الأربعاء، 26 فبراير 2020

ضرر المطر لبعض البشر!

ضرر المطر لبعض البشر!

مُطرنا بفضل الله ورحمته، فابتلّت الأرض، و "اهتزت وربت"، وأخرجت أثقالها ونبت، وأبدت مَخباها ومُخباها.. فنتنت وأنتنت، وأزكمت الأنوف، وأضرت الأجساد، وعكرت الأجواء، وأفسدت الطرق، فلا تمشي إلا وأنت مشمر ثوبك عن ساقيك حتى لا يصيبه الأذى، وما رفعته من ثوبك، تضعه على أنفك حتى لا يصيبك الصنن والزكم!

لا أقول هذا، سخطاً أو غلطاً، بل إنا لنفرح بالمطر، ولكنا نشكو ما يصيبنا من الكدر والضرر، وتعكر المزاج، وتشويش الفكر.

والمطر لقوم.. نعمة ونماء، يبتهجون بنزوله، وينشرحون لقدومه، وذلك لأنهم لا يتضررون منه حين نزوله؛ لوفر بيوتهم، ولا يتأذون بعد نزوله؛ لتصريف ما عنه ينتج من تجمع الوحل، فيصيب بالأمراض..

والمطر لآخرين.. نقمة وشقاء، يكسفون لنزوله، ويضجرون بقدومه؛ وذلك لأنهم يتضررون منه حين نزوله؛ لخواء بيوتهم وضعفها، فينزل على رؤوسهم وأطفالهم ومواشيهم، ويبل أمتعتهم من فرش وحضائر، ويتأذون بعد نزوله؛ لوهاء بلادهم، فيتحقل في أماكن سيرهم، فيقطع عليهم معايشهم ومساجدهم ومدارسهم، ويمكث تجمع المياه، الأيام وربما الأسابيع، وتارة بالأشهر، فيسبب الأمراض والأوبئة التي لا قِبل للمساكين بها!

قال الزمخشري: "وقيل: يخاف المطر، من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف"!
(الكشاف: ٢/ ٥١٨).

وفي (روح البيان: ٤/ ٣٥٢): "والمطر يكون، لبعض الأشياء ضرراً، ولبعضها رحمة.. فيخاف منه المسافر، ومن فى خزينته التمر والزبيب، ومن له بيت لا يكف.
ويطمع فيه المقيم، وأهل الزرع والبساتين.
ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر، كأهل مصر؛ فإن انتفاعهم إنما هو بالنيل، وبالمطر يحصل الوطر".

قال الشافعي والأصحاب: "وإذا كثرت الأمطار وتضرر الناس به؛ فالسنة أن يدعو برفعها: "اللهم حوالينا ولا علينا".
قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: ولا يشرع لذلك صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصل لذلك، ودليل هذه المسألة حديث أنس قال: دخل رجل المسجد يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. قال أنس: والله وما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا بيننا وبين سلع، يعني: الجبل المعروف بقرب المدينة، من بيت، ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء؛ انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله أن يمسكها علينا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم حوالينا، ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر، فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس). رواه البخاري ومسلم".
ينظر: (المجموع شرح المهذب: ٥/ ٨٦).

وقال ابن حجر الهيتمي: "(ولو تضرروا بكثرة المطر) وهي ضد القلة مثلثة الكاف (فالسنة أن يسألوا الله) تعالى (رفعه) بأن يقولوا ندباً ما قاله صلى الله عليه وسلم، لما شكي إليه ذلك (اللهم) اجعل المطر (حوالينا) في الأودية والمراعي (ولا) تجعله (علينا) في الأبنية والدور.
وأفادت الواو؛ أن طلب المطر حوالينا؛ القصد منه بالذات: وقاية أذاه، ففيها معنى التعليل، أي: اجعله حوالينا، ولئلا يكون علينا.
وفيه: تعليمنا أدب الدعاء حيث لم يدع برفعه مطلقاً؛ لأنه قد يحتاج لاستمراره بالنسبة لبعض الأودية والمزارع، فطلب منع ضرره، وبقاء نفعه، وإعلامنا بأنه ينبغي لمن وصلت إليه نعمة من ربه، أن لا يتسخط لعارض قارنها، بل يسأل الله تعالى رفعه وإبقاءها، وبأن الدعاء برفع المطر، لا ينافي التوكل والتفويض "اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"".
(نهاية المحتاج: ٢/ ٤٢٨).

وإلا، فما أجمل الأمطار، التي تنعش القلوب، تبعاً لإحياء الأم (الأرض)، وتبتهج برؤيته النفوس، وتأنس القلوب، ويسرح الطرف يمنة ويسرة، إلى بديع صنع الله وخلقه، لا إلى الأوانس والعوانس!، "صنع الله الذي أتقن كل شيء" "فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها".

تأمل في نبات الأرض، وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ

عيونٌ من لجينٍ شاخصات *** بأبصار هي الذهب السبيكُ

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريكُ


وما ذاك النتن الحاصل بعد ذلك المطر النازل، إلا؛ لعدم الحفاظ على البلاد التي استودعنا الله غرسها وفلحها، وعَمرها، فلم نحسن إليها، وهي أمنا، (والإحسان إلى الأم؛ واجب) قال تعالى: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى".
فهي الأم التي لا غنى لنا عنها، لا قبل ولا بعد!

بعد ما أصابني من العكر والضجر.. أمسكت بخلي وصاحبي ونديمي وأنيسي وجليسي وونيسي؛ لأقرأه وأناجيه، وأُسمعه وأناغيه.

ولعمري، إن الكتاب المختار؛ لهو خير صديق!
رزقنا الله الاستكثار منه. وأما الخلق؛ فلا يستكثرن من الصحاب!

جعلت كتبي أنيسي *** من دون كل أنيسِ
لأنني لست أرضى *** إلا بكل نفيسِ

وإذا تملكك حب الكتاب، واستولاك واستهواك؛ لم تعد تطيق فرقاه، أو تقوى على هجراه، بل تفرق من الخلق، وتنأى عن الإنسان:

قال أحمد الصافي النجفي:
أطالع ما استطعت وجوه كتب *** فراراً من مطالعة الوجوهِ!


تشبثت كتابي، عند تنزل الرحمات.. أبثه أحزاني وأشجاني، فيعطيني الطمأنينة والانشراح.
أعرض عليه عويص المسائل، فيغمرني ريّ الجداول، وظل الخمائل.

ولكني لم أطق، ولم أستطع المواصلة، بعد الحول والمحاولة؛ لسوء ما أرى، ونتن ما أشم، وصك ما أسمع!
فاعتذرت إليه؛ لأنه طاهر، فلا يليق به إلا الطهر والنقاء والصفاء، ووعدته على أمل اللقيّ في وقت قريب؛ فإني لا أقوى على فراقه، ولا بد كل لحظة من لقائه.

شعرت بعد طرح خدني، بفراغ، لكني ملأته بكتب هذه الكلمات، التي أرجو أن يكون فيها تسلية لنفسي، وعزاء لجنسي.

وفيها نداء للجميع: أن نحسن إلى الأرض، بإزالة الأذى، وإماطة القذى: الحسي والجسي؛ لننعم بروحها وريحها.

فلنتكاتف ونتعاطف، ولو في قرانا وحوارينا، أو قل (حوافينا)، حتى ينعم الكل، ويأنس الخل، ويحلو الخروج والسمر، والمناجاة على ضوء القمر، بصحبة الحِبين، ومنادمة الصدوقين الصديقين: الكعاب، والكتاب!

رزقني الله وإياكم كل خير، وجنبني وإياكم الشر والضير.

محبكم: وليد بن عبده الوصابي،،
١٤٣٧/٣/١٥
١٤٤١/٧/٢

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق