الأحد، 31 مايو 2020

شهران في الحجْر!

شهران في الحجْر!

قضى الله وقدّر، وله سبحانه وتعالى، الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، التي تعجز عن إدراك كنهها، عقول البشر، أو تطالها أفكارهم!

قضى ربي سبحانه وتعالى.. أن أغادر بلدي الحبيب الحسيب التعيب النهيب السليب، لبلاد كريمة، أفاء الله عليها من خيراته، وأفاض إليها من بركاته، إنها مهبط الرسالة، ومحط الإيالة، إنها مكة المكرمة..

بدَت لي أعلام بيت الهدى ***
بمكة والنور بادٍ عليهِ

فأحرمت شوقاً له بالهوى *** وأهديت قلبي هدياً إليهِ


وطئت أرضها الوثيرة، وأممت نحو حرمها وكعبتها، وسرحت طرفي بين تيك المشاهد الفخيمة التي تذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضي الله عنهم جميعاً.
ولكن، الفرحة لم تكتمل؛ لأن الحجر، كان قد بدأ يطل برأسه من شرفة عالية، فلم أتمكن من الاقتراب المعتاد!
ولكن: (وعن البحر، اجتزاء بالوشل)! 

يا كعبة الحسن الممنع، لا يكن *** بيني وبينك للجفاء حجازُ

حاشا لها من قامة ألفية *** يثني لقاها كاشح همَّازُ


أقمت في مكة، والأخبار المشؤومة تتقاذف الصحف، وتتبدى على صفحات التواصل -وما أقل خيره وأنزره؛ إذ أن الشؤم، عليه يغلب، والهذر، فيه يسف، والوقح، إليه يحن، وغيرها من تيك القواذف والشقاذف!

وبعد أيام، زرت بعض أقاربي الكرام، وبينا أنا أتهيأ للانصراف، -وكان الوقت بعد صلاة الظهر، في العاشر من شعبان تقريباً-؛ إذ بي أفجأ، بإعلان الحجر المنزلي العام، على سكان مكة المكرمة؛ فأسقط في يدي، ولم أحر كلاماً، أو أسطع مقاما!

ولكن، القوم الأقرباء، كانوا من ذوي النبل الظاهر، والشهامة النادرة؛ فجعلوني واحداً من أفرادهم، بل كالكبير فيهم، والإمام لهم، والمتحدث إليهم! جزاهم الله خيراً؛ كفاء صنيعهم، وجميل صنعتهم:

إن الكرام، وإن ضاقت معيشتهم *** دامت فضيلتهم، والأصل غلّابُ

ولا زلت على حالي تلك الحبيسة، التي لم أخرج فيها من محيطي الصغير، وكوخي الأثير.. والنفي هنا، على الحقيقة الحاقة، بكل ما تفهم من كلمة "لم أخرج" بل لم أخطو حتى خطوة واحدة من باب بيتي (المجازي)، ناهيك عن الحوم والعوم في الشوارع والطرق!

وكنت -والحمد لله- دائماً، في فأل وأمل، وحسن ظن وعمل، وأواسي من لاذ بي، ومن هاتفني أو واصلني:

توقّع صنع ربك سوف يأتي *** بما تهواه من فرج قريبِ

ولا تيأس إِذا ما ناب خطب *** فكم في الغيب من عجب عجيبِ


لم تكن هذه المدة الممتدة، مؤلمة لي، أو مبرحة بي؛ لأن خروجي من البيت، في الأصل والعادة؛ لم يكن كثيراً، بل كان نزراً لماما؛ لحاجة الإنسان، -والحمد لله-، وإن كنت حرمت -في الحجر- من أمور وخيور، ولكن، "وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا"، وقد جعل ذلك، سبحانه وتعالى. 

الله عودك الجميل *** فقس على ما قد مضى! 


وتذكرت، كم هي نعمة العافية والحركة، وغيرها من نِعم تعدّ ولا تحصى..
فكم من مقعد في بيته منذ شهور، بل سنوات! نعم -والله- سنوات، وهم في حالهم يفرحون ويبتهجون، وبقضاء الله راضون، فـ (ما شاء الله، كان، وما لم يشأ، لم يكن، وما أخطأك، لم يكن ليصيبك، وما أصابك، لم يكن ليخطئك)!
تذكرت، كم نحن، في تفريط ونسيان، لكثير النعم وجليلها، "بل هم عنها عمون"!

وحينها، تذكرت، اختباء العلامة طاهر الجزائري، مائة يوم ونيف، في بيته؛ خوفاً من بطش الجبارين، وكذا، تلميذه العلامة جمال الدين القاسمي ونحوهم، من أهل العلم والفضل!

ولا أخفيكم -والله- على الرغم، من الألم السائط؛ لفراق الأهل والولد، إلا أني استمتعت بالخلوة عن الجلوة، (وفي الترك، راحة) للقلب، عن الاختلاط العام!

أقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرةٍ *** وأحسو قراح الماء، والماء باردُ

ولا أريد هنا، تَعداد مزايا العزلة والانعزال.. فقد سبقني إلى ذلك، أئمة طوال، كـ ابن أبي الدنيا، والخطابي، وابن الوزير الصنعاني ونحوهم، في كتب وأجزاء خاصة في هذه العبادة المهجورة، لمن أحسن اهتبالها!

ولا أريد أيضاً، تحساب، ما استفدته في عزلتي هذه، من: ارتواء وامتلاء واحتواء وارتقاء وانتقاء..

وإنما، هي خاطرة سنحت بفكري العليل، وعقلي الكليل، فلم أرد إضاعتها، فسارعت بكتبها على علاتها -وقاني الله وإياكم العلات والقلات والحلات، والزلات والفلات، ويسرني وإياكم لليسرى، وجنبنا العسرى، ورزقني وإياكم الحسنى وزيادة-.
وسلام السلام عليكم..


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/١٠/٨



الخميس، 28 مايو 2020

دار الكتب العلمية.. وعبثها بالتراث!

دار الكتب العلمية.. وعبثها بالتراث!

أتميز غيظاً، وأتكبد حنقاً.. حين أرى عنواناً، حبيباً إلى قلبي، وأثيراً على لبي؛ ولكن طبعته: دار الكتب العلمية، وليس له، إلا طبعتهم الشوهاء المخدوجة!

أفتح مطبوعتهم، على مضض، فإذا بي أرى كمّاً من الأخطاء: النصية والإملائية واللغوية، وربما، صحف وتحريف، وبتر وتحذيف.. فأقفله؛ أسفاً حسفاً كسفاً!
ثم تعنّ لي إليه حاجة.. فأعاود فتحه، فأصاب بالدوار!
أليست هذه جناية على العلم والمعرفة؟! 

ويصدق -عليها، وعلى مثيلاتها- وصف "حمالة الحطب"! على إطلاق الإمام يحيى بن معين، في حكمه، على بعض الضعفاء!

قال العقيلي: "حدثني أحمد بن محمد الهروي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: قلت ليحيى بن معين، النضر بن منصور العنزي.. تعرفه-
يروي عن أبي الجنوب، عن علي، من هؤلاء؟
قال: هؤلاء حمالة الحطب"! 
(الضعفاء: ٤/ ١٤١٩)

فاحذر، من دار الكتب العلمية (الهدمية الخرمية).. وفر منها فرارك من الأسد؛ فقد عبثوا بالتراث، وتناولوه بالتراث!
والجل، قد حذر منها ووجل، والحمد لله.

وقد سمعت، ممن زار دارهم، ونحوها من دور الزور- أنه رأى الأهوال من الدار والمحقق والمخرج والمزور! رب لطفك.
هذا هو الأصل في طبعاتهم.


قلت: وما وجد في بعضها، من إتقان، فهو عائد إلى أحوال:
-أن تأتي الدار، على طبعات قديمة مصورة، متقنة الإخراج، وهي المصورة عن دور أخرى رائدة، كالبابي، وبولاق ونحوهما، من قديم الطبعات وأتقنها.

قلت: وهذا ظلم وهضم، وقاسمة وقاصمة، لأصحاب تيك الدور الأخرى، وذلك؛ لأن أصحاب هاته المكتبات- يتعبون في النسخ والتحقيق والمقابلة، فيأتي الساطي، ويأخذ جهودهم: مادياً، وعلمياً، وذاتياً، وفكرياً؛ فيصوره كما وجده، ويبيعه بثمن بخس؛ لأنه لم يتعب فيه، ولا سعى إليه، فيقبل الناس على الطبعة الرخيصة -وهي متقنة، تبعاً لأصلها- مما سبب ويسبب خسائر فادحة، لأصحاب المطابع الأولى!
وهذا -كما علمت- سبب خسارة فادحة، لبعض تيك المطبعات، بل اضطر بعضهم؛ لقفلها، كمطبعة البابي.
والله المستعان.

-أن يعتني محقق أو مؤلف ما، بكتابه، ويبحث عن دار؛ لطبع كتابه، فلا يجد (في ظل تحكم بعض الدور) أمامه، إلا محمد علي بيضون، فيظل واجماً؛ أيسلمه إليه، أم يدسه في الجراب!
وبعد تحاور وتشاور.. يدفعه إليه (مكره أخاك لا بطل)! 
وممن طبع عندهم، من العلماء: الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف، والشيخ أبو إسحاق الحويني، وربما لا يسلموا أيضاً، من التشويه والعور، كما فعلوا ببعض تحاقيق الشيخ أبي إسحاق الحويني!

-وبعضهم: يقيّد الجيد من دار الكتب العلمية، بتاريخ معين، ولم يبن هذا التاريخ، ولا أظن ذلك، ينضبط؛ لتعدد الطبعات، وتبدل التواريخ! فالله أعلم.

وعلى كلٍ: فهي خيانة وجناية، على العلم والتراث، لا يجوز أن تصدر ممن يخاف الله، والدار الآخرة.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/٧/١٩


الثلاثاء، 26 مايو 2020

صبّ العذاب على رأس عدّاب!

صبّ العذاب على رأس عدّاب!

(يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)
وقفت قبل سنوات على كتاب بعنوان: (ثعلبة بن حاطب: الصحابي المفترى عليه)
وهو من تأليف الشيخ عداب محمود الحمش، عام ١٤٠٦ه‍.

أجاد فيه وأفاد، وبين المقصود والمراد، ودافع عن الصحابة الأمجاد، ورد على أهل الثلب والعناد، والزيع والإلحاد.
وبيّن في كتابه هذا؛ عدالة الصحابة جميعهم، بدون استثناء..

ومما قال فيه: "أما الذين يشككون بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطعنون بهم؛ فهم من فِرق الروافض، والخوارج، والزنادقة، وأما أهل السنة: فقد قطعوا بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكتوا عما جرى بينهم".
(ثعلبة بن حاطب: الصحابي المفترى عليه: ٢٤).

قلت: هذا ما فاهه، وخطته أنامله في كتابه هذا، وانظروا اليوم ماذا يقول عن بعض الصحابة؟
وكيف تجرأ على بعضهم، بحجة الدفاع عن آل البيت؟!
فبأي تعليق أعلّق، وبأي دفاع أدفع؟!

يا عداب: ها هي بنانك قد خطت، ولسانك قد نطقت، وقلبك قد شهد، بالحق وللحق وفي الحق، وقد أوردتَ النصوص الكثيرة على ذلك!

واليوم، ماذا جرى لك؟ ولماذا انقلبت على عقبيك؟ وكيف صرت صفاً مع فرق الروافض والخوارج والزندقة -بحكمك أنت في كتابك-؟!

يا عداب: ألعرِض الصحابة -الذين لم نبلغ مُدّ أحدهم، ولا نصيفه، ولو أنفقنا مثل أُحْد ذهباً- تشتم؟
ألحديثهم تتهم؟!
يا هذا، أتدري من تناولت؟ وبأي لسان تطاولت؟!

إنك برجلك العرجاء، ويدك القصيرة، وفمك اللجج- لم ولن تصل إلى النجوم والكواكب والأقمار والشموس، بل دون ذلك مهايع، ستظل في طريق الغفلة، وتتيه في بيداء النفاق، وتضيع في دروب الضلال، بل ستتجاذبك الأشواك، وتتخطفك الكلاليب، وتتقاذفك الشهب= فستسقط، وتدمى، ثم تدمدم، وتصاب بمقتل!
وأي مقتل أخطر من تناول قطعيات الإسلام، وثوابت الدين؟!

ناشدتك الله، أما قلته وسطرته في كتابك الآنف: أكان حقاً، والآن باطلا؟!
كيف يكون ذلك.. وأنت قد دللت واستدللت وبرهنت، بأدلة قطعية، وبراهين جدلية؟! 

أجاءك برهان قاطع، أو دليل ساطع، فاتجهتَ إليه، وتركت السنة ظهرياً، وظهرك عرياً؟!


قلت: ومن مثالبه: تصريحه بالطعن في (صحيح البخاري)؛ زاعماً تطبيق قواعد الجرح والتعديل على الصحابة!

ومنها: تكلمه وقدحه في أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، على وجه الخصوص، بكلام قبيح، وأنه لم يكن شجاعاً أو مبارزاً.. إلى آخر هذيانه.

ومنها: كتبه قصيدة، تناول فيها أمّنا -نحن المسلمين- عائشة رضي الله عنها.

ومنها: هذيانه عن لطيمة وظلمية الحسين بن علي رضي الله عنهم، بعبارات مزوقة، وروايات ملفقة، يموه بها على من لا يعلم!

فكتبت -حينها- تعليقاً عليه دون حيف أو جنف، فرد علي بعنف!
فطلبت منه الترفق بنا نحن كأبنائه، فما كان منه إلا أن أعطاني حظراً من التعليق!

أليس الواثق بعلمه، يترك المجال للردود عليه، ويرد عليهم، حتى يغلب الباطل ويندحر.
والله المستعان.

اللهم إنا نسألك الثبات، على دينك حتى الممات.
(اللهم يا ولي الإسلام وأهله، مسِّكنا بالإسلام، حتى نلقاك به)

وأخبرت: أنه سوري الأصل، ولعله من حماة، ثم سافر إلى السعودية، ومنها إلى العراق، فدرس في جامعة صدام (حالياً الجامعة العراقية) وكان يخطب في جامع المثنى (في بغداد/ حي القاهرة).


وأخبرت: أنه لما كان في العراق، قدم الدكتوراة.. فلم تقبل مناقشتها من قبل الشيخ صبحي السامرائي، والشيخ بشار عواد، والشيخ حارث الضاري؛ لما فيها من الطعونات بالصحيحين وغيرها، وردوا الرسالة، ولم يستطع مناقشة رسالته آنذاك، ومُدِّدت لست أشهر، ثم أجيزت -مع الأسف- من كلية العلوم الإسلامية، بجامعة بغداد في تسعينات القرن الماضي.
وقيل: أنها لم تجز من العراق، فخرج منها، وقدمها في مكان آخر!
والله أعلم.

والحقيقة: إن هذا الرجل عنده تشيع واضح، إن لم يكن الآن قد ترفض.

وإلى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزانِ


وكتب: وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٦/١/٢٨
١٤٣٧/١/٢٨
١٤٤١/٦/٢٤


الأحد، 24 مايو 2020

المَقَامَة العِيْدِية!

المقامة العيدية!

قال حمد العيدي: التقيت أحمد المعيدي، في يوم عيد، وهو بهج سعيد.

سلّمت عليه وحيّيته، وهششْت له وبييته.
وقلت له: تقبل الله منا ومنكم، وأحاله علينا وعليكم.

فردّ علي: من العايدين السالمين، والغانمين الفايزين.

ثم كرّ المعيدي، قائلاً: هل ثبتت التهنئة عن رسولنا الأكرم، ونبينا الأفخم، صلى الله عليه وسلم؟

فأجابه العيدي: جاءت في أحاديث ضعاف، في كواغد وصحاف، ولكنها ثبتت عن الصحب العظام، والقوم الفخام، ولم يعلم لهم من الصحابة مخالِف، بل كان لهم مؤالف موالف.
وقد كتب فيها أحدهم، مقالاً، وسمه، بـ "إثمد العينين في جواز التهنئة بالعيدين".

هزّ المعيدي رأسه، وقال: والمصافحة أو المعانقة.. هل هي مخالفة أو موافقة؟

رد العيدي: هذه كأختها، يا ابن بجدتها، وأبو عذرتها، فهي من باب العادات، لا العبادات، فمن فعلها فلا تثريب، ومن تركها فلا تأنيب؛ بشرط أن لا تؤدي إلى الصرم والمباغضة، وتودي إلى الصلم والمناقضة؛ لأن ديننا حثّنا على التآلف، ونهانا عن التخالف، وهذه من أمور العادات، فلا تكن سبباً إلى الاختلاف في العبادات.

وقد قرر أنها من العادات، جمع من أهل العلم الثقات، كـ حسنة الأيام، شيخ الإسلام، والسيوطي، مفيد الأنام، والسعدي، مفتي الأقوام، وغيرهم من أهل كل قرن وعام.

وراجع -إن شئت- رسالة: "وصول الأماني بأصول التهاني"، للحافظ جلال الدين السيوطي المسموطي.
و"جزء في التهنئة في الأعياد وغيرها"، لابن حجر البحر.
و"رسالة في التهنئة بالأعياد"، للشيخ عبد الله بن درويش الركابي السكري الشيبي الدمشقي الحنفي، وغيرهم من أهل العلم والفهم.
وأما الأجزاء التي أُلّفت في العيدين؛ فهي كثيرة وفيرة.

قال المعيدي: أصبت قولاً -يا عيدي-، وأحسنت صولاً، ولكني رأيت -من بعض الأغمار، والطغمة الصغار-، أفعالاً شيّنة، وسمعت منهم أقوالاً حيّنة!

قال العيدي: خيراً رأيت، وعن شر نأيت.

قال المعيدي: بل ضيراً ونيراً.. رأيتهم، يدفعون من أتى لمعانقتهم، ويفوهون له: ليس هذا من سنة أبي القاسم؟! (صلى الله عليه وسلم) 

فلحالهم أسيت، ولصاحبي واسيت، وقلت له: لا يضيرك ما فاهوه، ولا يضررك ما نالوه؛ فإنك أنت المأجور، وهو المأزور.

تنهّد العيدي، وقال: صدق الشافعي الألمعي في قيله: يفسد الناس: نصف عالم، ونصف طبيب!
فهؤلاء يا أريب: أنصاف المتعلمين، وأقذاف المتحيرين، لا حُيّوا، ولا بُيّوا، فإنهم لا يعرفون خَيّو ولا بَيّو!

ثم سأل العيدي، قائلاً: يا معيدي، أما ترى ما أرى؟
قال: وما ترى أيها الفتى الأورى، والصديق الأروى؟
قال: أرى نسناساً لا ناساً، وذئاباً لا أحباباً، ونحساً وبوساً!

قال المعيدي: هوّن عليك، واحمد نعمة الله إليك، فإنك في نِعَم، وغيرك في نقَم!

قال العيدي: هذا ما أريد، وعنه -بإذن الله- لا أحيد، وفقني وإياك الحميد المجيد.

ثم انتقل المعيدي، إلى خلق بعض الأنانية، ولؤم شق من الإنسانية، وكيف أنهم يكتفون، أن يكونوا في مأكل ومشرب ومنكح، وغيرهم في جوع وظمأ ومذبح!

وهذا -كما تعلم- منافٍ لـ (الآداب الشرعية، والمنح المرعية) وهذا عنوان كتاب منجح، زبره يراع ابن مفلح المفلح؛ فأتى فيه بالبديع المبدع، والرصين المقنع، والخطاب المسمع، وهو ماضٍ في كتابه مزمع، لا يلوي على المهوش والمقذع، واستمر في ماخوره، حتى أتى على آخوره، فإذا هو نفيسة عالية، ودرة غالية.
ولكن أين منه، مَن في أخلاقه دخل، وفي آدابه دغل- عديم الوفاق، ومؤذي الرفاق، ومن همّه الأرفاق، ومتكأه الارتفاق؟!

وأضاف المعيدي: اُعذرني، -يا فاضل، ومن في أخلاقه، ليس بخاتل- أطلت عليك، ولكن الأمر أعظم مما نبذته إليك، بل هو أعم وأعظم، وأصم وأقصم، فإلى الله المشتكى، وإليه الملتجى.

أجاب العيدي: أصبت المحز -يا معيدي- والحز: فإنّ هؤلاء هم أبناء الدنيا، وطلاب خسيس الأشيا، "ذلك مبلغهم من العلم" وذاك حظهم من الحلم، فخلّهم وشأنهم، وذرهم ونأيهم، فإنهم لا يعيشون إلا لأنفسهم فحسب، وليس لديهم نسب أو حسب، بل هم لقطاء في مهيع الفضيلة، ونزلاء في مرتع الرذيلة!

أضاف المعيدي: كلامك في الصميم، وخيرك عليّ، وغيري، عميم.
ولكن: إن هذه شريحة قد اعشوشبت حتى اورورقت، فنخشى من استفحالها، والأمة كلها في حالها- لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن مقروف، بل ربما كان منهم العكس، حتى أيدوا صاحب المكس!

ثم تابع المعيدي: مَن للضعفاء والمعوزين، والفقراء والمجهزين، والبؤساء المبلسين؟ إني -وربي- أذكرهم، فأبكيهم، وأنظرهم، فأنعيهم، فهم في خصاص، والناس عنهم في ملاص!

قال العيدي: لا يجد الفذّ منهم قوت يومه كأمسه، حتى تمنى أن يدخل في عومه ورمسه؛ حياء أن يكون سآّلاً، أو يكون مسآلا، ويحفظ في ذلك حديث الأفخم، صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس من غير ما حاجة؛ جاء يوم القيامة، وليس على وجهه مزعة لحم) وهكذا هو حافظ لدينه، وارد كريم معينه، ويحمد الله ويشكره، ويتوب إليه ويستغفره، فلله دره، وعلى الله شكره.

وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، ونتوب إليه، إنه هو البر الرحيم.
وصل اللهم وسلم على محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وكبروا الله تكبيرا.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٧/١٢/١١
١٤٤٠/١/١
١٤٤١/١٠/١



السبت، 23 مايو 2020

تسلية لك، وتهنئة إليك!

تسلية لك، وتهنئة إليك!
أبارك لك العيد، رغم الأسى والألم، ورغم القسى والجلم!

قائلاً: (تقبل الله: مني ومنك؛ صالح الأعمال)

آملاً، أن يعود علينا، ونحن في أمنٍ وأمان، وإسلام واطمئنان، وتمكين وإعلان.

عيد، بأي عيد عدت يا عيدُ *** بالهنا، أم بالغنا والتغاريد؟! 

ليكن، ما أراده الله، فلن أعمل إلا مايرضيه جلّ وعز.

فلن تراني يا عيد -بإذن الحميد المجيد-، فيك كئيباً، أو حزيناً، أو تعيساً..

فإنك، لم تزرنا إلا غباً، وليس من الأدب والإحسان، أن أقابلك بالأتراح والأحزان!

صحيح، أني أتألم وأتعلقم، وأجتوي وألتوي..

لكن..
واجبي نحوك: حسن الضيافة، وجميل القرى، (والجود، من الموجود)!
هذا واجبي نحوك أيها العيد الكريم..

وأما غيري: فلا أدري -والله- كيف يكون استقباله لك؟! 
فهم، ما بين: 
كسير وشريد.. 
وأليم وطريد.. 
ونازح عن بلده..
وفاقد فلذة كبده..

ولكني: أصبرهم جميعاً، وأقول لهم: ثقوا: أن الصبح قريب، وقد بدت تباشير الفرج، لائحة.. "ألا إن نصر الله قريب".

فاصبروا، وأمّلوا، واستبشروا، وأحسنوا الظن بربكم، فوالله، ما عُبد الله، بأحسن من حسن الظن، وهو القائل في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ماشاء"!

ياالله ويالله ووالله، كم أفرح وأطمئن وأستبشر، عندما أقرأ وأنعم وأمعن النظر فيه!
-يسلو خاطري..
-تبرق أساريري..
-يرتاح ضميري..

اعذرني، فقد طالت التهنئة، وعذري: أنها تهنئة وتهدئة، وتسلية وتعزية..

وسلام الله عليك بدءاً وختما،،


مهنئك: أبو نعيم وليد الوصابي.
عيد أضحى ١٤٣٦ُ
عيد فطر ١٤٤١


إثمد العينين في جواز التهنئة بالعيدين!


إثمد العينين في جواز التهنئة بالعيدين:

التهنئة: خلاف التعزية، تقول: هنأه بالأمر والولاية، تهنئة وتهنيئاً، وهنأه هنْأ، إذا قال له: ليهنك وليهنئك.

والتهاني -من حيث الأصل- من باب العادات، و(الأصل في العادات الإباحة)، حتى يأتي دليل يخصّه، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر.

والعادة: هي كل ما اعتادته الفطر السليمة، من المعاملات، ولم يأت فيه نص، بالحل، أو الحرمة. 

ودليلها: ما أخرجه مسلم -في قصة تأبير النخل-، وفيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم، أعلم بأمر دنياكم).

وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي في (منظومة القواعد):

والأصلُ في عاداتنا الإباحهْ *** حتى يجيءَ صارفُ الإباحهْ

وليس مشروعاً من الأمور *** غير الذي في شرعنا مذكور 

قال -رحمه الله- معلقاً على ذلك: 
"وهذان الأصلان العظيمان، ذكرهما شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتبه.
وذكر: أن الأصل، الذي بنى عليه الإمام أحمد مذهبه: أن العادات، الأصل فيها الإباحة، فلا يحرم منها إلاّ ما ورد تحريمه ... فالعادات: هي ما اعتاد الناس من المآكل، والمشارب، وأصناف الملابس، والذهاب، والمجيء وسائر التصرفات المعتادة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، إما نصّاً صريحاً، أو يدخل في عموم، أو قياس صحيح، وإلا، فسائر العادات حلال، والدليل على حلها، قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" فهذا، يدل على أنه خلق لنا ما في الأرض جميعه؛ لننتفع به على أي وجه من وجوه الانتفاع".
(المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي: ١/ ١٤٣).
وينظر: (الموافقات: ٢/ ١١٢- ٢٤٦) ففيه مزيد علم في المسألة.


قال أبو نعيم: فإذا علم، معنى العادات، وتقرر، أن: التهاني من بابها؛ فإنه لا ينكر منها، إلا ما أنكره الشارع، ولذا: مرّر الإسلام جملة من العادات- التي كانت عند العرب، بل رغّب في بعضها، كصلة الأرحام ونحوها، وحرّم بعضها، كالسجود للتحية وغيرها.

والتهنئة بالعيدين؛ هو من باب الفرح بهذا اليوم المبارك، ولإتمام الصيام والقيام، وفعل ذلك.. ليس حدثاً، أو بِدعاً، بل قد فعله الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولم يعلم لهم مخالف، فكان كالإجماع.

عن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا رجعوا من العيد، يقول بعضهم لبعض: (تقبل الله منا ومنكم).
قال أحمد: إسناد حديث أبي أمامة جيد.
ينظر: (الجوهر النقي: ٣/ ٣٢٠)
وقال السيوطي في، (الحاوي: ١/ ٨١): "إسناده حسن".

وكذلك ذكره ابن حجر، واحتج على مشروعية ذلك، بهذه الرواية التي رواها البيهقي.
قال البيهقي: (باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد: تقبل الله منا ومنك).
وحسنه الألباني في (تمام المنة: ١/ ٣٥٤).

وأخرج أبو أحمد الفرضي، في (مشيخته) والمحاملي، في (صلاة العيدين) عن جبير بن نفير قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: (تقبل الله منا ومنك).
وحسن إسناده، ابن حجر.
ينظر: (فتح الباري: ٢/ ٤٤٦)

وأخرج الأصبهاني في (الترغيب والترهيب) عن صفوان بن عمرو السكسكي قال: سمعت عبد الله بن بُسر، وعبد الرحمن بن عائذ، وجبير بن نفير، وخالد بن معدان، يقال لهم في أيام الأعياد: (تقبل الله منا ومنكم) ويقولون ذلك لغيرهم.

وأخرج الطبراني في (الدعاء) قال شعبة: لقيني يونس بن عبيد في يوم عيد، فقال: (تقبل الله منا ومنك). وهذا سند مسلسل بالحفاظ المكثرين، والمعمري تُكُلِّم فيه بكلام لا يضره هنا.
ينظر: (الحاوي: ١/ ٩٤)


ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، شيء في التهنئة بالعيدين.. 
وقد ورد في ذلك حديثان: أحدهما: يبيح، والآخر: يحظر!

أما المبيح.. فعن خالد بن معدان قال: لقيت واثلة بن الأسقع، يوم عيد، فقلت: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم، تقبل الله منا ومنك، لقيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، في يوم عيد، فقال: (تقبل الله منا ومنك).
وهو ضعيف جداً، ففي إسناده: محمد بن إبراهيم الشامي، وهو ضعيف، وقد تفرد به مرفوعاً، وخولف فيه.
ينظر: (كوثر المعاني الدراري: ١٠/ ٢٢٥) للشيخ محمد الخضر الشنقيطي.

وأما المحظر.. فقد أخرج ابن عساكر، من حديث عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم؟ فقال: (كذلك فعل أهل الكتابين) وكرهه.
وهو موضوع، ففي إسناده عبد الخالق بن خالد بن زيد بن واقد الدمشقي، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك، وقال أبو نعيم: لا شيء.
ينظر: (الحاوي: ١/ ٩٤)


وإليك مذاهب أهل الحديث، والفقه، والنظر.. في حكم التهنئة في العيدين:

-أهل الحديث:
قال ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى: ١/ ٨٧١): "وكذلك يتلاقى الناس، عند انقضاء شهر رمضان، فيقول بعضهم لبعض: (تقبل الله منا ومنك) بهذا مضت سنة المسلمين، وعليه جرت عاداتهم، وأخذه خلفهم عن سلفهم".

وتأمل وقوله: (مضت سنة المسلمين)؛ فهو كإجماع منهم خلفاً عن سلف -كما سلف-. 

-المذهب الحنفي:
قال الطحطاوي: "والتهنئة بقوله: تقبل الله منا ومنكم، لا تنكر بل مستحبة؛ لورود الأثر بها ... والمتعامل به في البلاد الشامية والمصرية، قول الرجل لصاحبه: عيد مبارك عليك ونحوه، ويمكن أن يلحق هذا اللفظ بذلك، في الجواز الحسن واستحبابه؛ لما بينهما من التلازم".
(حاشيته على المراقي: ٢/ ٥٢٧)

-المذهب المالكي:
سئل مالك: أيكره للرجل أن يقول لأخيه، إذا انصرف من العيد: تقبل الله منا ومنك، وغفر الله لنا ولك. ويرد عليه أخوه مثل ذلك؟
قال: لا يكره.
(المنتقى: ١/ ٣٢٢).

وأخرج ابن حبان في (الثقات) عن علي بن ثابت قال: سألت مالكاً عن قول الناس في العيد: تقبل الله منا منك؟ فقال: ما زال الأمر عندنا كذلك.

وقال علي بن ثابت: سألت مالك بن أنس منذ خمس وثلاثين سنة، وقال: لم يزل يعرف هذا بالمدينة.
ينظر: (الحاوي: ١/ ٩٤)

-المذهب الشافعي:
قال الشربيني: "قال القمولي: لم أر لأحد من أصحابنا، كلاماً في التهنئة بالعيد، والأعوام، والأشهر كما يفعله الناس، لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ المقدسي: أنه أجاب عن ذلك؛ بأن الناس، لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه، أنه: مباح، لا سنة فيه ولا بدعة".
(مغني المحتاج: ١/ ٣١٤).

وفي (حاشية الجمل: ٣/ ٧٠): "ويجوز، أن تطلب التهنئة، في أيام التشريق، وما بعد الفطر؛ لعدم المانع؛ ولأن المقصود منها التودد وإظهار السرور ... ويدخل وقت التهنئة بدخول الفجر، لا بليلة العيد".

-المذهب الحنبلي:
جاء في (سؤالات أبي داوود: ٦١) قال أبو داود: سمعت أحمد، سئل عن قوم، قيل لهم يوم العيد: تقبل الله منا ومنكم؟ قال: أرجو أن لايكون به بأس.

-أهل النظر:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل التهنئة في العيد وما يجري على ألسنة الناس‏:‏ ‏(‏عيدك مبارك‏)‏ وما أشبهه، هل له أصل في الشريعة أم لا؟‏ وإذا كان له أصل في الشريعة، فما الذي يقال‏؟‏ أفتونا مأجورين.
فأجاب:‏ أما التهنئة يوم العيد، يقول بعضهم لبعض -إذا لقيه بعد صلاة العيد‏-: تقبل الله منا ومنكم، وأحاله الله عليك، ونحو ذلك‏.‏. فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة، أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة، كأحمد وغيره. 
لكن قال أحمد:‏ أنا لا أبتدئ أحداً، فإن ابتدأني أحد، أجبته؛ وذلك لأن جواب التحية، واجب، وأما الابتداء بالتهنئة، فليس سنة مأموراً بها، ولا هو -أيضاًـ مما نهى عنه، فمن فعله، فله قدوة، ومن تركه، فله قدوة، والله أعلم‏". 
(مجموع الفتاوى: ٢٤/ ٢٥٣) و (الفتاوى الكبرى: ٢/ ٢٢٨).

وقال الشيخ ابن عثيمين: "التهنئة بالعيد، قد وقعت من بعض الصحابة رضي الله عنهم، وعلى فرض أنها لم تقع؛ فإنها الآن من الأمور العادية، التي اعتادها الناس، يهنىء بعضهم بعضاً ببلوغ العيد، واستكمال الصوم والقيام". 
(مجموع فتاوى ابن عثيمين: ١٦/ ٢٠٨).

تنبيه: لا بأس بالتهنئة، قبل العيد، وذلك؛ لأن القصد منها، التودد، وإظهار السرور، وإدخال الفرح، واستباق البر.
أما القول، بأن ذلك بدعة؛ فغريب؛ إذ أن أصل المسألة، ليست عبادية، حتى تدخلها البدعة، والبدعة، مختصة بالعبادات، لا العادات -على القول الصحيح الرجيح-.

قال شيخنا عبد الرحمن البراك -كما في موقعه-:
(التهنئة بالعيد، قبل صلاة العيد.. الأمر فيها واسع، فلا ينبغي التشديد في ذلك، والتهنئة عادة حسنة، ولا يقال: إنها سنة). 

وقال الشرواني الشافعي: "ويؤخذ من قوله (في يوم العيد): أنها لا تطلب، في أيام التشريق، وما بعد يوم عيد الفطر، لكن جرت عادة الناس بالتهنئة في هذه الأيام، ولا مانع منه؛ لأن المقصود منه: التودد، وإظهار السرور.
ويؤخذ من قوله (يوم العيد) أيضاً؛ أن وقت التهنئة، يدخل بالفجر، لا بليلة العيد، خلافاً لما في بعض الهوامش.
وقد يقال: لا مانع منه أيضاً، إذا جرت العادة بذلك؛ لما ذكره من أن المقصود منه: التودد، وإظهار السرور، ويؤيده، ندب التكبير في ليلة العيد".
حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج: ٣/ ٥٦)

تنبيه آخر: ليس للتهنئة، كلمات مخصوصة، لا يجوز تعدّيها، ويحظر غيرها.. بل تكون بكل ما اعتاد الناس، من كلمات الدعاء، وعبارات الصفاء، فلا تأنيب أو تثريب!
وإن اقتصر، على ما اقتصر عليه الصحابة رضي الله عنهم، من قول: تقبل الله منا ومنكم؛ فحسن، ولكن، دون منع سواها.


وراجع -إن شئت- رسالة: "وصول الأماني بأصول التهاني"، للحافظ جلال الدين السيوطي السموطي، وهو مطبوع ومطرز.
و "جزء في التهنئة في الأعياد وغيرها"، لابن حجر البحر، وهو مطبوع ومطرز.
و"نيل الأماني في شرح التهاني"، للحسن اليوسي.
و"رسالة في التهنئة بالأعياد"، للشيخ عبد الله بن درويش الركابي السكري الشيبي الدمشقي الحنفي، وغيرهم من أهل العلم والفهم.

وأما الأجزاء التي أُلّفت في العيدين؛ فهي كثيرة وفيرة.


هذا ما تمّ نقله من كلام أهل العلم، وهو واضح بجلاء؛ أن التهنئة بالعيدين، مشروعية مباحة، من حيث الجملة، وقد صحت من فعل السلف.
ولكن، إذا صاحب العادات، بعض المقاصد الحسنة؛ أوصلها إلى الأجر والزلفى.

وعليه؛ فلا ينكر على من فعله، ولا يشنع عليه، بل هو مأجور -إذا احتسب تهنئته-؛ لدعائه؛ وإدخاله السرور على قلوب المهنَئين؛ ولأن المباح يدور مع الأحكام الشرعية، إذا احتفّت به قرائن.

فأقول للجميع: تقبل الله منا ومنكم، وأحاله علينا وعليكم، وكل عام وأنتم بخير، وفي أمن وأمان، وسلامة وسلام..
وسلام السلام عليكم.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٩/٩/٢٨
١٤٤٠/١/١
١٤٤١/٩/٣٠

 

العيد.. ومأساة الفقير!


العيد.. ومأساة الفقير!

العيد: كلمة محبوبة، ولفظة مرغوبة، تعشقها الآذان، وتذلقها اللسان، ويعبقها الجنان!

العيد: رمز الفرحة والإخاء، والصدق والنقاء، والبذل والوفاء.

العيد: زائر حبيب، وضيف قريب، ونازل مهيب.

في العيد، نشتري الملابس الجديدة، ونأكل الحلوى اللذيذة، وننسى الأيام الشديدة، ونغضي عن الناس العنيدة! 


والناس في العيد، بين فارحٍ وكادح، ولا أتحدث عن الفارحين؛ لأن المحامين عنهم كثر، بعكس الكادحين؛ فإن الذابين عنهم نُزر!

دعوني -إذن- أتحدث عن هؤلاء الكرام الفخام؛ لأطفئ جمرة لاهبة في فؤادي، وأبل صدى عطشي، وأرضي أنب ضميري، بالحديث عنهم ومنهم، وإليهم وعليهم:


يأت العيد على طائفة من الناس؛ ثقلاً وهماً، وعبئاً وغماً!
نعم.
ينظر أحدهم، إلى الأسواق مزدحمة، والمعارض ممتلئة، والطرقات مكتظة.. والناس، معهم فلذات أكبادهم، قد ارتسمت الفرحة على محيّاهم، وهم في فرح ومرح، بملابسهم الجديدة، الذي جعلت لهم من العيد، أعيادا.. 

ينظر المسكين، إلى هؤلاء الصغار، وقلبه يحترق، وفؤاده يمتزق، ثم يسارق النظر إلى أكباده الحيّة؛ فتنهمر دموعه سخية، على خديه، فتكون غُنية عن الكلام واكتفاء!
(وعن البحر، اجتزاء بالوشل)!

يتعلق الصغار، بأبيهم: بابا.. بابا.. (وهي فصيحة، وقد بينتها في مقال) اشترِ لنا ملابس العيد، مثل بني فلان؟!
هكذا بكل براءة، وليست -والله- جراءة.

آهٍ، ما أقساه من موقف وأنكاه، وما أشد وطأته وأضناه، على قلب الأب المكلوم، والأم المهمومة! (رب اغنهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك).

تُرى، ماذا يقول لهم، وبم يجيبهم، وكيف يقنعهم؟!
إنهم، لا يفهمون، إلا ملابس جديدة، عليها خيط جدتها، مدلاة به بطاقة تشير إلى القياس!
لكنهم، لا يدركون قياساً ولا مقاساً.. ولا يفهمون، إلا الإشارة، إلى أنها جديدة!
فيظهرونه للداتهم؛ ليقولوا لهم: هذه ملابس العيد!

إنهم أطفال، لا يجيدون لغة المال، بل الإزهاء على الأطفال!
لا يعلمون.. أن الملابس، دونها قطع أعناق، وإسالة مآق!

يطوي الأب عنقه، كاشحاً عنهم، لا يلوي على شيء، إلا التفكير في أمر أزغابه وأحبابه!

تنظر إليه، زوجه المسكينة، بنظرات حرّى، وقلب مكلوم، ودموع غزار، ووجه خجول، وجسد مضنى، قد أنهكه التعب واللغب!

إنها، تجيد لغة الكلام، ولكنها تعرف حال زوجها الكادح، الذي بالكاد يؤويهم ويبطنهم!
فلا تريد، أن تزيده همّاً فوق همومه، وغماً إلى غمومه!

فترجع هي الأخرى، ناكصة على عكبيها، كسيرة الخاطر، حسيرة الفؤاد، مهيضة الجناح!
لكن عاطفة الأمومة، ينتهشها ويهترشها، ويضربها بسياطٍ من نار! فتنظر، كرة أخرى إلى حبيبها، قائلة:
-أبو فلان؟
-نعم.
-هل تستطيع أن تستلف؛ لأجل الصغار، أما أنا وأنت، فعيدنا، الأطفال؟
-أتمنى، ولكن من سيقرضني؟ لكني سوف أحاول!

يذهب إلى جاره العزيز..
-السلام عليكم.
-عليكم السلام.
-تقبل الله منا ومنكم.
-ومنكم.
-كيف حالكم وأولادكم؟
-الحمد لله على كل حال!

يسمع هذه الكلمة الموحية، فيعلم أنها إشارة من جاره المثقف، إلى عَطَلِه، وأنه في ضيقة وإعواز، فينصرف دون إحراز!

يدخل بيته، وأطفاله، ينتظرون الباب، يحسبون كل حركة، هي طرقة والدهم الأسيف!
لكن الوالد المسكين، يرجع بخفي حنين، بل، حتى خف حنين، لم يجده، فقد أخذه صاحب حنين!

ولم يتنبه الصبية، إلى خلو والدهم، فيهتفون، بصوت جماعي: بابا.. بابا، اشتريت... وقبل أن يكملوا كلمتهم المتكسرة.. تتعثر أقدامهم، حين يرون اليد فارغة!

كيف له، أن يفهمهم.. أنه لا يملك النقود، التي تضع القيود؟ كيف يستطيع تصبيرهم؟! بأي لغة يخاطبهم؟

تنظر الأم إلى يديها، لتجترّ ما فيها؛ لتبيعه!
لكنها خالية.. فالسوار الصغير، قد بيع في أزمة حادة (وما أكثر أزماتهم)!

تتلمس عنقها، فليس فيه قلادة، وترى أن المثل العربي الشهير، (يكفي من القلادة، ما أحاط بالعنق) ليس صحيح المعنى.. فعن أي قلادة يتحدثون؟! إنها لا تعرفها قط في حياتها!

تنحني إلى أصابعها، فلا -والله- لا تجد خاتماً، ولا حتى فَصّاً!

تتحسس أذنيها، فلا تحس قرطاً، أو حتى خيطاً، بل إن خرصتها، كادت اللحم تغطيتها؛ لطول عطلها!

إنها، خلو إلا من: دينها، وعفافها وحيائها، (وما أبهاه وأهناه وأحلاه).
(وأكرم به من متاع)!

لقيتها، ليتني ما كنت ألقاها *** تمشي، وقد أثقل الإملاق ممشاها

أثوابها رثة، والرِّجل حافية *** والدمع تذرفه في الخد عيناها! 


ثم تنظر إلى أولادها، فتقول لهم: سنشتري لكم -إن شاء الله- تعليقاً لا تحقيقا!
فيهدؤون ويسكنون ويسكتون، ولكنه دواء مسكن، له وقت، وينتهي المفعول!

لا أدري، ماذا كان، بعد هاته التهدئة المؤقتة، ولا أعلم، ما فعلوا مع صبيانهم وصبياتهم، لكني رأيتهم: يحمدون، ويشكرون، ويثنون على الكريم سبحانه، أكمل الثناء، بل ويستعذبون حياتهم العذيبة!


وبعد هذا الطواف الحسي؛ لجأ صاحبنا المعدم، إلى التطواف المعنوي، يقلّب كواغده، ويفتش دفاتره؛ فرأى هاتين البيتين:

‏كم تشتكي وتقول إنك معدم *** والأرض ملكك والسما والأنجم!

ولك الحقول وزهرها وأريجها *** ونسيمها والبلبل المترنم!

فقنع بهذا المِلك العظيم، والمُلك العميم!

ثم نبش صفحة أخرى؛ فقرأ هاته الأبيات للإمام الكبير محمد بن علي بن وهب ابن دقيق العيد:

لعمري لقد قاسيتُ بالفقر شدةً *** وقعت بها في حيرة وشتاتِ

فإن بُحت بالشكوى؛ هتكتُ مروءتي *** وإن لم أبحْ بالصبر؛ خِفتُ مماتي

فأعظم به من نازل من مُلمةٍ *** يزيل حيائي، أو يزيل حياتي


ثم نكش أخرى؛ فرأى هاته، وهي لابن دقيق العيد، أيضاً:

وقائلة: مات الكرام، فمن لنا *** إذا عضنا الدهر الشديد بنابهِ؟ 

فقلت لها: من كان غاية قصده *** سؤالاً لمخلوق؛ فليس بنابهِ

إذا مات من يرجى فمقصودنا الذي *** ترجينه باقٍ، فلُوذي ببابهِ


فتسلى، وبالصبر تحلى، وتحمل، وبالجَلد تجمل.

ثم فتش؛ فوجد الشاعر الأميري، يقول:
يقولون لي: عيد سعيد، وإنه؛ *** لَيوم حساب لو نحسّ ونشعرُ!

أعيد سعيد، يا لها من سعادة *** وأوطاننا فيها الشقاء يزمجرُ؟!

ثم أقفل المسكين، قراطيسه، وجمع كراديسه في كرابيسه، وخلا بنفسه، وتمتع بنفَسه، عن بني جنسه!


رب كن لهم، واكسهم، وآوهم، وأطعمهم، وتول أمرهم، فأنت وحدك المؤوي والكافي والمكافي.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي
١٤٣٧/٩/٢٩
١٤٤١/٩/٣٠


الجمعة، 22 مايو 2020

رمضان: بين الفرح بانقضائه، والحزن لانتهائه!

رمضان: بين الفرح بانقضائه، والحزن لانتهائه!

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.
وبعد:

فقد تكلمت في مقال سابق، عن فريضة الفرح بشهر رمضان؛ لأنه فرح بطاعة الرحمن، وإرغام للشيطان.

وفي هذا المقال؛ أتناول حكم الحزن أو الفرح، لانقضاء هذا الشهر الفضيل.

أقول -وبالله التوفيق، ومنه أستمدّ العون والتحقيق-:

كل عبادة لها: زمانها، ومكانها، وقدرها، وكيفيتها، وسببها، وجنسها.

ومن هذه العبادات: عبادة الصيام والقيام.
فهل يُفرح بانتهائها، أو يحزن على انقضائها؟

أقول: إن الناظر إلى مقاصد الإسلام، والمتتبع لرسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لا يجد تعارضاً، للجمع بين الأمرين: الحزن على فراق رمضان، والفرح بانقضائه!

وهاك التبيين:
أما الفرح؛ فذلك، لإتمامه الصيام والقيام، والتزامه بطاعة الملك العلام، وتوفيق الله له على الثبات من البداية حتى النهاية، وانتهاء الجهد والعمل، وبقاء الأجر والأمل؛ فهذا فرحٌ مستحب، وفيه مرغّب.

قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
وانتهاء الصيام والقيام؛ من فضل الله ورحمته، وهو خير مما يجمع الناس في الدنيا ويكنز.

وقال تعالى: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".
فبعد إكمال عدّة رمضان؛ شُرع التكبير؛ دلالة على الانتهاء من هذه العبادة العظيمة، وشكر الله تعالى؛ لهدايته، وتوفيقه لنا بالتمام والكمال، والتكبير، يصاحبه فرح وسرور.

وجاء التصريح بالفرح.. في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (للصائم فرحتان، فرحة عند فِطره، وفرحة عند لقاء ربه).
رواه البخاري ومسلم.

قال ابن رجب: "أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوس مجبولة على الميل، إلى ما يلائمها، من: مطعم، ومشرب، ومنكح، فإذا منعت من ذلك، في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها؛ فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً ... وفرحته الأخرى في الآخرة؛ في الدرجات العلى في الجنة، وأن الله قد خصص له باباً، يدخل فيه إلى الجنة -وهو الريان- لا يدخله إلا الصائمون، وعند لقاء الله، يفرح حين يجد جزاء صومه كاملاً، في وقت، هو أحوج ما يكون إليه؛ فرِح فرحاً لا حزن بعده".
(لطائف المعارف: ٢٩٣).

وقال -رحمه الله-: "أما فرحه يوم يفطر؛ بأن الله أعانه على أن صام هذا الشهر، فإذا دخل شوال، انتهى الصيام، وبقي الأجر والغفران، إذا أفطر الصائم، فرح بفطره؛ لأن النفس لا تعرف قيمة النعمة، إلا إذا حرمت منها، ففرحة المسلم الأولى، هي انتهاء صومه، فجعل الله ذلك عيداً للمسلم بعد رمضان، يفرح به، وبالأجر العظيم، فيفرح بما أنعم الله عليه من القيام، بعبادة الصيام؛ الدرجات العلى".
(لطائف المعارف: ٢٩٣).


تذكير: إن من لوازم الفرح ومقتضياته؛ إدخال السرور على الفقراء والمساكين، والأيتام والمعوزين، بالمواساة والمؤاساة، والتصدق عليهم، وسدّ جوعتهم، وستر أجسامهم، والهش والبش في وجوههم، ومشاركتهم الفرحة، ولا أدري -والله- أي فرحة لرجل يفرح لوحده، ولا يسأل عن جيرانه، ولا أقربائه وأصدقائه؟!
وقد كتبت مقالاً، عن ذلك، عنونته: (العيد والفقراء)! 


تنبيه: أما من يفرح.. تخلصاً من الصيام، وتبرماً من القيام، واشتياقاً للذات، وركضاً وراء الملذات؛ فهؤلاء أقول لهم: "ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا"، نسأله الصون والعون والمون. 

قال بشار -متماجناً-:
قل لشهر الصيام: أنحلت جسمي ***
إن ميقاتنا طلوعُ الهلالِ

اجهدِ الآن كل جَهدك فينا *** سترى ما يكون في شوالِ! 


وهذا حوار شعري، يصوّر، حال هؤلاء البائسين، بين الشاعر أحمد شوقي، والشاعر جابر قميحة.

قال أحمد شوقي:
رمضان ولى هاتِها يا ساقي *** مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ

ما كان أكثره على أُلاّفِها *** وأقله في طاعة الخلاقِ

الله غفار الذنوب جميعها *** إن كان ثمَّ من الذنوب بواقي! 

بالأمس قد كنا سجيني طاعةٍ *** واليوم منّ العيد بالإطلاقِ! 

ضحِكت إليّ من السرور ولم تزل *** بنت الكروم كريمة الأعراقِ

هات اسقنيها غير ذات عواقبٍ *** حتى نُراع لصيحةِ الصفّاقِ

صِرفاً مسلطة الشُعاع كأنما *** من وجنتيك تُدار والأحداقِ

حمراءَ أو صفراءَ إن كريمَها *** كالغيدِ، كل مليحةٍ بمذاقِ

وحَذارِ من دمها الزكيّ تريقُهُ *** يكفيك يا قاسي دمُ العشاقِ

لا تسقني إلا دِهاقاً إنني *** أُسقى بكأسٍ في الهموم دِهاقِ

فلعلّ سلطان المدامة مخرجي *** من عالمٍ لم يحوِ غير نفاقِ


فردّ عليه الدكتور جابر قميحة، فقال:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي *** مشتاقة تسعى إلى مشتاق

رمضانُ ودَّع وهو في الآماق *** يا ليته قد دام دون فراقِ

ما كان أقصَرَه على أُلاَّفِه *** وأحبَّه في طاعة الخلاّقِ

زرع النفوس هدايةً ومحبة *** فأتى الثمارَ أطايبَ الأخلاقِ 

"اقرأ" به نزلتْ، ففاض سناؤُها *** عطراً على الهضبات والآفاقِ

ولِليلةِ القدْر العظيمةِ فضلُها *** عن ألف شهر بالهدى الدفَّاقِ

فيها الملائكُ والأمينُ تنزَّلوا *** حتى مطالع فجرِها الألاّقِ

في العام يأتي مرةً، لكنّه *** فاق الشهورَ به على الإطلاقِ

شهر العبادة والتلاوة والتقى *** شهر الزكاة، وطيّب الإنفاقِ 

لا، يا أمير الشعر ما ولَّى *** الذي آثاره في أعمق الأعماقِ

نورٌ من الله الكريم وحكمةٌ *** علويةُ الإيقاعِ والإشراقِ

فالنفس بالصوم الزكى تطهرتْ *** مِن مأثم ومَجانةٍ وشقاقِ

لا، يا أميرَ الشعر ليس بمسلمٍ *** مَن صام في رمضان صومَ نفاقِ

فإذا انتهتْ أيامُه بصيامِها *** نادى وصفَّق هاتها يا ساقي!

الله غفار الذنوب جميعها *** إنْ كان ثَمّ من الذنوبِ بواقي

عجباً! أيَضْلَع في المعاصِي آثمٌ *** لينالَ مغفرةً، بلا استحقاقِ؟!

أنسيت يوم الهول يوم حسابه *** حين التفاف الساق فوق الساقِ؟

وترى المنافق في ثيابِ مهانةٍ *** ويُساق للنيرانِ شرَّ مساقِ 

لا، يا أمير الشعر ما صام الذي *** رمضانُه في زُمْرة الفسَّاق

لا، يا أمير الشعر ما صام الذي *** منع الطعام، وهمه في الساقي

من كان يهْوَى الخمرَ عاش
أسيرَها *** وكأنه عبد بلا إعتاقِ

الصومُ تربيةٌ تدوم مع التقى *** ليكون للأدواء أنجع راقي

هو جُنةٌ للنفس من شيطانها *** ومن الصغائر والكبائر واقي

الصوم - يا شوقي إذا لم تدْرِه *** نور وتقوى وانبعاث راقي

واسمع: أيا من أمَّروهُ بشعره *** ليس الأميرُ بمفسدِ الأذواقِ! 

إن الإمارة قدوة وفضيلة *** ونسيجها من أكرم الأخلاقِ

والشعر نبض القلب في إشراقِهِ *** لا دعوة للفسق والفسَّاقِ

والشعر من روح الحقيقة ناهلٌ *** ومعبِّرٌ عن طاهر الأشواقِ

فإذا بغى الباغى بدتْ كلماتُه *** كالساعر المتضرِم الحرَّاقِ

وإذا دعتْه إلى الجمال بواعثٌ *** أزْرى على زريابَ أو إسحاقِ 

لكنه يبقى عفيفاً طاهراً *** كالشّهدِ يحلو عند كلِّ مذاقِ

إنْ يمْضِ عشنا أوفياءَ لذكِره *** ويظلّ فينا طيّبَ الأعْراقِ


وأما من يحزن، على انتهاء شهر رمضان؛ لفراق مواسم الطاعة، وغياب مواطن القربة، وذلك كحال الصحابة، الذين قال الله عنهم -عندما لم يجدوا حمولة تحملهم إلى الحج-: "تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون".

وعن أبي ذر رضي الله عنه: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: (أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). رواه مسلم.

وليس هذا حزن، لذات الشهر، ولكن لما ورد فيه من الفضلية والخيرية، فهو حزن طبعي، جبلي، وقتي، يشعر به المرء لفراق محبوبه، وفوات مرغوبه.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "كيف لا تجري للمؤمن على فراق رمضان؛ دموع، وهو لا يدري، هل بقي له في عمره، إليه رجوع"؟
(لطائف المعارف: ١/ ٢١٧).

وقال أيضاً: "يا شهر رمضان ترفق.. دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع، تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق.
عسى وعسى من قبل وقت التفرق *** إلى كل ما ترجو من الخير نلتقي

فيجبر مكسور ويقبل تائب *** ويعتق خطّاء و يسعد من شقي". 
(لطائف المعارف: ١/ ٢٣٢).

ولسان حالهم:
خليلي شهر الصوم زُمَّت مطاياه *** وسارت وفود العاشقين بمسراهُ

فيا شهر، لا تبعد لك الخير كله *** وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاهُ


أمّا أن يستمر الحزن، ويُجاهر به، ويُتعبد الله بذلك، ويحرم نفسه من الفرح بيوم العيد؛ فإن هذا مخالف لما أمر الله به من الفرحة في العيد، والعيد.. يقتضي الفرح.

وقد فرح فيه: العالم الأول، والعابد الأمثل، عليه الصلاة والسلام، ولعب الصحابة بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مُقرّاً لهم، وناظراً إليهم، وقد كانوا قبله بيوم، في صيام وقيام.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ -يعني: يوم أن لعب الحبشة في المسجد-: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني أرسلت بحنيفية سمحة).
رواه أحمد، وصححه الألباني.

قال شيخ الإسلام: "الأعياد: هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر".
(اقتضاء الصراط المستقيم: ١/ ٥٢٨)

وقال ابن حجر: "إظهار السرور في الأعياد؛ من شعار الدين".
(فتح الباري: ٢/ ٤٤٣).

وقال -رحمه الله-: "واللعب بالحراب، والدرق في الأعياد.. مما لا شبهة في جوازه، بل واستحبابه؛ لأنه مما يتعلم به الفروسية، ويتمرن به على الجهاد".
(فتح الباري: ٦/ ٦٨)


قلت: وقد كانت حياتهم السلف الأُول، كلها، صلاة، وذكر، وعبادة، ودعاء، فيكفيك -أخي- ما كفى الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام، وإلا فَـ (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، فإياك ثم إياك؟

وهل ثبت عن سيد الخلق، عليه الصلاة والسلام؛ ملازمة الحزن على فراقه؟!
فهديُه أكمل الهدي، ولا يعلى عليه، فلنلزم غرزه، ولنتبع أثره، ومداخل الشيطان كثيرة، ووساوسه مبيرة.


قال أبو نعيم: وهذه سنة الله، في تقسيم الأزمنة والأيام، فالذي شرع الصيام والقيام، وحثّ على الخشوع والبكاء.. هو الذي شرع: الفرح بالعيد، ومعافسة الغيد، والسرور والحبور، ولقاء الرجال، والتوسعة على العيال، فلمَ نلزم أنفسنا حالاً واحدة؟!

وأنت مأجور على فرحتك فيه -أفرحك الله بطاعته- (والحزن غير مطلوب، لا شرعاً، ولا عقلاً، ولا عرفاً). فافهم حكمة الباري.


تذكير: انقضاء رمضان، لا يعني انقضاء الطاعات، فالطاعات لا تنقطع حتى الموت، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" فالحذر من الانقطاع عن الخير، بعد رمضان، "ألا ذلك هو الخسران المبين".

ومن علامات قبول العمل في رمضان؛ الاستمرار في الصالحات بعد رمضان.

يقول كعب رضى الله عنه: "من صام رمضان وهو يحدث نفسه، أنه إذا خرج رمضان.. عصى ربه؛ فصيامه عليه مردود، وباب التوفيق في وجهه مسدود".
(لطائف المعارف: ٢١٥)

ولما سئل بشر الحافي، عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان؛ تركوا؟
قال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!"


والحزن الحقيقي؛ يكون لمن أدركه رمضان، وهو في بُعد عن الله، وعن طاعة الله.. فهذا هو المحزون، وإن فرح، وهو المغبون وإن ربح؛ فليكثر البكاء على نفسه، قبل أن يدخل في رمسه، ولا عيد لمن لا طاعة له.

عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم، المنبر، فقال: آمين، آمين، آمين.
قال: أتاني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه، فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين. قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان، فمات، فلم يغفر له، فأدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك، فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين)
رواه الطبراني، وصححه الألباني.


والخلاصة: إذا أقبلت مواسم الطاعات؛ فُرح بها، وسُرّ لها، وإذا انتهت حُزن لفراقها، وفُرح بإتمامها.

والحزن يكون؛ لفراق ما في رمضان من العبادات، وكثير القربات من قيام وصيام وإيمان، وصدقة وبر وإحسان، ونحوها من الأعمال التي تجتمع في هذا الشهر الكريم.

والفرح يكون بانتهائنا، من أداء ما علينا من تكليف، وقضاء الصيام والقيام، وانتظار الأجر من الكريم سبحانه في الدنيا والآخرة.

قال الشيخ ابن عثيمين: "الموفق: يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص به من الذنوب، حيث قد يغفر له ما تقدم من ذنبه.
والغافل: يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص من الصوم، الذي يجد فيه العناء والمشقة، وفرق بين الفرحين". 
(الشرح الممتع: ٥/ ١٥٨)


ونرجوا ربنا سبحانه وتعالى.. أن يكون تقبل منا، ما عملنا من أعمال صالحة -على قِلّتها- في هذا الشهر المبارك.

روي عن علي رضي الله عنه، أنه كان ينادي في آخر ليلة، من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول؛ فنهنِّيه، ومن هذا المحروم؛ فنعزِّيه!

وعن ابن مسعود، أنه كان يقول: من هذا المقبول منا؛ فنهنِّيه، ومن هذا المحروم منا؛ فنعزيه، أيها المقبول، هنيئاً لك. أيها المردود، جبر الله مصيبتك.
(لطائف المعارف: ٢٠٩)

وخرج عمر بن عبد العزيز، في يوم عيد فطر، فقال في خطبته: (أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم، تطلبون من الله أن يتقبل منكم).


تتمة: هذه بعض الأجزاء والرسائل، في وداع شهر رمضان:

-وداع رمضان، لأبي الفرج ابن الجوزي.
-قصيدة مثير الأحزان في وداع رمضان، للعلامة محمد بن إبراهيم الوزير، تـ٨٤٠، مخطوطة بجامع صنعاء ٤٨٠.
-مجلساً في وداع رمضان، عقده الحافظ ابن رجب في كتابه: (لطائف المعارف) تحدث فيه عن فضل الشهر الكريم، وذكر أبياتاً في وداعه، كما أورد طرفاً من أقوال السلف وأحوالهم في ذلك.
-تذكير الإخوان في وداع شهر رمضان، لأبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي، تـ١٣٤١، بحيدراباد. طبع سنة ١٣١٣.
-رسالة في معنى قول صاحب تحفة الإخوان لوداع شهر رمضان: وانسلخ عنك هذا الشهر، وما انسلخت عن قبح العادة، للعلامة محمد بن الصديق البطاح الأهدل، تـ١٣٧٥.
واطلعت بعد كتابة هذا المقال، على مقال على الشبكة، في جرد المصنفات، في فضائل رمضان، فناهزت الخمسين!


أسأل الله جلت قدرته.. أن يكون خَتم ربنا، لي ولكم، شهر رمضان بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل متقبل مبرور، وتجارة لن تبور، إنه هو الغفور الشكور. 


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٣٨/٩/٢٩
١٤٣٩/٩/١٩
١٤٤٠/٩/٢٩
١٤٤١/٩/٢٨


آخر جمعة من رمضان!

آخر جمعة من رمضان!

ها هي آخر جمعة من رمضان.. تحزم متاعها، ويتفرق جماعها؛ تأهباً للقاء الحبيب القريب (العيد السعيد)!

وتالله، إن القلوب حزينة، والأنفس كسيرة، والأرواح أسيرة، والأعيان غزيرة، ولكن، هذه سنة الله تعالى، في تصرم الليالي الأيام، وتبدل السنين والأعوام، "والشمس والقمر بحسبان".

فهيّا بنا، نجمع أمرنا، ونشدُّ عزمنا، ونهيئ نفوسنا، ونصفِّي قلوبنا، ونقلل ذنوبنا، ونعلل ندوبنا..

هيا بنا، نستقبل ضيفنا القصير، وزوْرنا الكبير.. ونفرح به، ونأنس معه، ونسمع إليه، ونمرح مع أهلنا وأولادنا (ولو كنا في غربة)!

ولا نضيق على أنفسنا، بأننا، في حجر منزلي، -فالحمد لله-، إنّ غيرنا، في حجر نفسي، أو كرب مرضي، أو حر رمضي.. طوال العام!
ومن هَمّ نفسه وغمها؛ فقد حجّر على نفسه، وضيق على قلبه!


تنبيه وفائدة: إن آخر جمعة من رمضان.. لا تتميز عن غيرها، بشيء من العبادات.
وقد صنع لها بعض العوام؛ أحاديث في فضلها، وأفعال في وداعها، ولا يصح من ذلك شيء..
ينظر: (المدخل: ٢/ ٢٣٣) لابن الحاج، و(الفوائد المجموعة: ٥٤) للشوكاني، و(السنن والمبتدعات: ٥٠ - ١٦١) للشقيري، و(الإبداع في مضار الابتداع: ١٧٧) للشيخ علي محفوظ، و(موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين: ١٢/ ١٨) و(فتح الغفور في تعجيل الفطور وتأخير السحور: ٤١) و(بدع القراء: ٤٢) كلاهما، للشيخ محمد موسى نصر.

وقد وقفت على رسالة، بعنوان: (ردع الإخوان عن محدثات آخر جمعة رمضان)، للعلامة محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، تـ١٣٠٤.


بلّغني الله وإياكم أمانينا، وأتم علي وعليكم إيماننا.

وسلام الله عليكم ... ألقاكم في العيد السعيد، باللبس الجديد، والعيش الرغيد، والحال الحميد، والفعل المجيد.


محبكم: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٩/٢٩
آخر جمعة من رمضان.


الخميس، 21 مايو 2020

وداع الشهر! لعله آخر فجر في رمضان!

وداع الشهر!
لعله آخر فجر في رمضان!

جلجل صوت المؤذن.. يوقض القلوب النائمة، ويحذر النفوس الغائمة، وينقذ الأرواح العائمة!

جلجل صوت المؤذن.. لصلاة الفجر، ولعله يكون آخر أذان في فجر رمضان الحبيب القريب!

آه لحالنا، ترى ماذا صنعنا؟ ترى، ماذا عملنا؟
هل نفضنا عن أنفسنا، ما علق بها، من شوائب، وأزلنا ما بقلوبنا، من معائب؟!
ترى، هل صفت قلوبنا، فزكت أرواحنا، فحامت حول العرش، بعد أن كانت الأجساد تحوم حول الحش!

أمّن (رسول الأرض) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على دعاء (رسول السماء) جبريل عليه السلام.. أن من أدركه رمضان، فلم يغفر له، فأبعده الله!

يا الله، هل نحن من المقبولين، فنهني، ونهنى، أم من المطرودين، فنعزي، ونعزى؟!

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أيها المقبول، هنيئاً لك، ويا أيها المردود، جبر الله مصيبتك) 

وكان علي رضي الله عنه، ينادي آخر ليلة، من رمضان: (يا ليت شعري، من المقبول فنهنيه؟ ومن المحروم فنعزيه؟)

إن من أدب الضيف في وداعه؛ أن لا نريه ما يكره، ولا نسمعه ما يبغض.. ورمضان، ضيف جميل، وزائر خميل، فلا نودعه بنقص وذنوب، وبخس وندوب.
والذي يحسن بنا ويجمل؛ أن نتبعه بأعمال صالحة، وأفعال راجحة.

خرج عمر بن عبد العزيز، يوم الفطر؛ ليخطب، فقال: (أيها الناس، صمتم ثلاثين يوماً، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم). 

وكان مطرف يقول: (اللهم تقبل مني صلاة يوم، اللهم تقبل مني صوم يوم، اللهم اكتب لي حسنة، ثم يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين).

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لئن أستيقن، أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة؛ أحب إليّ من الدنيا ومافيها، إن الله يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين)

ومناسبة هذه الأقوال، في ختام هذه العبادة العظيمة.. هو أن من علامات قبول العمل.. الاستمرار على الخير، بعدها؛ لأن الذي رب رمضان، هو رب بقية الشهور، فعلامَ التفريق؟! 

سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمانِ

سلام على شهر الصيام فإنه *** أمان من الرحمن أي أمانِ

لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفانِ


تقبل الله منا ومنكم، الصيام والقيام والصلوات، وسائر العبادات والطاعات، ورزقنا مداومة على الخير والثبات، حتى الحشرجة والممات.


محبكم: أبو نعيم وليد الوصابي،
١٤٣٦/٩/٢٩
وقت أذان فجر يوم الخميس، وكأس الماء في يدي (قدراً لا قصداً)!
١٤٤١/٩/٢٩

تزيين رقبة الغيد في تعيين خطبة العيد!

تزيين رقبة الغيد في تعيين خطبة العيد! 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.
وبعد:

إن العيد.. يبهج النفوس، ويشرح الصدور، ويؤنس القلوب.
ومما يُتم هذه الفرحة ويزكيها.. حضور صلاته، وشهود خطبته.

وقد تنازع العلماء، في عدد خطبة العيد.. هل واحدة، أو اثنتان؟

وفي هذه العجالة؛ أتناول المسألة، مسترشداً، بكلام العلماء، ومسترفداً، كلام الفقهاء.

أقول: إن الناظر في فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ يرى أنه -عليه الصلاة والسلام-، خطب خطبة واحدة، وإنما ذهب وتحول -عليه الصلاة والسلام- إلى مكان النساء؛ إما لأنهن، لم يسمعنه، أو أنه، خصّهن بمزيد موعظة.

بل وجدت، ما يجزم بهذا الشك.. فعن عطاء قال: أشهد على ابن عباس، أو قال: قال ابن عباس: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لصلى قبل الخطبة، فظن أنه لم يسمع النساء فأتاهن، فحثهن على الصدقة، فجعلت المرأة تعطي القرط والخاتم، وجعل بلال يجعله في كسائه، قال: ففرقه على فقراء المسلمين).
رواه الفريابي، في (أحكام العيدين: ١٣٢)

ومما يعضد هذا الفهم.. خطبته، صلى الله عليه وسلم، على راحلته، ولا يكون إلا جالساً، فكيف يجلس إذا كانت خطبتين؟! ثم إن قيل: يقوم؛ ففي الفعل، كلفة، وفي القول به، تكلف.
وقول: أنه عليه الصلاة والسلام، خطب على الراحلة، قائماً.. بعيد؛ لبعده من الواقع، ولم ينقله الشارع.
وقول: أنه لا يلزم من الفصل بين الخطبتين، القيام، بل يكفي السكوت.. غير واضح، ولو كان؛ لم يعد فصلاً حقيقياً، إلا بنص، ولا نص، فمن أين لنا إثبات الفصل؟! 
هذا فعله عليه الصلاة والسلام.

ولم يرد شيئ صريح، من قوله عليه الصلاة والسلام، في تحديد خطبة العيد.

ولكن، جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، ما يفهم منه؛ أنها خطبة واحدة.

عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: متى كان من مضى، يخرج أحدهم من بيته، يوم الفطر، للصلاة؟
فقال: كانوا يخرجون، حتى يمتد الضحى، فيصلّون، ثم يخطبون قليلاً سويعة -يُقلل خطبتهم-.
قال: لا يحبسون الناس شيئاً، قال: ثم ينزلون، فيخرج الناس، قال: ما جلس النبي صلى الله عليه وسلم، على منبر، حتى مات- ما كان يخطب إلا قائماً، فكيف يخشى أن يحبسوا الناس؟ وإنما كانوا يخطبون قياماً، لا يجلسون، إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان.. يرتقي أحدهم على المنبر، فيقوم كما هو قائماً، لا يجلس على المنبر، حتى يرتقي عليه، ولا يجلس عليه، بعدما ينزل، وإنما خطبته جميعاً، وهو قائم، إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة الأولى، قال: لم يكن منبر، إلا منبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء معاوية، حين حج بالمنبر، فتركه، قال: فلا يزالوا يخطبون على المنابر بعد". 
(مصنف عبد الرزاق، رقم: ٥٦٥٠).

فيلاحظ، أن عطاء؛ نقله عن الخلفاء أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهو، وإن كان مرسلاً؛ لأنه لم يدرك الخلفاء الثلاثة، إلا أنه يحكي أمراً معلوماً مشهوراً شائعاً، لا يخفى أمره، ولا يمحى أثره.

ثم، إن القائلين، بأنها خطبة واحدة.. تعضدهم، اللغة العربية، والمتبادر إلى الذهن أولاً..
قال شيخنا مقبل: "وارجعوا -أيضاً- إلى كتب اللغة، إذا قالوا: خطبة، أو ضربة- ضربته ضربة.. هل يفهم أنه ضربه ضربتين؟
ما يُفهم هذا.
فسأله سائل: لو قال قائل: لو سمع خطبة الجمعة، سيقول: سمعت اليوم خطبة الجمعة، لا يقول خطبتين؟
فأجاب الشيخ: لو لم يرد، إلا هذا؛ لقلنا: أن الجمعة، يخطب لها خطبة واحدة، لكنه ورد في حديث جابر بن سمره عند مسلم، وفي حديث عبدالله بن عمر، عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خطب خطبتين".
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.

قلت: وهذا القول.. اختيار سيد سابق، كما في (فقه السنة: ١/ ٢٤٠) والألباني، كما في (تمام المنة: ٣٤٩) والعثيمين، كما في قدم النقل عنه في (الشرح الممتع: ٥/ ١٩١)، والشيخ مقبل، في شريط: "أسئلة شباب العدين". -رحم الله الجميع-.


ولكن في المقابل: من نظر إلى القائلين بالخطبتين؛ هاله الأمر، وهابه الحال، وجعله يتريث ويتئد؛ إذ أنهم الأئمة الأربعة، وجماهير أهل العلم: سلفاً وخلفاً، بل نفى ابن حزم، الخلاف في المسألة!

قال -رحمه الله-: "فإذا سلم الإمام، قام، فخطب الناس خطبتين، يجلس بينهما، فإذا أتمهما، افترق الناس ... كل هذا لاخلاف فيه".
(المحلى: ٣/ ٢٩٣)

 ولكن، لا يسلّم له؛ لوجود من خالف، وهو ما نقله عطاء عن الخلفاء الراشدين.

وينظر: (بدائع الصنائع: ١/ ٢٧٦) و(المدونة: ١/ ٢٣١) و(روضة الطالبين: ١/ ٥٨٠) و(المغني: ٢/ ١٢١).


وقد استدلوا، بآثار ضعيفة، وأحاديث صحيحة غير صريحة، ثم القياس.

قال الشافعي: "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة؛ أن يخطب الإمام في العيدين.. خطبتين، يفصل بينهما بجلوس.
قال الشافعي: "وكذلك خطبة الاستسقاء، وخطبة الكسوف، وخطبة الحج، وكل خطبة جماعة".
(الأم: ١/ ٢٧٢)

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى العيد، بغير أذان، ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائماً، فيفصل بينهما بجلسة).
رواه البزار، وهو ضعيف.
ينظر: (تمام المنة في التعليق على فقه السنة: ٣٤٨)

وعن جابر رضي الله عنه، قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم، يوم فطر، أو أضحى، فخطب قائماً، ثم قعد قعدةً، ثم قام).
أخرجه ابن ماجه، وهو حديث منكر.
ينظر: (سلسلة الأحاديث الضعيفة: ١٢/ ٦٣٥)

وقال الشيخ مقبل: "وأما حديث -وهو عند ابن ماجه-: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خطب خطبتين؟
فإنه من طريق إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف".
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.

وقال النووي: "وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (السنة أن يخطب في العيدين خطبتين، فيفصل بينهما بجلوس)؛ ضعيف، غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة".
(خلاصة الأحكام: ٢/ ٨٣٨).


وقال الشوكاني: "والحديث الثاني؛ يرجحه القياس على الجمعة، وعبيد الله بن عبد الله، تابعي -كما عرفت-، فلا يكون قوله: (من السنة) دليلاً على أنها، سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما تقرر في الأصول. وقد ورد في الجلوس بين خطبتي العيد، حديث مرفوع، رواه ابن ماجه، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف".
(نيل الأوطار: ٣/ ٣٢٣)


وأما الاستدلال، بما صح من الأحاديث؛ فهو استدلال غير صريح.
قال الصنعاني -في شرحه لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج يوم الفطر والأضحى، إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به، الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم؛ فيعظهم ويأمرهم).
قال "وليس فيه، أنه خطبتان كالجمعة، وأنه يقصد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله، وإنما صنعه الناس، قياساً على الجمعة". 
(سبل السلام: ٢/ ١٤٠)

وقال الشيخ ابن عثيمين: "وقوله: "خطبتين" هذا ما مشى عليه الفقهاء -رحمهم الله-؛ أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا، في حديث أخرجه ابن ماجه، بإسناد فيه نظر، ظاهره: أنه كان يخطب خطبتين، ومن نظر في السنة المتفق عليها، في الصحيحين وغيرهما؛ تبين له: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يخطب إلا خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى؛ توجّه إلى النساء ووعظهن- فإن جعلنا هذا أصلاً، في مشروعية الخطبتين؛ فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهن؛ لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمال.
ويحتمل: أن يكون الكلام وصلهن، ولكن أراد أن يخصهن بخصيصة؛ ولهذا ذكرهن، ووعظهن بأشياء خاصة بهن".
(الشرح الممتع: ٥/ ١٩١).


وأما القياس: فقد حكاه الشافعي، قال: "ويخطب، خطبتين، بينهما جلوس، كما يصنع في الجمعة".
(الأم: ١/ ٢٧٠)

وقال البيهقي: "باب جلوس الإمام، حين يطلع على المنبر، ثم قيامه، وخطبته خطبتين، بينهما جلسة خفيفة قياساً على خطبتي الجمعة، وقد مضت الأخبار الثابتة فيها".
(السنن الكبرى: ٣/ ٢٩٩)
وقال الصنعاني: "وليس فيه، أنها خطبتان، كالجمعة، وأنه يقعد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة".
(سبل السلام: ٢/ ١٤٠)

ولكن، حين النظر، يظهر؛ أنه قياس عبادة على عبادة، في بعض أمثالها، وقد افترقت في أمور، منها:
-في الحكم.. فالجمعة، فرض، والعيد، مستحبة، أو واجبة (على الخلاف).
-والهيئة.. فالخطبة مقدمة على الصلاة في الجمعة، والعكس في العيد.
-والوقت.. فالجمعة، بعد الزوال، والعيد، عند الشروق.

قال الشيخ مقبل: "فإن قال قائل -كما قال الشوكاني-: تقاس على الجمعة؟
فالجواب: أن الشرع توقيفي، والجمعة، ورد فيها دليل عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: (خطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، -أي الجمعة-، خطبة، وهو قائم، ثم جلس، ثم قام وخطب الثانية). رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه. رواه البخاري.
ومسألة القياس على الجمعة- لماذا لا يقيسونها على الكسوف؟
ما هي إلا خطبة واحدة، ولماذا لايقيسونها على غيرها من الذي ورد فيه خطبة واحدة"؟
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.

قلت: هذا، وأعوذ بالله، أن يكون هذا من التقديم بين يدي هؤلاء الفطاحل العماليق، أو تنكب طريق! (أستغفر الله) وإنما هو اقتيات على موائدهم، حاشا الافتيات.


والخلاصة: من خطب خطبة؛ كان متمسكاً بفعله صلى الله عليه وسلم،
ومن خطب خطبتين؛ كان متمسكاً بقول جمهور العلماء، و(لا تجتمع أمتي على ضلالة) -كما في حديث ابن عمر، عند الترمذي، وحسنه الألباني-، ولا يجوز إطلاق البدعة على أحد الفريقين، أو الهَجر والهُجر، أو الهمز واللمز والغمز.

قال الشيخ ابن عثيمين: "المشهور عند الفقهاء -رحمهم الله- أن خطبة العيد اثنتان؛ لحديث ضعيف، ورد في هذا، لكن في الحديث المتفق على صحته: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يخطب إلا خطبة واحدة، وأرجو أن الأمر في هذا واسع".
(مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين: ١٦/ ٢٤٦)

وسئل شيخنا مقبل.. هل يصل الذي يخطب خطبتين، إلى حد البدعة؟
فأجاب: "لا، لا نستطيع أن نقول: أنه مبتدع، أنا لو خيرت بين أخطب خطبتين، وبين أن يخطب غيري؛ أقول: يخطب غيري، وأنا أستمع؛ لأن الذي ورد هي خطبة".
من شريط: "أسئلة شباب العدين" وهو على موقع الشيخ -رحمه الله-.


والأهم من هذا وذاك: هو تآلف القلوب، وتقارب الصفوف، والتلاحم والترابط والتواد، وذلك في المسائل الاجتهادية، والذي ليس فيها نص قاطع.
وكل ما اعتاده الناس في أمر الخطبة أو الخطبتين؛ فليأخذ به الداعية، ولا يغيره؛ حفاظاً على قلوب العامة، حتى لا تكون هامة، أو طامة.
والله العاصم والقاسم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي. 
١٤٤٠/٩/٢٨
١٤٤١/٩/٢٨

الأحد، 17 مايو 2020

الحزن والأنين لحال اليمن واليمنيين! (وباءات في بلدي وبلاءات)


الحزن والأنين لحال اليمن واليمنيين!
(وباءات في بلدي وبلاءات)

"إنا لله وإنا إليه راجعون" و"حسبنا الله ونعم الوكيل" "وأفوض أمري إلى الله" و(لا حول ولا قوة إلا بالله) و(إنا لله وإنا إليه راجعون). 

لا تزال بلادي الحبيبة الحسيبة، الجميلة الخميلة، الرحيمة الكريمة.. ترزح تحت نير الحرَض، وترسف في وباء المرض!

كوليرا .. كرفس .. التهابات .. ملاريا .. بلهارسيا .. صفايح .. حمى الضنك .. حمى الخنازير.. إلى غيرها من بلاءات خطار، ووباءات كبار، لا نعلمها ولا نفهمها، ولا نعلم سببها، لكننا ندرك عطبها! -نجانا الله منها، ومن كل كرب-، "قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب".

مع حصار خانق، وفقر حانق، وحرب مستعر، وقتل مستحر..

كانت بلادي، في قديم الزمان.. تتمتع بمنصب كبير، ومنقب خطير، ولا زالت كذلك، حتى والتها النكبات، وواتتها الكدمات!

فالأنصار اليمانيون، هم من آوى إخوانهم المهاجرين، الذين خرجوا من بلادهم (مكة) مطرودين مقهورين؛ لكنهم وجدوا، في المدينة، عند الأنصار.. الأمن والأمان، والملجأ على مدى الأزمان، قال تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم
ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".

قال قيس بن سعد بن عبادة اليماني:
وإني من الحي اليماني لَسيد *** وما الناس إلا سيد ومسودُ

وقال الصحابي حسان بن ثابت اليماني:
لنا من بني قحطان سبعون تبّع *** أقرّت لها بالخرج منه الأعاجمُ

وقد تعجب ويتعجب ويتساءل- بعض من لا يدرك الحقيقة-، قائلين: إن الديار اليمانية.. من خير أهل الأرض استمساكاً بتعاليم الإسلام، وأخيرها تمسك نسائها بالحجاب، وأفضلها في اللين والرأفة، وأمثلها في المواساة والتواؤم..

يقولون: رغم كل هذه الصفات المجيدة، والشيات الحميدة، إلا أن أهل اليمن في بلاء مستمر، وحرب مستعر.. فلا ندري وجه الحكمة في هذا؟!

أقول لهم، وأجيبهم بأجوبة، وفي ثناياها، إزاحة الغربة، وبين حناياها، نفض التربة.. عن كل ذي كربة:

أولاً: إن الله يبتلي من شاء بما شاء، ويعاقب من شاء بما شاء "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فعو على كل شيء قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير"، فـ(لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده) -كما قال الطحاوي، في عقيدته القعيدة-.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني، في (صحيح الترمذي، رقم: ٢٥١٦)

وفي رواية: (تعرّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك).
رواه ابن بشران في (أماليه) عن أبي هريرة.
ينظر: (صحيح الجامع: ٢٩٦١)

فلا فزع ولا هلع ولا جشع ولا طمع، بل نفوّض الأمور لباريها، في نهارها ولياليها.

ثانياً: يجب على المؤمن.. أن يحسن الظن بربه الحكيم، سواء أدرك الحكمة والعلة، أم لم يدركها؛ لأن الله تعالى: عظيم عليم حكيم حليم رحيم كريم، ليست أفعاله سبحانه إلا وفق حكمة بالغة، وحجة دامغة "قل فلله الحجة البالغة" "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، فلا بد من إدراك هذا المعنى الخطير، الذي زلّت فيه أفهام، ودحضت فيه أقدام.

قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير".
وقال تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه".

قال ابن كثير: "فما من مؤمن، أصابته مصيبة، فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم للقضاء.. إلا هدى الله قلبه، ووفقه بالتسليم لأمره، والرضا بقضائه، وعوضه عما فاته من الدنيا، "يهد قلبه" لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، "ومن يؤمن بالله يهد قلبه"، هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيسلّم ذلك ويرضى".
(تفسير القرآن العظيم: ٨/ ١٣٧).

ثالثاً: لا بد من البلاء والابتلاء في حياة النقص والنقيصة.

قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون".
وقال تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب".
وقال تعالى: "هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا".
وقال تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً؛ يصب منه).
رواه البخاري.

وإن الناظر في حياة الأنبياء والمرسلين، والصحابة والمصلحين.. يرى أن البلاء عمّهم، والحزن قد غمّهم، من حرب وفقر، ومرض وقتر.

عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم، ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه- من لحم، أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمَنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله).
رواه البخاري.
زاد بيان: (والذئب على غنمه).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن آمن؛ امتحنه الرب عز وجل، وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار؛ ليبين الصادق من الكاذب- هذه سنته تعالى، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وهذا أصل عظيم، ينبغي للعاقل أن يعرفه".
(جامع المسائل: ١/ ٢٥٤)

رابعاً: علينا أن نفزع إلى الله تعالى ونلجأ إليه، ونجأر له، ونتوب إليه سبحانه، ونكثر ذكره ونستغفره، وندعوه تبارك وتقدس، ونتضرع إليه، ونلزم بابه، ونُدِم الطرق حتى يفتح لنا.
قال تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".
وقال تعالى: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم".

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: "ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي).
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود، رقم: ١٣٢٩)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
رواه الترمذي والبزار، وصححه الألباني، في (صحيح الجامع: ٢٤٥)

قال المباركفوري: "قوله: (وأنتم موقنون بالإجابة) أي: والحال أنكم موقنون بها، أي: كونوا عند الدعاء على حالة، تستحقون بها الإجابة، من إتيان المعروف، واجتناب المنكر، ورعاية شروط الدعاء، كحضور القلب، وترصد الأزمنة الشريفة، والأمكنة المنيفة، واغتنام الأحوال اللطيفة، كالسجود إلى غير ذلك، حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الرد".
(تحفة الأحوذي: ٩/ ٣١٦)

قال أبو نعيم: وايم الحق، ما أدمن عبد الدعاء، ولزم طرق باب الكريم سبحانه، ولهج بذكره، وخشع وخضع، واعترف بالنعمة، وباء بالذنب.. إلا استجاب الله دعاءه، وأعطاه سؤله، وكشف ضره وبلواه، 
وفي قصة ذي النون: "فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين". 

ولازم بابه قرعاً عساه *** سيفتح بابه لك إن قرعتا

وأكثر ذكره في الأرض دأباً *** لتُذكر في السماء إذا ذكرتا

ولنعلم، أننا في رحمة كبيرة من الله، فقد أصيب أسلافنا ببلايا عظيمة، ومصائب عميمة، كالطاعون الذي حصد مئات الآلاف من البشر، وأسكنهم القبر.

خامساً: نتذكر، قول الله تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم"، وقوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون".

فكم هي الجرائم المنتشرة، والكبائر المتفشية والمستترة؟
كم هو التبرج والسفور، والبغي والفجور؟
كم هي ترك الصلاة، ومبارزة الله جل في علاه؟!
كم انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، من أخلاق مزرية، وأفكار مردية، بل نِيل من الرب العزيز الحكيم، وقُدح في نبيبنا محمد عليه الصلاة والتسليم، وسُب آله الأبرار، ونُب صحابته الأطهار!

وكم وكم، مما نرى ونسمع كل يوم، من مبارزة ومجاهرة بالذنوب والمعاصي، من الداني والقاصي.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (كل أمتي معافى، إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح، وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه).
رواه البخاري ومسلم.

فلنرجع، ولنؤب لربنا وخالقنا، ونمرّغ جباهنا في السجود له، ذلاً وخشوعاً، وعبودية وخضوعاً، وسيكشف ما بنا، إن الله أرحم بنا من أنفسنا.

وسلْ من ربك التوفيق فيها *** وأخلص في السؤال إذا سألتا

ونادِ إذا سجدت له اعترافاً *** بما ناداه ذو النون ابن متى

سادساً: يجب على الإنسان، أن يدافع أقدار الله تعالى، بأقداره سبحانه، ولا يقف مكتوف الأيدي أمام قضاء الله وقدره، بل نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.

عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام، قيل: وما السام؟ قال: الموت).
رواه البخاري.

ولما خرج عمر رضي الله عنه، إلى الشام، أخبر أن الطاعون وقع بالشام، فقالت مشيخة قريش -من مهاجرة الفتح-: نرى أن ترجع، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أفراراً، من قدر الله؟ قال عمر: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله).
رواه البخاري ومسلم.

وطلب الدواء، من مستلزمات الإيمان بالقدر والقضاء، فلا بد من طلبه، والبحث عنه، بل هو واجب؛ لأن تركه، سبب إلى الموت، وقد جاء النهي الصريح، في الصحيحين، عن جرم من قتل نفسه، أو استسعى في ذلك.
هذا الدواء المادي.

ولا ننس الدواء الرباني والنبوي، من قراءة القرآن الكريم، والأذكار النبوية، والرقى والتحصينات الشرعية، والاستشفاء بماء زمزم مع قراءة الفاتحة عليه سبع مرات، بإيمان وإيقان. 

سابعاً: علينا أن نبثّ الطمأنينة والسكينة في الناس، ولا نخيفهم، أو نضخم مصابهم، ونأخذ بالأسباب الشرعية، وكم من مريض؛ برئ وعوفي.

عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة).
رواه البخاري ومسلم.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتفاءل ولا يتطير، ويعجبه الاسم الحسن).
رواه أحمد.

وعن عكرمة رضي الله عنه: أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي صلى الله عليه وسلم (قد سهل لكم من أمركم). 
رواه البخاري.

قال الماوردي: "الفأل فيه تقوية للعزم، وباعث على الجد، ومعونة على الظفر، فقد تفاءل رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم في غزواته وحروبه".
(أدب الدنيا والدين: ٣١٩)

‏قل للذي ملأ التشاؤم قلبهُ *** ومضى يضيِّق حولنا الآفاقا

سرّ السعادة حسن ظنك بالذي *** خلق الحياة وقسَّم الأرزاقا 

فلا تقلقوا، ولا تيأسوا من روح الله، بل أبشروا وأمّلوا، وثقوا بربكم، فإن الله عند ظن عبده به، فليظن به ما شاء -كما جاء في أحاديث قدسية-.

عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
رواه ابن حبان، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة دون قوله فليظن بي ما شاء.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي.. إن خيراً، فخير، وإن شراً، فشر).
رواه الطبراني في الأوسط، وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر، والشيرازي في الألقاب.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عندي ظن عبدي بي.. إن ظن خيراً، فله، وإن ظن شراً، فله).
رواه أحمد وابن حبان.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني.. فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي ...) الحديث، رواه البخاري ومسلم.

والتفكير السلبي التشاؤمي، لا يفيد أبداً، بل يضر ديناً ودنياً، فكراً وبدناً، لا سيما، إذا كان تفكير في شيء غيبي، لا يعلمه إلا الواحد الأحد.

دع المقادير تجري في أعنتها *** ولا تبيتنّ إلا خاليَ البالِ

ما بين غمضة عين وانتباهتها *** يغيّر الله من حال إلى حالِ

ثامناً: إن ما نراه من أمن ورخاء، في بعض البلاد العاصية القاسية القاصية.. لهو محْل واستدراج..

قال تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".
وقال تعالى: (أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون".
وقال تعالى: "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال".
وقال تعالى: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه، فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون").
رواه أحمد، والطبراني، وصححه الألباني في (صحيح الجامع: ٥٦١)

تاسعاً: إن الحياة، ليست مقصودة بالمال والولد والرغد، إنما الفضل والفضيلة والأفضلية؛ لأنها دار عبور وغرور ومرور، فمن تعذب هنا، وكان من المؤمنين الصابرين؛ كان جزاؤه جنات النعيم، ولا يجمع الله على عبده خوفين. 

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: (وعزتي، لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا؛ أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا؛ أمنته يوم القيامة).
أخرجه ابن حبان، والبزار، والبيهقي، وابن المبارك، وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة، رقم: ٧٤٢)

قال ابن الجوزي: "أما بعد؛ فإني رأيت عموم الناس، ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وُضِعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السَقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟ كما قيل:
على ذا مضى الناس، اجتماع وفرقة *** وميت ومولود وبشر وأحزان"
(تسلية أهل المصائب: ٥٢)

عاشراً: إن نصر الله للمسلمين، وتفريج كربهم.. قريب بإذن القريب جل وعلا. 
هذا ظننا الحسن بربنا سبحانه وتعالى، ولا يجوز لنا غير هذا؛ لأن سوء الظن بالله من الكبائر، فالفرج قريب لا محالة، والنصر آت لا شك ولا ريب.

قال ابن رجب: "وإذا اشتد الكرب، وعظم الخطب، كان الفرج حينئذ قريباً في الغالب؛ قال تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا"، ومن لطائف أسرار اقتراب الفرج باشتداد الكرب: أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى.. وُجِد الإياس من كشفه من جهة المخلوق، ووقع التعلق بالخالق وحده، ومن انقطع عن التعلق بالخلائق، وتعلق بالخالق.. استجاب الله له، وكشف عنه".
(نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم، لابن عباس: ١٢٣)

وقال ابن حجر: "الله يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخارج، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات.. تهذيباً، وزيادة لهم في الثواب".
(فتح الباري: ٦/ ٤٨٣).

واصبر على غِيَر الزمان، فإنما *** فرج الشدائد مثل حل عقالِ

فيا أهل اليمن.. صبراً صبراً.. إن موعدكم النصر والتمكين، والقصر والتسكين، وإن أريد بها شراً، أو يراد لها ضيراً، فالنصر آت لا ريب، وعلى الباغي، تدور الدوائر.

قال الجندي: وذكر ابن أبي الصيف في كتابه "الميمون المتضمن لبعض فضل أهل اليمن": أن القاضي أبا عبد الله الحسين بن علي الصيمري: ذكر في أخبار الإمام أبى حنيفة وفضائله، بسند إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن؛ هم أرق قلوباً، وألين أفئدة، يريد أقوام أن يضعوهم، ويأبى الله إلا أن يرفعهم).
ينظر: (السلوك: ١/ ٦٠)

قال أبو نعيم: وفي هذا الحديث، دلالة من دلالات نبوته عليه الصلاة والسلام؛ إذ أن أن المماحكات؛ نادت، والمناكفات؛ حادت، ولكن "إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا".
(اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم).

يا أهل اليمن، (أنتم نفَس الرحمن) عز وجل، وأنتم أهل (الإيمان والحكمة والفقه)، وأنتم (أهل الرقة واللين)، وأنتم مضيفو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم أكثر الصحابة عدداً وعُدداً، وأنتم الشعار وغيركم الدثار، وأنتم من أسلمتم جميعاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، دون حرب أو قتال، وأنتم أول من أجاب إبراهيم حين نادى بالتلبية، وأنتم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم أول من جاء بالمصافحة، وأنتم أول من تشربون من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلى كثير من فضائلكم وفواضلكم..

تمسكوا بالإسلام، واستمسكوا بهدي خير الأنام، وابتعدوا عن الشهوات، وانأوا عن الشبهات، وتراحموا فيما بينكم، وتعاطفوا فيمن حولكم، يعزكم الله وينصركم.

أيها الموجوع صبراً *** إن بعد الصبرِ بشرى

أيها الباكي بليلٍ *** سوف يأتي النور فجرا

أيها المكسور، قل لي: *** هل يديمُ الله كسرا؟ 

يا عزيز القلب مهلاً *** إن بعد العسر يسرا

اللهم يا رحمن يا رحيم، ارحم اليمانيين؛ فإنهم جاهدوا مع نبيك، وآمنو برسلك، وكانوا للإسلام ناشرين، وللبقاع فاتحين، ولإخوانهم، مرحبين ومقاسمين، ولغيرهم، مشاطرين ومناصفين.. اللهم فأحسن إليهم يا محسن، إنك "لا تضيع أجر المحسنين".

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وفي خير ونصر ونعمة ورحمة، ألقاكم وألتقيكم، والسلام عليكم.

وكتب: المتفائل: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٣٨/٨/٢٤ ر ح ي
١٤٤١/٥/٢١ ح ي
١٤٤١/٩/٢٢ م م

#مقالاتي_ومقولاتي
#أنابيش_الكنانيش

السبت، 16 مايو 2020

إحراز الأجر بتنويع الأعمال الصالحة في ليلة القدر!



إحراز الأجر بتنويع الأعمال الصالحة في ليلة القدر!

سمعت أمس، مقطعاً صوتياً قصيراً، لفضيلة الشيخ صالح العصيمي.. يذكر فيه: أن العمل في ليلة القدر، خاص بالصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء، لا مطلق العمل.
واستدل لذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر؛ غفر له ما تقدم من ذنبه).

وقال: من يستحسن التنويع في العمل، كالبر والصدقة والصلة.. فقد غلط في فهم المراد الشرعي منها، لأن هذه الأعمال غير مرادة فيها، وهو معنىً حادث، لا يعرف عن السلف -رحمهم الله-!


أقول -وبالله التوفيق، ومنه التحقيق-: عراني الدهش، ولازمني العجب، عند سماعي هذا الكلام؛ إذ فيه تضييق واسعِ العبادة على الناس، وتغليط من نوّع العمل، وتحديث معنى التنويع، وأنه لا يعرف عن السلف!

لكني، رجعت إلى كتب أهل العلم وفتاويهم؛ فكان هذا المزبور:
أولاً: استدل الشيخ على الخصوصية، بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) ووجه الدلالة عنده: أنه صلى الله عليه وسلم، خص ليلة القدر، بالقيام، فهي خاصة بها، ولازمة لها!

وهذا -في الحقيقة- فهم عجيب؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم، ذكر في هذه الليلة، أشرف ما فيها، وهي الصلاة، ولم يمنع من غيرها، بل لم يعدد سواها.
ثم، إن هذا لا يصلح دليلاً للحصر والخصوصية؛ لأن أجر القيام في الحديث، هو غفران ما تقدم من الذنوب، وهو زائد على ما جاء في خيرية هذه الليلة- بألف شهر، على ما سواها.
فلا يصح تخصيص الحديث للآية؛ لأن الثواب، مختلف.
فعليه؛ يقال: ورد تخصيص القيام في الحديث؛ لشرفه وفضله، وغفران ذنوب فاعله، وتبقى فضيلة الأعمال الصالحة كلها في ليلة القدر.. أنها خير من ألف شهر.

وعلى فرض الاستدلال، بحديث (من قام ليلة القدر ...)؟
أقول: كذلك، جاء في الحديث: (من صام رمضان ...) وجاء (من قام رمضام ...) فهل العمل متوقف في رمضان على الصيام والقيام؟
فإذا قلت: جاءت نصوص أخرى على فعل أعمال أخرى، غير الصيام والقيام، في شهر رمضان!
أقول: حسناً، وما لم يرد من الأعمال، فيها نص، هل يجوز فعلها في رمضان؟
فما قلته من التعليل عن ليلة القدر، يلزمك هنا!


ثانياً: قوله: هذا معنىً حادث، لا يعرف عن السلف -رحمهم الله-!

إطلاق غريب؛ لأن المنوِّع للأعمال الصالحة، غير مطالب بدليل، على تنويعه، في هذه الليلة؛ لأنه معلوم في العموم، وذِكْر المعلوم، غير وارد في كلام السلف، إلا على سبيل الإخبار.
وعليه؛ فالذي يطالب بالدليل، هو الحاضر والمانع.

على أن، مما يصلح دليلاً عاماً على التنويع في أعمال البر، في ليلة القدر.. هي عبادة الاعتكاف، فقد كان صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر، وفي العشر، ليلة القدر، لا محالة.

ثم، إن الأعمال الصالحة، منها ما هو مطلق، ومنها ما هو مقيد، فالمقيد؛ هو الذي يطالب فاعله بالدليل، أما المطلق؛ فلا؛ لأنه يدخل في عموم الأدلة، التي تحث على الأعمال الصالحة في كل زمان ومكان.
لكن، من خص هذه الليلة، بأعمال معينة، وأذكار مقيدة.. فهو الذي يطالب بالدليل، لكن أن يتعبد مستكثراً من أعمال البر والقرب؛ فلا ضير ولا ثرب.

ثم إني، وجدت أثراً.. أخرجه عبد بن حميد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: العمل في ليلة القدر، والصدقة، والصلاة، والزكاة.. أفضل من ألف شهر).
(الدر المنثور: ٨/ ٥٦٨)

قال ابن باديس: "بيّن هذا الأثر- وفي معناه آثار كثيرة- أن خيرية ليلة القدر؛ راجعة إلى تفضيل الطاعة فيها، والعمل الصالح على غيرها من الليالي والأيام".
(آثار ابن باديس: ٢/ ٣٢٣)

وأخرج ابن جرير، عن عمرو بن قيس الملائي، في قوله: "ليلة القدر خير من ألف شهر".
قال: عمل فيها، خير من عمل في ألف شهر).
(الدر المنثور: ٨/ ٥٦٨)

ولفظة (عمل) جاءت نكرة، فتفيد العموم، أي: كل عمل صالح.


ثالثاً: لا أدري، لمَ التضييق على المسلمين، في مثل هذه الفضائل والفواضل؛ فإن ليلة القدر، ليست للمصلين فقط، بل هي للنفساء والحائض، والمسافر والمقيم، والمريض والمعذور.

عن جويبر، أن الضحاك، قيل له: أرأيت النفساء والحائض والنائم والمسافر؛ هل لهم في ليلة القدر نصيب؟
قال: نعم؛ كل من تقبل الله عمله، سيعطيه نصيبه من ليلة القدر، لا يخيبه أبدا.

وقال الشافعي: "أستحب، أن يكون اجتهاده في يومها، كاجتهاده في ليلتها".
(الأذكار: ٣١٧)

وأخرج النسائي في (عمل اليوم والليلة) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو علمتُ أي ليلة، ليلة القدر، لكان أكثر دعائي فيها: أن أسأل الله العفو والعافية).

قال النووي: ويُستحب أن يُكثر فيها من الدعوات، بمهمات المسلمين، فهذا شعار الصالحين، وعباد الله العارفين".
(الأذكار: ٣١٧)

بل جاء عن بعض السلف.. تفضيل بعض الدعاء على الصلاة فيها!
قال سفيان الثوري: (الدعاء في الليلة.. أحب إلي من الصلاة).


رابعاً: إن القرآن الكريم، أنزل بلسان عربي مبين، في لفظه ومعناه.. فإذا رجعنا إلى قوله تعالى: "ليلة القدر خير من ألف شهر"؛ يتبادر إلى الأذهان؛ جميع الأعمال الصالحة، دون تقييد، أو تخصيص، وهو ما عليه، علماء التنزيل، وأساطين التأويل.
فمن أين تخصيص القيام، دون ما سواه؟!

قال الطبري: "وأشبه الأقوال في ذلك، بظاهر التنزيل؛ قول من قال: عمل في ليلة القدر، خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر".
(تفسير الطبري: ٢٤/ ٥٣٤)

وقال البغوي: "قال المفسرون: "ليلة القدر خير من ألف شهر"، معناه: عمل صالح في ليلة القدر، خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر".
(معالم التنزيل: ٨/ ٤٩١)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الشهر، قد حضركم، وفيه ليلة، خير من ألف شهر، من حرمها، فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم).
رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

فكيف بمن كان مريضاً، أو مسافراً، أو نائماً، أو من كانت حائضاً، أو نفساء..
وكيف حال، من لا يقوى على القيام؛ لضعف، أو كبر، أو عمل، أو مرض، أو غيرها من الأعذار؟!

هل يشملهم هذا الحرمان اللاهب؟!
اللهم، نعم، -على هذا الرأي-!

ولا مخرج لهم، إلا، أن بتنوع الأعمال الصالحة، فيعمل كل فيما يحب، دون تقييد أو تخصيص.

وقال مالك: "بلغني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته، أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر".
ينظر: (لطائف المعارف: ١٩٢)


خامساً: كل ما ورد من تخصيص أعمال صالحة في رمضان.. تشمل ليلة القدر؛ لأنها منه، وخروجها، يحتاج إلى دليل!

ومن ذلك:
رُوي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارِسُه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة).
رواه البخاري.

ولذلك؛ كان من فقه الشافعي، أن قال: (أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم".
(مختصر المزني: ١٥٦) وينظر: (بحر المذهب: ٣/ ٣١٢) للروياني، و(الشافي في شرح مسند الشافعي: ٣/ ٢٥١)

قال الماوردي: "وهذا كما قال. يختار للناس.. أن يكثروا من الجود والإفضال في شهر رمضان؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالسلف الصالح من بعده؛ ولأنه شهر شريف، قد اشتغل الناس فيه بصومهم عن طلب مكاسبهم، ويستحب للرجل أن يوسع فيه على عياله، ويحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه، لا سيما في العشر الأواخر منه، ويستحب لمن أمكنه إفطار صائم؛ أن يفطره، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر صائماً، كان له مثل أجره، من غير أن ينتقص من أجره شيئا)".
(الحاوي الكبير: ٣/ ٤٧٩)

وقال ابن القيم: "وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه السلام، يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة، ما لا يخص غيره به من الشهور".
(زاد المعاد: ٢/ ٣٠)

وقال ابن رجب: "وكان كثير من السلف.. يؤثر بفطوره، وهو صائم، ويصبح صائماً، منهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وداوود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وكان ابن عمر.. لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه، فلم يفطر في تلك الليلة.
ومنهم: من كان لا يأكل، إلا مع ضيف له، قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي، يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس، وأكل الناس معه.
وكان منهم: من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم: الحسن، وابن المبارك".
(اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى: ٧٨)

وقال ابن رجب أيضاً: "واعلم، أن مضاعفة الأجر للأعمال، تكون بأسباب، ... ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، وفي حديث سلمان الفارسي المرفوع -الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان-: (من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)، وفي الترمذي عن أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: (صدقة في رمضان)، وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان، تعدل بحجة) أو قال: (حجة معي)، وورد في حديث آخر: (أن عمل الصائم مضاعف).
وذكر أبو بكر بن أبي مريم، عن أشياخه: أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان، فانبسطوا فيه بالنفقة.. فإن النفقة فيه مضاعفة، كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه، أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
قال النخعي: صوم يوم من رمضان، أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه، أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره، بالنسبة إلى سائر الأعمال.. كان صيام شهر رمضان، مضاعفاً على سائر الصيام؛ لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام- التي بني الإسلام عليها".
(لطائف المعارف: ١٥١)


سادساً: إن تنويع الأعمال الصالحات، في ليلة القدر، نص عليه، من المعاصرين، الشيخ ابن باز‏‎، والشيخ الألباني..

قال -رحمه الله-: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، والمعنى: أن من قامها بالصلاة، وسائر أنواع العبادة- من قراءة، ودعاء، وصدقة وغير ذلك.. إيماناً بأن الله شرع ذلك، واحتساباً للثواب عنده، لا رياء، ولا لغرض آخر من أغراض الدنيا؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه".
(مجموع الفتاوى: ١٥/ ٤٣١)

‏‎وقال رحمه الله -عن قوله تعالى: "ليلة القدر خير من ألف شهر".. والمعنى: أن الصدقة فيها، والعمل الصالح.. يضاعف مضاعفة كثيرة، أفضل من العمل في ألف شهر، وهذا شيء عظيم، ينبغي على الناس الاستفادة في الإنفاق فيها، والإحسان فيها، والصلاة وغير ذلك، فإذا صنع طعاماً ليلة السابع والعشرين، أو تصدق بصدقة، أو زاد في الصلاة، كل هذا لا بأس به، يرجو أن توافق ليلة القدر.. فلا حرج في ذلك".
فتاوى نور على الدرب: ١٦/ ٤٨٨)


وقال الألباني: "ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات، لم يخصها بها الشرع، بل يكون جميع أنواع البر مرسلة، في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل، إلا ما فضله الشرع، وخصه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك؛ اختص بتلك الفضيلة، تلك العبادة دون غيرها، كصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان.
ومن الأزمان، ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر، كعشر ذي الحجة، وليلة القدر- التي هي خير من ألف شهر، أي: العمل فيها، أفضل من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، فمثل ذلك: يكون أي عمل من أعمال البر، حصل فيها، كان له الفضل على نظيره في زمن آخر، فالحاصل: أن المكلف، ليس له منصب التخصيص، بل ذلك إلى الشارع، وهذه كانت صفة عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم".
(موسوعة الألباني في العقيدة: ٢/ ٥٠٨)


سابعاً: كيف للمتعبد.. تمييز ليلة القدر عن غيرها، والجزم بذلك، والبتّ فيما هنالك، لا سيما، قبل أفولها، وطلوع صبحها؟!
فرجعنا، إلى جعْلها- كسائر الليالي، في تنوع الأعمال الصالحة، دون زيادة أو نقصان!
فكأن الكلام في تخصيصها.. تحصيل حاصل، لا غير.


هذه نقاط، أردت بها التنويه والتنبيه، فما كان فيها من صواب؛ فمن الله وحده، وما كان فيها من شطط؛ فمني والشيطان، والحق أحق أن يتبع، وأولى أن يستمع،
والله أعلى وأعلم، وأولى وأكرم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٩/٢٣


الخميس، 14 مايو 2020

لك الله يا يمن الإيمان والفقه والحكمة!

لك الله يا يمن الإيمان والفقه والحكمة!

إنا لله وإنا إليه راجعون.. نظرت الآن، إلى مقطعين.. تضج منهما الرحمة، وتتألم الفطرة، وتتشحط الأمانة، وتتوأد الصغيرة.. تحكي، حال بلادي، وقد سفحت بأقذار المجاري، وفاضت بأوساخ المزابل، ونافت على البلايا والرزايا!

إنه والله، السم الزعاف، والوباء المحموم، والموت الزؤوم.

أقول: لك الله يا بلاد اليمن- الأرض الطيبة المباركة، الطيب أهلها!

لا أملك، إلا أن أكرر قول المرأة، في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيلي أمرنا، ويغفل عنا.. بيننا وبينك الله يا عمر)!

رضي الله عن أمير المؤمنين، الذي كان يقول: (والله، لو عثرت بغلة في العراق؛ لخشيت أن يسألني الله عنها)!

لا ندري، ما نقول: وقد تعثر اليوم في اليمن.. الرجال والنساء .. تكردس الصغار والكبار .. تكربس الصلحاء والفضلاء .. تقرطس العلماء والفقهاء .. تعثروا حتى فاتوا وماتوا!

ماذا نقول، وقد ضاقت المقابر، عن قاصديها؟! ماذا نقول، وقد أقفلت المستشفيات أمام وارديها؟! ماذا نقول، وقد قعد الناس في بيوتهم، ينظرون إلى صرعاهم وهلكاهم؟!

بيننا وبينكم الله.. يا من توليتم أمرنا، وغفلتم عنا.

اللهم ولِّ علينا، من يخافك ويخشاك ويتقيك، واصرف عنا كل عتل غليظ، جعظري جواظ.

اللهم تولَ أمرنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد.. طرفة عين يا رب العالمين.
"يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما تريد.. أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك.. أن تكفينا ما أهم وأغم، وأحزن وأشجن.. يا مغيث أغثنا .. يا مغيث أغثنا .. يا مغيث أغثنا".

وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤١/٩/٢٢

القول المصدَّق في حكم طلب الدعاء من المتصدَّق!


القول المصدَّق في حكم طلب الدعاء من المتصدَّق!

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.
وبعد:

فإن من المسائل، التي يكثر طرقها، والكلام عنها: مسألة، طلب المتصدِّق الدعاء من المتصدق عليه.

وأردت، أن أدلي بدلوي في أبيار القامات الأطهار، وأجهد في إعمال فهمي مع أفهامهم الرصينة، وعقولهم المتينة.

فأقول -مستعيناً بالمعين-:
أولاً: يستحب للمتصدق عليه، ويندب له.. الدعاء للمتصدِّق؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً؛ فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه؛ فادعوا له- حتى تروا أنكم قد كافأتموه).
رواه أبو داود والنسائي، بإسناد صحيح.

قال الموفق ابن قدامة: "وإن أعطاه صدقته؛ استحب أن يدعو له، لقول الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم"، وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتاه قوم بصدقتهم؛ قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقة، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى).
متفق عليه.

ولا يجب الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأمر سعاته بذلك. ويستحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً.
ويستحب للمعطي، أن يقول: اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً".
(الكافي في فقه الإمام أحمد: ١/ ٤٢١)

وبوّب البخاري، بقوله: (باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة) 
(صحيح البخاري: ٢/ ١٢٩)

وبوّب عليه النووي، في شرحه لصحيح مسلم، بقوله: (باب الدعاء لمن أتى بصدقة).

وقال -رحمه الله-: "ومذهبنا المشهور: ومذهب العلماء كافة: أن الدعاء لدافع الزكاة؛ سنة مستحبة، ليس بواجب.
وقال أهل الظاهر: هو واجب، وبه قال بعض أصحابنا، حكاه أبو عبد الله الحناطي -بالحاء المهملة-، واعتمدوا الأمر في الآية.
قال الجمهور: الأمر في حقنا للندب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث معاذاً وغيره؛ لأخذ الزكاة، ولم يأمرهم بالدعاء.
وقد يجيب الآخرون: بأن وجوب الدعاء، كان معلوماً لهم من الآية الكريمة، وأجاب الجمهور أيضاً: بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاته سكن لهم، بخلاف غيره".
(شرح مسلم: ٧/ ١٨٤ - ١٨٥)

قلت: هذا، ما يستحب على المُعطَى؛ من الدعاء للمعطِي، والقول الحسن، والذكر الجميل.


ثانياً: طلب المتصدِق والمعطي- الدعاء من المعطى والمتصدق عليه..

وقفت على كلام جامع مانع، نافع ماتع، للإمام الهمام، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية -رحمه الله- متفرق في بطون (مجموعه) المشبع بالعلم، والمتبع بالفهم، فهاكه، ولا تبغ فكاكه:

قال ابن تيمية: "والمحسن إليهم، وإلى غيرهم.. عليه أن يبتغي بذلك وجه الله، ولا يطلب من مخلوق- لا في الدنيا، ولا في الآخرة، كما قال تعالى: "وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى" وقال: "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله" الآية.
ومن طلب من الفقراء- الدعاء، أو الثناء.. خرج من هذه الآية؛ فإن في الحديث الذي في سنن أبي داود (من أسدى إليكم معروفاً؛ فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه؛ فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه)؛ ولهذا كانت عائشة: إذا أرسلت إلى قوم بهدية، تقول للرسول: (اسمع ما دعوا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله)، وقال بعض السلف: (إذا أعطيت المسكين، فقال: بارك الله عليك، فقل: بارك الله عليك).
أراد؛ أنه إذا أثابك بالدعاء؛ فادع له بمثل ذلك الدعاء- حتى لا تكون اعتضت منه شيئاً، هذا، والعطاء لم يطلب منهم".
(مجموع الفتاوى: ١١/ ١١١)

وقال -رحمه الله-: "فالمؤمن يرى: أن عمله لله؛ لأنه إياه يعبد، وأنه بالله؛ لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه- جزاء، ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله، كما قال الأبرار "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا"".
(مجموع الفتاوى: ١٤/ ٣٢٩)

وقال -رحمه الله-: "فكل ما يفعله المسلم من القُرَب الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله، ورسوله، والعبادات البدنية والمالية، ومحبة الله، ورسوله، والإحسان- إلى عباد الله بالنفع، والمال.. هو مأمور بأن يفعله، خالصاً لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه- جزاء؛ لا دعاء، ولا غير دعاء.. فهذا مما لا يسوغ- أن يطلب عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غيره". 
(مجموع الفتاوى: ١/ ١٩٠) وينظر: (قاعدة جليلة: ١٧٠)

قلت: هذا كلام شيخ الإسلام، وهو كلام رصين، وفهم متين، عوّل فيه على الأدلة، مع فهمه الغوير، ونبهه الغزير.

قلت: ولعل من كره طلب المتصدق الدعاء من المتصدق عليه؛ لأمور:
-لما في طلب الدعاء، من السؤال.
-ولما فيه من المقاضاة والمقاصاة.
-ولما يبدو فيه، من التعالي والترفع.
-ولما يشعر الفقير، بالنقص، وربما الذلة والتخضع.

والذي يظهر -والله أعلم-؛ أن طلب الدعاء.. لا يصل لدرجة الحرمة، أو بطلان الصدقة؛ لحديث عبد الله بن بسر -من بني سليم-، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبي، فنزل عليه، فقدم إليه طعاماً، فذكر حيساً أتاه به، ثم أتاه بشراب، فشرب، فناول من على يمينه، وأكل تمراً، فجعل يلقي النوى على ظهر أصبعيه- السبابة، والوسطى، فلما قام، قام أبي، فأخذ بلجام دابته، فقال: ادع الله لي؟ فقال: اللهم بارك لهم، فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم). 
رواه مسلم والترمذي والنسائي من طرق.

قلت: يفهم، من هذا الحديث -والله أعلم-؛ جواز طلب الضيف، الدعاء من المضيف.
ولكن، لا يقاس عليه، ولا يستدل به-؛ لأمور:
-لأن ما ذكر- من أسباب منع طلب الدعاء من المتصدق عليه.. منفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكماله وعصمته- عليه الصلاة والسلام.
-ولأنها ليست صدقة عليه، عليه الصلاة والسلام.
-ولأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، مستجاب على التحقيق.
-ولأننا لا نستطيع القول أو الجزم- أن طلبه الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، كان في مقابل الضيافة.

ولكن، يؤخذ منه -والله أعلم-؛ عدم تحريم طلب الدعاء من المتصدق عليه؛ لأنه لو كان حراماً؛ لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا أعني، أن ضيافة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت عليه صدقة؛ لا، بل هي إكرام وضيافة؛ لأن الصدقة، لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، وآله؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما، تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ، كخ؛ ليطرحها، ثم قال: أما شعرت، أنا لا نأكل الصدقة).
وفي رواية: (أما علمت، أن آل محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يأكلون الصدقة؟) رواه البخاري ومسلم.

والضيافة؛ واجبة، قال ابن قدامة: "والواجب: يوم ليلة، والكمال: ثلاثة أيام". (المغني: ١١/ ٩١)

قلت: والواجب؛ أولى، أن لا يطلب عليه أجراً، أو يطلب فيه دعاء؛ لأنه متعلق بالذمة، ولا تبرأ إلا به.


ولكن الأفضل والأكمل.. أن لا يُطلب الدعاء، ممن أنفق عليه وتصدق؛ لأنه أبقى للفضل، وأوفى للأجر.

والله سبحانه وتعالى، قد تكفل بمجازاة المنفق والمتصدق، بجزاء عظيم فخيم، ولعل أعظمه؛ أن المتصدق لا خوف عليه ولا حزن، قال تعالى: "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
فـ بخٍ بخٍ، هذا الفضل العظيم..
وواهاً واهاً، هذا الخير العميم..

فإذا كان الأمر كذلك؛ فأنفق وتصدق، دون مَنٍّ أو أذى، واطلب جزاءك من العليم الحكيم، و"إن الله يجزي المتصدقين"، وأبشر بالعوض من الله تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" وفي الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول: أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) رواه البخاري ومسلم. 

هذا، ما أردت بيانه، وقصدت تبيانه، وأرجو أن يكون لله خالصاً، وعلى الحق صواباً، ولا أعدم -إن شاء الله- أجراً من ربي، أو نصحاً، من صحبي.
وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٩/١٤