الأربعاء، 12 مايو 2021

العيد.. ومأساة الفقير!

 العيد.. ومأساة الفقير!

العيد: كلمة محبوبة، ولفظة مرغوبة، تعشقها الآذان، وتذلقها اللسان، ويعبقها الجنان!


العيد: رمز الفرحة والإخاء، والصدق والنقاء، والبذل والوفاء.


العيد: زائر حبيب، وضيف قريب، ونازل مهيب.


في العيد، نشتري الملابس الجديدة، ونأكل الحلوى اللذيذة، وننسى الأيام الشديدة، ونغضي عن الناس العنيدة! 



والناس في العيد، بين فارحٍ وكادح، ولا أتحدث عن الفارحين؛ لأن المحامين عنهم كثر، بعكس الكادحين؛ فإن الذابين عنهم نُزر!


دعوني -إذن- أتحدث عن هؤلاء الكرام الفخام؛ لأطفئ جمرة لاهبة في فؤادي، وأبل صدى عطشي، وأرضي أنب ضميري، بالحديث عنهم ومنهم، وإليهم وعليهم!


أقول:

يأت العيد على طائفة من الناس؛ ثقلاً وهماً، وعبئاً وغماً!

نعم.

ينظر أحدهم، إلى الأسواق مزدحمة، والمعارض ممتلئة، والطرقات مكتظة.. والناس، معهم فلذات أكبادهم، قد ارتسمت الفرحة على محيّاهم، وهم في فرح ومرح، بملابسهم الجديدة، الذي جعلت لهم من العيد، أعيادا.. 


ينظر المسكين، إلى هؤلاء الصغار، وقلبه يحترق، وفؤاده يمتزق، ثم يسارق النظر إلى أكباده الحيّة؛ فتنهمر دموعه سخية، على خديه، فتكون غُنية عن الكلام واكتفاء!

(وعن البحر، اجتزاء بالوشل)!


يتعلق الصغار، بأبيهم: بابا.. بابا.. (وهي فصيحة، وقد بينتها في مقال) اشترِ لنا ملابس العيد، مثل بني فلان؟!

هكذا بكل براءة، وليست -والله- جراءة.


آهٍ، ما أقساه من موقف وأنكاه، وما أشد وطأته وأضناه، على قلب الأب المكلوم، والأم المهمومة! (رب اغنهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك).


تُرى، ماذا يقول لهم، وبم يجيبهم، وكيف يقنعهم؟!

إنهم، لا يفهمون، إلا ملابس جديدة، عليها خيط جدتها، مدلاة به بطاقة تشير إلى القياس!

لكنهم، لا يدركون قياساً ولا مقاساً.. ولا يفهمون، إلا الإشارة، إلى أنها جديدة!

فيظهرونه للداتهم؛ ليقولوا لهم: هذه ملابس العيد!


إنهم أطفال، لا يجيدون لغة المال، بل الإزهاء على الأطفال!

لا يعلمون.. أن الملابس، دونها قطع أعناق، وإسالة مآق!


يطوي الأب عنقه، كاشحاً عنهم، لا يلوي على شيء، إلا التفكير في أمر أزغابه وأحبابه!


تنظر إليه، زوجه المسكينة، بنظرات حرّى، وقلب مكلوم، ودموع غزار، ووجه خجول، وجسد مضنى، قد أنهكه التعب واللغب!


إنها، تجيد لغة الكلام، ولكنها تعرف حال زوجها الكادح، الذي بالكاد يؤويهم ويبطنهم!

فلا تريد، أن تزيده همّاً فوق همومه، وغماً إلى غمومه!


فترجع هي الأخرى، ناكصة على عكبيها، كسيرة الخاطر، حسيرة الفؤاد، مهيضة الجناح!

لكن عاطفة الأمومة، ينتهشها ويهترشها، ويضربها بسياطٍ من نار! فتنظر، كرة أخرى إلى حبيبها، قائلة:

-أبو فلان؟

-نعم.

-هل تستطيع أن تستلف؛ لأجل الصغار، أما أنا وأنت، فعيدنا، الأطفال؟

-أتمنى، ولكن من سيقرضني؟ لكني سوف أحاول!


يذهب إلى جاره العزيز..

-السلام عليكم.

-عليكم السلام.

-تقبل الله منا ومنكم.

-ومنكم.

-كيف حالكم وأولادكم؟

-الحمد لله على كل حال!


يسمع هذه الكلمة الموحية، فيعلم أنها إشارة من جاره المثقف، إلى عَطَلِه، وأنه في ضيقة وإعواز، فينصرف دون إحراز!


يدخل بيته، وأطفاله، ينتظرون الباب، يحسبون كل حركة، هي طرقة والدهم الأسيف!

لكن الوالد المسكين، يرجع بخفي حنين، بل، حتى خف حنين، لم يجده، فقد أخذه صاحب حنين!


ولم يتنبه الصبية، إلى خلو والدهم، فيهتفون، بصوت جماعي: بابا.. بابا، اشتريت... وقبل أن يكملوا كلمتهم المتكسرة.. تتعثر أقدامهم، حين يرون اليد فارغة!


كيف له، أن يفهمهم.. أنه لا يملك النقود، التي تضع القيود؟ كيف يستطيع تصبيرهم؟! بأي لغة يخاطبهم؟


تنظر الأم إلى يديها، لتجترّ ما فيها؛ لتبيعه!

لكنها خالية.. فالسوار الصغير، قد بيع في أزمة حادة (وما أكثر أزماتهم)!


تتلمس عنقها، فليس فيه قلادة، وترى أن المثل العربي الشهير، (يكفي من القلادة، ما أحاط بالعنق) ليس صحيح المعنى.. فعن أي قلادة يتحدثون؟! إنها لا تعرفها قط في حياتها!


تنحني إلى أصابعها، فلا -والله- لا تجد خاتماً، ولا حتى فَصّاً!


تتحسس أذنيها، فلا تحس قرطاً، أو حتى خيطاً، بل إن خرصتها، كادت اللحم تغطيتها؛ لطول عطلها!


إنها، خلو إلا من: دينها، وعفافها وحيائها، (وما أبهاه وأهناه وأحلاه).

(وأكرم به من متاع)!


لقيتها، ليتني ما كنت ألقاها *** تمشي، وقد أثقل الإملاق ممشاها


أثوابها رثة، والرِّجل حافية *** والدمع تذرفه في الخد عيناها! 



ثم تنظر إلى أولادها، فتقول لهم: سنشتري لكم -إن شاء الله- تعليقاً لا تحقيقا!

فيهدؤون ويسكنون ويسكتون، ولكنه دواء مسكن، له وقت، وينتهي المفعول!


لا أدري، ماذا كان، بعد هاته التهدئة المؤقتة، ولا أعلم، ما فعلوا مع صبيانهم وصبياتهم، لكني رأيتهم: يحمدون، ويشكرون، ويثنون على الكريم سبحانه، أكمل الثناء، بل ويستعذبون حياتهم العذيبة!



وبعد هذا الطواف الحسي؛ لجأ صاحبنا المعدم، إلى التطواف المعنوي، يقلّب كواغده، ويفتش دفاتره؛ فرأى هاتين البيتين:


‏كم تشتكي وتقول إنك معدم *** والأرض ملكك والسما والأنجم!


ولك الحقول وزهرها وأريجها *** ونسيمها والبلبل المترنم!


فقنع بهذا المِلك العظيم، والمُلك العميم!


ثم نبش صفحة أخرى؛ فقرأ هاته الأبيات للإمام الكبير محمد بن علي بن وهب ابن دقيق العيد:


لعمري لقد قاسيتُ بالفقر شدةً *** وقعت بها في حيرة وشتاتِ


فإن بُحت بالشكوى؛ هتكتُ مروءتي *** وإن لم أبحْ بالصبر؛ خِفتُ مماتي


فأعظم به من نازل من مُلمةٍ *** يزيل حيائي، أو يزيل حياتي



ثم نكش أخرى؛ فرأى هاته، وهي لابن دقيق العيد، أيضاً:


وقائلة: مات الكرام، فمن لنا *** إذا عضنا الدهر الشديد بنابهِ؟ 


فقلت لها: من كان غاية قصده *** سؤالاً لمخلوق؛ فليس بنابهِ


إذا مات من يرجى فمقصودنا الذي *** ترجينه باقٍ، فلُوذي ببابهِ



فتسلى، وبالصبر تحلى، وتحمل، وبالجَلد تجمل.


ثم فتش؛ فوجد الشاعر الأميري، يقول:

يقولون لي: عيد سعيد، وإنه؛ *** لَيوم حساب لو نحسّ ونشعرُ!


أعيد سعيد، يا لها من سعادة *** وأوطاننا فيها الشقاء يزمجرُ؟!


ثم أقفل المسكين، قراطيسه، وجمع كراديسه في كرابيسه، وخلا بنفسه، وتمتع بنفَسه، عن بني جنسه!



رب كن لهم، واكسهم، وآوهم، وأطعمهم، وتولَ أمرهم، فأنت وحدك المؤوي والكافي والمكافي.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٣٧/٩/٢٩

١٤٤١/٩/٣٠


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق