الثلاثاء، 4 مايو 2021

عين القِطْر في جواز إخراج المال في زكاة الفِطْر!

 عين القِطْر في جواز إخراج المال في زكاة الفِطْر!


زكاة الفطر واجبة من الواجبات، وفريضة من الفرائض، وعلى وجوبها الدليل- من الكتاب، والسنة، والإجماع.


ولكن وقع الاختلاف في نوع إخراجها، لا سيما، إخراجها مالاً.. فقد اختلف العلماء في ذلك، على ثلاثة أقوال:


القول الأول: المنع والتحريم، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء. 


واستدلوا بأدلة، منها:

ما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر.. صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير).


وما رواه البخاري ومسلم، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب).


القول الثاني: الجواز، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة من أصحاب المذاهب الأربعة، ووجه في مذهب الشافعي، ورواية في مذهب أحمد، وهو فعل بعض الصحابة والتابعين وغيرهم.


واستدلوا، بالتالي:


-عدم وجود نص، يحرّم إخراجها مالاً.


-ما رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، من أن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال -لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم-: (ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة، مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقال: هذا أنفع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).


-ما بوّب البخاري، في أبواب الزكاة المفروضة، كزكاة الحُلي، والحيوان وغير ذلك، فقال: باب العَرَض في الزكاة.


قال ابن رشيد: أن البخاري، وافق الحنفية، على كثرة مخالفته لهم.

(فتح الباري: ٥/ ٥٧).


-بفعل عمر بن الخطاب.. فقد روى سعيد بن منصور.. أخرج في سننه عن عطاء، قال: "كان عمر بن الخطاب، يأخذ العَروض في الصدقة من الدراهم".

ينظر: (المغني: ٣/ ٦٥)


-بما روي عن بعض الصحابة، كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، حيث قال: (إني لأرى مُدّين من سمراء الشام، تعدل صاعاً من تمر).


وكان هذا الفعل منه وأصحاب رسول الله متوافرون، فلم يعلم عن أحد الاعتراض سراً أو جهراً؛ فدل أنهم مقرّون له لأمور:

-لعدم الاعتراض منهم.

-ولأنهم النصحة الكملة الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يجوز البيان عن وقت الحاجة.

-ولأن فعل عمر، كان مشهوراً غير محصور؛ إذ هو خليفة المسلمين، وخير من يفهم النصوص؛ هم السلف الكرام.


-بفعل عمر بن عبد العزيز: عندما أرسل عامله، أن يأخذ منهم، القيمة في زكاة الفطر، فقد روى ابن أبي شيبة في (المصنف، رقم: ١٠٣٦٩) في كتاب الزكاة/ باب في إعطاء الدراهم في زكاة الفطر.

قال: حدثنا وكيع عن قرة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز: في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم"

ورواه ابن سعد، في (الطبقات) 


وكتب -رحمه الله- إلى عامله في البصرة: أن يأخذ من أهل الديون من أعطياتهم، من كل إنسان نصف درهم.

وعليه بوب الإمام حميد ابن زنجويه، في (الأموال): باب الرخصة في إخراج الدراهم بالقيمة.

قال يزيد: فَهُم حتى الآن، يأخذونهم به.


وفي مصنّف عبد الرزاق (٣/ ٣١٦) عن معمر، قال: كتاب عمر بن عبد العزيز: "على كل اثنين درهم -يعني في زكاة الفطر- قال معمر: هذا على حساب ما يُعطى من الكيل".


حدثنا وكيع، عن قرة، قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز، في صدقة الفطر: نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم.


وعن ابن المبارك، عن عوف، قال: قرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة رمضان: واجعل على أهل الديوان نصف درهم من كل إنسان، يؤخذ من أعطياتهم.


-بكثير من أقوال وأفعال السلف والعلماء، ومنها:

عن ابن شهاب، قال: أخذت الأئمة في الديوان، زكاة الفطر في أعطياتهم.


وعن الحسن، قال: إذا أعطى الدرهم من زكاة الفطر.. أجزأ عنه.


وعن أبي إسحاق الهمداني، قال: كانوا يعطون في صدقة الفطر بحساب ما يقوم من الورق.


وعن حميد: القيمة تجزي في الطعام -إن شاء الله-، والطعام أفضل.


وعن يحيى بن معين: قال يحيى في زكاة الفطر: لا بأس أن يعطى فضة.


وعن ابن معين أيضاً: سُئل عن زكاة الفطر؟

فقال: أحب إلينا أن نعطي ما أمر به التمر والحنطة والشعير. 

قيل له: فالدراهم؟

قال: إذا عسر عليه هذا، فلا بأس أن يعطى قيمة ذلك.


وعن الحسن البصري، قال: "لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر".


وعن أبي إسحاق السبيعي، قال: (أدركتهم، وهم يؤدون القيمة في زكاة الفطر)

(رواه ابن أبي شيبة: ٣/ ٦٥)


وعن سفيان الثوري: "لا يشترط إخراج التمر أو الشعير أو البر في زكاة الفطر، بل لو أخرج قيمتها مما هو أنفع للفقير.. جاز؛ لأن المقصد منها إغناء الفقراء عن المسألة، وسد حاجتهم في هذا اليوم".


وعن سفيان أيضاً: إذا أعطى قيمة نصف صاع من حنطة.. أجزأ عنه.


وقد ترجم ابن أبي شيبة، في مصنفه: (باب إعطاء الدراهم في زكاة الدراهم في زكاة الفطر)

ذكر تحته كثيراً من الأحاديث والآثار، ومنه ما قد مر آنفاً.


وقال القرطبي، عند تفسيره لآية مصارف الزكاة، وعند حديث: (اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) فقال: وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأَي شيء سد حاجتهم جاز، قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"، فلم يخص شيئا من شيء".

(تفسير القرطبي: ٨/ ١٧٥)


فعلامَ نحمل كلامهم.. وبعضهم قد أدرك ثلة من الصحابة، وبعضهم من أكابر التابعين؟!


 

القول الثالث: جواز إخراجها مالاً، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهو قول في مذهب الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: "وأما إذا أعطاه القيمة؛ ففيه نزاع: هل يجوز مطلقاً؟ أو لا يجوز مطلقاً؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة، أو المصلحة الراجحة؟

على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول هو أعدل الأقوال" -يعني القول الأخير-.

(مجموع الفتاوى: ٢٥/ ٧٩).


وقال في موضع آخر: "وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، الراجحة، أو العدل؛ فلا بأس به".

(مجموع الفتاوى: ٢٥/ ٨٢).


وقال في (الفتاوى الكبرى: ٥/ ٣٧٢): "ويجوز إخراج القيمة في الزكاة؛ لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة، مثل أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه، فهذا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشتري تمراً أو حنطة، فإنه قد ساوى الفقير بنفسه، وقد نص أحمد.. على جواز ذلك، ومثل أن تجب عليه شاة في الإبل، وليس عنده شاة، فإخراج القيمة كاف، ولا يكلف السفر لشراء شاة، أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة؛ لكونها أنفع لهم، فهذا جائز".


والذي يترجح مما مضى -والله أعلم- القول الثالث، وهو جواز إخراجها مالاً للحاجة؛ لموافقته للدليل، وإعماله للأدلة، والجمع بينها، وفيه تتحقق سماحة الإسلام ومقاصده، فمتى ما اقتضت الحاجة، وكان الانتفاع بالمال أكثر من الطعام، فيخرج المال، بلا ضير، بل يكون هو الأفضل.


ومتى ما وجد المزكّي.. المستحق للزكاة، والذي يغلب على ظنه، أن ينتفع بها، ولا يبيعها؛ فإخراجها طعاماً.. أولى وأحرى.


قلت: وحال الناس اليوم، الاحتياج إلى المال أكثر من الطعام، بل رأينا من يأخذ الزكاة من الناس طعاماً، فيذهب يبيعها بنصف قيمتها، بل ربما أقل، لحاجته إلى المال، أو لتكدسها عنده، أو لأنها من نوع لا يعجبه.. وفي هذا، تفويت لمصلحة الزكاة.


قال شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت: "وتكفي قيمة الحبوب من النقود، وربما كانت القيمة النقدية؛ أرفق للصائم، وأنفع للفقير، ونظراً لتنوع حاجة الفقير -وهو أدرى بها من غيره-، وقد لا يتيسر له الاستبدال، فكانت القيمة، أدخل في قضاء الحاجة.

والذي أستحسنه وأختاره لنفسي، أني إذا كنت في المدينة؛ أخرجت القيمة، وإذا كنت في القرية؛ بعثت بالتمر والزبيب والبر والأرز ونحوها هدية المسلم لأخيه في شهر التكريم وعيد السرور".

(الفتاوى: ١٥٦)


وهو اختيار شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، قال: (تقدّر عن كل شخص، بصاع، والصاع: أربعة أمداد، وإذا كانت المصلحة تقتضي إخراج زكاة الفطر نقداً، فتخرج نقداً، ويلاحظ فيها مصلحة الفقراء).

كما في فتوى نشرت عنه، في ٢٨ رمضان ١٤٣٨.


وهو توجيه العلامة عبد الوهاب الشعراني في كتابه: (الميزان) عند ترجمته لزكاة الفطر، حيث قال: (وأَما من جوز إخراج القيمة فوَجْهُه: أن الفقراء يصِيرون بالخيار، بين أن يشتري أحدهم حَبّاً، أو طعاماً مهيأً للأكل من السوق، فهو مخفف من هذا الوجه على الأغنياء والفقراء).


هذا ما منّ به المنان، وهو المان سبحانه المتفضل، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.


والله أعلم، وصل اللهم وسلم على نبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

١٤٣٨/٩/٢٣

١٤٤٢/٩/٢٣

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق