الأربعاء، 22 أبريل 2020

التهنئة بشهر رمضان.. سنة سيد ولد عدنان (عليه الصلاة والسلام)



سُنيّة التهنئة بشهر رمضان:

لا شك أن المسلم يفرح بمواسم الطاعات، ومواطن النفحات؛ ليتقرب بذلك إلى مولاه سبحانه وتعالى، بل يجد البهجة والسرور، والأنس والحبور؛ لما أولاه ربه سبحانه من النعمة- أن أبقاه حتى يشهد محافل الخير والبركات، والبر والنفحات.

وإن من أعظم مواسم الطاعات، هو شهر رمضان المبارك.

ففيه تأنس النفوس، وتفرح القلوب، وتنشرح الصدور، ويُزداد فيه من أعمال البر والخير، ويقصر عن أعمال الشر والضير.

قال الله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
فافرحوا أيها المؤمنون بشهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من خلقه، فاسألوا الله، أن تكونوا منهم. (١)


وإن من الأمور التي تكتمل بها الفرحة، وتتم بها النعمة: هو التهنئة بهذا الشهر الفضيل، الذي فيه من الفضائل والمزايا الجم الكثير، والغمر الوفير.

وإن الناظر إلى أصل التهنئة لا يخفى عليه حكمها، ولا يشتطّ في الحكم بالبدعة على من هنأ بها.

فالتهنئة: كما قرر غير واحد من أهل العلم، أنها (من العادات، وليست من العبادات) وينظر فيها إلى المعاني والمقاصد.

ولها أصل في الشريعة؛ فقد هنَّأ بعض الصحب، كعب بن مالك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وشرع سجود الشكر عند تجدد نعمة، أو دفع نقمة.

قال ابن القيم، في سياقه لفوائد قصة كعب بن مالك:
"وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته؛ فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال: يهنك بما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها".
(زاد المعاد: ٣/ ٥٨٥).

وأجاب شيخ الإسلام حافظ عصره، بعد اطلاعه على ذلك: بأنها مشروعة، واحتج له بأن البيهقي عقد لذلك باباً، فقال: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد: تقبل الله منا ومنك، وساق ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة، لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة؛ لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة بمشروعية سجود الشكر والتعزية، وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته، لما تخلف عن غزوة تبوك، أنه لما بشر بقبول توبته ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه طلحة بن عبيد الله فهنأه وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
ينظر: (حاشية الجمل: ٢/ ١٠٥)


وفي رسالة السيوطي: (وصول الأماني)، نقَل فيها عن القمولي في (الجواهر) أنه قال: "لم أرَ لأصحابنا كلاماً في التهنئة بالعيدين والأعوام والأشهر، كما يفعله الناس، ورأيت -فيما نقل من فوائد الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري- أن الحافظ أبا الحسن المقدسي: سئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين: أهو بدعة أم لا؟
فأجاب: بأن الناس لم يزالوا مختلفين في ذلك، قال: والذي أراه أنه مباح؛ ليس بسنة، ولا بدعة".


قلت: هذا التحقيق، يتنزل على التهنئة بأوائل الشهور عموماً.

أما التهنئة بشهر رمضان على وجه الخصوص؛ فهو سنة نبوية ثابتة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبشِّر به أصحابه رضي الله عنهم، ويهنئهم.

قال الحافظ ابن رجب: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يبشر أصحابه بقدوم رمضان..
كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبشر أصحابه، يقول: (قد جاءكم شهر رمضان- شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح
أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين- فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)".
(لطائف المعارف: ٢٧٩).


َعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (قد جاءكم -وفي رواية: أتاكم- رمضان؛ شهر مبارك؛ افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
أخرجه أحمد والنسائي، وصححه الألباني، في (صحيح الترغيب: ٩٩٩) 
والشيخ شعيب الأرناؤوط.

قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي: "قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان.
كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟
كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟
كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين؟
من أين يشبه هذا الزمان زمان".
(لطائف المعارف: ٢٧٩).

ويزاد على ذلك؛ لما في شهر رمضان المبارك؛ من تجدد النعم والطاعات، والقرب من رب البريّات، وتصفيد الشياطين والجان، وفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران.


وهنا نقل مفيد للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، قال -رحمه الله-:
"هذه المسائل وما أشبهها، مبنية على أصل عظيم نافع، وهو: أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية؛ الإباحة والجواز، فلا يحرّم منها، ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية.
وهذا الأصل الكبير: قد دلّ عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

فهذه الصور المسؤول عنها، وما أشبهها؛ من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد.

أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى: أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور، ويشوش الخواطر.

ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة، وهي: أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يُلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يُلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً".
انتهى كلامه -رحمه الله-، من (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي- الفتاوى: (٣٤٨).

وقد طبّق الشيخ -رحمه الله- هذا عملياً، حينما أرسل تلميذه الشيخ عبدالله ابن عقيل، خطاباً له في أوائل شهر رمضان من عام ١٣٧٠، وضمّنه التهنئة بالشهر الكريم؟
فردّ الشيخ عبدالرحمن -رحمه الله- بهذا الجواب في أول رده على رسالة تلميذه: "في أسرّ الساعات وصلني كتابك رقم ٩ / ١٩ فتلوته مسروراً، بما فيه من التهنئة بهذا الشهر، نرجوا الله أن يجعل لنا ولكم من خيره أوفر الحظ والنصيب، وأن يعيده عليكم أعواماً عديدة، مصحوبة بكل خير من الله وصلاح".
انتهى كما في (الأجوبة: ٢٨٠) وفي (٢٨٤) ضمّن الشيخ رسالته لتلميذه التهنئة بالعشر الأواخر.

وعلى جواز التهنئة بشهر رمضان:  الشيخ الأمين الشنقيطي، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، وأعضاء اللجنة الدائمة.

وعلى ما سبق من الاستنباطات والنقولات؛ فمن هنَّأ بشهر رمضان؛ فقد وافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية.

وإن قصد إدخال السرور على المسلمين، والتنبيه إلى التزوُّد من العمل الصالح، والتحذير من طول الأمل؛ فهذه مقاصد حسنة جليلة، يرجى له الأجر والثواب، من الله الكريم الوهاب. (٢)

هذا ما أردت قوله ونقله، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يوفقنا لاغتنام الفرص في مواسم الطاعات، ويعيننا على البعد عن المعاصي والسيئات.
والله أعلى وأعلم، وهو أعز وأكرم، و(سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).


كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٩/٨/٣٠
١٤٤١/٨/٢٩


ح...................
(١) وقد كتبت مقالاً، بعنوان: (الفرحة الرمضانية: واجبة شرعية).

(٢) وقد كتبت مقالاً عن التهنئة بالعام الهجري، بعنوان: (قبس من الذكر في جواز التهنئة بالعام الهجري).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق