الجمعة، 13 مارس 2020

ماذا حلّ بك يا حرم الله؟! إنّ في خلوّ الحرم لعبرة يا عباد الله!


ماذا حلّ بك يا حرم الله؟! إنّ في خلوّ الحرم لعبرة يا عباد الله!

تاقت نفسي إلى الصلاة في الحرم (وأي نفس لا تتوق تيك المكرمة)، فلما أتيته، لم أر الأفواج التي اعتدت رؤيتها كلما زرته، من على أبعاد منه!

الطريق خلو من البشر .. من الرجال والنساء .. من الصغار والكبار .. من الطائفين والقائمين والركع السجود!

واصلت طريقي، وفي قلبي حسرة، وعيني تكاد تشرق بالدمع، وحلقي يغص بالماء الزلال، وللأسف، لم يكن هناك ماء- لا ماء زمزم ولا غيره-!

يا الله، ماذا حلّ بالمسلمين .. ماذا جرى بالمؤمنين .. ماذا حصل بالمحسنين؟!
إنهم يقولون: فيروس كورونا- الذي أقلق العالَم المتعالم (وحق لهم أن يقلقوا) "وما يعلم جنود ربك إلا هو * وما هي إلا ذكرى للبشر".

آه، يا حرم الله، كأني أشعر بشجنك، وأحس بحزنك، وتلهبك لفراق أحبابك وقاصديك، "وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" لكن، ها هو الإتيان قد توقف، والركب قد تخلف!

آه، كأني بالبيت، وقد اشتاق لطائفيه، والركن اليماني، قد تشوق إلى مستلميه، والحجر الأسود، قد حنّ إلى مقبّليه، والملتزم، قد تمنى ملتزميه، والسعي، قد صبا إلى ساعيه، والصفا والمروة وزمزم والمقام والمسجد وكل بقعة هناك.. قد اشتهت وتاقت وتمنت ورغبت ولجت وعجت ونزعت وهفت إلى قصادها وعبادها..

ولكن، نضرع إلى الحليم ونجأر؛ أن لا يكون آخر العهد بحرمه، فإن هناك مرائر تكاد تتقطع، وحرائر يُخاف أن تتمزع!

رباه، إنا ندعوك، بما دعاك به قوم يونس عليه السلام، حين أخذهم العذاب: (ربنا افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله).
رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب العقوبات"، بإسناده عن القاسم بن عمرو العنقزي.

وهذه وقفة أقفها؛ مهتبلاً المناسبة، مقتنصاً المحاسبة، فأقول:
ما أعظم ربي وأحلمه، وأعلمه وأكرمه.. مجاهرة بالمعاصي، ومراكبة للفواحش في الشوارع والصياصي، وظلم وطغيان، وتعطل النكران، وحرب للإسلام وأهله، ونشر للكفر وبغله!

إن الله صبور صبار، بل جاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ يدَّعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم).
رواه البخاري ومسلم.

ولكنه سبحانه وتعالى، يغار إذا انتهكت محارمه، ويمهل ولا يهمل.. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد").
رواه مسلم. 

وقال ابن عباس رضي الله عنه: "يسمع ويرى، يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والأخرى، وسيعرض الخلائق كلهم عليه، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور".
(تفسير القرآن العظيم: ٤/ ٦١٨)، لابن كثير.

وقال ابن تيمية: "ومن اعتبر أحوال العالم: قديماً، وحديثاً، وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله؛ علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون".
(مجموع الفتاوى: ١٦/ ٢٤٩).

وقال ابن الجوزي: "ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر، وأرباب المناصب.. أنهم يشربون الخمور، ويفسقون، ويظلمون، ويفعلون أشياء توجب الحدود- فبقيت أتفكر أقول: متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً؟ فلو ثبت فمن يقيمه؟ وأستبعد هذا في العادة؛ لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم، فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم؛ حتى رأيناهم قد نكبوا، وأخذوا مرات، ومرَّت عليهم العجائب، فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم، وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة، فعلمت أنه ما يهمل شيء، فالحذر الحذر، فإن العقوبة بالمرصاد".
(صيد الخاطر: ١٥٤).

فأين من دوّخوا الدنيا بسطوتهم *** وذكرهم في الورى ظلم وطغيانُ

أين الجبابرة الطاغون ويحهمو *** وأين من غرَّهم لهو وسلطانُ

هل خلَّد الـموت ذا عز لعزته *** أو هل نجى منه بالسلطان إنسانُ

لا، والذي خلق الأكوان مـن عدمٍ *** الكل يفنى فلا إنس ولا جانُ

أقول: وهذا الوباء والبلاء.. له أسباب كثيرة، منها:
الأول: انتشار الفواحش والجرائم، وإتيان الحرم والمحارم.. من العالَم الغربي والعربي، حتى طمت البدو والقرى، والبر والبحر، والسهل والجبل، وتعطلت شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.. فكان العقاب عاماً شاملاً للعالَم أجمع! و(الجزاء من جنس العمل).

قال الله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"، وقال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون".

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر؛ أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم).
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

وعن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل عليها فزعاً، يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب، من شر قد اقترب.. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بأصبعيه: الإبهام والتي تليها-، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث).
رواه البخاري ومسلم.

الثاني: الرضا أو الغضا، أو التخاذل أو التغافل، عن ما حلّ ببعض الدول، كـ العراق، وسوريا، واليمن، ونحوها.. فقد كانت تعاني الضيم والظلم والهضم، والعذاب والنكال، والأمراض والقتال؛ وذلك بمسمع من العالم العربي والغربي، وكأن الأمر لا يعني إلا المصاب فحسب، ويكأن أولئك ليسو من البشر، أوْ ليس لهم حق في حياة البقر.. حتى عاقب الله العالَم كله، بفيروس لا يرى بالعين، وهو في تسارع وتتابع!

عن أبي طلحة الأنصاري، وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من امرئ مسلم، يخذلُ امرأ مسلماً، في موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه.. إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً، في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته.. إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته).
رواه أحمد وأبو داوود، وحسنه الألباني.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قال: يا أيها الناس، إنكم لتقرؤون هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه.. أوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب منه).
رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.

هذه ذكرى وتذكرة "سيذكر من يخشى" و"الذكرى تنفع المؤمنين" وهي "معذرة إلى ربكم" اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، قبل أن نعذب عذاباً وبيلا.

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
الجمعة المعظمة، بمكة المكرمة: ١٤٤١/٧/١٨.


هناك تعليق واحد:

  1. بوركتم بوركتم بوركتم
    نعمت الموعظة👌
    لقد أسمعت لو ناديت حيا
    وأرجو أن تكون هناك حياة لمن تنادي 💔

    ردحذف