الجمعة، 20 مارس 2020

تاريخ ابن الساعي.. والاضطراب في اسمه، والزيادة على رسمه!


تاريخ ابن الساعي.. والاضطراب في اسمه، والزيادة على رسمه!


الإمام المؤرخ البارع: تاج الدين، أبو طالب، علي بن أنجب بن عبد الله بن عمار بن عبد الله ابن الساعي البغدادي السلامي الشافعي.

ولد سنة ٥٩٣، كان إماماً حافظاً، فقيهاً بارعاً، مبرزاً على أقرانه، قارئاً بالسبع مؤرخاً شهيراً، متضلعاً في علم الحديث.
هذه خلاصة بعض أوصاف العلماء لابن الساعي.

تسلّم ابن الساعي، وظيفة الخازن في خزانة دار الكتب بالمدرسة المستنصرية، والمدرسة النظامية؛ ولذلك عرف، بـ الخازن.

وكان من نتاج هذه المهنة المهمة؛ أن أخرج لنا تراثاً ضخماً فخماً، في التراجم والسير والأخبار والحوادث.

وبعد حياة حافلة بالعلم والتأليف؛ ألقى عصا التسيار، وفارق دنيا الأغيار، عن إحدى وثمانين سنة، في رمضان المعظم، سنة ٦٧٤، ودفن في مقبر الشونيزي، بالجانب الغربي من بغداد، وهي المقبرة التي كتب عنها مؤلفاً، بعنوان: (

ومما استوقفني من تواليفه، هو تاريخه المهم، الملقب، بـ تاريخ ابن الساعي؛ وذلك للاضطراب في اسمه، والدس فيه، والزيادة عليه، فأردت الإدلاء برشفة من شفة، لعل مليئاً، يدلي بدلاء وطيبة.

وهو تاريخ مهم -كما يذكر القدحات، في تحقيقه له-؛ وذلك لأن مصنفه كان شاهد عيان، لما كانت عليه بغداد قبيل الغزو المغولي وبعده، بل يكاد يكون المصدر الوحيد لكثير من المعلومات، عن الحوادث التاريخية، التي مرّت بها الخلافة العباسية في هذه الحقبة العصيبة من تاريخها، وقد كان مصدراً هاماً، بل يكاد يكون الوحيد الذي استقى جميع المؤرخين الذين جاءوا بعده مادتهم منه، أمثال صاحب، كتاب "الحوادث الجامعة" (وليس هو ابن الفوطي)، والأشرف الغساني، الذي اعتمد اعتماداً كبيراً على تاريخ ابن الساعي في تصنيف كتابه (العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك).

وتاريخ ابن الساعي؛ هو ذيل، لـ (تاريخ بغداد)، للإمام أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي، تـ٥٦٢.

وذيّل على تاريخ ابن الساعي؛ علي بن محمد الكازروني، تـ٦٩٧.

وذيل عليه أيضاً؛ بنحو من ثمانين مجلدة.. تلميذه كمال الدين أبو الفضل عبد الرزاق بن أحمد بن محمد الصابوني، المعروف، بـ ابن الفوطي، تـ٧٢٣، عمله لـ الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني.
ينظر: (شذرات الذهب: ٦/ ٦١).


أقول: وقفت لهذا الكتاب، على أربع نشرات:
الأولى: هي نشرة المطبعة الأميرية ببولاق، سنة ١٣٠٩، وسموه (مختصر أخبار الخلفاء).

وهذا المختصر؛ لا يثبت لابن الساعي، بل هو لرجل من أهل القرن الثامن للهجرة، وليس هو ابن الساعي، -كما ذكر مصطفى جواد، في مقدمة (الجامع المختصر: ف).

ومما يقوي هذا؛ أن محققا كتاب "الدر الثمين في أسماء المصنفين" للمصنف، (أحمد شوقي بنبين - ومحمد سعيد حنشي) لم يذكرا ضمن تصانيفه، التي بلغت عندهم ٦٤ مصنفاً، هذا العنوان (مختصر تاريخ الخلفاء) بل ذكرا (أخبار الخلفاء) وقالا: نسبه إليه حاجي خليفة، فقال: "وهو كبير في ثلاثة مجلدات"، وذكره أيضاً، بعنوان: (مناقب الخلفاء).


وهناك مقال، للأستاذ يوسف الهادي، بعنوان: هل من صلة بين كتاب مختصر أخبار الخلفاء وابن الساعي؟
نشره في (مجلة العرب)، سنة ٢٠١٠.

ويتنبه؛ إلى أن غرضه من هذا المقال؛ إبطال اتصال ابن العلقمي بالمغول!
وقد أثبتت في كتب أخرى.

وذكرت (المختصر) هنا، أنه طبعة من طبعات (تاريخ ابن الساعي)؛ لأني وجدت بعضهم، يعدهما كتاباً واحداً، مثل إليان سركيس، فقد قال: "مختصر أخبار الخلفاء، ويعرف، بتاريخ ابن الساعي، وهو يتضمن تاريخ الخلفاء العباسيين فقط"!
(معجم المطبوعات العربية
والمعربة: ١/ ١١٥).

وقد فرق بين (مختصر أخبار الخلفاء)، و (الجامع المختصر)؛ كرد علي، في (مجلة الرسالة، العدد: ١٣٣).

قلت: وهي مع هذا الوهم؛ فإنها طبعة لا يعتمد عليها؛ فإن أبا الهدى الصيادي المعري، تـ١٣٢٨، قد دَسّ فيها ما يخدم أربه، لا سيما ما يتعلق بـ أحمد الرفاعي، والأنساب، وليس عبثه في هذا الكتاب فحسب، بل طال غيره من الكتب.. مما حدا بالعلامة راغب الطباخ، أن يجعل هذا الكتاب من وضع الصيادي!(١)

وللزيادة، ينظر: (جناية الصيادي على التاريخ: ٦١) وما بعدها، للشيخ عبد الرحمن بن سليمان الشايع.. ففيه فضحه، وكشف زيفه، بأدلة وبراهين.


الثانية: نشر، باسم: (الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير)، نشرها العلامة مصطفى جواد، سنة ١٣٥٣، عن المطبعة السريانية الكاثوليكية في بغداد، على نفقة الأب أنستاس الكرملي.
وزبر على طرته: المجلد التاسع.

وقدم مقدمة، بعنوان (نظم الدولة العباسية)، فاشتملت مقدمته للكتاب ٤٢ صفحة.
ولعل هذه التسمية؛ هي جادة الأمر وأنهجه؛ لما سيأتي.

تنبيه: نسب بعضهم التحقيق، للعلامة جواد علي!
ولا أعلمه حققه، فلعله وهم منهم؛ لتشابه الأسماء.
والله أعلم.


الثالثة: نشر، بعنوان (تاريخ الخلفاء العباسيين) لابن الساعي، تحقيق: عبد الرحيم يوسف الجمل، نشرته: مكتبة الآداب للطباعة والنشر.

ولا أعلم عنها شيئاً؛ لأني لم أجدها مبدأفة (أو قل: منورقة)!
ولكن من خلال التعريف به؛ حدست أن يكون هو هو.
والله أعلم.


والطبعة الرابعة: هي نشرة الدكتور محمد عبد الله القدحات، بعنوان: (تاريخ ابن الساعي - الجزء التاسع) وبذيله: من الضائع من تاريخ ابن الساعي، عن دار الفاروق بالأردن.

ولعلها -والعلم عند الله-؛ أفضل طبعاته من حيث التحقيق حاشا التسمية، وقد سمعت مدحاً لها، وثناء عليها، وإشادة بها.. من خريت الكتب: الدكتور عبد الله البطاطي، في برنامجه الماتع (الخزانة).

وقد توصل الدكتور قدحات؛ إلى أن هذه القطعة، هي الجزء التاسع من (تاريخ ابن الساعي).

ويشك.. أن يكون لابن الساعي، كتاباً، بعنوان (الجامع المختصر)؛ لأن المؤرخين من القرن السابع والثامن، أمثال: تلميذه ابن الفوطي، والذهبي، وابن رجب؛ لم يذكروا له هذا الكتاب ضمن تواليفه.

ويذكر، أن أول من ذكر (الجامع المختصر)، وأشار إلى عنونته هذه.. هو المؤرخ السخاوي، تـ٩٠٢، في (الإعلان بالتوبيخ: ٢٤٢)، بعد أكثر من مائتي سنة من وفاة المؤلف!

قلت: وتبعه، الحاج خليفة، في (كشف الظنون: ١/ ٢٧٨) والبغدادي، في (هدية العارفين: ٥/ ٧١٣) وغيرهما.

ولكن، مما يبطل هذه الأولية؛ هو أن المصنف نفسه، ذكرها في مقدمة كتابه (الدر الثمين: ١) فقال: "ومن عدا هؤلاء؛ فقد ذكروا في كتاب (التاريخ الجامع المختصر) من الحكماء والأطباء والكتاب والبلغاء وغيرهم".

وتسمية المصنف لكتاب من كتابه؛ حسبك به، وإن هو لم يذكر العنوان كاملاً، إلا أنها إشارة بينة.

وقد عد محققا كتاب "الدر الثمين في أسماء المصنفين" (أحمد شوقي بنبين - محمد سعيد حنشي)، للمصنف، ٦٤ مصنفاً، ولم يذكرا فيها، هاته التسمية: (تاريخ ابن الساعي)!
فلعلها جاءت من قبيل التسامح في العناوين، من نسبة التاريخ إلى جامعه دون تسميته العِلمية العَلمية، وهذا مشتهر جداً، لا سيما، التواريخ والتفاسير، حتى أن التسمية الحقيقة للكتاب؛ قد تغيب عن بعض أهل العلم.
وفي تسمية مصنفه له، بـ (التاريخ الجامع المختصر)؛ ما يلمح إلى هذا الملمح.

وقد فرق الحاج خليفة، بين (تاريخ ابن الساعي)، و (الجامع المختصر).
ينظر: (كشف الظنون: ٢٧٨ - ٥٧٣)! وقد تقدم معك ما ينافيه.

ثم يفترض الدكتور.. بأنه حتى لو أن لابن الساعي، كتاباً بهذا العنوان؛ فإن هذه القطعة ليست منه؛ لأنها، لا تتناسب مع التاريخ، وتتنافى مع الاختصار؛ إذ أن القطعة، تبلغ أوراقها ٣٦٠ ورقة، تغطي الفترة الواقعة، بين ٥٩٥ - ٦٠٦، يعني: عشر سنوات تامة -كما يذكر العلامة محمد كرد علي، في مقاله عن ابن الساعي، في (المقتبس: ٣/ ٩٣)-، وهذا طول في التاريخ، لا يتناسب مع الاختصار!

أقول: ليس شرطاً لازباً، أو قاعدة مطردة- تصلح أن تكون دليلاً قاطعاً، وحكماً فاصلاً؛ لأن هناك مصنفات، لقبت، أنها: مختصرات، وفيها طول بيّن، فمثلاً: (مختصر شرح الروضة) للطوفي، ناف على أصله (روضة الناظر) لابن قدامة، و (سبل السلام) للصنعاني، ناهز أصله (البدر التمام) للمغربي، و (تفسير البغوي) قارب أصله (تفسير الثعلبي) وغيرها كثير.

بل إن قول ابن الساعي: "ومن عدا هؤلاء؛ فقد ذكروا في كتاب (التاريخ الجامع المختصر) من الحكماء والأطباء والكتاب والبلغاء وغيرهم".. إيحاء أنه كتاب كبير؛ لما يحويه من تراجم شتى للحكماء والأطباء والكتاب والبلغاء.. فهذا يدل على شمول.
وكلمة (الجامع) واضحة الدلالة على الكبر والعظم والسعة، ولعل كلمة (المختصر)؛ أنه مختصر بالنسبة لغيره من المطولات، لا سيما تواريخ بغداد وذيولها الكثيرة الغزيرة، -وقد كان مغرى بها-.
أو ان ذلك؛ للتواضع والاعتراف -على عادة بعض العلماء في ذلك-.
والله أعلم.


ويرى الدكتور.. أن العبارة المرسومة على طرة المخطوطة (الجزء التاسع من الجامع المختصر، للخازن)؛ عبارة مقحمة، كتبت بخط مغاير؛ متوقعاً، أن أحد المتملكين هو الذي أقحمها وأدرجها، وهذا ليس بغريب على تراثنا!

أقول: وإن كانت مقحمة، فلا يصح دليلاً، بعد أن عرفت نص المصنف على تسميته بذلك.
ولا يستغرب إقحامها؛ لأن الأصل، أن يكون العنوان في طرة الكتاب، أو في غرة كل مجلد، وقد تكون هناك خروم في أول المجلد، ذهبت بالعنوان، فلما وقف على هذه القطعة، أثبت الناسخ أو غيره، العنوان الحقيقي للكتاب، في أعلى الصفحة.
والله أعلم.

ثم ذكر قدحات.. الأسباب التي دفعته إلى تحقيق الكتاب ونشره، ومنها:
أ) أنه بعد مطالعة المخطوط ومقارنته مع ما طبع؛ وجد كثير من السقط، سواء في الكلمات، وحتى فقرات بكاملها، كما أن هناك كثيراً من التصحيف ورد في النسخة المطبوعة، إضافة إلى ذلك قام الدكتور جواد بإضافة نصوص كثيرة للنص الأصلي، كان هدفه محاولة سد النقص الناجم عن سقوط بعض ورقات من الكتاب، وبعد الاطلاع على هذه النصوص المضافة.. نجد أن غالبها لا داعي لها؛ لأنها ليست من المخطوط، ولا يمكن الركون إلى أنها هي عين ما سقط، أو ما يشبهه، وفي الوقت نفسه: قام الباحث، بإثبات بعضها، وخاصة تلك التي تكمل بعض التراجم بعد مقارنتها بنصوص المصادر الأخرى المعاصرة.

ب) أهمية هذه الفترة من تاريخ الخلافة العباسية، وقلة المصادر التاريخية التي تناولتها؛ كانت دافعاً آخر للباحث؛ ليقوم بتحقيق الكتاب من جديد، خاصة أن النسخة المطبوعة صارت نادرة كنُدْرة مخطوطته، فقد مضى على نشرها أكثر من سبعين عاماً.
ينظر: مقدمة (تاريخ ابن الساعي: ث).

هذا ما أردت تقييده وتعضيده؛ للفائدة والعائدة، وأرجو أن أكون وفقت للصواب، وإلى الله المرجع والمآب.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي.
ليلة الجمعة ١٤٤١/٧/٢٥.



ح...............
(١) تنبيه: أضاف إليه في بعض طبعاته، كتاب (غاية الاختصار في ذكر البيوتات العلوية المحفوظة من الغبار) لـ تاج الدين بن محمد بن حمزة المعروف، بـ ابن زُهرة الفوعي النسابة، تـ٩٢٧.

ونبه بعضهم، فقال: قال المحققون المتثبتون من علماء النسب: إن هذا الكتاب، لا يثبت للمؤلف المذكور، وإنما هو منتحل عليه..
وقد نبّه جمع من الباحثين، والنسابين، والمؤرخين على ذلك، منهم: شيخ حلب وعلامتها الشيخ محمد راغب الطباخ، في كتابه (إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء)، وإليان سركيس، في كتابه (معجم المطبوعات العربية)، والعلامة السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان النجفي، في مقدمة تحقيقه لـ (منتقلة الطالبية)، والعلامة السيد علاء بن عبد العزيز الموسوي الدمشقي النسابة، في أكثر من موضع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق