السبت، 15 يناير 2022

"الـرسـالـة تـحـتـجـب"!

"الـرسـالـة تـحـتـجـب"!


هذا عنوان مقالة، للأديب الأريب أحمد حسن الزيات، في مجلته الباذخة "الرسالة" العدد (١٠٢٥)- بتاريخ: ١٩٥٣/٢/٢٣م، -وهو آخر أعدادها- يعلن فيه، عن توقف "الرسالة" بعد عشرين سنة من عمرها القصير الطويل!


لا أدري، كيف تلقى أدباء وشعراء وقراء "الرسالة" في ذلك الوقت، هذه الجملة المُمضة: "الرسالة تحتجب" وقد كانت سافرة لمحارمها الغيورين، يمسونها ويحسونها ويجسونها ويلمسونها، ويثاقفونها ويثافنونها!


كانت "الرسالة" أثيرة لديهم، وعزيزة عليهم، يتلقفها المثقفون في أنحاء المعمورة، بشغف وشوق؛ لأنهم يجدون فيها ضالتهم، فيملؤون عيبتهم، من جمال اللفظ، ورصانة المعنى، ورواء الديباجة، ورواية الأخبار، وجديد الكتب، وطريف المناظرات، وشائك المعارك، وشائق التعارف والمعارف.


إني الآن في عام ١٤٤٣، أجد مرارة هاته العبارة في لساني، بل ووخزها في صدري، وضجيجها في أذني؛ لما في انقطاعها من فديح الخسار، وشديد الغبن!


كان يؤمَّل أن تكون "الرسالة".. راوية روية، ومزادة لا تنضب، ولكن كما قال صاحبها: "القضاء غالب، والرجاء في الله أَولى، ولكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب، ولكل بداية نهاية"!


إيه لهذه المادة، المنزوية عن ربّان المعارف، وأرباب العوارف، التي لا تزال إلى اليوم -ولن تزول عن القوم -أديلت وأزيلت- حجر عثرة في طريق المجد، ودرب الأماجد!


إن الزيات.. أغلقها على مضض وعضض، ولكن ماذا يفعل، وقد تغصص الخسارات، وتجرع المرارات -ودعك ما يرمى به من الشح والبخل.. فإن البعض يتخذ التدابير، بخلاً بل هو عند هذا الزاعم، أبخل البخل-! حتى إذا عجز دون يأس الأديب الطلعة.. أذاع الحجب، وأعلن الاحتجاب وكان بوسع أولي الأمر والسعة.. أن يسعوا إلى هذه المليحة، بالظهور أمام محارمها، لكنهم أبوا إلا إغضابها واحتجابها؛ لتبدوا القبيحة، سافرة بين العالمين، لا ترد يد لامِس!


إني لأعدّ احتجاب "الرسالة" الراسلة، وإجذاب روادها وإغضابهم؛ من قطع السبيل، وقفل الدروب، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير!

لكن، لا بد من النهاية!


على أني لا أبرئها من كل غبش، ولا أنزهها عن الدلس، فقد كان فيها بعض ما يقذي، ونزراً مما يشوك ويؤذي، من شهر بعض الأفكار المشكّكة، والألفاظ المُوهمة، ونشر معان غير ذات قيمة، وكانت تنشر؛ زعم تداول الآراء المخالفة، والنشر حق للجميع، ومن أراد الرد، فـ "الرسالة" تستقبل ذلك دون غضاضة -وقد كان من ذلك كثيراً؛ لذلك وفرَت معاركها واحتدمت- على أن قلم الزيات، كان يتناول بعض الشوك بالخضذ، فيقطع ما ينبو عنه الطبع، ويبضع ما يمجه السمع، لكن بعضه شوكه لم يحز ويجز؛ لغياب الزيات، أو أسباب أخرى!


وعلى كل، فـ "الرسالة" من خير ما خرج للناس في دنيا المجلات، حينذاك، في مجلات سواها، سفلت وهبطت حتى لامست الأرض، بل حفرت لها أخاديد حتى باتت تعشعش مع الشياطين؛ فصوّرت الصور الفاضحة، من: عري ورقص وخلط وخلوة وشهوة. ونشرت المقالات الصاخبة، من: كفر وفسق وعهر ومجون وتهتك.


احتجبت الرسالة، وهي في العشرين من سني عمرها القصير الأثير، فقد وُلدت في ١٥ يناير سنة ١٩٣٣، ووئدت في ٢٣ فبراير سنة ١٩٥٣م


وقد حاول يوسف السباعي، في سنة ١٩٥٤م، إحياء المحتضرة، في "الرسالة الجديدة" لكنها لم تفق إلا فويقات، ثم عادت إلى حالها!


وكأنهم لم يصدّقوا احتضارها.. فلجأت وزارة الثقافة، في عام ١٩٦٣م، إنعاشها، لكنها كانت في النزع الأخير، فلم يحظوا منها إلا بإبلال لا يبل، حتى كانت سنة ١٩٦٥م فرقدت رقدتها الأخيرة دون حراك ولا انبعاث!


وكأني بالمحتضرة، كانت تقول:

ولما دنا مني السياق تعطّفت *** علي، وعندي من تعطفها شغلُ


أتت وحياض الموت بيني وبينها *** وجادت بوصل حين لا ينفع الوصلُ


أين كنتم عني، حين علمتم بآلامي.. كيف أهملتموني وقد دريتم أوصابي.. لماذا تركتموني وقد تفاقمت أوجاعي؟!

ألآن، بعد أن رقّ العظم، ويبس الجلد، وجف الريق، ووهنت القوى.. هلاّ واسيتموني وآسيتموني؟!


احتجبت، أو قل: وُوريت "الرسالة"عن ألف عدد ونيف، فيه مآثر ملأت الدفاتر، وخواطر تسر الخواطر، ومعارك أدبية تضج، ونقاشات فكرية تعج، ومقالات أثرية تروى وتروي، وروايات وأقصوصات ومسرحيات، وأمور أخرى يدريها من طالع "الرسالة"، التي كانت بحق "رسالة الأدب" إلى شت البقاع، وشتيت الرفاق!


وكأني بكارعي المعرفة، وناهلي التراث، وهم يتأوهون بل ويعولون، ولكنهم، في عجز عن الإبراء والإبداء، فـ"القضاء غالب، والرجاء في الله أَولى، ولكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب، ولكل بداية نهاية"!

وفي الله خلف عن كل فائت.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

 ١٤٤٣/٢/٢


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق