الجمعة، 30 يوليو 2021

الثج لمن رجع من الحج!

 

الثج لمن رجع من الحج!


باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.

وبعد:


فإن الحج نعمة عظيمة، ومنّة فخيمة، يسرها الله وسهلها على من شاء من عباده "يختص برحمته من يشاء" وكم فيها من دروس وعظات، وكم تسكب فيه من دموع وعبرات!


وإن الراجع من حجّه؛ يستقبله زواره وأحباؤه بالبشر والسرور، والحب والحبور، فناسب ذلك: أن يصنع لهم وليمة؛ ليجتمعوا، ويقص عليهم قصص الحج؛ لينتفعوا.

ويحدثهم عمن لقي من أهل العلم والفضل والتقوى، ومن أجاز أو استجاز أو استفتى.. حتى يرغبهم ويرشدهم، ويكون لهم زاداً "ومتاعاً إلى حين".


ومن حج؛ فقد قرّبه الله وكرمه، وخصّه ونعمه؛ وشكراً لنعمة الله عليه؛ ناسَب إذا رجع من سفره إلى بلده.. أن يولم وليمة، تسمى: النقيعة.


والنقيعة: مشتقة من النقْع، وهو الغبار؛ لأن المسافر قديماً.. كات يأتي وعليه غبار السفر؛ لأن وسيلة تواصلهم كانت الإبل ونحوها من المركوبات.


وأما اليوم، فقد تطورت وسائل السفر، وأقلها: ركوب السيارة، ولا أظن راكبها يصيبه النقع والغبار، إلا في بلادي المنكوبة. (١)


وإن كان المسافر أياً كان، لا يعدم شقة ومشقة، ولو سافر في الطائرة؛ فمشقة السفر، ثم الحج؛ لا يكاد يسلم منها أحد!


ومن لطائف الشيخ عبد الرحمن السعدي، قوله في وصف السيارة، أول ما ركبها مسافراً للحج:


يا راحلين إلى الحمى برواحل *** تطوي الفلا والبيد طي المسرعِ


ليست تبول ولا تروث وما لها *** روح تحنّ إلى الربيع الممرعِ


ما استولدت من نوقها بل صنعها *** من بعض تعليم اللطيف المبدعِ


كم أوصلت دار الحبيب وكم سرت *** بحمولها نحو الديار الشسّعِ!


أقول: إذا رجع الحاج؛ استحب له، أن يذبح ذبيحة لله عز وجل؛ شكراً وحمداً له تعالى، على قدومه سالماً لأهله، ورجاء أن يقبل الله منه حجه، فيكون ذلك كالقربان.


والدليل على ذلك.. ما ذكره البخاري، في صحيحه، وبوّب عليه: (باب الطعام عند القدوم)

وذكر حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لما قدِم المدينة؛ نحر جزوراً أو بقرة)

وفي رواية: (أمر ببقرة؛ فذُبحت، فأكلوا منها)


واستدل به النووي، وقال: "يستحب النقيعة، وهي: طعام يُعمل لقدوم المسافر، ويطلق على ما يَعمله المسافر القادم، وعلى ما يعمله غيرُه له".

(المجموع: ٤/ ٤٠٠)


وبوب أبو داود، في سننه: (باب الإطعام عند القدوم من السفر)

قال صاحب (عون المعبود: ١٠/ ١٥٢):(٢) "والحديث؛ يدل على مشروعية الدعوة عند القدوم من السفر، ويقال لهذه الدعوة: النقيعة".


وقال ابن بطال: "فيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف، ويسمى: النقيعة، بنون وقاف، وزن: عظيمة".

ينظر: (فتح الباري: ٦/ ١٣٤)


واختلف العلماء في مَن يصنعها، هل الحاج، أم أهله؟

قال النووي: وقول الأصحاب النقيعة لقدوم المسافر، مستحبة؛ ليس فيه بيان من يتخذها، أهو القادم أو المقدوم عليه.

وفيه خلاف لأهل اللغة؛ فنقل الأزهري عن الفراء: أنه القادم. وقال صاحب المحكم: هو طعام يصنع للقادم. وهو الأظهر.

ينظر: (فص الخواتم: ٧)


وقال الحليمي: "ويستحب للمسافر إذا رجع واستقر في منزله؛ أن يطعمه الناس؛ فعله الصالحون من سلف هذه الأمة.


قال نافع: كان ابن عمر.. لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر، إلا أن يمرض، فإنه كان رجلاً كريماً، يحب أن يؤكل عنده.


وقال حماد بن زيد: كان أيوب السجستاني(٣) رضي الله عنه: إذا قدم من سفر، أطعم الناس ثلاثة أيام، يأتيه إخوانه، فيضع مائدته، ويضع يده مع كل ما جاء، ثم يقول: لقد أكلت اليوم كذا وكذا مرة، قال: وقدم من مكة، فجعل يدخل عليه ناس من إخوانه، فيقرب إليهم فسمعته من آخر النهار، وقد قرب إلى قوم شيئاً، يقول: أكلت اليوم عشرين مرة".

(المنهاج في شعب الإيمان: ٢/ ٤٦٠)


وعليه، فمن رجع من الحج أو من غيره، -على أن الحج يتأكد-.. استحب له، أن يذبح لأهله وأصحابه ذبيحة، ويأكلوا منها؛ لما تقدم من النصوص وشرحها، ولما فيه من تطييب الخواطر، والسؤال عن الحال، وهذا من جليل وجميل الخصال.


وفيه تأنيس القلوب، وتآلف الأرواح، وإزالة الشحناء، والتنفيس عن الفقراء، وهذا مما يحبه الله ويرضاه.

والله أعلى وأعلم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي

١٤٣٧/١٢/٣٠


ح.......

(١) وإن شيت جواباً، فارجع إلى مقالي: "٤٥ ساعة سفر" ولعلها اليوم، زادت وجادت!

فلا بلاغ إلا بالله.


(٢) هو متنازع بين العلامتين الشقيقين: شرف الحق محمد أمير الصديقي، وبين أخيه أبي الطيب شمس الحق العظيم ابادي، وإن شيت، فعد إلى مقال طويل للشيخ مشهور حسن، فقد جمع له جراميزه، وأبان باجسه بدليل وتعليل.


(٣) ابن أبي تميمة كيسان، ويقال: السختياني، وهو الأشهر.


الاثنين، 26 يوليو 2021

المراد بكلمة "السواد" عند المتقدمين، وفي بعض المخطوطات!

 

المراد بكلمة "السواد" عند المتقدمين، وفي بعض المخطوطات!


نشر الشيخ عادل العوضي، قبل مدة، في (مجموعة المخطوطات الإسلامية)، صورة مخطوطة، مزبور عليها: "النظر في السواد، من الضلال، خذ العلم من أفواه الرجال"!

(فيض الله ٥٥٦)


فحصل تحاور، حول كلمة (السواد) مالمراد بها؟

وأدلى البعض بدلوه، ورمى بسهمه، وكان مما قلت -حينها، مع زيادات طفيفة، لا تطفف!-:


الذي أفهمه، أن: (السواد) هنا.. يقصد بها: الكتب؛ لأن الكتاب، يكون في الغالب بالسواد، فهو من باب تسمية الشيء، بما يؤول إليه.


ومثله قول الشاعر:

فدع عنك الكتابة لستَ منها *** ولو سوّدت وجهك بالمدادِ


وقول الشعبي: "ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت من رجل حديثاً، فأردت أن يعيده علي".

رواه زهير بن حرب، في كتاب (العلم: ١٢)


وهذا كناية عن عدم اتكاله على الكتابة، واعتماده على ذاكرته.


ولو قال قائل: آلنظر في الكتب.. ضلال؟

فالجواب: النظر في الكتب ليس ضلالاً، ولا هو من الضلال، بل هو أفضل زاد، وخير رافد، ولكن إن كان المقروء، غير مأمون، فالضلال مظنون، أو جهل القارئ، بمؤدى الكلام؛ فإنه يقع في التحريف والتصحيف، فيكون وصفه بالضلال؛ ليس لذات النظر، ولكن لمؤداه.

ونحن نعلم، كم من ضلال، نشأ عن قراءة خاطئة، بل أزهقت أنفس -كما في "نقطة الإحصاء"، ولي فيها مقال-!-.


قال عبد الرحمن الأوزاعي: (كان هذا العلم كريماً، يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله).


قال الذهبي مُعلقاً: "ولا ريب.. أن الأخذ من الصحف، وبالإجازة، يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ، يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر".

(سير أعلام النبلاء: ٧/ ١١٤)


وقال ابن أبي زيد: "وكان يقال: لا يؤخذ العلم من كُتُبِي، ولا القرآن من مُصْحَفِي، وإن كانت الكتب في آخر الزمان، خزائن العلوم؛ فإن مفاتيح مغالقها، الصدور، وقد كان العلم في الصدر الأول: خزائنه الصدور ولم تكن كتب، وصار في آخر الزمان أكثره في الكتب وأقله في الصدور".

(النوادر والزيادات: ١/ ٨)


ثم وجدت هذه الكلمة، أشكلتْ بادي بدي، على العلامة عبد العظيم الديب، في تحقيقه، لـ (نهاية المطلب)؛ لأن الجويني، كان يكررها كثيراً، مثلاً، يقول: "ولكن الجريان على ترتيب السواد أولى" و"نحرص أن نتبع ترتيب السواد" و"ثم نرجع إلى ترتيب السواد" ونحوها.

فانظره يقول: "مرة ثانية، تُقابلنا لفظة "ترتيب السواد"، ولا ندري المقصود بها، وإن كنا نظن ظناً.. أن المراد: سواد المؤلفات والمصنفات، مجرد ظن لا قرينة تعين عليه.

بل ترجّح عندنا، إلى ما يشبه اليقين: أن (السواد) هو مختصر المزني، أما لماذا يسميه السواد؟ فلم نصل إلى تفسير له.

قلت -عبد العظيم-: هذا التعليق كتبته قبلاً على مرتين -كما يظهر من قراءته- بينهما فترة زمنية، ربما تصل إلى سنوات، فقد استغرق العمل في هذا الكتاب، أكثر من عشرين عاماً.

والذي نزيده اليوم، هو ما أخذناه عن شيخنا أبي فهر "أن لفظ (السواد) يستعمل بمعنى: الأصل والمتن، وعليه شواهد، وإن لم يكن منصوصاً فيما بين أيدينا من معاجم".

مقدمة (النهاية: ٥/ ١٧٣) 


وقال في موضع آخر: "السواد: أي: مختصر المزني، ولفظ (السواد) يأتي بمعنى: المتن والأصل، وهذا غير منصوص في المعاجم، ولكني أخذته عن شيخي شيخ العربية، الشيخ محمود محمد شاكر، -برد الله مضجعه-".

مقدمة (النهاية: ١/ ٢٦٨)


وقال في موطن آخر: "والمراد بالسواد.. (الأصل) أو (المتن) هكذا يستخدم هذا اللفظ، من قبل الأئمة والمؤلفين القدماء في كتبهم ومؤلفاتهم، وسيرد هذا الاستعمال كثيراً في كلام الإمام، وهو غير موجود في المعاجم".

مقدمة (النهاية: ١/ ٤)


قلت: فبان ووضح من هذا الإيضاح والبيان: أن المراد بالسواد.. المتن على وجه الخصوص، أو الكتاب على سبيل العموم.

والله أعلى وأعلم.


وكتب: وليد أبو نعيم

١٤٤١/٤/٦ 

يوم القر ١٤٤٢ 





السبت، 24 يوليو 2021

أبِخضرار الأرض.. يُخدش العِرض؟!

 أبِخضرار الأرض.. يُخدش العِرض؟!


تكون الأرض مجذبة، والقلوب متربة، والنفوس ضيقة، حتى يمنّ الكريم المنان؛ فيرسل الرياح ملقحات للسحاب، فتنشر السماء غيثها، وتروى الأرض، فيأنس القلب: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير".


إنّ نزول الغيث، نعمة من الرحيم الرحمن، يجب على الإنسان أن يكون لذلك من الشاكرين، ولا يكن لنعم ربه من الكافرين.


أقول هذا؛ لأني أرى اليوم الذي تنزل فيه الأمطار؛ يفرح الناس، ويخرجون إلى المتنزهات والحدايق؛ من الكروب والضوايق، وهم في مرح وبهج؛ لكن أكثرهم ليس على النهج!


يخرج الرجل مع الأهل والمحارم؛ ليُذهب الوطأة، ويجلو القلوب الصدئة.. 

وقد كان حبيبي صلى الله عليه وسلم؛ (يبدو إلى هذه التِّلاع -أي: مسايل الماء-) كما قالت أمي عائشة رضي الله عنها، والحديث عند البخاري في ‎(الأدب المفرد: ٥٨٠) بسند صحيح.


‏وفي سنن أبي داوود، عن المقدام بن شريح، عن أبيه أنه قال: سأل عائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبدو؟ فقالت: نعم، إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرة، فأتى بناقة مخرمة، فقال: اركبيها يا عائشة وارفقي؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع منه إلا شانه). 


قال الحافظ ابن رجب، في (فتح الباري: ١/ ٧٧): "فأما الخروج إلى البادية أحياناً، للتنزه ونحوه، في أوقات الربيع وما أشيهه؛ فقد ورد فيه رخصة".


قلت: ولكن -للأسف الأسيف- إذا أردنا الخروج، للنفه والنفخ والنزه؛ نرى ما يكدر الخواطر، ونسمع ما يعكر الصفو، ونسمع ما يصم الأذن.. من لبس فاضح، وتماجن صارخ، وتمازح وتعافس وتضاحك وتناكت بعض الفتيان مع بعض الفتيات!


تراهم على الشواطئ والطرقات، أو في الحدائق والمتنزهات؛ في حال مزرية، وفي ريبة مردية، تقشعر منها جلود المؤمنين الغيورين، فلا يملك الإنسان حينها، إلا: الاسترجاع والحولقة أو الحوقلة!


فيا أيها الناس: رجالاً ونساء؛ عودوا إلى ربكم، واحمدوه على نعمة الأمطار، ولا تحولوها إلى ذنوب وإصرار؛ فيخشى عليكم من الأضرار والأخطار والنار؛ فتندمون، ولات ساعة مندم.


وتذكروا فيضان تسونامي، الذي أغرق أمة من الأمم، وخرب بيوتهم، "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين" "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا"!


فتوهموا غضب الله وسخطه، وذلك (إذا انتهكت محارمه) فعُفّوا أنفسكم، وحجبوا نساءكم، وابتعدوا عن نساء غيركم، فوالله، إنه خزي وعار وشنار، في الدنيا والآخرة.


والذي يليق بالمؤمن: أن يشكر الله تعالى عند تجدد النعمة، "لئن شكرتم لأزيدنكم" وإن لم يحصل الشكر، بل حصل ما يضاده، قال الله: "ولئن كفرتم إن عذابي لشديد".


هذا بلاغ لكم *** والبعث موعدنا

وعند ذي العرش *** يدري الناس مالخبرُ



وكتب: وليد بن عبده الوصابي،،

١٤٣٧/٦/٢٧

وراجعتها: يوم القر ١٤٤٠.

الاثنين، 19 يوليو 2021

اِفْرحوا يا هؤلاء!

 


اِفْرحوا يا هؤلاء!

إن العيد.. فرحة عامة لجميع العقلاء، دون استثناء، فلا يختص الفرح بالأغنياء ولا الأصحاء ولا الأقوياء، ولا الرجال دون النساء، بل هو شامل للفقراء والأغنياء، والمرضى والأصحاء، والضعفاء والأقوياء، والنساء والرجال!


العيد هو أنت من يصنعه.. فرحة عارمة، وسكينة مبهجة، وراحة مفعمة، فلا يصدنك صاد، أو يمنعك مانع!


آلفقر، مانعك من فرحة العيد؟! لا، بل أُراه ألصق بالفقراء منه بالأغنياء؛ لأن الغنى حائل -في الغالب- من الفراغ والتفرغ!


تجد الفقير، بين أهله وأولاده، وقد اجتمعوا على خشارة من الطعام، الساد للرمق، وهم يتناغون ويتناغمون!


ليس العيد باللباس الجديد، أو الحلوى الفاخرة، أو الطعام الفائق، بل هو عيد الطاعة والأنس والسرور.. لأننا رأينا أغنياء، وقد لفّهم الحزن، وغشيهم الحزن في يوم العيد!


قد يتذمر الفقير؛ إذ لم يجد جديد اللباس، ولا لذيذ الطعام، ولكنه يجد هذا، حين المقارنة بغيره (والمقارنة قرينة الأحزان)! فلا تقارن نفسك بأحد، إلا في أمور الآخرة.


فافرح أيها الفقير  .. وافرح أيها المريض  .. وافرح أيها المغترب  .. افرحوا يا هؤلاء؛ فما عندكم من أسباب الفرح، أكثر وأوفر من أسباب الترح، فافرحوا وفرّحوا!


أبارك لكم العيد، رغم الأسى والألم، ومع القسى والجلم!


قائلاً: تقبل الله: مني ومنكم، وكل عام وأنتم في خير وستر.


وليعلنها وليعليها كل فرد منكم قائلاً: لن تراني يا عيد -بإذن الحميد المجيد-، فيك كئيباً، أو حزيناً، أو تعيساً..


وأضيفوا: إنك -يا زَورنا- لم تزرنا إلا غِبّاً، وليس من الأدب والإحسان، أن أقابلك بالأتراح والأحزان!


صحيح، أني أتألم وأتعلقم، وأجتوي وألتوي!

لكن..

واجبي نحوك: حسن الضيافة، وجميل القِرى، (والجود، من الموجود) -كما يقول أهل بلدي-!

هذا واجبي نحوك أيها العيد السعيد.


آملاً، أن تعود علينا، ونحن في أمنٍ وأمان، وإسلام واطمئنان، وتمكين وإعلان.



وكتب: أبو نعيم وليد، في مصلى (مسجد) العيد!

أضحى ١٤٤٢.


الأحد، 18 يوليو 2021

وانهد الركن الحنفي في الحديدة!

وانهد الركن الحنفي في الحديدة!


#وفاة_علم

العلامة الفقيه الحنفي: محمد حسين فقيرة.. من العلماء العاملين، والمربين المخلصين -نحسبه الله والله حسيبه-.


درّس مدة مديدة في مسجده، يغذي الطلاب كشجرة وارفة ظلالها، ولم ييأس أو يبأس حتى أصيب بجلطة كلية أقعدته في بيته!


وقد زرته في بيته قبل عامين تقريباً، وكان لا يعي شيئاً، سوى أنه كان يرفع مسبحته إلى السماء، ويحملق ببصره نحونا.. يودّ النطق فلا يسطيع!


وهو من تلاميذ العلامة أحمد عثمان مطير -صاحب (الدرة الفريدة)- وقد وصفه، بـ "النباهة والعلم" وهو صغير السن آنذاك!


وها أنا اليوم أسمع نبأ وفاته، فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون"

إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

وعزائي لأهله وذويه، وخصوصاً الدكتور حسين فقيرة.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/١٠/٢٣

وصايا الآباء للأبناء عند البناء!

 وصايا الآباء للأبناء عند البناء!

فتاة صغيرة في الـ ١٦ -من قريباتي؛ لكنها عاقلة طائقة، تحفظ كتاب الله عز وجل، وتدري كمّاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تربّت على الأخلاق والآداب، حتى فاقت لِداتها والأتراب، فلا تعرف عتبات الأسواق إلا لحاجاتها، ومع أمها الخلوقة الفاضلة.


هذه الفتاة؛ أوشكت على دخول عتبة الزواج؛ (والآن، قد دخلت، والحمد لله).

طلبتُ مهاتفتها؛ لأقول لها كلمات؛ علها تنتفع بها، وتكون لها نبراساً ومقباساً ومئناسا.


هاتفتها، وقلت لها فيما قلت: بعد التهنئة والتبركة..

يا (...) أنت الآن ستقدمين على حياة جديدة، أرجو أن تكون أفضل من السابقة.

حياة جميلة خميلة ظليلة مليحة أنيسة ونيسة..

كوني تقية لربك، مطيعة لزوجك، واعلمي أن لزوجك عليك القوامة بالمعروف، وفي حدود المألوف.

ولتكن حياتكم مبنية على: النصح والاحترام، والمحبة والوئام.

وتجاوزوا أي خلاف -لا قدّر الله، ولا بد منه- بينكما، وأحسنوا الظن ببعضكما، وأرفقوا بنفسيكما، وتشاوروا في أمركما.


ثم هاتفت زوجها الشاب، الذي هو في الـ ١٩ تقريبا، ولكنه طالب علم، يحفظ القرآن، وطائفة مباركة من أحاديث سيد ولد عدنان، مع حسن خلق، وجميل أدب..


هاتفته، وقلت له: نحواً مما قلت لزوجه؛ ففرح جداً، وقال لي: أبشر، بإذن الله تعالى.



التعليق:

ليت كل أب أو أُم أو قريب؛ يوصي ابنته أو ابنه أو قريبه إذا أراد الزواج؛ بالتآلف والتحالف، لا التعارف والتجارف، ونحو هذا من وصايا نبيلة، ونصائح فضيلة، وكلمات جميلة؛ يكون لها أبلغ الأثر في حياتهما.


وللأسف؛ نجد أن بعض الآباء أو الأمهات أو الأقرباء؛ يوصون أبناءهم وبناتهم؛ بوصايا مشؤومة، ونصايح مذؤومة.. يحضون الشاب: أن يكون رجلاً، لا يسمع لإملاءات زوجته، ولا بد أن يكسرها، وأن يريها الشدة والحزم من أول ليلة، وأن لا يطلعها على ماله وعمله.. إلى غيرها من كلمات الفتنة والمحنة!


وكأنه داخل معركة مع ندّ له، يلعب حديد أو كمال أجسام!

لا أنه يدخل على حمل وديع، وذات ضلع أعوج؛ تؤثر فيها الكلمة اللطيفة، والقبلة الصادقة، واللمسة الحانية، والجسة الحقة..

ومن هنا؛ تكرث الكارثة!


وبالمقابل: الفتاة، يوصونها؛ بأن تكون امرأة حازمة، لا تضعف أمامه، ولا تسلّم له نفسها بسهولة، بل تطالبه بحقوقها، من: دُخلة وخنة وإنة وحنة وسنة وشنة!

وأن تكون صارمة في رأيها، ولا تتنازل عن حقوقها، ولا تسمع له أمراً أو نهياً!

ومن هنا؛ تجثم الجاثمة!


فيا أيها الأب، ويأيتها الأم، ويا أيها القريب: كونوا سعاة صلاح، ومريدي فلاح، ومحبي نجاح.


وأكتفي هنا، بكلامي عن نقل نصائح القدماء ووصاياهم؛ فكتب الأدب والتاريخ والتراجم والسير؛ طافحة بنصائح آباء لأبنائهم، وأمهات لبناتهم؛ فيها: العقل والحكمة، والمحبة والرحمة؛ فأنشات جيلاً موائماً، ونشْأً ملائماً.

وأكتفي بثلاثة أمثلة؛ لئلا يخلو مقالي من مليح قولهم، ومنيح فعلهم:


الأول: ‏يقول شريح: تزوجت امرأة من بني تميم، يقال لها: زينب؛ فصحبتني، ثم هلكت قبلي؛ فوددت أني قاسمتها عمري، أو مت أنا وهي في يوم واحد!

ثم قال:

رأيت رجالاً يضربون نساءهم *** فشُلّت يميني يوم أضرب زينبا!


قال أبو نَعيم: لم تصل زينب هذا المبلغ من الحب عند زوجها القاضي الكبير؛ إلا بوصية فذّة، من أبوين نصوحين ناصحين.


والثاني: أن الفرافصة الكلبي؛ قال لابنته حين جهّزها إلى عثمان رضي اللّه عنه:

يا بنية؛ إنك تقدمين على نساء قريش، وهنّ أقدر على الطِّيب منك، فلا تغلبي على خصلتين: الكحل والماء، تطهري حتى يكون ريحك ريح شنّ أصابه المطر!


والثالث: أن امرأة، أوصت ابنتها عند زفافها، فقالت: يا بنية، لو تركت الوصية لأحد.. لِحسن أدب، أو لكرم حسب؛ لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.

يا بنية؛ إنك قد خلّفت العُش الذي منه درجت، والموضع الذي منه خرجت، إلى وكْر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه..

كوني له أمة؛ يكن لك عبداً، واحفظي عني خصالاً عشراً؛ تكن لك دركاً وذكراً:

أما الأولى والثانية: فحسن الصحابة بالقناعة، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة.

ففي حسن المصاحبة: راحة القلب، وفي جميل المعاشرة: رضا الرب. 

والثالثة والرابعة: التفقد لموضع عينه، والتعاهد لموضع أنفه؛ فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك خبيث ريح.

واعلمي؛ أن الكحل أحسن الحُسن المودود، وأن الماء أطيب الموجود.

والخامسة والسادسة: فالحفظ لماله، والرعاية لحشمه وعياله.

واعلمي؛ أن الاحتفاظ بالمال؛ حسن التقدير، والإرعاء على الحشم؛ حسن التدبير.

والسابعة والثامنة: التعاهد لوقت طعامه، والهداء عند منامه، فحرارة الجوع؛ ملهبة، وتنغيص النوم؛ مغضبة.

والتاسعة والعاشرة: لا تفشين له سراً، ولا تعصين له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سره؛ لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره؛ أوغرت صدره.


هذا ما أردت قيله، وأوردت نيله؛ فهل أنتم قائلون أيها الآباء والأمهات والأقرباء، وهل أنتم فاعلون أيها الأبناء والبنات؟!

أرجو ذلك؛ حتى يحل عليكم الأمن والأمان، والسلامة والسلام، والحب والوئام، والمودة والاحترام.

وسلام الله عليكم.


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٤٠/١١/١٧

السبت، 17 يوليو 2021

شكراً على السلام!

شكراً على السلام!

رأيته يمشي مكبّاً على وجهه، لا يلوي على شيء، (قد سئم تكاليف الحياة) ومَللها ومِللها، وخللها وعللها، وعنتها وعنائها، فهو قد بلغ السبعين أو ما حولها، ولم يتزوج بعد!


أتيته مسلّماً، فرد السلام بأحسن، وسأل كل منا عن الآخر وعن أحواله، وعن هذه الحياة الكليفة وتكاليفها المكلفة!

ثم قال لي: (شكراً على السلام)! تعجبت جداً من هذه الكلمة.. أوَصَلنا في هذه الأيام، أن نشكر بعضنا على السلام؟!


كأني بهذا الشيخ الخلي، وقد صار وحيداً فريداً، وافتقد كل قرب وقريب وقرابة، حتى السلام، افتقده!


سبحان الله، آلسلام، يبخل به، وفيه أجر وفضل، و(الله هو السلام)؟!

أي جهد في إلقائه  .. وأي عناء في إبدائه؟!

ليس هناك أي جهد أو جهاد في إفشائه، ولكن: القلوب قد ضاقت، والصدور قد حرجت، فعجزت وتعاجزت!


فيا أيها الناس: (أفشوا السلام بينكم) "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها".


وحقيقة، تشعر بالأمان، وتحس بالمحبة، تجاه من ألقى إليك السلام، كيف لا، وهو يلقي إليك السلم والسلام والسلامة، ويدعو لك بذلك؟!


بل إن في السلام، علوّاً لصاحبه.. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام؛ كي تعلوا).

رواه الطبراني.


قال المناوي، في (الفيض: ٢/ ٣٠): "أي: يرتفع شأنكم؛ فإنكم إذا أفشيتموه، تحاببتم، فاجتمعت كلمتكم، فقهرتم عدوكم وعلوتم عليه. وأراد الرفعة عند الله".


فاعجب، ممن زهد عن العلو والرفعة، في الدنيا والآخرة!


والمسلِّم؛ أولى الناس بالله تعالى.. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أَوْلى الناس بالله، مَن بدأهم بالسلام).

رواه أبو داود والترمذي.


قال في (عون المعبود: ١٤/ ٧٠): "قال الطيبي: أي: أقرب الناس من المتلاقيين إلى رحمة الله، مَن بدأ بالسلام"!


فاعجب، إلى المُتوانين عن هاته الفضيلة الجليلة!


فسلِّموا على أنفسكم، وعلى أهليكم، وعلى غيركم "تحية من عند الله مباركة طيبة".. تسلموا وتغنموا وتنعموا.

وسلام السلام عليكم.



وكتب: وليد أبو نعيم.

١٤٤٢/١٢/٦


الرِّحلة النبوية لحجِّ بيت رب البرية

 الرِّحلة النبوية لحجِّ بيت رب البرية


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وجنده.

وبعد:


فإنني في هذه المقالة، أردت لنفسي تشريفاً، ولغيري تعريفاً، بـ (رحلة نبينا عليه الصلاة والسلام، إلى بيت الله الحرام)؛ لتكون لنا رائداً ومحتدى، وقائداً ومقتدى.


وقد جرّدت مقالتي من كل شيء، سوى ذكره عليه الصلاة والسلام؛ لينسجم قارئها، فيمتع لبه، ويريح قلبه، بأعظم رحلة في التاريخ.


وأنا في هذا مرتشف من معين العلماء، ومحتذٍ فقه الفقهاء، فليس لي فيها إلا الرصف، ولكم الرشف.

وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


وها كم بدء الرحلة:

خرج عليه الصلاة والسلام، من مقامه في المدينة، بجميع نسائه، وطاف عليهن ليلته تلك، ومعه جمع غفير من الصحب الكرام.


ثم توجهوا إلى ميقات المدينة (ذي الحليفة)، فأَهَلّ من ميقاتها ما بين الظهرين، وصلى بها العصر ركعتين، وذلك بعد أن اغتسل عليه الصلاة والسلام؛ وتطيّب لحله قبل حرمه، طيّبته زوجه عائشة رضي الله عنها، وباتوا ليلتهم بذي الحليفة.


ثم أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مصلاه، فأهّل بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). 


ثم ركب عليه الصلاة والسلام، ناقته القصواء، ولبّى، ثم رقى البيداء؛ وأهلّ -متابعاً- بالتوحيد، وتابع التلبية، ولم يزل يُلَبِّي حتى استلم الحَجَر.


وأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، حينما بلغوا فَجّ الرَّوْحاء حتى بُحّت أصواتهم -وفَجّ الرَّوْحاء: يبعد عن المدينة نحواً من سبعين كيلاً-.


ثم انطلق عليه الصلاة والسلام، حتى إذا أتى سَرِف، وهو: وادٍ قبل مكة -ويسمى اليوم بـ (النوارية)- حاضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبكت؛ فطمأنها الرسول عليه الصلاة والسلام.


ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نَزَلَ بـ (ذي طُوَى) ويقال لها: (آبار الزاهر) فباتَ بها ليلة الأحد لأربعٍ خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ودخل مكة نهاراً من أعلاها من الثنية العُلْيا- التي تشرف على الحجون.


وأول ما ابتدأ به عليه الصلاة والسلام، حين دخل المسجد هو: طوافه بالبيت، ولم يركع تحية المسجد؛ لأن تحية البيت؛ الطواف.


ولما حاذى الحجر الأسود؛ استلمه ولم يزاحم عليه، ولم يذكر له ذكراً خاصاً به.


فطاف عليه الصلاة والسلام، السبعة الأشواط، مبتدئاً باستلام الحَجَر، ثم اضطبع، ورمل الأشواط الثلاثة الأُوَل، ومشى الأربعة الباقية، وكان يقرأ بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".


ثم إنه صلى الله عليه وسلم، كان كلما حاذى الحجر الأسود؛ أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، وقال: الله أكبر.

(والمحجن: عصاً محنية الرأس).


وأما الركن اليماني؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام، يستلمه، ولم يثبت عنه أنه كان يقبّله، ولم يقبّل يده عند استلامه.


وبعد أن فرغ عليه الصلاة والسلام، من طوافه بالبيت؛ أتى المقام، وجعله بينه وبين الكعبة، ثم تلا الآية: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". ثم كبر، فصلى عليه الصلاة والسلام، ركعتين، قرأ في الأولى: بسورة (الكافرون) وفي الثانية: بسورة (الإخلاص).


ثم أتى زمزم؛ فشرب منها، ثم رجع وقبّل الحجر، ثم انطلق إلى الصفا، فتلا الآيات قبل أن يرقى جبل الصفا: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم"، ثم قال: (أبدا بما بدأ الله به).


ثم رقى الصفا، حتى رأى البيت؛ فاستقبله، فكبّر الله عز وجل ثلاث تكبيرات، ثم قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده).


ثم دعا عليه الصلاة والسلام، ثم رجع مرة ثانية، وكبر ثلاث مرات، ثم هلل مرتين، ثم دعا، ثم رجع مرة ثالثة، فكبر ثلاثاً، وهلل مرتين ودعا، وابتدأ سعيه ماشياً، ثم ختمه راكباً؛ لازدحام الناس عليه.


ولما فرغ من دعائه عليه الصلاة والسلام؛ نزل الوادي، وخبَّ وسعى واشتد سعيه، والرداء يدور على ركبته من شدة سعيه.

وقال وهو يسعى: (أيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي؛ فاسعوا).


ثم رقى المروة؛ وصنع عليها مثل ما صنع على الصفا، واحتسب سبعة أشواط، مبتدئاً بالصفا، ومنتهياً بالمروة.


وكان يُصلي مدة مقامه بمكة، وهي أربعة أيام، الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، إلى يوم التروية بمنزله، بظاهر مكة، بالمسلمين، يَقْصُر الصلاة.


فلما كان اليوم الثامن -وهو يوم التروية- وهو يوم الخميس، توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مِنى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وكان بياته عليه الصلاة والسلام فيها، وكانت ليلة الجمعة.


ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة الفجر إلى عرفات من طريق ضب -وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبة- فلما وصل عرفات؛ نزل بـ نمرة، بعد صلاة الظهر والعصر -ونمرة هو: المنبسط الفسيح الذي بين حدود الحرم، ووادي عُرَنة، وهو يقرب من خمسائه متر، وليست من عرفة-؛ ضُربت له القبّة في ذلك الموضع؛ فنزل فيه، ولما زالت الشمس، حرّك ناقته القصواء، وأتى وادي عرنة، وخطب الناس خطبته المشهورة الفردة، التي تعرف بخطبة (حجة الوداع) وقد أحاط فيها بمقاصد الإسلام، وأوصى بالنساء والذِّمام، وحرّم انتهاك الأعراض والأموال والدِّماء.


واجتمع له فيها؛ قرابة مائة وعشرين ألف من الصحابة.

ومما قال فيها عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.. ألا هل بلغت؛ اللهم فاشهد) وكان يرفع أصبعه، ثم ينكتها على الصحابة، قائلاً: (اللهم فاشهد).


وبيّن فيها عليه الصلاة والسلام، عظيم الحرمات، قائلاً: (إن رِبا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه، ربا عمي العباس بن عبد المطلب).


ثم استقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه، ثم رفع يديه، وما زال يتضرع ويدعو؛ حتى غابت الشمس.


فلما أتمَّ الخطبة؛ أمَر بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسَرَّ فيهما بالقراءة -وكان يوم الجمعة- ثم أقام، فصلى العصر ركعتين، ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.


وكان يكثر أن يقول: (خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) وحثّ الناس على ذلك.


ثم مشى إلى عرفة، ووقف في ذيل الجبل عند الصخرات، ووقف بها، وقال: (وقفت هاهنا، وجَمْع كلها موقف).


فكان نزوله بـ نمرة، وخطبته بـ عرَنة، ووقوفه بـ عرفة، وهذا مفرق دقيق، يغيب عن البعض ويعزب.


وفي عرفة؛ نزلت آخر آية، من القرآن: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" وكأن فيها إشارة؛ إلى أن الحج كان متمماً للإسلام، فلما قضي أهم أركانه، وهو: الوقوف بعرفة؛ كان الإكمال والتمام والرضى -فلك اللهم الحمد والمنة-.


وبعد أن فرغ من الدعاء؛ انتظر حتى غابت الشمس، ثم دفع إلى مزدلفة، بعد مغيب الشمس وذهاب الصفرة التي تلي المغيب، وهو يسير العَنَق -وهو السير الذي بين الإبطاء والإسراع- فإذا وجد فجوة؛ نص -والنص: فوق العنق-.


وكان الناس أمامه ووراءه، ويمينه وشماله -عليه الصلاة والسلام- يمدّ بصره، ويقول: (أيها الناس: السكينة السكينة، فإن البِّر ليس بالإيضاع) -والإيضاع: هو تكلف الإسراع في السير-.


وأخَّر المغرب والعشاء إلى مزدلفة،

فلما أتى الشعب -وهو الذي قبل المشعر- دخل عليه الصلاة والسلام، فيه، وقضى حاجته، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، وكان رديفه: أسامة بن زيد رضي الله عنهما.


ثم أمر عليه الصلاة والسلام، بلالاً؛ فأذن، ثم أمره فأقام، فصلّى صلى الله عليه وسلم، بالناس المغرب، ثم انتظر بقدر ما يحط الرَّحل، ثم أمره أن يقيم؛ فصلى بالناس العشاء، ولم يسبّح بينهما، ولا على إثرهما.


ونام حتى أصبح، ثم في صبيحة يوم العيد؛ غَلَّس -عليه الصلاة والسلام- بصلاة الفجر، فصلّى صلاة الفجر في أول وقتها؛ لأجل الدعاء.


وفي طريقه؛ أمَر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن يَلْقُط له حصى الجمار، سبع حصيات؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول:(بأمثال هؤلاء؛ فارموا، وإياكم والغلو في الدِّين).


ثم مضى عليه الصلاة والسلام، إلى مِنى، وكان رديفه: الفضل بن العباس رضي الله عنهما، فلما بلغ وادي مُحسِّر؛ أسرع عليه الصلاة والسلام، ولما أتى منى؛ حيّاها برمي جمرة العقبة.


ولم يزل يُلبّي، حتى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات راكباً، بعد طلوع الشمس، من بطن الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، يكبّر مع كل حصاة.


ثم رجع منى؛ فخطب الناس خطبةً بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وفضله، وحرمة مكة، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وعلّمهم مناسكهم.


وبعد أن رمى عليه الصلاة والسلام؛ نحَر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة -بعدد عمره المبارك- ووكَّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن ينحر سبعاً وثلاثين بدنة؛ لتتم المائة.

وأمره، أن يتصدق بها في المساكين، وأن لا يعطي الجزار في جِزارتها شيئاً منها.


ثم حلَق رأسه عليه الصلاة والسلام؛ فأعطى الحلاّق شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، ودفع شعره إلى أبي طلحة رضي الله عنه، وقال: (اقسمه بين الناس) ودعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة، وطيّبته عائشة رضي الله عنها، قبل أن يحل.

وتحلل التحلل الأول؛ فباح به وله كل شيء، إلا النساء.


وبعدها: وقف عليه الصلاة والسلام، للناس يسألونه؛ فخففّ عليهم ويسّر، ثم مضى إلى البيت، وطاف يوم النحر طواف الإفاضة، راكباً؛ ليبرز للناس، فيروا ما يفعله -عليه الصلاة والسلام- في مناسكه، وهو القائل: (لتأخذوا عني مناسككم).

ولم يطفْ غيره، ولم يسعَ معه، ولم يرمل فيه، ولا في طواف الوداع، وإنما رمل في القدوم فقط.


ثم جاء سقاية بني العباس؛ فشرب منها -عليه الصلاة والسلام- ثم انطلق إلى منى، وصلى بها الظهر والعصر، وبات بها ليلة الحادي عشر، فمكث حتى إذا زالت الشمس؛ بدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصوات، ثم أسهل جهة الوادي، فرفع كفيه، ودعا -عليه الصلاة والسلام- دعاء طويلاً، قدر سورة البقرة.


ثم انطلق؛ فرمى الجمرة الوسطى بسبع حصيات، ثم أسهل ودعا -عليه الصلاة والسلام-، قريباً من دعائه الأول.


ثم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي، فأتمّ الرمي للجمرات الثلاث، وانصرف عنها، ولم يقفْ داعياً.


ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، بات ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ولم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، وأفاض بعد الظهر إلى المحصّب، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة، ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سَحَراً.


ثم طاف -عليه الصلاة والسلام- طواف الوداع، ولم يرمل في طوافه هذا، ثم مضى إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام-.


وبعد..

فهذا مجمل رحلته عليه الصلاة والسلام، إلى حج بيت الله الحرام، وهي حجته الأولى والأخيرة، فلم يحج -عليه الصلاة والسلام- غيرها، بل ظهرت مؤشرات موته، ومبشرات عمله، فودّع ذلك الجمع المهيب، وكان الوداع الأخير.


أسأل الله بمنه وكرمه، وفضله وإحسانه.. أن يمنّ علينا بحج بيته الحرام، عاماً بعد عام، ونحن في أمن وسلام، وفضل وإنعام، إنه سبحانه جواد كريم، بر رحيم.

"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين"،

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.


انتخبها: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٧/١٢/٧

الأحد، 11 يوليو 2021

وانقضّ كوكب صنعاء!

وانقضّ كوكب صنعاء!

العلامة الكبير، والقاضي النحرير، والفقيه الخطير، مجيزنا وشيخنا: محمد بن إسماعيل العمراني.. يغادر دنيانا الأفنة، وحياتنا العفنة، بعد عشرة عقود مباركة، قضَاها في أروقة الدرس، ثم قضّاها في ردهات التدريس: مفتياً، وقاضياً، ومعلماً، ومدرساً، ومجيزاً.. لا يكلّ ولا يمل، بأناة وصبر وتؤدة وورع ووجل، دون تسرع أو عجل!


يعرف فضل من سبقه من أهل العلم والمعرفة .. عفّ اللسان، بل منافحاً عن سبيل المؤمنين وعلمائه، من المتقدمين والمحدَثين!

صعَد إلى ذرى المجد بعلمه، وتصدر العلماء بفقهه، ونجم نجمه بفهمه، لم يتنكب طريقاً، أو يتنكف صديقاً، سليم قلبه على المسلمين.


شهدته، يأتي إلى مسجده (الزبيري) قبيل المغرب بردهة، فيصلي ركعتين في محرابه، ثم يرفع سجادته، ليتناول تحتها لفيفاً من مزع الورق وقطعها، وضعها هناك من أرداد التفقه والتثقيف، فيبدأ بالإجابة والرد على كل سؤال، دون تبرم أو يأس، ولا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً!

وهذه عادة بينه وبينهم، استمرت لسنوات!


أول زيارة له، كانت في ٢١ جمادى الأولى لعام ١٤٣٠، في مسجده بصنعاء.

سلّمت عليه، وأجازني، وحضرت له درسه بعد المغرب، الذي ظل سنوات بل ربما عقوداً، يحضره لفيف من الكبار والصغار، من القضاة والوزراء، ويفهمه الجميع!


وقد شرح في هذا المسجد.. كتباً كثيرة، كـ (بداية المجتهد) و(زاد المعاد) وبعض كتب الشوكاني، إلى غيرها من الأسفار الكبار.

وكنت أتحسر لفوات هذه الكنوز، ولكن هاتفني أحد الإخوة، في رمضان (١٤٤١) وأخبرني: أنهم كوّنوا لجنة من المشايخ والأساتذة؛ لإخراج كل تراث الشيخ، قال: وهم الآن في صدد الجمع، ولعله يكون في نحو من مائة مجلد!

فحمدت الله على ذلك، وشكرته، وشددت من عضده.

والله يوفقهم ويسددهم.


وقرّظ لي حينها، شرحي على (لامية ابن الوردي) كل ذلك، بخط يده المعلوم لدى طلبة العلم.


ولم يكن هذا الفضل كله، إلا بعد قصة طريفة ظريفة، جرت بيني وبينه، لم تخلُ من حدة وشدة، لكنها مشوبة بحرص وحزم، سرعان ما ذابت وزالت!


ثم توالت بعدها.. زياراتي له، تارة في بيته، وأخرى في مسجده المعلوم، وأحياناً، لم ألقه -وذلك لأمراضه الأخيرة المتكررة- فأرجع أجرّ أذيالي، دون تبرم أو يأس، بل أعود أخرى لمثلها.


آتيه بعض الزورات.. وهو يصلي في جماعة، على كرسي من التعب والكبَر!

وهكذا الأيام والكِبَر، تهدان الإنسان، وتفلاّن قواه، وتنهكان جسده!


إن الثمانين وبلّغتها *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان!


قلت: بل هو قد جاوز الثمانين، بل خنق المائة، بل تعداها بسنوات!


أهل الحديث طويلة أعمارهم *** ووجوههم بدعا النبي منضّرة


وحينها.. كنت آتيه، فأراه مقبلاً يجرّ خطاه جراً، ويسحبها في الأرض سحباً، ولا يكاد يرفعها عن الأرض،

حتى نهاديه يميناً وشمالاً، فيقعد على الأرض، ثم يستند إلى جدار، ويتكئ بنصف جسده على متكأ، ولتوه، يخرج قلمه؛ ليوقّع على فتاوي الناس!


وتعجب له، في هذا السن الطويل، وهو يحرص على نفع الآخرين، بل إني قرأت عليه، وهو في حاله هذا (الأوائل السنبلية) في جلسة واحدة، وكنت أحدِر قليلاً؛ خشية الانقطاع أو التقطع، فكان يستفهمني أحياناً، ويشير إلي بالتمهل، فاعجب!


ثم أقيم على كرسي، وأخذنا نسأله بعض الأسئلة، وهو يجيب بصوت شاحب خافت متهدج، قد أنهكه كثرة الكلام على مدار الأيام، من تدريس وتعليم.


ثم قطع المجلس.. بأن رفع يديه وصوته مكبراً: الله أكبر؛ لصلاة الضحى!

ثم نظر إلينا، قائلاً: قوموا صلوا صلاة الضحى "صلاة الأوابين"


ولا يزال كل يوم، يجلس في بيته صباحاً، حتى ما شاء الله؛ ليصادق على فتاوي الناس!


فسبحان الله، كيف يعطي الله هؤلاء العلماء، جلَداً على العلم وتبليغه.


فالشيخ.. طود شامخ، وقامة شادخة في العلم والفتيا، مع ظرافة ولطافة وإحماض.


والقاضي.. خزانة علم ومعرفة، وخزينة قصص وأمثال، ومخزن مآثر وآثار.


دروسه لا تمل؛ لاحتوائها على التأصيل والفكاهة، وفتاويه لا ترد؛ لما تحويه من الدليل والتعليل.


هو من الكبار الأساطين: قولاً وعملاً .. سناً وقدرا.


ولم أردْ في هاته العجالة الحزينة، أن أترجم له، فهذه ليس أوانها، وليست لي، بل لآخرين، عاشوا معه، وصحبوا أنفاسه، طيلة سنوات، فهنيئاً لهم.


رحم الله -شيخنا الجليل- رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، ولقاه نضرة وسروراً، وكساه إستبرقاً وحريراً، وعوضه الله جنة الفردوس، كفاء ما أحيا من النفوس.


"إنا لله وإنا إليه راجعون"، و(إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)


وعزائي لأهله وذريته وطلابه وتلاميذه ومحبيه، بل لربوع اليمن أجمع، بله للعالَم الإسلامي كله، فهو شيخ الكل، وأستاذ الجميع، فالمصيبة عامة غامة، والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/١٢/٢

السبت، 10 يوليو 2021

سَيْر الدُّلْجة في عشر ذي الحجة!

سَيْر الدُّلْجة في عشر ذي الحجة!


الأيام العشر الأولى، من شهر ذي الحجة.. أيام عظيمة معظمة، أقسم الله بها في كتابه الكريم، والإقسام بالشيء، دليل على عظيمه وفخيمه.


قال تعالى: "والفجر وليالٍ عشر".

قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة.

قال ابن كثير: "وهو الصحيح"

(تفسير ابن كثير: ٨/ ٤١٣)

بل ذهب جمهور أهل العلم، إلى ذلك، بل نقل ابن جرير، الإجماع عليه، فقال : "هي ليالي عشر ذي الحجة ، لإجماع الحُجة من أهل التأويل عليه".

(تفسير ابن جرير: ٧/ ٥١٤)


تنبيه: أطلق على الأيام (ليالي)؛ لأن له وجهاً في اللغة العربية، فقد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي.

وكان من كلام السلف: (صمنا خمساً) يريدون: الليالي.

ينظر: (أحكام القرآن: ٤/ ٣٣٤) لابن العربي المالكي، و(لطائف المعارف: ٤٧٠)


والعمل في هذه الأيام.. محبوب إلى الله سبحانه وتعالى، مرغب فيه.. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح، فيهن أحب إلى الله، من هذه الأيام العشر. فقالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)

رواه البخاري.


وقد كان السلف رضوان الله عليهم.. يجتهدون اجتهاداً عظيماً في هذه العشر.. حتى أن سعيد بن جبير: يبلغ به اجتهاده، حتى ما يكاد يقدر.

أي: أنه يتكلف العبادة فيها؛ خشية الفوات!


وإنما بالغوا في اجتهادها؛ لعلمهم: أن العمل في هذه الأيام، أحب إلى الله من العمل في غيرها.


قال ‎شيخ الإسلام ابن تيمية: "واستيعاب ‎عشر ذي الحجة بالعبادة، ليلاً ونهاراً، أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره، تعدل الجهاد؛ للأخبار الصحيحة المشهورة، وقد رواها أحمد وغيره".

(الفتاوى الكبرى: ٥/ ٣٤٢)


والأعمال الصالحة، في هذه العشر، عامة مطلقة، في شتى الأنحاء والأشياء، ولكن جاء تخصيص بعضها.


فمن ذلك:

-الصيام، وقد اختلف العلماء في استحباب صيامها.. ففي سنن أبي داود، والنسائي وغيرهما، عن بعض أزواج النبي صلى الله ‏عليه وسلم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصوم تسع ذي الحجة، ويوم ‏عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر).


هذا، ولكن جاء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما رأيت رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم، صائماً في العشر قط).

وفي رواية: (لم يصم العشر).

رواه مسلم. ‏


فعلى من قال بصحتهما.. يترجح الجمع بينهما، وهو أن حديث عائشة، يحمل على أنها لم تره هي صائماً.

ويحمل حديث هنيدة، على أنه عليه الصلاة والسلام، صامها، ولم تعلم بذلك عائشة، وهذا إثبات "والمثبت مقدم على النافي"؛ لأن عنده زيادة علم.


قال النووي: "قال العلماء: هذا الحديث، مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد ‏بالعشر هنا: الأيام التسعة من ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه ‏التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً، لا سيما التاسع منها ‎... فيتأول قولها: (لم ‏يصم العشر)، أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا ‏يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر"

(شرح صحيح مسلم: ٤/ ٣٢٨)


وعلى من قال بضعف حديث هنيدة.. فيندرج تحت الأعمال الصالحة؛ إذ هو من أفضل الأعمال، ولا مخرج له من جملة صالح الأعمال.


وعلى فرض عدم صيام الرسول عليه الصلاة والسلام، لها؛ فلا يدل على عدم شرعية صيامها؛ إذ أنه عليه الصلاة والسلام، حثّ على صيام المحرم كاملاً، ولم يصمه صلى الله عليه وسلم.


زد على ذلك: صيام بعض الصحابة لها، كابن عمر، وبعض التابعين كالحسن وغيره، كما في (مصنف عبدالرزاق)


وصرح المالكية والشافعية: بأنه يسن صوم هذه الأيام للحاج أيضاً، واستثنى المالكية من ذلك، صيام يوم التروية للحاج.


فيترجح: أن صيام التسع، سنّة، ولا حجة -حسب علمي- لمن قال بعدم مشروعية صومها، أو ببدعيتها، بل لقد أبعد النجعة.


ولا أعلم -حسب بحثي- من قال بهذا القول، إلا رسالة لأحد الأفاضل المعاصرين، ورأي لفاضل آخر، ولكن الكفة راجحة عليهم.

والله أعلم.


ومنها: ذكر الله بالتكبير والتهليل ونحوه.

قال تعالى: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات".

والأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة.

وقال تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات".

والأيام المعدودات: هي أيام التشريق.


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق.. أيام أكل، وشرب، وذكر الله عز وجل).

رواه مسلم.


قال ميمون بن مهران: "أدركت الناس، وإنهم ليكبِّرون في العشر، حتى كنت أُشبِّهُه بالأمواج من كثرتها".

(فتح الباري: ٩/ ٩) لابن رجب.


وقال ‏ابن القيم: "والأفضل في أيام عشر ذي الحجة.. الإكثار من التعبد، لا سيّما التكبير والتهليل والتحميد، ‏فهو أفضل من الجهاد غير المتعين".

(مدارج السالكين: ١/ ١١٠)


والتكبير: مطلق، ومقيد..

فالمطلق: هو الذي لا يتقيد بوقت أو زمن معين، بل يُسن دائماً دون تحديد أو تعيين أو تخصيص.

فيُستحب التكبير المطلق في عشر ذي الحجة، وسائر أيام التشريق، وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة، إلى آخر يوم من أيام التشريق، وهو الثالث عشر.

والمقيد: وهو الذي المقيد بأدبار الصلوات.

فإنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.

هذا لغير الحاج، أما الحاج: فيبدأ التكبير المقيد في حقه، من ظهر يوم النحر.

ويجوز أن يذكر الله بأي صيغة تعظيم، وإن اقتصر على الوارد عن بعض الصحابة، كان أفضل، ومما ورد:

-(الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)


-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)


-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)


والأمر واسع في هذا؛ لعدم وجود نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد صيغة معينة.

ينظر: (مجموع فتاوى ابن باز: ١٧/ ١٣) و(الشرح الممتع: ٥/ ٢٢٠)


ومنها: الحج.

فتبدأ أعمال الحج، من اليوم الثامن، وهو يوم التروية، إلى آخر أعمال الحج.


ومنها: الأضحية.

وهي: ما يذبح من بهيمة الأنعام، في أيام الأضحى، من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، تقرباً إلى الله عز وجل.

والجمهور.. أنها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا واجبة، والأدلة على ذلك، يجدها من أرادها، أقرب من فتر.


قلت: ولا يقتصر العمل في العشر، على ما ذكر من أعمال، بل على الإنسان، أن يكثر من الأعمال الصالحة، فإن الأجر عظيم، والجزاء جزيل.


ومن الأعمال الصالحة المطلق، التي يحسن بالمسلم، الاستزادة منها في هذه العشر؛ لشرف الزمان:

قراءة القرآن وتعلمه ـ والصلاة - والبر ـ وحفظ اللسان ـ والإحسان ـ والإكرام ـ والإنفاق ـ وقضاء الحوائج ـ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ـ والدعاء ـ وإغاثة الملهوف ـ وغض البصر عن المحارم ـ وإدخال السرور على المسلمين ـ والشفقة بالضعفاء ـ واصطناع المعروف - والدلالة على الخير ـ وسلامة الصدر - وترك الشحناء ـ والرفق بالبنين والبنات ـ والتعاون مع المسلمين فيما فيه خير الأولى والأخرى.. إلى غيرها من أعمال البر والتقوى.


قال الحافظ ابن رجب: "وأما نوافل عشر ذي الحجة؛ فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة، تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره". 

(فتح الباري: ١٦/٩) 


وقال ابن رجب: "لما كان الله سبحانه وتعالى، قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته في كل عام؛ فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين؛ فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".

(لطائف المعارف: ٣٨١)


وإنما مازت هذه العشر غيرها؛ لاجتماع الطاعات فيها.

قال ابن حجر: "والذي يظهر: أن السبب بامتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره".

(فتح الباري: ٢/ ٤٦٠)


وقد اجتمع في هذه العشر، أيام فضائل، لم تجتمع في غيرها، وهي:

-يوم عرفة، وهو اليوم التاسع، وهو يوم عظيم، به يكمل الحج، فإن الوقوف بعرفة، ركن الحج الأعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).

رواه الترمذي.


ولا يقتصر فضل هذا اليوم على الحاج، بل جعل الله فضله عاماً على الجميع، فكما أن الحاج، يقف فيه بجبل عرفات، لم يستحب له صيامه؛ ليتقوى على العبادة فيه، ولكن يستحب صومه لغير الحاج، استحباباً شديداً، بل فيه من الأجر.. عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن صيام يوم عرفة، فقال: (يكفر السنة الماضية، والسنة القابلة).

رواه مسلم.


قال النووي: "ﻓﻬﺬا اﻟﻴﻮﻡ، ﺃﻓﻀﻞ ﺃﻳﺎﻡ اﻟﺴﻨﺔ ﻟﻠﺪﻋﺎء، ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﺞ ﻭﻣﻘﺼﻮﺩﻩ ﻭاﻟﻤﻌﻮّﻝ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻔﺮﻍ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺳﻌﻪ ﻓﻲ اﻟﺬﻛﺮ، ﻭاﻟﺪﻋﺎء، ﻭﻓﻲ ﻗﺮاءﺓ اﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺃﻥ ﻳﺪﻋﻮ ﺑﺄﻧﻮاﻉ اﻷﺩﻋﻴﺔ، ﻭﻳﺄﺗﻲ ﺑﺄﻧﻮاﻉ اﻷﺫﻛﺎﺭ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻳﺬﻛﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻣﻨﻔﺮﺩاً، ﻭﻣﻊ ﺟﻤﺎﻋﺔ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻭاﻟﺪﻳﻪ، ﻭﺃﻗﺎﺭﺑﻪ، ﻭﻣﺸﺎﻳﺨﻪ، ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﻭﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻪ، ﻭﺃﺣﺒﺎﺑﻪ، ﻭﺳﺎﺋﺮ ﻣﻦ ﺃﺣﺴﻦ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻭﻟﻴﺤﺬﺭ ﻛﻞ اﻟﺤﺬﺭ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺼﻴﺮ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻛﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﻫﺬا اﻟﻴﻮﻡ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺪاﺭﻛﻪ، ﺑﺨﻼﻑ ﻏﻴﺮﻩ".

(كتاب الأذكار: ٣٤٢)


-يوم النحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو العاشر من ذي الحجة.

قال ابن القيم: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر كما في سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله.. يوم النحر)".

(زاد المعاد: ١/ ٥٤)


وذلك؛ لأن معظم أعمال الحج تكون في هذا اليوم، ففيه:

-رمي جمرة العقبة.

-النحر.

-الحلق أو التقصير.

-الطواف.

-السعي.

-يوم عيد المسلمين.


قال صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.. عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب).

رواه الترمذي.


-يوم القر، وهو اليوم الأول من أيام التشريق، وسمي يوم القر؛ لأن الناس يقرون -أي يستقرون- فيه بمنى، بعد أن يفرغوا من طواف الإفاضة والنحر.

والقرّ: بفتح القاف وتشديد الراء.


عن عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى، يوم النحر، ثم يوم القر).

رواه أبو داود.


-يوم النفر الأول، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي ينفر الناس فيه من منى، ويجوز النفر لمن أراد التعجيل؛ بشرط أن ينفر قبل الغروب.


-يوم النفر الثاني، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وفيه ينفر الناس لطواف الوداع.

والتعجل أو التأخر.. مجمع عليه لقوله تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه".


هذه بعض الأحكام، عن هذه العشر المباركة.. أرجو أن يكون فيها سِداداً وسَدادا، والله الموفق والمرشد.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

٢ ذو الحجة ١٤٣٥.

١ ذو الحجة ١٤٤٢.



 

الاثنين، 5 يوليو 2021

الشاطبي.. حنفياً لا صحفياً!

 الشاطبي.. حنفياً(١) لا صحفياً!


أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بـ الشاطبي، تـ ٧٩٠.


هو الأُمام الكبير، والهمام الخطير، والقرم الأبرع، والنور الألمع، "الإمام العلامة المحقق، القدوة الحافظ الجليل المجتهد. كان أصولياً مفسِّراً فقيهاً محدِّثاً، لغوياً، بيانياً، نظَّاراً، ثبتاً، ورعاً صالحاً زاهداً، سُنِّياً إماماً مطلقاً، بحَّاثاً مدقِّقاً جَدَلياً، بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحقِّقين الأثبات، وأكابر الأئمة المتقنين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون: فقهاً، وأصولاً، وتفسيراً، وحديثاً، وعربية وغيرها".(٢)


هذه أوصاف عَلَم لـ عَلَم، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل! و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".


عاش الشاطبي.. حياته بين العلم والتعليم، والدرس والتفهيم، والمناظرة والحجاج، والكتابة والبحث، والتأليف والتحقيق..

فكان من تواليفه الفخام الجزال:


-(الموافقات) وهو في أصول الفقه، وقد بزّ فيه الأقران، وبدّ به الأعيان، حتى غدا مرجعاً ومصدراً لكل باحث ومحقق في هذا العلم العقيد.


وقد نظم كتاب الموافقات، العلامة ابن عاصم الغرناطي، تـ ٨٢٩، وأسماه: (نيل المنى في نظم موافقات الشاطبي)


ولله در العلامة حبيب بن الزايد، حيث يقول -ملتمساً من العلامة باب بن الشيخ سيدي، أن يُعيره "الموافقات"-:

يا سيداً ألْفى الأصول مَنَالها *** صعباً فذلَّلها، وقال: أنا لها

وإذا المسائل أحجمت وتقاعست *** عنها جحاجِيح الرجال أنالها

بـ "موافقات الشاطبي" النفس قد *** عَنِيَتْ، فهل من حيلة لأنالها؟


رضي الله عنهم، فهؤلاء من يعرف متين العلم ورصينه، من غثيثه ورثيثه!


-وله (الاعتصام) في إنكار البدع والحوادث، وحسبك بهذه المعلمة العالمة في هاته البابة المزلّة المدحضة.

أتى بقواعد وضوابط في هذا الفن العويص، جعلت منه مجدداً في ذلك.

ولكنه لم يكمله، بل مات قبل إتمامه، ولعل النقص، كان قليلاً.


-وله (الإفادات والإنشادات) في باب الملح والنوادر، والفوائد والنكات، وظني، أنه جعله مروحاً ومحمضاً عن نفسه التي ألفت عقيد العلم وعقده -كما يقسّم هو العلوم-.


-وله (عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق) في باب فن من فنون اللغة العربية الكثيرة.


-وله (المجالس) وهو شرح كتاب البيوع من (صحيح البخاري) قال عنه التنبكتي، في (الابتهاج: ٤٩): "فيه من الفوائد والتحقيقات، ما لا يعلمه إلا ﷲ".


-وله فتاو كثيرة، وأجوبة وفيرة، منثورة ومتناثرة، في بعض الدواوين والمجامع، ومنها، في كتاب (المعيار).


كان الشاطبي -رحمه الله- إمام عصره في المغرب، بل يعدّ مجدداً في عصره وبابه.


ولم يكن متعصباً لمذهب الأشاعرة، وإن كان يؤول بعض الصفات، ويفوض البعض، لكنه أثبت البعض أيضاً.


وقد استفاد، من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يكن يصرح باسمه؛ نظراً لما في ذكره في آنه، من الأذى الشديد عليه.

ويدل عليه، قوله: "ليس كل ما يعلم، مما هو حق، يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ... ومن ذلك: تعيين هذه الفرق، فإنه وإن كان حقاً، فقد يثير فتنة، كما تبيّن تقريره، فيكون من تلك الجهة، ممنوعاً بثه"!

(الموافقات: ٥/ ١٦٧)


ويبدو استرفاده، من ابن تيمية.. عند المقارنة بين كتبهما، فقد نقل في بعض المواضع منه بالحرف، وأيضاً: فإن بعضاً من المسائل التي أثارها ابن تيمية في بعض كتبه، أثارها الشاطبي، بأسلوبه البديع، متصرفاً فيها ما شاءت له حكمته وحنكته.


ويعدّ.. منشئ علم أصول البدع ومفترعه، وإن سبقه غيره بالتأليف، إلا أنه قعّد قواعده، وأحكم بنيانه، فغدا ظلالاً وارفاً، يتفيؤه من جاء بعده، ويتقيؤه من انفطر كبده!

دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً *** من مات من غيظه منهم له كفنُ!


وهو ضارب في جميع العلوم، بسهم وافر، وحظ كبير، تدل على ذلك تواليفه وفتاويه.


ولم يشرع في التأليف، إلا بعد أن أحسن الشراعة، وأتقن السباحة، بل ومهر الملاحة.


وبهذه السمات والشيات.. ابتلي كثيراً، وأوذي بسبب تحذيره من الابتداع في الدين، وصرْخه في وجوه المبطلين، وهذه عادة أهل الحق في كل زمان ومكان، فاللهم صبراً وجبراً.


وقد كان حكيماً، فيما يكتب ويؤلف، فلم يكن قصده الكتابة فحسب، بل كان لا يكتب إلا في علم وحلم وسلم، فاسمعه يقول: "ليس كل ما يعلم، مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علما بالأحكام- بل ذلك ينقسم، فمنه: ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه: ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص".

(الموافقات: ٥/ ١٦٧)


رحمه الله، ما أفهمه وأحكمه، ثم يأتي شيخ في قرننا الغابر الغائر؛ ليصف هذا المجتهد المجدد، بـ الصحفي!

اللهم غفراً مما حل بنا ويحل، في كل آونة وآنية، من هراء القول، والإغراء بعلمائنا الأعلام، الذين بذلوا دم المهج، وسكبوا ماء العيون؛ ليرفعوا عنا الجهل العائب، ويكشفوا لنا الطريق اللاحب.. أيكون جزاهم، الطعن والتهوين، اللهم لا، إلا مَن أعمى التعصب عينه، وأصم الصمم أذنه، وأغن الغين قلبه، وأكل الحزاز صدره -عياذاً بالمعيذ-.


ورحمة الله على أبي إسحاق، فقد قال -وكأنه آنس قرب هؤلاء الأدعياء-: "وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين، إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد: غلطاً أو مغالطة".

(الموافقات: ٣/ ٢٨٧)


وقال -برد الله مضجعه-: "ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺒﻠﻎ اﻟﻤﺘﺄﺧﺮﻭﻥ ﺃﺑﺪاً، ﻣﺒﺎﻟﻎ اﻟﻤﺘﻘﺪﻣﻴﻦ؛ ﻓﺨﻴﺮ اﻟﻘﺮﻭﻥ اﻟﻘﺮﻥ- اﻟﺬﻳﻦ ﺭﺃﻭا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﺁﻣﻨﻮا ﺑﻪ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﻭﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮﻥ اﻷﻣﺮ ﺃﺑﺪاً، ﺇﻟﻰ ﻗﻴﺎﻡ اﻟﺴﺎﻋﺔ، ﻓﺄﻗﻮﻯ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻫﻞ اﻹﺳﻼﻡ ﻓﻲ ﺩﻳﻨﻬﻢ ﻭﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﻭﻳﻘﻴﻨﻬﻢ ﻭﺃﺣﻮاﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ اﻹﺳﻼﻡ، ﺛﻢ ﻻ ﻳﺰاﻝ ﻳﻨﻘﺺ ﺷﻴﺌﺎً ﻓﺸﻴﺌﺎً ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ اﻟﺪﻧﻴﺎ"!

(الاعتصام: ٢/ ٩٠)


رحمك الرحيم- أبا إسحاق، فقد نقص العلم والعلماء، وبخس الفقه والفقهاء، ناهيك عن العمل، فذاك أعنق من عنقاء مغرب، وآبق من بيض الأنوق!


يالله، أي زمن نحن فيه.. حين يتطاول الأقزام على الأقرام، نعم أقزام بالنسبة لأولئك الأعلام!


ورحم الله أبا عمرو بن العلاء، تـ ١٥٤، حين قال: (إنما نحن فيمن مضى، كبقل في أصول نخل طوال)!

(فضائل القرآن: ١/ ٣٧٣) للمستغفري 


الله، أي تشبيه هذا، ولم يبعد بعدُ عنهم طويلاً، لكنه العلم والعمل والورع، وإذا ذهب بعضها، فالنقص حيث نقص.


ويقول ابن أبي زيد القيرواني المالكي: "‏‏أيها الرجل المُتجاسر: ارفق في تأملك، وعوّد نفسك أن تظن بها التقصير عن فهم الراسخين من السلف المتقدمين؛ فإن ذلك يثنيك عن الإعجاب بنفسك، والتقصير بسلفك، والله المستعان".

(الذب عن مذهب مالك: ٥٠٧/٢)


غفر الله لك أبا زيد، فقد جاء من توخر وتبختر؛ ليلوك بفمه الأعوج، ذاك الاسم اللامع، بكلمات لا تمتّ للأدب بصلة، ولا للعلم بزنة!

وكأنه يخاطب غمراً أنوكاً، من بني زماننا!

وهذا، آية الخذلان، وسلم الحرمان، ولو صدق؛ لترحم على السابق، وأحسن النقد، إن كان ثَمّ، بعلم وحلم وسلم، بعيداً عن التشغيب والتشعيب والتعييب!

فاللهم بُعداً عن هؤلاء البعداء.


ووفقني الله وإياكم لذكر الأولين بالجميل، وهو الهادي إلى سواء السبيل.


هذه نفثة بثثتها الآن في جلسة هادئة هادية، ولم أقصد لها، لكني لم أتفصى منها.

وإلى هنا، أنكفف عن القول، وأكف الشباة عن الصول، فقد كانت ساعة صفاء -كثرها الله- أزعم أني غضبت لله، وذدت عن أولياء الله.

وأرجو الله سبحانه.. أن يوفقني لصالح القول والعمل، ومعرفة الفضل لأولي الفضل "والله يختص برحمته من يشاء".


"وأسأل الله ذا الحول والقوة؛ أن يزيننا بلباس التقوى، وصدق اللسان، وأن يعيذنا من العجب ودواعيه، ويعيننا على ما نويناه وتوخيناه؛ ويجعلنا ممن توكل عليه فكفاه، وحسبنا هو ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عليه نتوكل وإليه ننيب".(٣)


و(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/١١/٢٦


ح...........

(١)حنفياً، نسبة إلى ملة إبراهيم عليه السلام، وليس إلى مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، فلم يكن حنفياً، بل كان مالكياً -كما سبق-.

والحنفية والحنيفية: الميل عن الباطل والفساد والزيف والشر، إلى الخير والرشاد والهدى والاستقامة، قال 

تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفاً".


(٢) (نيل الابتهاج: ٤٦) للتنبكتي.


(٣) (تهذيب اللغة: ١/ ٣٤- ٤٥)