شَأْنٌ أمِيْن.. عن المحقق العُثَيْمِين!
العذر في إبراز هاته الحكاية وأمثالها؛ هو عيشنا في هذا الزمن الصعب، الذي قلّت فيه الأمانة، وندت الصيانة، حتى من بعض مَن هو على العلم محسوب، وفي دفتر الفقهين مكتوب!
فأفردتها مع تعليق؛ لعل فيها اقتداء واحتذاء، لأولي الهدى والاهتداء.
يقول العلامة المحقق المتقن: أبو سليمان عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، تـ١٤٣٦: جاءني رجل من الشام، وأنا في مركز البحوث، فعرض علي مخطوطات وكتباً نادرة، بـ مئتي ألف ريال، فقلت له دعها هنا، وغداً تأتي؛ لأعطيك الخبر: هل تناسبنا أم لا؟
ثم قلّبتها، فوجدت فيها مخطوطة نادرة (المختار في علل النحو) لابن كيسان؛ ففرحت بها، ولم أرَ في بقية المخطوطات شيئاً ذا بال.
ولما جاءني من الغد، قلت له: نريد مخطوطة (المختار في علل النحو) لابن كيسان، بعشرين ألف ريال؟ فقال: لا، أريد بيعها جميعاً!
فقلت له: الجامعة، لا تريد إلا هذا المخطوط، لكنه رفض إلا أن يبيعها جميعاً، بمئتي ألف ريال، ثم خرج ولم يعُد.
فقلت -التويجري- للشيخ: لِمَ لمْ تُصوّر هذه النسخة النادرة؟ فردّ علي غاضباً: تريد أن أخون الأمانة.. رجل استأمنني على أشيائه، ثم أقوم بتصويرها- هذا لا يمكن أن أفعله!
المرجع: مقال (تعذر في رحيلك ما أقول)!
للأستاذ عبد الوهاب التويجري.
ضمن كتاب (الفوائد المنتقاة: ٥٨).
قال أبو نعيم -كان الله له ومعه-: رحمك الله أبا سليمان، ما أورعك وأروعك، وأخشاك لله وأضرعك!
وهذه هي المراقبة الحق، والنزاهة الصدق، التي تخلى عنها بعض من لا خلاق له، وخلع جلبابها من لا مروؤة له!
أقول: وفي الحادثة دلالة، على صدق الرجل (البائع) وأمانته؛ فلولا أنه أمين، لما ائتمن غيره على سلعة، تقدر، بـ مائتي ألف ريال!
وهذه حقيقة؛ فإن الخائن، يخوّن غيره، ولا يكاد يأمن أحداً، بل هو دائم الشك في كل أحد، حتى في نفسه! فالناس منه في عناء، وهو من نفسه في شقاء.
وهكذا، كل صاحب ذنب وذم، لا يزال في توجس وتخوف من غيره!
وصدق المتنبي، في قيله:
إذا ساء فعل المرء؛ ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهمِ
ولكن، لا غرابة في الأمر، إذا كان الأمر، كما صوّره الشاعر:
العين تبدي الذي في قلب صاحبها *** من الشَّناءة أو حب إذا كانا
إنّ البغيض له عين تُكشِّفهُ *** لا تستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صامتةٌ *** حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
وقول الآخر:
وعين الفتى تبدي الذي في ضميره *** ويعرف بالفحوى الحديث المغمس
وبالجملة؛ فإن هذه القصة، تدلنا على عَلم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه).. وبيان ذلك، هو: كيف وثق البائع بالمشتري، وكيف كان المشتري عند حسن الثقة؟
ولم يخطر ببال البائع قط، أن الشيخ صوّر شيئاً من مخطوطاته، وإلا، لكان رضي ببيع مخطوط واحد!
وهذا في زمن قريب من زمننا، ربما يفصلنا عنه بعض عقود فقط!
وانظروا اليوم، كيف الأمانة بين الناس، بل بين أصحاب المخطوطات والكتب.. لا يكاد أحد يثق بأحد!
وما نسمعه من جرائم الغش، وبوائق الخداع، وشناعة المكر، وفداحة الزور، في هذا الباب؛ غطى على الفضائل، وغشى على الفواضل!
حاشا، فئة قليلة، لا زالت تركب هذا المركب الآمن المريح المليح، فتعامل الناس بالصدق والأمانة، ولا تبال لو تعمل وحدها!
والقارئ في حديث حذيفة؛ يرى انطباقه اليوم على زمننا، وبعض أبنائه..
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر.. حدثنا: أن الأمانة، نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن؛ فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة.
ثم حدثنا: عن رفع الأمانة، فقال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام نومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفطت، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة، فدحرجها على رجله، قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان!
قال: ولقد أتى علي زمان، وما أبالي أيكم بايعت فيه، لئن كان مسلماً ليردنه علي دينه، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً، ليردنه علي ساعيه.. فأما اليوم، فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلانا)! رواه البخاري ومسلم.
قال ابن بطال: "هذا الحديث من أعلام النبوة؛ لأنّ فيه الإخبار عن فساد أديان الناس، وقلة أمانتهم في آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل؛ كونه إلا من طريق الوحي".
(شرح البخاري: ١٠/ ٣٨) لابن بطال.
وقال ابن عثيمين (ابن عم العثيمين): "ولقد شاهد الناس اليوم، مصداق هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنك تستعرض الناس رجلاً رجلاً، تبلغ إلى حد المائة أو المئات، لا تجد الرجل الأمين الذي أدى الأمانة كما ينبغي في حق الله، ولا في حق الناس".
ينظر: (شرح رياض الصالحين: ١/ ٥٢٢، رقم: ٢٠٠).
أقول: وقد يخطئ الإنسان؛ لتخلي العصمة عنه، وضعف النفس منه، ولكن من يرد الله به خيراً؛ جعله سريع النزوع، صديع الرجوع؛ لأنه يخشى الله، والدار الآخرة، "قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم".
وهذا ما وقع لصاحبنا المحقق الفذ الأمين: عبد الرحمن العثيمين.. فقد حدث عنه تلميذه الأستاذ محمد بن سليمان القبيل، أنه: في عام ١٣٩٧هـ وفي إحدى رحلاته (أي: العثيمين) إلى تركيا، وقعت بين يديه مصادفة، مخطوطة نادرة لكتاب (المنتخب من شيوخ بغداد) لأبي حيان الأندلسي، بخط مؤلفه، وقد أراد التحايل على حارس المكتبة بتصويرها خارج المكتبة مستغلاً نومه، فلما خرج بها، ووصل إلى محل التصوير، ندم على فعله،(١) وعاد بها، ووضعها في مكانها، ثم إنه عاد مرة أخرى؛ للبحث عنها، فلم يجدها، وحاول مراراً وتكراراً، وأوصى بها كثيراً من عارفيه في تركيا، ولم يجد نفعاً، فلما كان عام ١٤٣٤هـ، زاره في منزله في عنيزة طالب علم مصري يدعى: عبد العاطي شرقاوي، وهو معلم في الإمارات، فجرى نقاش بينهما حول المخطوطات، فقال شيخنا: ما ندمت في حياتي، ندمي على مخطوطة أبي حيان، فقام الرجل، وفتح حقيبته التي معه، وأحضر صورة منها. وقد رأيتها بنفسي.(٢)
أقول: تالله، إن هذا هو الخوف والوجل، والعلم المصدِّق للعمل، وهو: حجزك عن فعل السوء والسيئ.
ولعمري، إن هذا لموقف شريف، وموطن عزيز، يرفع من شأن أبي سليمان، ويكبر قدره؛ لأمرين:
-الأول: تحدثه بهذا الموقف في موقف بلا غضاضة، ولعله بهذا؛ يعطي درساً للسامعين، في الخوف من الله سبحانه، ومراقبته جل وعلا، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين.
-الثاني: سرعة فيئه، وعجلة نزعه، عن استزلال الشيطان، واسترسال النفس، فكان في هذا إرغاماً لهما حتى الرغام!
ونحن، هل آن لنا، أن نأخذ هذه الدروس من هؤلاء الأكابر، في الصدق والمراقبة، وقول الحق بلا مواربة، أم لا تزال هناك غمغمة وعمعمة؟!
"غفرانك ربنا وإليك المصير".
نسأل الله تعالى.. أن يستعملنا في طاعته، ونضرع إليه جل وعلا.. أن يجعلنا من الآمنين المؤْمنين المؤَمَنين المؤَمِنين المؤتمِنين المؤتمَنين، وأن يبعد عنا أهل الغدر والخيانة، وسيئي البطانة، إن ربي على كل شيء قدير، "نعم المولى ونعم النصير".
وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤١/٧/٨
ح................
(١) وفي رواية الدكتور محمد الفريح، قال: إذ عرض لي التفكير في عملي، وصرت أخاطب نفسي بلا كلام، يا أبا سليمان، تركت أهلك أكثر من شهرين، وتحملت التعب والنصب، وكابدت السفر ومشاقه، وآخرتها تفعل ذلك.
(٢) ينظر:
-مقال (تقييدات وحكايات من رحلة العثيمين مع المخطوطات)، للأستاذ محمد بن سليمان القبيل.
-ومقال (الدكتور عبدالرحمن العثيمين -رحمه الله- فقيد المخطوطات وشيخ المحققين)، للدكتور محمد بن فهد الفريح.
-ومقال (نفح العبير من لقاء الشيخين: العثيمين والخضير)، للأستاذ تميم بن عبدالعزيز القاضي.
ضمن (الفوائد المنتقاة: ٢٨ - ٧٤ - ٨٨).
العذر في إبراز هاته الحكاية وأمثالها؛ هو عيشنا في هذا الزمن الصعب، الذي قلّت فيه الأمانة، وندت الصيانة، حتى من بعض مَن هو على العلم محسوب، وفي دفتر الفقهين مكتوب!
فأفردتها مع تعليق؛ لعل فيها اقتداء واحتذاء، لأولي الهدى والاهتداء.
يقول العلامة المحقق المتقن: أبو سليمان عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، تـ١٤٣٦: جاءني رجل من الشام، وأنا في مركز البحوث، فعرض علي مخطوطات وكتباً نادرة، بـ مئتي ألف ريال، فقلت له دعها هنا، وغداً تأتي؛ لأعطيك الخبر: هل تناسبنا أم لا؟
ثم قلّبتها، فوجدت فيها مخطوطة نادرة (المختار في علل النحو) لابن كيسان؛ ففرحت بها، ولم أرَ في بقية المخطوطات شيئاً ذا بال.
ولما جاءني من الغد، قلت له: نريد مخطوطة (المختار في علل النحو) لابن كيسان، بعشرين ألف ريال؟ فقال: لا، أريد بيعها جميعاً!
فقلت له: الجامعة، لا تريد إلا هذا المخطوط، لكنه رفض إلا أن يبيعها جميعاً، بمئتي ألف ريال، ثم خرج ولم يعُد.
فقلت -التويجري- للشيخ: لِمَ لمْ تُصوّر هذه النسخة النادرة؟ فردّ علي غاضباً: تريد أن أخون الأمانة.. رجل استأمنني على أشيائه، ثم أقوم بتصويرها- هذا لا يمكن أن أفعله!
المرجع: مقال (تعذر في رحيلك ما أقول)!
للأستاذ عبد الوهاب التويجري.
ضمن كتاب (الفوائد المنتقاة: ٥٨).
قال أبو نعيم -كان الله له ومعه-: رحمك الله أبا سليمان، ما أورعك وأروعك، وأخشاك لله وأضرعك!
وهذه هي المراقبة الحق، والنزاهة الصدق، التي تخلى عنها بعض من لا خلاق له، وخلع جلبابها من لا مروؤة له!
أقول: وفي الحادثة دلالة، على صدق الرجل (البائع) وأمانته؛ فلولا أنه أمين، لما ائتمن غيره على سلعة، تقدر، بـ مائتي ألف ريال!
وهذه حقيقة؛ فإن الخائن، يخوّن غيره، ولا يكاد يأمن أحداً، بل هو دائم الشك في كل أحد، حتى في نفسه! فالناس منه في عناء، وهو من نفسه في شقاء.
وهكذا، كل صاحب ذنب وذم، لا يزال في توجس وتخوف من غيره!
وصدق المتنبي، في قيله:
إذا ساء فعل المرء؛ ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهمِ
ولكن، لا غرابة في الأمر، إذا كان الأمر، كما صوّره الشاعر:
العين تبدي الذي في قلب صاحبها *** من الشَّناءة أو حب إذا كانا
إنّ البغيض له عين تُكشِّفهُ *** لا تستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صامتةٌ *** حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
وقول الآخر:
وعين الفتى تبدي الذي في ضميره *** ويعرف بالفحوى الحديث المغمس
وبالجملة؛ فإن هذه القصة، تدلنا على عَلم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه).. وبيان ذلك، هو: كيف وثق البائع بالمشتري، وكيف كان المشتري عند حسن الثقة؟
ولم يخطر ببال البائع قط، أن الشيخ صوّر شيئاً من مخطوطاته، وإلا، لكان رضي ببيع مخطوط واحد!
وهذا في زمن قريب من زمننا، ربما يفصلنا عنه بعض عقود فقط!
وانظروا اليوم، كيف الأمانة بين الناس، بل بين أصحاب المخطوطات والكتب.. لا يكاد أحد يثق بأحد!
وما نسمعه من جرائم الغش، وبوائق الخداع، وشناعة المكر، وفداحة الزور، في هذا الباب؛ غطى على الفضائل، وغشى على الفواضل!
حاشا، فئة قليلة، لا زالت تركب هذا المركب الآمن المريح المليح، فتعامل الناس بالصدق والأمانة، ولا تبال لو تعمل وحدها!
والقارئ في حديث حذيفة؛ يرى انطباقه اليوم على زمننا، وبعض أبنائه..
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر.. حدثنا: أن الأمانة، نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن؛ فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة.
ثم حدثنا: عن رفع الأمانة، فقال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام نومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفطت، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة، فدحرجها على رجله، قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان!
قال: ولقد أتى علي زمان، وما أبالي أيكم بايعت فيه، لئن كان مسلماً ليردنه علي دينه، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً، ليردنه علي ساعيه.. فأما اليوم، فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلانا)! رواه البخاري ومسلم.
قال ابن بطال: "هذا الحديث من أعلام النبوة؛ لأنّ فيه الإخبار عن فساد أديان الناس، وقلة أمانتهم في آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل؛ كونه إلا من طريق الوحي".
(شرح البخاري: ١٠/ ٣٨) لابن بطال.
وقال ابن عثيمين (ابن عم العثيمين): "ولقد شاهد الناس اليوم، مصداق هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنك تستعرض الناس رجلاً رجلاً، تبلغ إلى حد المائة أو المئات، لا تجد الرجل الأمين الذي أدى الأمانة كما ينبغي في حق الله، ولا في حق الناس".
ينظر: (شرح رياض الصالحين: ١/ ٥٢٢، رقم: ٢٠٠).
أقول: وقد يخطئ الإنسان؛ لتخلي العصمة عنه، وضعف النفس منه، ولكن من يرد الله به خيراً؛ جعله سريع النزوع، صديع الرجوع؛ لأنه يخشى الله، والدار الآخرة، "قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم".
وهذا ما وقع لصاحبنا المحقق الفذ الأمين: عبد الرحمن العثيمين.. فقد حدث عنه تلميذه الأستاذ محمد بن سليمان القبيل، أنه: في عام ١٣٩٧هـ وفي إحدى رحلاته (أي: العثيمين) إلى تركيا، وقعت بين يديه مصادفة، مخطوطة نادرة لكتاب (المنتخب من شيوخ بغداد) لأبي حيان الأندلسي، بخط مؤلفه، وقد أراد التحايل على حارس المكتبة بتصويرها خارج المكتبة مستغلاً نومه، فلما خرج بها، ووصل إلى محل التصوير، ندم على فعله،(١) وعاد بها، ووضعها في مكانها، ثم إنه عاد مرة أخرى؛ للبحث عنها، فلم يجدها، وحاول مراراً وتكراراً، وأوصى بها كثيراً من عارفيه في تركيا، ولم يجد نفعاً، فلما كان عام ١٤٣٤هـ، زاره في منزله في عنيزة طالب علم مصري يدعى: عبد العاطي شرقاوي، وهو معلم في الإمارات، فجرى نقاش بينهما حول المخطوطات، فقال شيخنا: ما ندمت في حياتي، ندمي على مخطوطة أبي حيان، فقام الرجل، وفتح حقيبته التي معه، وأحضر صورة منها. وقد رأيتها بنفسي.(٢)
أقول: تالله، إن هذا هو الخوف والوجل، والعلم المصدِّق للعمل، وهو: حجزك عن فعل السوء والسيئ.
ولعمري، إن هذا لموقف شريف، وموطن عزيز، يرفع من شأن أبي سليمان، ويكبر قدره؛ لأمرين:
-الأول: تحدثه بهذا الموقف في موقف بلا غضاضة، ولعله بهذا؛ يعطي درساً للسامعين، في الخوف من الله سبحانه، ومراقبته جل وعلا، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين.
-الثاني: سرعة فيئه، وعجلة نزعه، عن استزلال الشيطان، واسترسال النفس، فكان في هذا إرغاماً لهما حتى الرغام!
ونحن، هل آن لنا، أن نأخذ هذه الدروس من هؤلاء الأكابر، في الصدق والمراقبة، وقول الحق بلا مواربة، أم لا تزال هناك غمغمة وعمعمة؟!
"غفرانك ربنا وإليك المصير".
نسأل الله تعالى.. أن يستعملنا في طاعته، ونضرع إليه جل وعلا.. أن يجعلنا من الآمنين المؤْمنين المؤَمَنين المؤَمِنين المؤتمِنين المؤتمَنين، وأن يبعد عنا أهل الغدر والخيانة، وسيئي البطانة، إن ربي على كل شيء قدير، "نعم المولى ونعم النصير".
وكتب: وليد أبو نعيم.
١٤٤١/٧/٨
ح................
(١) وفي رواية الدكتور محمد الفريح، قال: إذ عرض لي التفكير في عملي، وصرت أخاطب نفسي بلا كلام، يا أبا سليمان، تركت أهلك أكثر من شهرين، وتحملت التعب والنصب، وكابدت السفر ومشاقه، وآخرتها تفعل ذلك.
(٢) ينظر:
-مقال (تقييدات وحكايات من رحلة العثيمين مع المخطوطات)، للأستاذ محمد بن سليمان القبيل.
-ومقال (الدكتور عبدالرحمن العثيمين -رحمه الله- فقيد المخطوطات وشيخ المحققين)، للدكتور محمد بن فهد الفريح.
-ومقال (نفح العبير من لقاء الشيخين: العثيمين والخضير)، للأستاذ تميم بن عبدالعزيز القاضي.
ضمن (الفوائد المنتقاة: ٢٨ - ٧٤ - ٨٨).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق