السبت، 9 أبريل 2022

الصـيـام فـي اليـمـن!

الصيام في اليمن!


لا أظن بلداً في الدنيا، يصوم كصيام أهل اليمن.. إنه صوم مختلف لا متخلف .. إنه صوم مليئ بالمتاعب .. إنه صوم مترع بالنواصب .. إنه صوم مكابَد .. إنه صوم شاق، وقد تحمل السالكون المشاق!


الصائمون في اليمن.. تحملوا مشاق الحر، ومحاق الحرب، وغياب الكهرباء المخففة من لفح الهواء، وتغيب الغاز المنضج للطعام، ولا ماء إلا بمتح ونتح، مع الفقر الضارب بطنبه، والجاثم بكلكله!


تخيلوا معي: الكهرباء منقطعة، مع اشتداد الحر المقرّح للأرواح، والمبثر للأجساد، والمخدد للأنفس!

لا أتحدث هنا، عن التكييف، فإنه أعز من عنقاء مغرب، وأبعد من بيض الأنوق!

لا، بل أتحدث عن مجرد المروحة، التي لم يعد لها وجود في بعض ديار الناس، وإن وجدت، فهي للزينة غير المقصودة!


نعم، إن هناك فئاماً من الخلق، لا يملكون حتى المروحة، ناهيك عن المكيف، الذي صار من الضروريات عند العالَم!


لذلك، ترى الناس كأسراب الطير، ينحدرون إلى بعض المساجد المكيفة -وليست بالكثيرة-!

تراهم هناك، وقد ناموا على جنوبهم وبطونهم ووجوههم، والمسجد يضج ويعج عن آخره، حتى -والله- لا تجد لقدمك موطئاً إلا بدعس ودهس!

فاللهم غفراً.


الله أكبر زاد الظلم في اليمن *** من "الجميع وراعي الأمر والزمنِ"


جعلتم كل أصحاب التقى غرضاً *** أفاضل الناس أغراض لذا الزمنِ


تخيلوا معي: انعدام الغاز، فلم يجدوا ما ينضجوا به طعامهم، سوى الحطب "العزيز"، وربما انعدم، فيحرقون الأوراق وما شابهها!

ولم يقفوا مكتوفي الأيدي؛ فقد صنعوا واخترعوا بعض ما اسطاعوا!


ألا ليقل من شاء ما شاء إنما *** يلام الفتى فيما استطاع من الأمرِ



تخيلوا هذا العذاب.. المرأة تقف ربما في الشمس؛ لإيقاد التنور، فإذا ما أرادت الارتياح، لم تجده إلا ما فضل من فيء أو ظل!


فما خضعت ولكن خانني زمني *** ولا ذللت ولكن غاب أنصاري!


لا إله إلا الله.. المرأة في العالَم، تطبخ بغاز وفي ظل، وهي تتأفف وتتجفف، ثم تهرع إلى المكيف؛ لتخفف من تعبها "المزعوم"!


كأن محاسن الدنيا سرابٌ *** وأي يد تناولت السرابا؟!


هذا، لمن لم يكن معها شغالة وخادمة، وإلا، فالجم الغالب، لا يباشرن أعمال الطبخ، ولا يزاولن امتهان الغسيل، بل ربما حتى ولدها، سلّمته إلى خادمتها، فاعجب!


ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها *** سراب تراءى في البسيطة زائلُ


دعنا من هؤلاء ومن خادماتهن، فلكل شأن يعنيه، وأمر يغنيه!

ومع هذا:


كل مَن لاقيت يشكو دهره *** ليت شعري هذه الدنيا لمَنْ؟!



لكن، أين تذهب اليمنية العظيمة -لا تغضبن، فكلكن "عظميات"-.. ولا مكيف عندها، وربما ضنت عليها المروحة أيضاً!

فاللهم جبراً.


طلبت الغنى في كل وجه فلم أجد *** سبيل الغنى إلا سبيل التعففِ


تخيلوا معي: غلاء المعيشة، مع شح الأعمال وربما عدمها بعضهم!


أقسم بالعظيم.. كم من عزيز لا ينهنه جانبه، ولا يدعس له على طرف، يخبرني على استحياء -بدون استجداء-؛ عن حاجته إلى الطعام، نعم الطعام فحسب!


لبست من الحوادث كل ثوبٍ *** سوى ثوب المذلة والهوانِ


تخبرني إحدى قريباتي المقربة جداً جداً، تقول: والله من أول رمضان، لم نذق إلا ربع دجاجة!


إيه يا فخيمة.. إن ربع دجاجة، لا تباع في بلاد الناس، ولن تجدي من يتحدث بها وعنها.. إنهم يعطونها للقطط، وربما كان نصيب براميل المزابل التي تئط وتغط!


أنا الشقي بأني لا أطيق لكم *** معونة، وصروف الدهر تحتبسُ!


دعوني أقف عند هذه التخيلات -التي لا تفيدكم ولن تعود عليكم بطائل، سوى الحزن، ولا أظنكم تحزنون أو حتى تتوجعون:


ولرحمة المتوجعين مرارة *** في القلب مثل شماتة الأعداء


وإن نفسي قد تأذت، وعيني قد تخدت، ولم أكتب هاته الكلمات، إلا للتروح والترويح، والسلو والتسلي، عما أجد من صبابات ومصابات.

فاللهم فرجاً.


يا إخوتي لم تسعكم بالنوال يدي *** والقلب أوسع للعاني وللجهدِ!



ولا أنس، ذلك اليوم، من أحد الرمضانات الرامضة- الذي عملت في صبحه قليلاً.. وإذا بي ألغب وأتعب وأجشب، وكان الجو حاراً، يسف سمومه السامة على جسدي المنهك .. تمنيت نغبة من ماء قراح، لكن صائم .. طلبت جذوة من هواء ندي بَليل؛ فلم أجده .. ذهبت إلى مسجد بجواري؛ فلم أظفر بطائل .. عدت إلى البيت وأنا فاتح فمي، من اللهث!

ولا أدري، كيف قضيت ذلك اليوم، إلا أني قضيته -والحمد لله-.


لكل شيء مدّة وتنقضي *** ما غلَب الأيام إلا من رضي!


وبعد يوم حديد خديد، من الجهد والكد والجد، والحرور والضمور.. لا تكاد الشمس تزيل للغروب، حتى تشرئب الأفئدة، وتلهث الأفواه؛ فرحاً بالإذن الشرعي للإفطار!


ولعل ما قاله صلى الله عليه وسلم، عن فرحة الصائم عند فطره.. يتحقق تمام الفرح عند أهل اليمن! ومعاذ الله.. أن أخصص العام، لكني أقول ذلك؛ لأن سواهم، ربما جاء المغرب ولا زال مرتوٍ؛ لزوال المشقة، ورفع الجهد!


لا بد للمرء من ضيق ومن سعة *** ومن سرور يوافيه ومن حزن


آخر:

ومن عاش في الدنيا؛ فلا بد أن يرى *** من العيش ما يصفو وما يتكدرُ


رب أرنا وأسمعنا وأعلمنا خيرا..



ومما نحمد الله عليه كثيراً.. أننا مع هذه الشدائد.. فلا تكاد تقع عينك، على مفطر مجاهر- فالناس -جميعاً- صائمون: برجالهم ونسائهم، بل حتى صغارهم!

فاللهم حمداً لك.


والنفس إن صلحت زكت وإذا *** خلت من فطنة، لعبت بها الأهواء


يصدّق هذا.. ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيأتي قوم تحقرون أعمالكم إلى أعمالهم. قلنا: يا رسول الله، أقريش؟  قال: لا، ولكن أهل اليمن).

رواه ابن أبي عاصم في (الآحاد والمثاني: ٤/ ٢٥٧) وصححه شيخنا مقبل الوادعي، في (الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين: ١/ ٣٥٦، رقم: ٤٢٦)



يمانيــون غـير أنا حفـاة *** قد روينا الأمجاد جيلاً فجيلا


قد وطئنا تيجان كسرى وقيصر ***   جدنا صاحب الحضارات حمير



هاته وشلة من وبلة.. أردت بها الأنس والإيناس والاستئناس، والنفس والتنفس والتنفيس، والروح والتروح والارتياح، "قل عسى أن يكون قريباً"



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٨





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق