الجمعة، 19 مارس 2021

وتنفّستُ الصُّعَداء!

 


وتنفّستُ الصُّعَداء!


صحيح، أنها كئيبة حريبة سليبة .. محرومة من أبسط عيش القرن العشرين .. مهضومة الجناح .. متقطعة الأوصال .. مقطوعة الأواصر .. ممزعة الأشلاء .. مخضبة بالدماء ..


كل هذه العاهات الشوهاء، وغيرها كثير مما لم أذكره.. لم يمنعني حبها، ولم يصدني هيامها، ولم يحدني من شغفها؛ لأنني رجل لا أعشق المظاهر، ولا تغرني الظواهر، بل أتسقط الدواخل والمخابر!


فكم من شوهاء الوجه، جعدة الشعر، فوهاء الفم.. إلا أنها، أنقى من اللبن، وأحلى من الشهد، وأطيب من الطِّيب!


وتعسي لا ينتهي، لعاشقي الجسد، ووالهي الظاهر؛ لأن حبهم يضمحل، وعشقهم يذبل، حين انتهاء ما عشقوا!


فإذا قُدّر، أن أحد هؤلاء النتنى.. تزوج رائعة الجمال، رايعة الدلال، ثم عرض لها ما كسف جمالها، أو جرى لها ما أذهب نضارها.. نبض حبه لها، وأفل نجمها عنده، وربما كان الفراق والطلاق!

فتباً لهؤلاء، وأف لهم، وتف عليهم..


أعود إلى معشوقتي ومحبوبتي، إنها بلدي المهيضة، وبلادي المريضة -داواها المداوي، وأبراها المشافي- وأي حُر، لا تُتَيِمه بلاده، حاشا العبيد؟!

وللأوطان في دم كل حرٍّ *** يد سلفت، ودَينٌ مُستحقُّ


أغيب عنها، برهات قليلة، فأتولع وأتوله، فأعود صباً إليها، مكباً عليها، بلثم القبل، وحزر المقل!


بلاد ألفناها على كل حالة *** وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن


ونستعذب الأرض التي لا هوى بها *** ولا ماؤها عذب.. ولكنها وطن


و"ليس الإنسان، أقنع بشيء منه بوطنه؛ لأنه يتبرم بكل شيء رديء، ويتذمم من كل شئ كريه، إلا من وطنه، وإن كان رديء التربة، كريه الغذاء، ولولا حب الناس للأوطان؛ لخرب أخابث الأرض والبلدان".

(ديوان المعاني: ٢/ ١٨٨) لأبي هلال العسكري.


كيف، إذا كانت هذه المعشوقة.. فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذه الأعين، وتدله العقول، وتحير الألباب.. من ماء، وخضرة، ووجه حسن!

ناهيك عن (الإيمان) و(الفقه) و(الحكمة) والحكماء، والعلم والعلماء، والخطوط والمخطوطات، والآثار والعمارات، والشواهد والكتابات إلى فضائل وفواضل، تعد ولا تحصى؟!


قولوا: مبالغات مدلّه، ومجاملات مولّه!


أقول: روينا في مسند أحمد، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بإسناد صحيح، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر، كالمعاينة) وفي القواعد: (من علم، حجة على من لم يعلم)

هذا، إن جاوزتم، ثناءات رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي جاوزت الأربعين!


ووالله، إن ما حلّ بهذه الجميلة المليحة، من الشوائن والشوائه.. يفوق الحصر، ويقضي العجب، لكنها، لا زالت ملامح جمالها لائحة، ومواطن جلالها واضحة!


وكثيراً ما أقول لجلاسي: ربما، لو أن هذا البلاء المصبوب والمسكوب والمنكوب على بلاد أخرى؛ لصارت أثراً بعد العيان، وكانت في خبر كان.. لكن هنا، تتجلى دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، في دعائه لها، وذوذه عنها، وإخباره وأخباره الكثيرة الوفيرة، فاللهم تعريفاً وتشريفاً.


وتالله، ما إن وطئتْ قدمي، تربتها الطاهرة، إلا و"تنفست الصعداء"، وزالت عني البرحاء والرحضاء!


صحيح، أنها حين بُدوِّها لي.. رأيت الكآبة تعلوها، والخراب ينحوها، لكنها، لم تفتعله هي، بل كان ذلك بفعل غيرها:

غيري جنى، وأنا المعذب فيهمُ *** فكأنني سبابة المتندمِ!


وايم الحق، لا أَجمع عليها الكآبات، ولا أجُمع عليها الحرابات، بل يجب علي مساندتها، والوقوف معها في كرباتها، على قدر وكدي وجهدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم.. أن نقف مع المظلوم، وهي مظلومة!


والوطن للإنسان.. روحه ونفسه ورئته، لا يبغي به سبيلا، ولا عنه تحويلا.

بلادي وإن جارت علي عزيزة *** وقومي وإن بخلوا علي كرامُ


وفي (قطوف أدبية): "الوطن.. هو المهد الأول لجسم الإنسان- يحنّ إليه كلما بعُد به المطاف في بلاد الله، ويشعر في قرارة نفسه بحبه وتفديته والاستهانة ببذل المال والنفس في سبيل الحفاظ عليه، ويدين له أبداً بالولاء والاعتزاز، مهما أغرته المغريات، وباعدت بينه وبين أرضه ضرورات العيش".


ويا ضيعة، من ضيع مرتع صباه، وموضع لهاه.. إنه مشكوك الأصل، متهجن الفرع، مقرف النسب.


وقرأت في بعض الكتب، أن "الحنين إلى الأوطان.. من أخلاق أشراف الرجال"!


ووجدت على طرة مخطوط:

ولي وطن آليت أن لا أبيعه *** وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا!


فيا أبناء الوطن.. عودوا إلى وطنكم ومواطنكم، بأجسادكم وأرواحكم، فإنها والدتكم، وهي في شوق لكم، وحسرة عليكم!


حتى القوارض، ناهيك عن الحيوان.. تحن لوطنها، وتشتاق لموطنها، وإليكم برهاناً:


قال ابن الجوزي: خاصمتِ امرأة زوجها، في تضييقه عليها وعلى نفسه.. فقالت: والله ما يقيم الفأر في بيتك إلا لحب الوطن، وإلا فهو يسترزق من بيوت الجيران!

(الأذكياء: ٢٢٥)


قال الرافعي:

بلادي هواها في لساني وفي دمي *** يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي


ولا خير فيمن لا يحب بلادهُ *** ولا في حليف الحب إن لم يُتيمِ


ومن تؤوِهِ دار فيجحد فضلها *** يكن حيواناً فوقه كل أعجمِ


ومن يظلمِ الأوطان أو ينسَ حقها *** تجبه فنون الحادثات بأظلمِ



أيها الناس: إن أمكم.. متكبدة الحرارة، متجرعة المرارة؛ لفرقاكم، فهل شعرتم، أم أن قلوبكم.. قد ران عليها الران، واستولت عليها الجفوة، "فهي كالحجارة أو أشد قسوة"؟!



حذار، من التنكر لأصلكم؛ بحجج واهية، وقشش طافية، من: فقر وحر وحرب وعوز ومرض؛ فإنها أعذار أغدر، وهي أولى وأجدر، أن تكون حجة عليكم لا لكم.


بل إن دواكم وشفاكم.. هو رجوعكم أرضكم ودياركم..


قال جالينوس: يتروّح العليل بنسيم أهله، كما تتقوت الحبة ببلّ المطر إذا أصاب الأرض.

وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة، من أنجع أدويتها.

وقال: يدواى كل عليل، بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة، تتطلع إلى هوائها، وتنزع إلى غذائها.

(ديوان المعاني: ٢/ ١٨٨) لأبي هلال العسكري.


هذه خاطرتي بثثتها، وذاكرتي نثثتها؛ علّ غائباً يعود، وشارداً يؤوب.


اللهم بارك لنا في يمننا، واسقه شآبيب رحماتك، وودقات بركاتك، يا رب يا رب يا رب يا رب يا رب.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/٧/٢٨


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق