السبت، 17 يوليو 2021

الرِّحلة النبوية لحجِّ بيت رب البرية

 الرِّحلة النبوية لحجِّ بيت رب البرية


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وجنده.

وبعد:


فإنني في هذه المقالة، أردت لنفسي تشريفاً، ولغيري تعريفاً، بـ (رحلة نبينا عليه الصلاة والسلام، إلى بيت الله الحرام)؛ لتكون لنا رائداً ومحتدى، وقائداً ومقتدى.


وقد جرّدت مقالتي من كل شيء، سوى ذكره عليه الصلاة والسلام؛ لينسجم قارئها، فيمتع لبه، ويريح قلبه، بأعظم رحلة في التاريخ.


وأنا في هذا مرتشف من معين العلماء، ومحتذٍ فقه الفقهاء، فليس لي فيها إلا الرصف، ولكم الرشف.

وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


وها كم بدء الرحلة:

خرج عليه الصلاة والسلام، من مقامه في المدينة، بجميع نسائه، وطاف عليهن ليلته تلك، ومعه جمع غفير من الصحب الكرام.


ثم توجهوا إلى ميقات المدينة (ذي الحليفة)، فأَهَلّ من ميقاتها ما بين الظهرين، وصلى بها العصر ركعتين، وذلك بعد أن اغتسل عليه الصلاة والسلام؛ وتطيّب لحله قبل حرمه، طيّبته زوجه عائشة رضي الله عنها، وباتوا ليلتهم بذي الحليفة.


ثم أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مصلاه، فأهّل بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). 


ثم ركب عليه الصلاة والسلام، ناقته القصواء، ولبّى، ثم رقى البيداء؛ وأهلّ -متابعاً- بالتوحيد، وتابع التلبية، ولم يزل يُلَبِّي حتى استلم الحَجَر.


وأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، حينما بلغوا فَجّ الرَّوْحاء حتى بُحّت أصواتهم -وفَجّ الرَّوْحاء: يبعد عن المدينة نحواً من سبعين كيلاً-.


ثم انطلق عليه الصلاة والسلام، حتى إذا أتى سَرِف، وهو: وادٍ قبل مكة -ويسمى اليوم بـ (النوارية)- حاضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبكت؛ فطمأنها الرسول عليه الصلاة والسلام.


ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نَزَلَ بـ (ذي طُوَى) ويقال لها: (آبار الزاهر) فباتَ بها ليلة الأحد لأربعٍ خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ودخل مكة نهاراً من أعلاها من الثنية العُلْيا- التي تشرف على الحجون.


وأول ما ابتدأ به عليه الصلاة والسلام، حين دخل المسجد هو: طوافه بالبيت، ولم يركع تحية المسجد؛ لأن تحية البيت؛ الطواف.


ولما حاذى الحجر الأسود؛ استلمه ولم يزاحم عليه، ولم يذكر له ذكراً خاصاً به.


فطاف عليه الصلاة والسلام، السبعة الأشواط، مبتدئاً باستلام الحَجَر، ثم اضطبع، ورمل الأشواط الثلاثة الأُوَل، ومشى الأربعة الباقية، وكان يقرأ بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".


ثم إنه صلى الله عليه وسلم، كان كلما حاذى الحجر الأسود؛ أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، وقال: الله أكبر.

(والمحجن: عصاً محنية الرأس).


وأما الركن اليماني؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام، يستلمه، ولم يثبت عنه أنه كان يقبّله، ولم يقبّل يده عند استلامه.


وبعد أن فرغ عليه الصلاة والسلام، من طوافه بالبيت؛ أتى المقام، وجعله بينه وبين الكعبة، ثم تلا الآية: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". ثم كبر، فصلى عليه الصلاة والسلام، ركعتين، قرأ في الأولى: بسورة (الكافرون) وفي الثانية: بسورة (الإخلاص).


ثم أتى زمزم؛ فشرب منها، ثم رجع وقبّل الحجر، ثم انطلق إلى الصفا، فتلا الآيات قبل أن يرقى جبل الصفا: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم"، ثم قال: (أبدا بما بدأ الله به).


ثم رقى الصفا، حتى رأى البيت؛ فاستقبله، فكبّر الله عز وجل ثلاث تكبيرات، ثم قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده).


ثم دعا عليه الصلاة والسلام، ثم رجع مرة ثانية، وكبر ثلاث مرات، ثم هلل مرتين، ثم دعا، ثم رجع مرة ثالثة، فكبر ثلاثاً، وهلل مرتين ودعا، وابتدأ سعيه ماشياً، ثم ختمه راكباً؛ لازدحام الناس عليه.


ولما فرغ من دعائه عليه الصلاة والسلام؛ نزل الوادي، وخبَّ وسعى واشتد سعيه، والرداء يدور على ركبته من شدة سعيه.

وقال وهو يسعى: (أيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي؛ فاسعوا).


ثم رقى المروة؛ وصنع عليها مثل ما صنع على الصفا، واحتسب سبعة أشواط، مبتدئاً بالصفا، ومنتهياً بالمروة.


وكان يُصلي مدة مقامه بمكة، وهي أربعة أيام، الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، إلى يوم التروية بمنزله، بظاهر مكة، بالمسلمين، يَقْصُر الصلاة.


فلما كان اليوم الثامن -وهو يوم التروية- وهو يوم الخميس، توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مِنى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وكان بياته عليه الصلاة والسلام فيها، وكانت ليلة الجمعة.


ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة الفجر إلى عرفات من طريق ضب -وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبة- فلما وصل عرفات؛ نزل بـ نمرة، بعد صلاة الظهر والعصر -ونمرة هو: المنبسط الفسيح الذي بين حدود الحرم، ووادي عُرَنة، وهو يقرب من خمسائه متر، وليست من عرفة-؛ ضُربت له القبّة في ذلك الموضع؛ فنزل فيه، ولما زالت الشمس، حرّك ناقته القصواء، وأتى وادي عرنة، وخطب الناس خطبته المشهورة الفردة، التي تعرف بخطبة (حجة الوداع) وقد أحاط فيها بمقاصد الإسلام، وأوصى بالنساء والذِّمام، وحرّم انتهاك الأعراض والأموال والدِّماء.


واجتمع له فيها؛ قرابة مائة وعشرين ألف من الصحابة.

ومما قال فيها عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.. ألا هل بلغت؛ اللهم فاشهد) وكان يرفع أصبعه، ثم ينكتها على الصحابة، قائلاً: (اللهم فاشهد).


وبيّن فيها عليه الصلاة والسلام، عظيم الحرمات، قائلاً: (إن رِبا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه، ربا عمي العباس بن عبد المطلب).


ثم استقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه، ثم رفع يديه، وما زال يتضرع ويدعو؛ حتى غابت الشمس.


فلما أتمَّ الخطبة؛ أمَر بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسَرَّ فيهما بالقراءة -وكان يوم الجمعة- ثم أقام، فصلى العصر ركعتين، ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.


وكان يكثر أن يقول: (خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) وحثّ الناس على ذلك.


ثم مشى إلى عرفة، ووقف في ذيل الجبل عند الصخرات، ووقف بها، وقال: (وقفت هاهنا، وجَمْع كلها موقف).


فكان نزوله بـ نمرة، وخطبته بـ عرَنة، ووقوفه بـ عرفة، وهذا مفرق دقيق، يغيب عن البعض ويعزب.


وفي عرفة؛ نزلت آخر آية، من القرآن: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" وكأن فيها إشارة؛ إلى أن الحج كان متمماً للإسلام، فلما قضي أهم أركانه، وهو: الوقوف بعرفة؛ كان الإكمال والتمام والرضى -فلك اللهم الحمد والمنة-.


وبعد أن فرغ من الدعاء؛ انتظر حتى غابت الشمس، ثم دفع إلى مزدلفة، بعد مغيب الشمس وذهاب الصفرة التي تلي المغيب، وهو يسير العَنَق -وهو السير الذي بين الإبطاء والإسراع- فإذا وجد فجوة؛ نص -والنص: فوق العنق-.


وكان الناس أمامه ووراءه، ويمينه وشماله -عليه الصلاة والسلام- يمدّ بصره، ويقول: (أيها الناس: السكينة السكينة، فإن البِّر ليس بالإيضاع) -والإيضاع: هو تكلف الإسراع في السير-.


وأخَّر المغرب والعشاء إلى مزدلفة،

فلما أتى الشعب -وهو الذي قبل المشعر- دخل عليه الصلاة والسلام، فيه، وقضى حاجته، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، وكان رديفه: أسامة بن زيد رضي الله عنهما.


ثم أمر عليه الصلاة والسلام، بلالاً؛ فأذن، ثم أمره فأقام، فصلّى صلى الله عليه وسلم، بالناس المغرب، ثم انتظر بقدر ما يحط الرَّحل، ثم أمره أن يقيم؛ فصلى بالناس العشاء، ولم يسبّح بينهما، ولا على إثرهما.


ونام حتى أصبح، ثم في صبيحة يوم العيد؛ غَلَّس -عليه الصلاة والسلام- بصلاة الفجر، فصلّى صلاة الفجر في أول وقتها؛ لأجل الدعاء.


وفي طريقه؛ أمَر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن يَلْقُط له حصى الجمار، سبع حصيات؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول:(بأمثال هؤلاء؛ فارموا، وإياكم والغلو في الدِّين).


ثم مضى عليه الصلاة والسلام، إلى مِنى، وكان رديفه: الفضل بن العباس رضي الله عنهما، فلما بلغ وادي مُحسِّر؛ أسرع عليه الصلاة والسلام، ولما أتى منى؛ حيّاها برمي جمرة العقبة.


ولم يزل يُلبّي، حتى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات راكباً، بعد طلوع الشمس، من بطن الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، يكبّر مع كل حصاة.


ثم رجع منى؛ فخطب الناس خطبةً بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وفضله، وحرمة مكة، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وعلّمهم مناسكهم.


وبعد أن رمى عليه الصلاة والسلام؛ نحَر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة -بعدد عمره المبارك- ووكَّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن ينحر سبعاً وثلاثين بدنة؛ لتتم المائة.

وأمره، أن يتصدق بها في المساكين، وأن لا يعطي الجزار في جِزارتها شيئاً منها.


ثم حلَق رأسه عليه الصلاة والسلام؛ فأعطى الحلاّق شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، ودفع شعره إلى أبي طلحة رضي الله عنه، وقال: (اقسمه بين الناس) ودعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة، وطيّبته عائشة رضي الله عنها، قبل أن يحل.

وتحلل التحلل الأول؛ فباح به وله كل شيء، إلا النساء.


وبعدها: وقف عليه الصلاة والسلام، للناس يسألونه؛ فخففّ عليهم ويسّر، ثم مضى إلى البيت، وطاف يوم النحر طواف الإفاضة، راكباً؛ ليبرز للناس، فيروا ما يفعله -عليه الصلاة والسلام- في مناسكه، وهو القائل: (لتأخذوا عني مناسككم).

ولم يطفْ غيره، ولم يسعَ معه، ولم يرمل فيه، ولا في طواف الوداع، وإنما رمل في القدوم فقط.


ثم جاء سقاية بني العباس؛ فشرب منها -عليه الصلاة والسلام- ثم انطلق إلى منى، وصلى بها الظهر والعصر، وبات بها ليلة الحادي عشر، فمكث حتى إذا زالت الشمس؛ بدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصوات، ثم أسهل جهة الوادي، فرفع كفيه، ودعا -عليه الصلاة والسلام- دعاء طويلاً، قدر سورة البقرة.


ثم انطلق؛ فرمى الجمرة الوسطى بسبع حصيات، ثم أسهل ودعا -عليه الصلاة والسلام-، قريباً من دعائه الأول.


ثم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي، فأتمّ الرمي للجمرات الثلاث، وانصرف عنها، ولم يقفْ داعياً.


ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، بات ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ولم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، وأفاض بعد الظهر إلى المحصّب، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة، ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سَحَراً.


ثم طاف -عليه الصلاة والسلام- طواف الوداع، ولم يرمل في طوافه هذا، ثم مضى إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام-.


وبعد..

فهذا مجمل رحلته عليه الصلاة والسلام، إلى حج بيت الله الحرام، وهي حجته الأولى والأخيرة، فلم يحج -عليه الصلاة والسلام- غيرها، بل ظهرت مؤشرات موته، ومبشرات عمله، فودّع ذلك الجمع المهيب، وكان الوداع الأخير.


أسأل الله بمنه وكرمه، وفضله وإحسانه.. أن يمنّ علينا بحج بيته الحرام، عاماً بعد عام، ونحن في أمن وسلام، وفضل وإنعام، إنه سبحانه جواد كريم، بر رحيم.

"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين"،

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.


انتخبها: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/١٢/٧

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق