الخميس، 4 نوفمبر 2021

الدمع السخين على العلامة محمد الأمين! أتكون الذلة والمهانة لذوي العلم والرصانة؟!

 الدمع السخين على العلامة محمد الأمين!

أتكون الذلة والمهانة لذوي العلم والرصانة؟!



جُل ناهلي العلم، وكارعي المعرفة.. يعرف العلامة الكبير، والفهامة الخطير: محمد الأمين الهرري.. بتواليفه وشروحاته، ودروسه وتقريراته، ونكاته وتحريراته، ووشيه وتعليقاته. 


نعم، عرفناه من خلال (تفسير الروح والريحان) الذي جمع فيه أشتاتاً من الفنون، ومكث في سبيله اثنا عشر عاماً!

عرفناه من خلال (مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه) الذي له فيه كرامة!

عرفناه من خلال (الكوكب الوهاج والروض البهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج) الذي سماه به من شرح كتابه!


عرفناه، من خلال تواليفه في شتى فنون العلم والمعرفة، من حديث وعقيدة وفقه ونحو وبلاغة ومنطق إلى غيرها من أفياء العلوم.. التي ناهزت الخمسين أو نافتها، وبلغت أكثر من مائة مجلد!


حياته كلها عمل وجد، ودأب وكد، سواء كان في علم أو عبادة أو تعليم أو تأليف!

تراه بجسده النحيل، وطوله الفارع، وبشرته السمراء، ولكنته الواضحة.. هذا ظاهره.. 

أما باطنه؛ فإنه منطوٍ على روح أبية، ونفس عصامية، وقلب أبيض، وصدر أغيض.. 


ترى الرجل النحيل فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصورُ


ويعجبك الطرير اذا تراه *** ويخلف ظنك الرجل الطريرُ


بغاث الطير أكثرها فراخاً *** وأمُّ الصقر مقلاة نزورُ


فما عظم الرجال لهم بفخرٍ *** ولكن فخره: كرم وخيرُ


هذا عن معرفة الجهبذ النحرير، والمؤلف الكبير، والخريت الخبير، العالم الجبل، والعارف الأمثل، والمدره المفن، والقوي المعن، العابد الزاهد، الورع النفع، الصوام القوام، الباكي من خشية الله، والشاكي إلى مولاه.. 

لا أحب المدح والإطراء، ولكنها حقيقة بجلاء دون مراء:


وليس على الله بمستنكرٍ *** أن يجمع العالم في واحدِ! 


(قال ذلك أبو نواس في مدح الفضل بن ربيع) 


وقال المتنبي -يظهر ابن العميد أنه جمع في علومه علوم أرسطو والإسكندر وبطليموس-:


ولقيتُ كل الفاضلين كأنما *** رد الإله نفوسَهم والأعصُرا


نُسقوا لنا نسقَ الحساب مقدَّما ***

وأتى فذلك إذ أتيت مؤخَّرا


وقال ابن الرومي في ممدوحه:


فلو حلفتُ لما كُذِّبت يومئذٍ *** أني لقيت هناك العُجمَ والعربا! 



وقال أبو مسلم العماني:


عجباً من نفسه تحمله *** فتية وهو على الكون اشتملْ


جمع العالم في حيزومه *** أترى العالمَ في القبر نزلْ! 


وقال الشاعر الدمشقي فتيان الشاغوري في ممدوحه:


يا من هو العالم في دهرنا *** يحويه جسم واحد في مكان



لا أبالغ إن قلت: أن هاته الأوصاف؛ تنطبق على شيخنا العلام؛ فقد كان يدري علوماً لم يسمع بها، ناهيك عن خبرها وسبرها.


ويذكرني بشيخ مشايخنا، بلديي العلامة المتفنن: حسين بن محمد الوصابي، تـ١٣٩٣؛ فقد حدثني شيخي العلامة قاسم البحر -حفظه الله في عافية- بما فحواه-؛ أنه كان يقال عنه، أن عنده ٨٥ علماً، لم يعرف منها علماء عصره، إلا بضع عشر منها!

"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم". 



وبعد؛

ما الذي أبكاني عن الشيخ؟!

الذي أبكاني وأضناني وأشجاني وأصماني؛ هو أني كنت أحسب أن الشيخ الفقيد؛ عاش حياة ملائمة، وحالاً موائمة، لائقة بفضله وعلمه، وسنه وقِدمه!


كنت أظن أن الشيخ كان محترماً ممن حوله!

كنت أحدس أن الشيخ كان يُتفانى في خدمته! 

كنت أخمّن أن الشيخ كان إذا قال سمع له، وإذا أمر أذعن إليه! 


هذا -وايم الله- ما كنت أظن، ولكن "إن بعض الظن إثم" فقد شدهت ودهشت.. حين أن قرأت بالأمس، عن الشيخ ما يشجي ويبكي ويدمي ويحمي، من سوء معاملة، وقسوة عبارة، ورقة حال، ورقيع خلق.. لا أظنني لوحدي الباكي والشاجي، بل كل من سيقرأ، ورزق قلباً على الحقيقة!


ألا يبكيكم.. أن الشيخ المعمر، كان يعامل من بعض مديريه في مدرسته؛ من الفظاظة والجلافة، ما لا يحتملها شاب فتي؟! 


سبحان الله! تذكرت كيف كان الطلاب يخفضون أصواتهم، وينكسون رؤوسهم، تواضعاً لعلمائهم، بين أيديهم! 


ألا يشجيكم.. أن الشيخ المكرم، منع من تدريسه الفجري المجاني، في مسجد المدرسة، فواصَله في حوشها نحو عقد من الزمان! 


سبحان الله! تذكرت قصة جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أنيس، في رحيلهم شهراً كاملاً، من أجل سماع حديث!


ألا يحزنكم.. أن الشيخ المعظم، كاد مرة أن يضرب من أحدهم، وهو يدرس في (فتح القدير) بل رمى -هذا الأصلم- الكتاب إلى الأرض؛ فدخل الشيخ الحمّام، وأخذ يبكي لمدة عشر دقائق أو تزيد! 


سبحان الله! تذكرت قول الشافعي: (كُنت أصفَحُ الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً؛ هيبة له لئلا يسمع وقعها)!

وهذا الأرعن؛ كاد أن يصفع الشيخ! يا رجل، إن لم تعلم قدر العلم، فتقدّر أهله، فلتحترم كِبَر الشيخ وشيخوخته، فلا أظن هذا يحتاج إلى تعليم! 



ألا يشجنكم.. أن الشيخ المفخم، يفصل من المدرسة التي درّس فيها نحواً من اثنين وأربعين سنة!

ثم يرسل إليه بالتهديد بالخروج النهائي إلى بلده؟! 


سبحان الله! تذكرت قول محمد بن واسع: (لا يبلغ العبد مقام الإحسان، حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة)! هذا قوله.

أما فعله: فكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري، ويقول: (قد كان لها معنا صحبة).


صوَّر أحدهم مرارة الجحود والتنكر إلى المحسن الذي يجازى بالحسنة السيئة، فقال:


عجباً لمن ربيته طفلاً *** ألقِّمه بأطراف البنانِ


أعلمه الرماية كل يومٍ *** فلما اشتد ساعده رماني


أعلمه الفتوة كل حينٍ *** فلما طر شاربه جفـاني


أعلمه الرواية كل وقت *** فلما صار شاعرها هجاني



ألا يصميكم.. أن الشيخ الموقر، كان يُبحث عن زلاته العقدية، وهناته العلمية، بل وترصد جائزة لخريت يجوس خلالها؟! 


سبحان الله! تذكرت بعض السلف؛ حينما كان يتصدق بشيء عن شيخه، إذا ذهب إليه، ويقول: (اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تذهب بركة علمه مني)! 



أليس عجيباً أن لا يواسى الشيخ في مرضه الممض، من كثير ممن يعرفه، بل لم يعزِّ أهله -من سلخ شطراً من حياته- في وفاته؟! 


لا أدري ما أقول، سوى ما قاله الشاعر المؤنق أحمد بن الحسين الكندي -وقد كان مُحسّدا-:


حسدوا الفتى؛ إذ لم ينالوا سعيه *** فالكل أعداء له وخصومُ


كضرائر الحسناء قلن لوجهها: *** -كذباً وزوراً- إنه لذميمُ


وقد كان شيخنا الباقعة.. يشعر بهذا، وصرح به أكثر من مرة، في كتاباته لمرؤوسيه؛ رجاء إنصافه! 



وقد اشتكى العلماء قديماً وحديثاً، من هذا الداء العضال، والمرض القتال..


فها هو ابن هشام النحوي، يقول حين تمّ شرح (قطره):

"وهذا آخر ما أردنا إملاءه على هذه المقدمة، وقد جاء بحمد الله مهذّب المباني، مشيّد المعاني، محْكم الأحكام، مستوفى الأنواع والأقسام.. تقر به عين الودود، وتكمد به نفس الجاهل الحسود:


إن يحسدوني فإني غير لائمهم *** 

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا


أنا الذي يجدوني في صدورهم ***

لا أرتقي صدراً منها ولا أَرِدُ


فدام لي ولهم ما بي وما بهم *** 

ومات أكثرنا غيظا بما يجدُ


وقد استشهد بهاته الأبيات؛ الشيخ ابن مهنة، بكتابه في الخطب المنبرية، واعتبره فريداً من نوعه، واعتبر نفسه موضع حسد بسببه!

ينظر: (تاريخ الجزائر الثقافي: ٨/ ١٢١) للمؤرخ أبي القاسم سعد الله. 


والأبيات: نسبها ابن عبد البر في (بهجة المجالس: ١/ ٤١٣) إلى لبيد بن عطار بن حاجب التميمي.


ونسبها الزركلي، في (الأعلام: ٦/ ٢٥٨) إلى محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الحضرمي تـ١٥٥.


وعزاها ابن عاشور، في (التحرير والتنوير: ٣٠/ ٦٣٠) إلى بشار بن برد.


وقال ابن عاشور: "... فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته؛ فيحمله على إيصال الأذى للمحسود؛ بإتلاف أسباب نعمته، أو إهلاكه رأسا". 

(التحرير والتنوير: ٣٠/ ٦٣٠)



وهذا ابن عنقاء اليمني النحوي، يقول -بسبب تعذر وصوله إلى الكتب في مقر إقامته الجديد في "ذي جبلة" وكثرة المعاندین له والحساد-: "هذا ما سنح للخاطر الفاتر، والقريحة القريحة، الجامدة الخامدة في هذا المقام، من غير مراجعة كتاب أصلاً إلا عند التبييض قليلاً، بل تسويداً من رأس القلم، بحسب الفتح الإلهي؛ لتعذر وصولي إلى الكتب، ولو بالعارية، أو الشراء؛ لرقة الحال، وصولة المعاندين على من يواصلني صولة أسد الشرى، ... لأن غالب رجوعي في كل مصنفاتي إلى حفظي، أو ذهني، وما عسى أن يكونا أو يغنيا عني ... ". 


واعجب لبعض من تسمى: طالب العلم، وتزيا بزيهم، وتشبه بسيهم، ولكن أخلاقه في الحضيض، وتعامله بغيض! 


ما وهب الله لامرىء هبة *** أحسن من عقله ومن أدبهْ


هما جمال الفتى، وإن فقدا *** ففقده للحياة أجمل بهْ! 



قال الإمام أحمد بن حنبل: (هم خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا).


وقال أيضاً: (لحوم العلماء مسمومة، من شمّها مرض، ومن أكلها مات). 


وقال ابن المبارك: (من استخف بالعلماء؛ ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء؛ ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان؛ ذهبت مروءته). 


وقال ابن الأذرعي: (الوقيعة في أهل العلم، لا سيما أكابرهم؛ من كبائر الذنوب). 


وقال أبو سنان الأسدي: (إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح). 


وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلم عنده على أحد الناس: (مه.. لا تذكر العلماء بشيء؛ فيميت الله قلبك). 


وقال ابن عساكر: (واعلم -يا أخي- وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب). 


قال ابن القيم: "وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه. وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره.

فما استجلب خير الدنيا والآخرة، بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب".

(مدارج السالكين: ٢/ ٣٦٨)


وأياً كان تذرعهم؛ فإنه ساقط، لا يخرجهم من سوء أدبهم، وبجاحة نفوسهم، وصفاقة وجوههم، وقلة توفيقهم..


وتذكر زوج الشيخ -أم رضوان-: أن فصله من المدرسة -بعد صحبة نصف قرن فيها- كان من أسباب موته؛ إذ أنه تألم غاية منه، وتكدر لبه، وتنكد عيشه؛ فتسارعت إليه العلل، وغادرنا -مؤسوفاً عليه- بعد سنة واحدة من الفصل "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" "يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" والله المرجع والموعد:


وإلى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزانِ



وأخيراً، أدعو بما دعا به بعض النساك: (اللهم صُنْ وجوهنا باليَسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذَمّ من منع، وأنت مِن دونهم وليّ الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء، ياذا الجلال والإكرام). 


وأضيف ما قاله الأديب مصطفى لطفي: (اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك، أمرت فأطعنا، وابتليت فرضينا، فأمطرنا غيث إحسانك، وأذقنا برد رحمتك، وألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين). 


وكتب: أبو نَعيم، وليد بن عبده الوصابي. 

١٤٤١/٤/٢٢

ليلة الجمعة المعظمة، بمكة المكرمة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق