السبت، 22 فبراير 2020

قراءة في مقدمة، كتاب "الكنى والأسماء" للإمام مسلم.. تقديم المحقق المدقق: مطاع الطرابيشي:

قراءة في مقدمة، كتاب "الكنى والأسماء" للإمام مسلم.. تقديم المحقق المدقق: مطاع الطرابيشي:

كتاب (الكنى والأسماء) للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تـ٢٦١.. صوّر مخطوطته العتيقة، وقدم لها: المتقن المفن: مطاع الطرابيشي -رحمه الله-.

وكنت أحسب بدءاً، أنه تصوير، فحسب، لكني فُجئت بمقدمة باذخة، وتحقيق بالغ، واستقصاء نادر، وجهد جبار، وعنت شاق، وتحمل مشاق.. بذله المحقق الخريت السبروت، في سبيل تقدمته لهاته المخطوطة العتيقة..

وهي عادة حسنة، من هذا العَلم المغمور، في جميع تواليفه وتحاقيقه -بلّ الله ثراه- فلا يرضى ببذل القليل، بل يجهد حتى العنت؛ لأنها أمانة العلم، التي لم يتحملها كثير من ذوي الأسماء اللامعة، في دنيا التحقيق والتأليف!
فاللهم غفراً.

وهذه بعض التقييدات، لدى قراءتي لمقدمته الرصينة، وتقدمته المتينة، أحببت مشاركتها إخواني؛ للاقتداء، والاحتذاء، والاهتداء، وأن لا ينسوا صاحبها من الثناء والدعاء.. فهاكها مسطورة مزبورة:

-الشكر لأهل الشكر؛ فهو لا يفتأ يولي الجميل، ويحمد القليل والجليل، لكل صغير وكبير، انظره يقول -في تقديمه، للكتاب: "ولقد كان لمجمع اللغة العربية بدمشق، فضل السبق إلى الخير؛ إذ أعان على هذا العمل، بالسماح بتصوير النسخة القيمة، المحفوظة في خزانة المكتبة الظاهرية العامرة، وما أمد به من تشجيع كريم.
ثم لدار الفکر بدمشق، فضل الجهد السخي؛ لإتقان العمل، وإخراج الكتاب في حلة قشيبة من الطباعة والتصوير.
نسأل الله التوفيق لما يرضيه من قول وعمل، "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".

-الأمانة التامة في العزو، وإن جلت وقلّت، بل تراه يعزو لمرجع نقل عن مصدر؛ لأنه وجده أولاً هناك!
وهذا غاية، في هذه البابة.

-الاستقصاء الشديد، والمكنة القعيدة؛ فتراه مثلاً: إذا ذكر مصدراً، لا يكتفي بذكر اسم الكتاب ومؤلفه، بل يفيدك بمن نقل عن هذا الكتاب، وقد يحدد الجزء والصفحة، ولا شك أن هذا دليل سعة اطلاع، وطول باع، وجلد على البحث والتحري، ونأي عن القذف والتجري، ومعرفة بخبايا الكتب وفحواها، ومزاياها ومحتواها.

-المعرفة العالية، بالمطبوع والمخطوط، بل والمنشور إذا كان في مجموع أو مجلة، أو سُجل في رسالة علمية، وذلك في طول البلاد وعرضها.
ولا يتأتى هذا التوسع، بعد توفيق الله تعالى، إلا بصبر وجلَد، وهمة قعساء، وحفظ للوقت، وطرد للكسل، وأمل حاد، وتفاؤل شاد.

-التفريق بين المتشابه، في الأعلام والأسماء والكنى والألقاب والبلدان، وضبط كل ذلك، بدليل وتعليل، وترجيح رجيح، لم يأت اعتباطاً أو تخميناً، بل بعد سبر وخبر.

-الإكثار من المراجع والمصادر، وليس إكثاراً، فحسب، بل لا يثبت مرجعه إلا بعد فلي وفتش، وربما طالعه كله؛ ليعرف كنهه وخبيّه.

-الاعتماد في الترجيح على أهله، ومن ذلك: اعتماده كثيراً على العلامة عبد الرحمن المعلمي، في حواشيه المؤنقة، وخوافيه المحققة.

-التنكيت العالي على بعض مصنفي الكنى وتصانيفهم، فتراه يعرج؛ لمناسبة داعية، كتعريجه على ذكر قاعدة في معرفة تاريخ نسخ كتاب ما.
وهو تعريج لطيف محبب، لا يخرج عن السمت.

-المحاولة للوصول إلى حاق الأمر وحقيقه، وإن كلفه جهداً ووقتاً؛ وذلك لأنه يرى أن التحقيق نوع من العلم، يحتاج إلى ديانة وأمانة، كجشبه في معرفة ناسخ نسخة الظاهرية، من (الكنى والأسماء)، للإمام مسلم، حتى توصل بأخرة، إلى تمييزه، وهو: أبو الحسن ابن الفرات، تـ٣٨٤، نسخه في سنة ٣٤٧.

-الولوع باكتشاف حقيقة، أو تزييف بهرج، كاكتشافه لتدليس فظيع، كاد أن يطمس هوية نسخة وناسخها!
وليس ذلك لتسجيل أولية، أو تتبع خطية، بل خدمة بحتة للعلم والمعرفة.

-الإظهار للمخبوء، والإبراز للمغمور، كإظهاره لعَلم نساخ مكثر مجود حجة، ولكنه خامل الذكر -مثل مطاع-، وهو أبو الحسن ابن الفرات!

-الاحتجاج لعمل غريب، ليس مألوفاً عند المحققين، كاحتجاجه لعمله هذا، (تصوير المخطوطة) كما هي بخط ناسخها، مشترطاً لها ثلاثة شروط: حسن اختيار المخطوطة، والتقديم لها بمقدمة وافية، وتذييلها بالفهارس المناسبة.
وعمله هذا؛ كان تنفيذاً، لإشارة له، في رسالته العتيدة (في منهج تحقيق المخطوطات).
قلت: وقد عمل بما شرط، بل أوفى وأربى.

-التأدب مع غيره من المؤلفين والمحققين، فهو غاية في الأدب ولو كانوا زملاءه، فتراه يقول: وسها فلان .. وهم فلان، ولكنه لرقته ولطفه؛ يستعمل أسلوب الظنية والترجية..، فيقول: وفي ظني أن الصواب كذا، أو لعل الأصوب كذا، وقد يكون جازماً في توهيمه وتوهينه، ولكنه الأدب العالي!

على أنه مكثر جداً، من التعقيبات والتعليقات على غيره، بل لا تكاد تفتش صفحة إلا رأيت له تنبيهاً أو تنويهاً، كل هذا، بأدب جم، واعتذار نادر، وعبارة عالية، وإشارة غالية.

ويا للأسف، ترى الواحد من الصغار، يوهّم الكبار، ويوهّن الأسفار، لأدنى عبارة، وأوهى إشارة، وربما اعتباطاً أو اغتلاطاً، وبعبارات فجة، وتكهنات مجة، مع تظنن وتجنن.
فاللهم غفراً.

-الهضم للنفس، وكبح الجماح، وعدم الاعتداد بعمله؛ فقد سمى عمله الرفيع هذا، في تقدمته: (محاولة) و(تجربة) و(عمل متواضع).
واسمع إليه في ختم تقدمته الباذخة، يقول: "وخلاصة القول: إنها نسخة محررة معمرة، حجة في خطها، ثقة في ضبطها، غنية بفوائدها، قد تعاهدتها بالعناية.. أقلام علماء أثبات، أتقدم بها إلى القارئ الكريم، مشفوعة بالجهد المتواضع في خدمتها ..."!

-الخفوت، والبعد عن الأضواء الزائفة، فقد رأيته، (ليس مرة) عند عزوه لكتاب من كتبه، يذكره في الحاشية، دون ذكر اسمه، (مطاع) بل يكتفي بالطبعة، وليس ذلك منهجه في ذكر سواه، بل يثبت اسم الكتاب والكاتب!
وهذا لعمري، وإن كان الذكر سائغاً، إلا أن عدمه؛ يشي بنفس كبيرة، وخلق أكبر.

-الدفع لما يتوهم، فقد يظن بعض الأغمار، أن تصوير المخطوطات، هو تخفف من الأعباء، أو تزلف إلى الإعطاء!
وكأنه حدَس إلى هذا الظن الخائب، فقال: "وقد يحسن التنبيه، إلى أن التصوير ليس وسيلة للاتجار الرخيص، أو ذريعة للتخفف من أعباء القراءة والتحقيق، بل هو في حقيقة الأمر: نحوٌ آخر من العمل في المخطوطات، له أهدافه، وعليه أعباؤه.
أنه باختصار: محاولة علمية جادة، للظفر بكل الفوائد التي يمكن أن تقدمها المخطوطات لقرائها.
ومن هنا: وجب اقتران الكتب المصورة، بمقدمات وافية تمهد للناس سبل الانتفاع بها، ثم قراءة الحواشي الدقيقة، وبيان غوامضها".

هذه بعض القراءات السريعة، من تيك التقدمة البديعة، التي تستأهل أن تكون نبراساً للمحققين، ومقباساً للمولفين، في طريقهم اللاحب، في هذا الزمن اللاهب!

وأختم قراءتي، فأقول: رحمك الله أيها المحقق الثقة، والمدقق المقة، فإنك -والحق-، قد عانيت الكثير، وبذلت الوفير، وأعطيتنا الجزل، وجنبتنا الهزل، ولكنها مروءتك الأبية، الملازمة لجميع أعمالك العلية.

ويا مطاع، أجرك عند من وسع سمعه الأسماع، "في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى".
أما الخلق: فقد أهملوك، بل جهلوا اسمك اللامع، فلم يعرفه إلا الخواص، ناهيك عن معرفة كنهك، واكتناه حقيقتك!
وسلام الله عليك في الأولين، وجعل لك لسان صدق في الآخرين.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
١٤٤١/٦/٢٧
ح ي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق