، بعدما ينزل، وإنما خطبته جميعاً، وهو قائم، إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة الأولى، قال: لم يكن منبر، إلا منبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء معاوية، حين حج بالمنبر، فتركه، قال: فلا يزالوا يخطبون على المنابر بعد". 
(مصنف عبد الرزاق، رقم: ٥٦٥٠).

فيلاحظ، أن عطاء؛ نقله عن الخلفاء أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهو، وإن كان مرسلاً؛ لأنه لم يدرك الخلفاء الثلاثة، إلا أنه يحكي أمراً معلوماً مشهوراً شائعاً، لا يخفى أمره، ولا يمحى أثره.

ثم، إن القائلين، بأنها خطبة واحدة.. تعضدهم، اللغة العربية، والمتبادر إلى الذهن أولاً..
قال شيخنا مقبل: "وارجعوا -أيضاً- إلى كتب اللغة، إذا قالوا: خطبة، أو ضربة- ضربته ضربة.. هل يفهم أنه ضربه ضربتين؟
ما يُفهم هذا.
فسأله سائل: لو قال قائل: لو سمع خطبة الجمعة، سيقول: سمعت اليوم خطبة الجمعة، لا يقول خطبتين؟
فأجاب الشيخ: لو لم يرد، إلا هذا؛ لقلنا: أن الجمعة، يخطب لها خطبة واحدة، لكنه ورد في حديث جابر بن سمره عند مسلم، وفي حديث عبدالله بن عمر، عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خطب خطبتين".
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.

قلت: وهذا القول.. اختيار سيد سابق، كما في (فقه السنة: ١/ ٢٤٠) والألباني، كما في (تمام المنة: ٣٤٩) والعثيمين، كما في قدم النقل عنه في (الشرح الممتع: ٥/ ١٩١)، والشيخ مقبل، في شريط: "أسئلة شباب العدين". -رحم الله الجميع-.


ولكن في المقابل: من نظر إلى القائلين بالخطبتين؛ هاله الأمر، وهابه الحال، وجعله يتريث ويتئد؛ إذ أنهم الأئمة الأربعة، وجماهير أهل العلم: سلفاً وخلفاً، بل نفى ابن حزم، الخلاف في المسألة!

قال -رحمه الله-: "فإذا سلم الإمام، قام، فخطب الناس خطبتين، يجلس بينهما، فإذا أتمهما، افترق الناس ... كل هذا لاخلاف فيه".
(المحلى: ٣/ ٢٩٣)

 ولكن، لا يسلّم له؛ لوجود من خالف، وهو ما نقله عطاء عن الخلفاء الراشدين.

وينظر: (بدائع الصنائع: ١/ ٢٧٦) و(المدونة: ١/ ٢٣١) و(روضة الطالبين: ١/ ٥٨٠) و(المغني: ٢/ ١٢١).


وقد استدلوا، بآثار ضعيفة، وأحاديث صحيحة غير صريحة، ثم القياس.

قال الشافعي: "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة؛ أن يخطب الإمام في العيدين.. خطبتين، يفصل بينهما بجلوس.
قال الشافعي: "وكذلك خطبة الاستسقاء، وخطبة الكسوف، وخطبة الحج، وكل خطبة جماعة".
(الأم: ١/ ٢٧٢)

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى العيد، بغير أذان، ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائماً، فيفصل بينهما بجلسة).
رواه البزار، وهو ضعيف.
ينظر: (تمام المنة في التعليق على فقه السنة: ٣٤٨)

وعن جابر رضي الله عنه، قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم، يوم فطر، أو أضحى، فخطب قائماً، ثم قعد قعدةً، ثم قام).
أخرجه ابن ماجه، وهو حديث منكر.
ينظر: (سلسلة الأحاديث الضعيفة: ١٢/ ٦٣٥)

وقال الشيخ مقبل: "وأما حديث -وهو عند ابن ماجه-: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خطب خطبتين؟
فإنه من طريق إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف".
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.

وقال النووي: "وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (السنة أن يخطب في العيدين خطبتين، فيفصل بينهما بجلوس)؛ ضعيف، غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة".
(خلاصة الأحكام: ٢/ ٨٣٨).


وقال الشوكاني: "والحديث الثاني؛ يرجحه القياس على الجمعة، وعبيد الله بن عبد الله، تابعي -كما عرفت-، فلا يكون قوله: (من السنة) دليلاً على أنها، سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما تقرر في الأصول. وقد ورد في الجلوس بين خطبتي العيد، حديث مرفوع، رواه ابن ماجه، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف".
(نيل الأوطار: ٣/ ٣٢٣)


وأما الاستدلال، بما صح من الأحاديث؛ فهو استدلال غير صريح.
قال الصنعاني -في شرحه لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج يوم الفطر والأضحى، إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به، الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم؛ فيعظهم ويأمرهم).
قال "وليس فيه، أنه خطبتان كالجمعة، وأنه يقصد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله، وإنما صنعه الناس، قياساً على الجمعة". 
(سبل السلام: ٢/ ١٤٠)

وقال الشيخ ابن عثيمين: "وقوله: "خطبتين" هذا ما مشى عليه الفقهاء -رحمهم الله-؛ أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا، في حديث أخرجه ابن ماجه، بإسناد فيه نظر، ظاهره: أنه كان يخطب خطبتين، ومن نظر في السنة المتفق عليها، في الصحيحين وغيرهما؛ تبين له: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يخطب إلا خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى؛ توجّه إلى النساء ووعظهن- فإن جعلنا هذا أصلاً، في مشروعية الخطبتين؛ فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهن؛ لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمال.
ويحتمل: أن يكون الكلام وصلهن، ولكن أراد أن يخصهن بخصيصة؛ ولهذا ذكرهن، ووعظهن بأشياء خاصة بهن".
(الشرح الممتع: ٥/ ١٩١).


وأما القياس: فقد حكاه الشافعي، قال: "ويخطب، خطبتين، بينهما جلوس، كما يصنع في الجمعة".
(الأم: ١/ ٢٧٠)

وقال البيهقي: "باب جلوس الإمام، حين يطلع على المنبر، ثم قيامه، وخطبته خطبتين، بينهما جلسة خفيفة قياساً على خطبتي الجمعة، وقد مضت الأخبار الثابتة فيها".
(السنن الكبرى: ٣/ ٢٩٩)
وقال الصنعاني: "وليس فيه، أنها خطبتان، كالجمعة، وأنه يقعد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة".
(سبل السلام: ٢/ ١٤٠)

ولكن، حين النظر، يظهر؛ أنه قياس عبادة على عبادة، في بعض أمثالها، وقد افترقت في أمور، منها:
-في الحكم.. فالجمعة، فرض، والعيد، مستحبة، أو واجبة (على الخلاف).
-والهيئة.. فالخطبة مقدمة على الصلاة في الجمعة، والعكس في العيد.
-والوقت.. فالجمعة، بعد الزوال، والعيد، عند الشروق.

قال الشيخ مقبل: "فإن قال قائل -كما قال الشوكاني-: تقاس على الجمعة؟
فالجواب: أن الشرع توقيفي، والجمعة، ورد فيها دليل عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: (خطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، -أي الجمعة-، خطبة، وهو قائم، ثم جلس، ثم قام وخطب الثانية). رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه. رواه البخاري.
ومسألة القياس على الجمعة- لماذا لا يقيسونها على الكسوف؟
ما هي إلا خطبة واحدة، ولماذا لايقيسونها على غيرها من الذي ورد فيه خطبة واحدة"؟
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.

قلت: هذا، وأعوذ بالله، أن يكون هذا من التقديم بين يدي هؤلاء الفطاحل العماليق، أو تنكب طريق! (أستغفر الله) وإنما هو اقتيات على موائدهم، حاشا الافتيات.


والخلاصة: من خطب خطبة؛ كان متمسكاً بفعله صلى الله عليه وسلم،
ومن خطب خطبتين؛ كان متمسكاً بقول جمهور العلماء، و(لا تجتمع أمتي على ضلالة) -كما في حديث ابن عمر، عند الترمذي، وحسنه الألباني-، ولا يجوز إطلاق البدعة على أحد الفريقين، أو الهَجر والهُجر، أو الهمز واللمز والغمز.

قال الشيخ ابن عثيمين: "المشهور عند الفقهاء -رحمهم الله- أن خطبة العيد اثنتان؛ لحديث ضعيف، ورد في هذا، لكن في الحديث المتفق على صحته: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يخطب إلا خطبة واحدة، وأرجو أن الأمر في هذا واسع".
(مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين: ١٦/ ٢٤٦)

وسئل شيخنا مقبل.. هل يصل الذي يخطب خطبتين، إلى حد البدعة؟
فأجاب: "لا، لا نستطيع أن نقول: أنه مبتدع، أنا لو خيرت بين أخطب خطبتين، وبين أن يخطب غيري؛ أقول: يخطب غيري، وأنا أستمع؛ لأن الذي ورد هي خطبة".
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.


والأهم من هذا وذاك: هو تآلف القلوب، وتقارب الصفوف، والتلاحم والترابط والتواد، وذلك في المسائل الاجتهادية، والذي ليس فيها نص قاطع.
وكل ما اعتاده الناس في أمر الخطبة أو الخطبتين؛ فليأخذ به الداعية، ولا يغيره؛ حفاظاً على قلوب العامة، حتى لا تكون هامة، أو طامة.
والله العاصم والقاسم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي. 
١٤٤٠/٩/٢٨
١٤٤١/٩/٢٨

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق