تصبير وإصبار للحبيب ياسر أبي عمار!
سلام الله عليك ورحمته وبركاته..
أخي الحبيب: ياسر.. سمعت نبأ مصابك، وخبر منابك؛ فحزنت وشجنت، وجشبت وشجبت.. فأردت مواساتك بما أقدر، علّ في كلماتي تكميداً لغمك، وتضميداً لهمك.
أقول لك -يا ياسر.. أيها الصابر-: إن خير ما أواسيك به وأؤاسيك، هو: ما ذكره الله سبحانه في كتابه الكريم، ورسولنا عليه الصلاة وأتم التسليم..
قال الله تعالى: "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".
قال القرطبي: (قالوا: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، جعل الله تعالى هذه الكلمات.. ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين؛ لما جمعت من المعاني المباركة.
فإن قوله: "إنا لله" توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: "وإنا إليه راجعون"، إقرار بالهلك، على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه، كما هو له.
قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: لم تعط هذه الكلمات نبياً قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب؛ لما قال: "يا أسفى على يوسف".
ثم ختم الله ذلك، بقوله تعالى: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".
قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان، ونعم العلاوة.
أراد بالعدلين: الصلاة، والرحمة. وبالعلاوة: الاهتداء.
واسمع أخي الكريم، إلى هذه القصة المطمئنة للنفس، والمسكّنة للروح..
قال أبو سنان: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج، أخذ بيدي فأنشطني، وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان؟ حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد؛ قال الله لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟! فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه "بيت الحمد").
رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
يالله، ما أعظمها من بشرى، وما أجمله من وعد، "وعد الله لا يخلف الله الميعاد".
وعن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعاً- وإن تقادم عهدها.. كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب).
رواه ابن ماجه.
وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول -ما أمره الله عز وجل-: "إنا لله وإنا إليه راجعون" اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها.. إلا أخلف الله له خيراً منها).
قلت: فهذا فعل وشرط، فإذا تحقق الفعل؛ كان الشرط، وفق ما يريد سبحانه وتعالى، وذلك: إما أن يكون العوض، حقيقياً ملموساً، وإما أن يكون مدخراً إلى يوم القيامة، وإما أن يكون راحة بال، وحسن حال، وقد يجمع الله كل ذلك لمن شاء من عباده.
ومما يخفف الوطأة، ويعيد الفيأة.. تذكر مصيبتنا في موت النبي صلى الله عليه وسلم..
عن عطاء بن أبي رباح ومكحول، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم مصيبة؛ فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب).
رواه الدارمي والسمرقندي في مسنده.
ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول:
اصبر لكل مصيبة وتجلدِ *** واعلم بأن المرء غير مخلدِ
أوما ترى أن المصائب جمة *** وترى المنية للعباد بمرصدِ
من لم يصب ممن ترى بمصيبة *** هذا سبيل لست فيه بأوحدِ
فإذا ذكرت محمداً ومصابه *** فاذكر مصابك بالنبي محمدِ
وفي هذا القول من هذا الإمام تسلية عظيمة..
قال القاضي شريح -رحمه الله تعالى-: "إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله تعالى عليها أربع مرات: إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني للاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني".
ويقول البستي:
كل الذنوب فإن الله يغفرها *** إن شيَّع المرء إخلاصُ وإيمانُ
وكل كسر فإن الله يجبُره *** وما لكسر قناة الدين جُبرانُ
ومما يعين على المصيبة ويخففها..
النظر إلى مصائب الغير، فإنك إذا نظرت إلى مصائب الآخرين.. واجد من هو أعظم منك مصاباً، وأشد ألماً، وأغزر دمعاً..
وخذ مثلاً: ذاك الرجل الذي أجد مصابه، يشبه مصابك، إلا أنه أشد إصابة، ومصابه أعظم!
فقد كان عنده المال والولد، وفي ليلة ليلاء، غدا عليهم سيل عارم، فأخذ كل ما عنده من ولد ومتاع ومال وزوجة!
ولما أصبح؛ رأى صبيه، وجمله.. فهرع نحو ابنه، فسبقه إليه الذئب!
وأسرع إلى دابته، فركلته في وجهه، فذهبت بعينيه، وشوهت وجهه!
هذا في الماضي.
وفي أيامنا هذه، وقبل سنيهات قليلة.. رجل اسمه عبد الحميد، كان في رحلة أو نزهة أو حاجة مع أولاده، فجرى لهم حادث أليم، مات كل أهله وأولاده، ولم يبقى إلا هو مع كسور ورضوض!
وأذكر، أني حينها، كتبت له، تسلية وتعزية.
وأخيراً.. يا حبيبي ياسر: نحن ضيوف في هذه الحياة النكدة التعسة القصرة، ولا بد لنا من العودة إلى مستقرنا، الجنة -إن شاء الله-، ولكن منا المستقدم، ومنا المستأخر، "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان".
فاللقاء والأنس واللذة هناك -بإذن الله سبحانه وتعالى-.
ويا صاحبي.. كلما جاشت نفسك، أو حزن قلبك، أو كرب صدرك.. تذكر، أن الله سبحانه وتعالى: حكيم عليم رحيم، ولا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير المحض، ولكن عقولنا تقصر عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى، فسلِّم لخالقك أمرك، وهدئ روعك، وفرح نفسك، وعلِّل روحك، ولا تذكر تفاصيل الحادثة، ولكن، اجعلها على ربك الرحمن الرحيم.. يسلو خاطرك، وتأنس نفسك، ويرتاح قلبك.
حبيبنا: أطلت عليك، وربما أمللت، ولكني أردت -والله-؛ التخفيف عنك، والتسلية لك، والتسرية عليك..
ربط الله على قلبك، وشرح صدرك، وآنس نفسك، وأبهج روحك، وعوضك كل خير.
ورحم الله أحبابك وأكبادك ومهجك وبهجك، وأنزل على قبورهم الضياء والنور، والفسحة والسرور.
وسلام الله عليك.
محبك: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤١/٩/٣
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق