الجمعة، 30 يوليو 2021

الثج لمن رجع من الحج!

 

الثج لمن رجع من الحج!


باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.

وبعد:


فإن الحج نعمة عظيمة، ومنّة فخيمة، يسرها الله وسهلها على من شاء من عباده "يختص برحمته من يشاء" وكم فيها من دروس وعظات، وكم تسكب فيه من دموع وعبرات!


وإن الراجع من حجّه؛ يستقبله زواره وأحباؤه بالبشر والسرور، والحب والحبور، فناسب ذلك: أن يصنع لهم وليمة؛ ليجتمعوا، ويقص عليهم قصص الحج؛ لينتفعوا.

ويحدثهم عمن لقي من أهل العلم والفضل والتقوى، ومن أجاز أو استجاز أو استفتى.. حتى يرغبهم ويرشدهم، ويكون لهم زاداً "ومتاعاً إلى حين".


ومن حج؛ فقد قرّبه الله وكرمه، وخصّه ونعمه؛ وشكراً لنعمة الله عليه؛ ناسَب إذا رجع من سفره إلى بلده.. أن يولم وليمة، تسمى: النقيعة.


والنقيعة: مشتقة من النقْع، وهو الغبار؛ لأن المسافر قديماً.. كات يأتي وعليه غبار السفر؛ لأن وسيلة تواصلهم كانت الإبل ونحوها من المركوبات.


وأما اليوم، فقد تطورت وسائل السفر، وأقلها: ركوب السيارة، ولا أظن راكبها يصيبه النقع والغبار، إلا في بلادي المنكوبة. (١)


وإن كان المسافر أياً كان، لا يعدم شقة ومشقة، ولو سافر في الطائرة؛ فمشقة السفر، ثم الحج؛ لا يكاد يسلم منها أحد!


ومن لطائف الشيخ عبد الرحمن السعدي، قوله في وصف السيارة، أول ما ركبها مسافراً للحج:


يا راحلين إلى الحمى برواحل *** تطوي الفلا والبيد طي المسرعِ


ليست تبول ولا تروث وما لها *** روح تحنّ إلى الربيع الممرعِ


ما استولدت من نوقها بل صنعها *** من بعض تعليم اللطيف المبدعِ


كم أوصلت دار الحبيب وكم سرت *** بحمولها نحو الديار الشسّعِ!


أقول: إذا رجع الحاج؛ استحب له، أن يذبح ذبيحة لله عز وجل؛ شكراً وحمداً له تعالى، على قدومه سالماً لأهله، ورجاء أن يقبل الله منه حجه، فيكون ذلك كالقربان.


والدليل على ذلك.. ما ذكره البخاري، في صحيحه، وبوّب عليه: (باب الطعام عند القدوم)

وذكر حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لما قدِم المدينة؛ نحر جزوراً أو بقرة)

وفي رواية: (أمر ببقرة؛ فذُبحت، فأكلوا منها)


واستدل به النووي، وقال: "يستحب النقيعة، وهي: طعام يُعمل لقدوم المسافر، ويطلق على ما يَعمله المسافر القادم، وعلى ما يعمله غيرُه له".

(المجموع: ٤/ ٤٠٠)


وبوب أبو داود، في سننه: (باب الإطعام عند القدوم من السفر)

قال صاحب (عون المعبود: ١٠/ ١٥٢):(٢) "والحديث؛ يدل على مشروعية الدعوة عند القدوم من السفر، ويقال لهذه الدعوة: النقيعة".


وقال ابن بطال: "فيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف، ويسمى: النقيعة، بنون وقاف، وزن: عظيمة".

ينظر: (فتح الباري: ٦/ ١٣٤)


واختلف العلماء في مَن يصنعها، هل الحاج، أم أهله؟

قال النووي: وقول الأصحاب النقيعة لقدوم المسافر، مستحبة؛ ليس فيه بيان من يتخذها، أهو القادم أو المقدوم عليه.

وفيه خلاف لأهل اللغة؛ فنقل الأزهري عن الفراء: أنه القادم. وقال صاحب المحكم: هو طعام يصنع للقادم. وهو الأظهر.

ينظر: (فص الخواتم: ٧)


وقال الحليمي: "ويستحب للمسافر إذا رجع واستقر في منزله؛ أن يطعمه الناس؛ فعله الصالحون من سلف هذه الأمة.


قال نافع: كان ابن عمر.. لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر، إلا أن يمرض، فإنه كان رجلاً كريماً، يحب أن يؤكل عنده.


وقال حماد بن زيد: كان أيوب السجستاني(٣) رضي الله عنه: إذا قدم من سفر، أطعم الناس ثلاثة أيام، يأتيه إخوانه، فيضع مائدته، ويضع يده مع كل ما جاء، ثم يقول: لقد أكلت اليوم كذا وكذا مرة، قال: وقدم من مكة، فجعل يدخل عليه ناس من إخوانه، فيقرب إليهم فسمعته من آخر النهار، وقد قرب إلى قوم شيئاً، يقول: أكلت اليوم عشرين مرة".

(المنهاج في شعب الإيمان: ٢/ ٤٦٠)


وعليه، فمن رجع من الحج أو من غيره، -على أن الحج يتأكد-.. استحب له، أن يذبح لأهله وأصحابه ذبيحة، ويأكلوا منها؛ لما تقدم من النصوص وشرحها، ولما فيه من تطييب الخواطر، والسؤال عن الحال، وهذا من جليل وجميل الخصال.


وفيه تأنيس القلوب، وتآلف الأرواح، وإزالة الشحناء، والتنفيس عن الفقراء، وهذا مما يحبه الله ويرضاه.

والله أعلى وأعلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

١٤٣٧/١٢/٣٠


ح.......

(١) وإن شيت جواباً، فارجع إلى مقالي: "٤٥ ساعة سفر" ولعلها اليوم، زادت وجادت!

فلا بلاغ إلا بالله.


(٢) هو متنازع بين العلامتين الشقيقين: شرف الحق محمد أمير الصديقي، وبين أخيه أبي الطيب شمس الحق العظيم ابادي، وإن شيت، فعد إلى مقال طويل للشيخ مشهور حسن، فقد جمع له جراميزه، وأبان باجسه بدليل وتعليل.


(٣) ابن أبي تميمة كيسان، ويقال: السختياني، وهو الأشهر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق