الأحد، 8 مارس 2020

٤٥ ساعة سفر!

٤٥ ساعة سفر!

امتطينا صهوة الجواد الأصم الأبكم الأخرم الأفدم الأصلم، وأخذ يخد بنا الأرض، ويجب الترب، ويخلف وراءه ما كان على الأرض من دور وقصور، ويمخر بنا العباب، ولا نرى أمامنا إلا السراب!

وتمثلت قول القاضي عبد الوهاب البغدادي:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا *** ورأيت كيف تكرر التوديعا

لعلمت أن من الدموع محدثاً *** وعلمت أن من الحديث دموعا


وكلما اشتد سير جوادنا؛ ترك في قلوبنا جراحاً غائرة، وندوباً نائرة؛ حزناً على ما خلفناه من ولد ووالد وأهل!

وتذكرت حينها، هاته المشجية:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمو *** وحملوها، وسارت بالدمى الإبلُ

وقلبت بخلال السجف ناظرها *** ترنو إلي ودمع العين ينهملُ

وودعت ببنان زانه عنم *** ناديت: لا حملت رجلاك يا جملُ

ويلي من البين ما ذا حل بي وبها *** من نازل البين حل البين وارتحلوا

يا حادي العيس عرج كي أودعهم *** يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ

إني على العهد لم أنقض مودتهم *** يا ليت شعري لطول البعد ما فعلوا


الأرض غير مستوية، بل متعرجة متقطعة محفرة غير مخفرة!

أغطش الليل، ولا زال السير بنا في جده وحده!

خلد الناس إلى نومهم، ونحن خلّد في مقاعدنا الضيقة التي بالكاد تكفي راكب فحسب!

لكننا، أسلمنا أنفسنا لسلطان النوم (ومن ذا يجرؤ على عصيان سلطانه)؟!

وقد قال شيخي عمر، في لاميته:
جانب السلطان، واحذر بطشه *** لا تعاند من إذا قال؛ فعل!

ولعمري، إنك إن عاندت النوم؛ فعل بك الأفاعيل، ونصب لك الأحابيل!

لا أظن أن أجسادنا نامت، حاشا نصفها، والحق: ربعها، فحسب؛ أما الأعين؛ فهي مغمضة مفتحة!

فكان نومنا، كنوم الذئب، الذي قال فيه حميد بن ثور:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم(١)

ولها قصة طريفة ظريفة -يحسن الإتيان بها، ما دمنا في المنادمة-، فهاكها:
قال جحظة‏:‏ اجتمعنا عند الرشيد، فقال للمفضل‏:‏ أخبرني بأحسن ما قالت العرب في الذئب.. ولك هذا الخاتم، وشراؤه ألف وستمائة دينار؟ فقال‏:‏ أحسن ما قيل فيه‏:‏
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم(١)
فقال الرشيد‏:‏ ما ألقى الله هذا على لسانك، إلا لذهاب الخاتم، ورمى به إليه؛ فبلغ زبيدة، فبعثتْ إلى المفضل بألف وستمائة دينار، وأخذت الخاتم منه، وبعثت به إلى الرشيد، وقالت‏:‏ كنت أراك تعجب به!
فألقاه إلى المفضل ثانياً، وقال له‏:‏ خذه، وخذ الدنانير‏؛ ما كنت لأهب شيئاً، وأرجع فيه‏!
(النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ٢/ ٦٩).
أقول: لله در هذه العطايا الجزال، التي تبرد الكبد، وتفرح الولد!

أعود إلى رحلتي المتعبة: ولا زالت الراحلة تمخر بنا: مُصدعة ممغصة منغصة مرعشة مرجحة مغثية منكية مذكية مقذية، ونحن لا نخلو، إما: في نوم أو نعاس، أو مطأطئي الراس، أو ضاحكين بسمين، أو قلقين حرضين، أو شاربين أكلين، أو ناظرين إلى اللقين، (وكل يغني على ليلاه)!
منهم: أغاني، والبعض: قصص، والشق: اتصال، والآخرون: أخبار، وأنا: فتحت كتاباً مبدأفاً (منورقاً)؛ لأطرد السآمة والملل، وأقطع به الطِول، ولكني، أصبت بالدوار والغشيان!

تأتي علينا أحايين، ولا نرى إلا فدافد قاحلة، وصحراء جرداء، لا تسمع فيها لا همساً ولا ركزاً، ويكاد التراب أن يلتهم بعضه بعضاً؛ لشدة قيظه وحرارته!

ولا زلنا على حالنا الرهيبة الكئيبة اللهيبة العصيبة النهيبة الصبيبة الكريبة الصعيبة اللغيبة العجيبة.. حتى وصلنا وجهتنا بعد أن تغيرت أشكالنا، وتبدلت أحوالنا، وخارت قوانا، وآلمتنا أعضاؤنا، وزاغت أبصارنا، ولا أخفيكم، لا زالت بعض الأنصاب والأوصاب.. ولكنا بعد هذا الجشب والشجب؛ وصلنا، بسلام وأمان واطمئنان، فلله الحمد والشكر، والمنة والفضل.


وأنا في تيك اللحظات العصيبة، استفدت دروساً وعبراً، منها:
-شكر نعم الله تعالى التي لا تحصى، ومنها: نعمة المركب، فقد قطعنا ما يقرب من ألفي كيلو متر، في ٤٥ ساعة، وإن لم تكن، فلعلنا نقطعها في ٤٥ يوماً، وربما شهراً، وربما سنة!
فقد قرأت في (الرحلة الحجازية)، لأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، تـ١١٠٢، وهي رحلتهم لحج بيت الله الحرام.. أنهم مكثوا في قطعها، من يوم خروجهم من ديارهم إلى رجوعهم إليها؛ عشر سنوات وسبعة أشهر إلا خمسة أيام، فاعجب وتعجب!

ثانياً: الشعور بالآخرين، والتألم لحال المسلمين، ومهما كنت في بلاء؛ فغيرك أشد وأنكى، فقد كنا نمر بإخوة من بلاد أفريقيا، يمشون على أقدامهم، في شدة الهاجرة!
وأُرى، أن الذي أخرجهم، هو أحد شيئين: إما الاقتتال والحروب، أو الفاقة والفقر!
وأنت يا من ركب الطائرة، أو مخر بالسفينة، أو عج بالسيارة.. ما الذي يؤمنك أن تبقى متسربلاً في فللك، ومتدثراً في قللك؟! والله، إن لم نشكرها، ونؤدي صداقها؛ لتنزعن منا، كما نزعت من غيرنا، فاحذر وحذر!

ثالثاً: التفكر في عظمة الله تعالى، وسعة ملكه، فقد كنا نمر بالصحاري القاحلة، ثم نحاذي الجبال الشامخة، ثم ننعم بأنهار ووديان، ونرى أحياناً أسراباً من الطير، وأزرافاً من الحيوان، فـ لا إله إلا الله، ما أعظمه جل في علاه "كل قد صلاته وتسبيحه" "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب".

هذه بعض الخطرات وردت على الخاطر الفاتر، سكبتها من فكري على قرطاسي، لعل فيها: تسلية أو تعزية أو ترقية.
وسلام السلام عليكم.

محبكم: وليد أبو نعيم.
١٤٤١/٧/١٢
الأحد، بـ م م حرسها الله.


ح.............
والصواب في إنشاد هذا البيت "فهو يقظان هاجع"؛ لأنه من قصيدة عينية مشهورة لحميد بن ثور، وقبله قوله:
إذا خاف جورا من عدو رمت به *** قصائبه والجانب المتواسعُ
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها *** ذراعاً، ولم يصبح لها وهو خاشعُ
(شرح ابن عقيل: ١/ ٢٥٩).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق