الثلاثاء، 28 أبريل 2020

وقفتان مع حديث الشرب عند الأذان!

وقفتان مع حديث الشرب عند الأذان!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم النداء- والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه).
رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والبيهقي، والطبري، والطحاوي، والحاكم وغيرهم.


هاتان وقفتان، حول هذا الحديث النبوي الشريف- الذي تناول مسألة مهمة من مسائل الصيام، التي كثر عنها الكلام، فأردت أن أنزل دلوي بين الدلاء، ولكني لم أكن معتبطاً، بل مغتبطاً؛ لأني لم أفتئت، ولا إلى غير الوحيين ألتفِت!


الوقفة الأولى: صحة الحديث:
قد صحح هذا الحديث؛ جمع من الأولين والآخرين، ومنهم:
-الدارقطني، قال: هذا حديث حسن.
-والحاكم، قال: هذا حديث صحيح، -والذهبي، فقد وافق الحاكم في تصحيحه.
-وعبد الحق الإشبيلي، في (الأحكام الوسطى: ٢/ ٢١٢).
-وابن حزم، ينظر (المحلى: ٤/ ٣٩٦) فقد أشبع الكلام حول الحديث: سنداً ومتنا.
-وابن تيمية، فقد جود إسناده.
ينظر: (شرح العمدة: ١/ ٥٢٦)


ومن المتأخرين:
-صححه الشيخ الألباني بشواهد كثيرة، لم يترك قولاً لقائل، إلا أن يشاء الله!
بل ذكر، أن إسناده صحيح على شرط مسلم.
ينظر: (التعليقات الجياد) و (الصحيحة: ١٣٩٤) و (صحيح أبو داود: ٢/ ٤٤٧).

-وصححه الشيخ أحمد شاكر، في تخريجه (تفسير الطبري: ٣/ ٥٢٦) ثم قال: "وانظر تعليقنا على الحديث، فيما كتبنا على (مختصر السنن للمنذري: رقم: ٢٢٤٩/ ٣/ ٢٣٣ - ٢٣٤).

-وصححه الشيخ شعيب في تحقيق (سنن أبي داوود: ٤/ ٣٥) وتحقيق (مسند أحمد: ١٦/ ٣٦٨).


قلت: وقد جاء ما يؤيد الحديث، من فعل الصحابة، وهم خير من يفهمون مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
عن أبي أمامة قال: (أقيمت الصلاة، والإناء في يد عمر، قال: أشرَبُها يا رسول الله؟ قال: نعم، فشربها).
رواه الطبري بإسنادين، وهذا الحديث صحيح الإسناد. ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري.
ينظر: تحقيق (تفسير الطبري: ٣/ ٥٢٧)


الوقفة الثانية: معنى الحديث: الرخصة في الأكل والشرب، عند أذان الفجر الثاني (الصادق) إذا كان الإناء في يد الصائم.

هذا هو المعنى الظاهر من الحديث، وهو ما أيدته أحاديث أخرى، وعضدته فعل الصحابة والتابعين.

لكن، قال البيهقي: "هو محمول عند عوام أهل العلم؛ أنه صلى الله عليه وسلم، علم أن المنادي، كان ينادي قبل طلوع الفجر؛ بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر".
(السنن الكبرى: ٤/ ٣٦٨)

والصحيح: أن المراد، أذان الفجر الثاني؛ بدليل الزيادة: (وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر).
رواه أحمد الطبري، والبيهقي، وابن حزم، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ينظر: تحقيق الشيخ شعيب، لـ (مسند أحمد: ١٦/ ٣٦٨)


فرع: قد ظُن.. وجود تعارض بين هذا الحديث، ونصوص أخر- تقضي بالإمساك حين سماع المؤذن؟
والحقيقة: ليس ثمة تعارض بين الحديث، وبين قول الله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" وما في معنى الآية الكريمة، من الأحاديث؛ لثلاثة أمور:

١-أن الآية، جاءت بلفظ "يتبين"، ومن أين لنا التبين الجازم عن دخول الفجر؟!
وكل ما في الأمر، أنه ظني الدخول، ويحتاط فيه بالمقاربة بين المؤذنين، والمقارنة بين التقاويم.

قال الشيخ ابن عثيمين: "إما أن يكون المؤذن يؤذن بالتحري، والذي يؤذن بالتحري قد يصيب، وقد لا يصيب، كالمؤذنين عندنا الآن".
(جلسات رمضانية: ١/ ٨٣)

وقال الشيخ ابن باز: "فإذا سمع الأذان، وعلم أنه يؤذن على الفجر؛ وجب عليه الإمساك، فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر؛ لم يجب عليه الإمساك، وجاز له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر.
فإن كان لا يعلم حال المؤذن- هل أذن قبل الفجر، أو بعد الفجر؛ فإن الأولى والأحوط له.. أن يمسك إذا سمع الأذان، ولا يضره لو شرب أو أكل شيئاً حين الأذان؛ لأنه لم يعلم بطلوع الفجر".
(فتاوى رمضان: ٢٠١) جمع أشرف عبد المقصود.


٢-إن الحديث جاء فيه إباحة مضيقة، وفي وقت يسير معلوم، لا تتجاوز اللحظات التي يتفاوت فيها المؤذنون ويختلفون.

وهي رحمة من الله تعالى بعباده بالمؤمنين، وتوسعة منه سبحانه على من كان حاله كذلك.

فهي إذن؛ "من باب الرخصة، لما كان الإنسان رفع الماء ليشرب، تعلقت به نفسه، ولهذا لو كان في الأرض لا تحمله، لا ترفعه من الأرض، بل لا بد أن يكون في يدك، وإلا كانت النفس قد تعلقت بهذا الماء الذي رفعه، كان من رحمة الله عز وجل أن يقضي الإنسان نهمته منه، كما لو حضر الطعام والإمام يصلي فإنك تأكل من الطعام، ولو فاتتك الصلاة، فتُسقط بذلك واجباً؛ لأن نفسك متعلقة بهذا الطعام الذي قُدِّم بين يديك".
جلسات رمضانية: ١/ ٨٣)

ونزّل الشيخ عبد المحسن العباد، هنا، قاعدة: يجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء.
يعني: أن الإنسان.. لا يجوز له أن يبدأ الشرب، ولكنه إذا كان قد بدأ يكمل، وليس معناه: أن الذي في فمه يقذفه ولا يشرب، بل يبلع الذي في فمه ويكمل أيضاً؛ لأن الذي جاء عنه التحديد جاء عنه استثناء هذه الحالة، فيجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء.
ينظر: (شرح سنن أبي داوود)


٣-يحمل الحديث، على التجاوز والعفو عن الأمور اليسيرة التي لا تؤثر، وهي مسألة مطروقة في الفقه وأصوله وقواعده، ولها مثيلات، مثل: العفو عن يسير النجاسة، وحل اليسير من الدم، وذلك ما يتبقى في اللحم والعظام.
قال الصنعاني: "وهو نظير: (إذا حضر العِشاء والعَشاء)".
(التنوير: ٢/ ٩٧)

"فهذه الصورة، مستثناة من الآية: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، من الخيط الأسود من الفجر"، فلا تعارض بينها، وما في معناها من الأحاديث، وبين هذا الحديث، ولا إجماع يعارضه، بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم: إلى أكثر مما أفاده الحديث، وهو جواز السحور إلى أن يتضح الفجر، وينتشر البياض في الطرق راجع  (الفتح: ٤/ ١٠٩- ١١٠)؛ لأن من فوائد هذا الحديث؛ إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة؛ لأنهم إنما يفعلون ذلك؛ خشية أن يدركهم أذان الفجر، وهم يتسحرون، ولو علموا هذه الرخصة، لما وقعوا في تلك البدعة، فتأمل".
(تمام المنة: ٤١٧ - ٤١٨)

قال أحمد -في الرجل يتسحر فيسمع الأذان؟ يأكل، حتى يطلع الفجر.
فهو دليل؛ على أنه لا يستحب إمساك جزء من الليل.
ينظر: (شرح العمدة: ١/ ٥٣٢)

ومما يعضد ما نحن فيه من تقرير المسألة؛ هو تسامح جماعة من السلف- في السحور عند مقاربة الفجر..
قال ابن كثير: "وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف: أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر.
رُوي مثل هذا عن: أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت.
وعن طائفة كثيرة من التابعين، منهم: محمد بن علي بن الحسين، وأبو مجلز، وإبراهيم النخعي، وأبو الضحى، وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود، وعطاء، والحسن، والحاكم، وابن عيينة، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإليه ذهب الأعمش ومعمر بن راشد.. وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد، ولله الحمد".
(تفسير القرآن العظيم: ١/ ٥١٤)

هذا، ما أردت بيانه وتبيانه، من جمع النصوص، والمواءمة بينها، والاعتماد على فهم الصحابة والتابعين والعلماء، في حلها، و"الحمد لله رب العالمين".


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٩/٥
وقت السحور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق