الخميس، 13 يناير 2022

بين الصغيرين الكبيرين: حافظ وحسن!

 بين الصغيرين الكبيرين: حافظ وحسن!



جذبني عنوان كتيب صغير "شجو الفراق"؛ فبدأت قراءته، مقلبّاً صفحاته، طاوياً أوراقه، وإذا بي أفجأ بالمترجَم، وشخصيته الفذة العبقرية، في: ذكاء ذهنه، ووثوب همته، وجآشة قلبه، وحسن خلقه، ونفاسة نفسه، وضنانة وقته، وتلهب فكره، وقرض شعره، وجودة بيانه.. كل ذلك؛ محاولاً وصول العلياء، والتربع حول هالات القمر، ومسامرة الجوزاء!


تالله، لقد أحببته وشجيته، كأنه خلّي المقرَّب، وحبي المحبب، وكأني به عارف، وله خابر وسابر!

وفي الحديث (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) فقد ألِفَته روحي فور قراءتي عنه.


وتذكرت حينها، بلديّه أو قريب بلدته، العلامة الحافظ: حافظ بن أحمد الحكمي، المولود في عام ١٣٤٢، والمتوفى سنة ١٣٧٧؛ عن ٣٥ سنة فقط!


وقد ترك وراءه إرثاً عظيماً، وعلماً عميماً في شتى الفنون والعلوم، بل صارت بعض كتبه؛ سُلّماً للدراسة.

كـ منظومة "سلّم الوصول" التي نظمها في العشرين من عمره، في ٣٠٠ بيت تنقص قليلاً، ثم شرحها بشرح عجيب وهو في الخامسة والعشرين!

وكتاب "٢٠٠ سؤال وجواب في العقيدة" وغيرهما من متون العلم المتينة.


وقد بدَت مخايل الذكاء عليه، وهو غر صغير، حيث ذهب أخوه (محمد) إلى الشيخ المصلح عبد الله القرعاوي؛ لاستعارة كتب لأخيه (حافظ) وكان حافظ قد أرسل معه خطاباً جميلاً: خطاً، ومضموناً، وضمّنه بيتين مِن نَظْمه، -وكان حينها في الـ ١٦ من عمره-!:


إنّ الذي رقم الكتاب بكفّهِ *** يُقْري السلام على الذي يقراهُ


وعلى الذي يقراه ألف تحيّة *** مقرونة بالمسك حينَ يراهُ 


فلما قرأ الشيخ القرعاوي، الكتابَ؛ تعجّب، وأخذ يُقلّبه، ويُردّد: بالله؛ هذه كتابة راعي غنم؟!


ثم زارهم إلى قريتهم، ولما رأى الفتى؛ أعجب به، وعزم المكوث في القرية لأجله!

فبقي أياماً هناك حتى ألحّ كبار طلاّبه على الشيخ بالرجوع، فرجع، وبقي حافظ مع والديه، ولا زال الشيخ بوالد الفتى الفتي "حافظ"؛ حتى أذن له بالذهاب إلى الشيخ، فذهب، ودرس حتى مهر وبهر، وصار يدرّس في جانب، بجوار شيخه!

وهكذا، إلى أن صار للعلوم هاضماً،  وللمتون حافظاً، يشار إليه بالبنان، وتلهج بذكره اللسان.


ومن أخباره: أنه رأى في صغره "لامية الأفعال" لابن مالك؛ فحفظها، وهو لا يعي ما فيها ولا يدريها، وإنما ليتميز على قرنائه في الرعي!

ومعلوم صعب أبياتها، وعسر كلماتها؛ حتى أن بعضهم يحفظ ألفية ابن مالك في النحو، ولا يسطيع حفظ لاميته!


حتى نمي إلي.. أن الشيخ عبد العزيز ابن باز، قال ما معناه: لو كان حافظ حياً؛ لما تركنا الفتيا إلا له!

هذه نتف عن حافظ.


وهذا الشيخ الصغير الكبير حسن بن جابر الفيفي -الذي وضعت له الترجمة-.. كان يحذو حذو حافظ، ويسير على منواله، لولا أن الحكيم سبحانه؛ أراد قبضه إليه، واستئثاره لديه، ولله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"


ووالله، لقد  قرأت خلال حروفه: الصدق والصراحة، والوفاء والسماحة، والجمال والملاحة..


وكنت أقرأ نثره وشعره ووصفه؛ وأتعجب، وأقول: أهذه عبقرة، شاب في العشرين من عمره؟!


يتكلم الفصحى، ويجيد الإنجليزية، ويقرض الشعر، ويشارك الأدب، ويخبُر الرمي، ويسبر العدَو، ويعين غيره على الخير..


بالله إنها لصفات عزيزة الوجود اليوم في مثل عمره، بل ربما نزرة ندرة فيمن يكبره، ولكن "والله يختص برحمته من يشاء".


حتى قرناءه وزملاءه؛ تلمس الفصحى تنساب بين أناملهم، تنطق بها أفواههم؛ فجزالة لفظ، وغزارة معنى، وسبك وحبك، وهم في أسنانه، وما ذاك إلا: أن في الزوايا خبايا، وفي الشباب بقايا.. ولكنهم بحاجة إلى رعاية وصيانة، وتنمية وتربية، وتهذيب وتشذيب، وبعدها: تجنى الثمرة الناضجة اليانعة.


وذكّرني -هؤلاء- أشياخ العلم، صغار الأسنان؛ بالعلامة أبي القاسم ابن الحافظ قوام السنة الأصبهاني، الذي صار إماماً في حياة أبيه، وكان أبوه يقدّمه على نفسه في اللغة، وجريان اللسان، وله تصانيف كثيرة مع صغر سنه، إلا أن المنية وافته بهمذان سنة ٥٢٦ وقد ولد سنة ٥٠٠، عن ٢٦ سنة!


وفي يوم موته؛ جدّد والده الوضوء نحو ثلاثين مرة، ويصلي مع كل تجديد، ركعتين.


وهكذا هم أسلافنا؛ حرصوا على أبنائهم، وأحضروهم إلى مجالس السماع وهم في مهدهم، وكتبوا في المحاضر "حضر فلان" لمن كان دون الخامسة، و"سمع فلان" لمن كان فوق الخامسة، حتى إذا اشتدّ عودهم، واستد ساعدهم؛ كانوا هم المحدثين، أصحاب العلو، فألحقوا الأحفاد بالأجداد، والأصاغر بالأكابر، كما حصل للجلال السيوطي؛ فقد أحضره والده إلى مجلس سماع، وهو رضيع أو لا زال في الحبو! وصار يفخر بهذا بين لداته وأترابه!


وهذا أبو بكر بن عياش، يقول: كنا عند اﻷعمش، ونحن حوله نكتب الحديث، فمرّ به رجل، فقال: يا أبا محمد، ما هؤلاء الصبيان حولك؟ قال: هؤلاء الذين يحفظون عليك دينك!

أخرجه الرامهرمزي، في (المحدث الفاصل: رقم ٦٥)


فرحمك الله يا شيخ حسن، وأسكنك فسيح جناته، وجعلك من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته.


اعذروني على الإطالة؛ فقد جرّني قلمي -وكثيراً ما يفعل- وكان يريد الجموح، لكني كبحته، وشددت زمامه حتى لا يؤذي ويعيث!


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

٢٧ رمضان ١٤٤٠.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق