الأربعاء، 26 فبراير 2020

بين الكتاب الورقي والإلكتروني!

بين الكتاب الورقي والإلكتروني!

الكتاب الورقي.. لم يمت، ولن يموت، بل له المستقبل الزاهر، والحاضر الباهر؛ وذلك لأن التكنولوجيا هي مرحلة زمنية فحسب، ذاهبة آيبة، والمجد والسؤدد؛ للورق والكاغد، بل لا أبعد -لا بعدتم- إذا قلت: ستعود اللخاف والسعاف، والرقاع والخفاف ونحوها من الأعتاق.

الكتاب الورقي.. سيظل شامخاً على أرفف المكتبات، وملموساً بالجارحات، ومنظوراً بالباصرات.

ما أجملك، وشباتك بين شناترك، تسقي بها مواطن القحط، وتتبع بها مواطن القطر، وتحوط بها مواقع الغلط، وتؤود بها أماكن اللغط.

تداعبه في حجرك، وتناظره من محجرك، وتضمه بلطف وعطف بين يديك.
وأحياناً، تتأبطه تحت إبطيك، أو في كميك، (كانت، ولم تكن الآن) وتارة تجعله بين أصبعيك؛ لتستكين أو تستعين.

الكتاب الورقي.. حبيب قريب، وأريب أديب، لا تخش انطفاء الكهرباء، ولا تعطل الجهاز، ولا تفرمت الذاكرة، ولا الانمحاء والانمحاش، ولا العزلة والإيحاش:

لنا جلساء ما نملّ حديثهم *** ألبّاء مأمونون غيباً ومشهدا

يفيدوننا من علمهم، علم ما مضى *** وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

بلا فتنة تخشى، ولا سوء عشرة *** ولا يتقى منهم لساناً ولا يدا

فإن قلت: أموات، فلا أنت كاذب *** وإن قلت: أحياء، فلست مفندا

الكتاب الورقي.. لا يستغنى عنه، ولا يستعاض به، ولا يمل منه، ولكنا أحياناً كثيرة، لا نستطيع الوصول إليه، والتملك له؛ إما لعدم وجوده، وإما لغلاء نقوده!
فحينئذ:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً *** فما حيلة المضطر إلا ركوبها! 

الكتاب الورقي.. له متعته وميزته، وعليه حلاوته وطلاوته، ولكن الحق يقال: أن الكتاب الإلكتروني؛ سهّل كثيراً، ويسّر كبيراً، لا سيما في البلاد التي ليس فيها الكهرباء، أو هي كثيرة الانطفاء، تجلس إليه توصوص، وعليه تنونص!

وهنا، تذكرت ما نقله ابن الجزري، في (المصعد الأحمد: ٣٩) عن الحافظ ابن كثير، عن كتابه (جامع المسانيد): قال: "ولا زلت أكتب فيه، في الليل، والسراج ينونص.. حتى ذهب بصري معه، ولعل الله أن يقيض له من يكمله"!
رحم الله ابن الجزري وابن كثير، ومتعنا بالخير الكثير، والفضل الوفير.

فحين زيارة الكرى، ومداعبة النوم؛ أداعب الكتاب حتى يغلبني، فأطبقه، وأنا صبٌ مستهام، والحمد لله على الفضل والإنعام.
وأحياناً، لا تستيقظ، إلا والكتاب على صدرك، إن لم تنقلب، وإلا وجدته متشحطاً!

وأما الكتاب الإلكتروني (المبدأف) أو (المنورق)!
فأقول: إن ما نشهده اليوم من إقبال كبير، وتسارع منقطع النظير، إلى تصوير الكتب، وبذلها للآخرين.. لهو مؤذن خير، ومؤشر يقظة، وباعث همة، وناهض عزيمة.

وإليكم يا أصحاب الدور والمكتبات، أقول: لا تخشوا على نقصكم الثراء، أو كساد سوق الشراء.. فإن الناس وإن اقتنوا الكتاب المنورق، فإن ذلك لسبب وعذر، يزول بزواله، ولكم أن تشبهوها، بالتيمم حين فقد الماء، أو العجز عن استعماله، أو قلته، أو بعدته، والقاعدة تقول: إذا حضر الماء؛ بطل التيمم!

أيها الناشرون: اعلموا، أن هناك جماعة من الناس، وسّع الله عليهم دنياهم؛ فلا يبغوا بالورقي سبيلا، ولو كلفهم الغالي والنفيس!

ولكم نصيحة: خففوا في قيمة الكتاب على الطلبة ما استطعتم، دون ضرر أو إضرار، "هو أقرب للتقوى" واحتسبوا الأجر، وإن تقاضيتم عليها أجرا!

والحقيقة: إنه لا يخشى على الكتاب الورقي من الهجران أو الانصرام، بل هو تجاف حبيب، وتمنع صبيب، لا يراد إلا العودة إليه بشغف أكبر، والحنو عليه بحدب أكثر، وليست هي جفوة دهرية، أو قطيعة أبدية..

فبالله عليكم..
حدثوني، من ذا الذي لا تستهويه حفيف الورق، ولا تعتريه نشوة العتق؟!

خبروني، من ذا الذي لا يحب الضم والشم والقبل.. إلا أن يكون أعن، لا يتأثر بالأغن!

علموني، من ذا الذي لا يسلو بالنظر إلى خرائدها، ولا يلتذ بافتضاض أبكارها؟!

إلا أن تكون أنفه زكمت عن زكي الأنفاس، أو أن نفسه نفست عن جلو الأعراس.. فقطب الجبين، وقطع الحنين، وعاد كالجنين!

حاشا ذات القِلّة من الجلّة، الذين (حبسهم العذر) عن شراء الكتاب وإحرازه، فحجبوا وعجزوا عن اقتنائه وإبرازه، فلجؤوا إلى الكتاب الإلكتروني؛ ليجدوا فيه لهم متنفساً، ولأفئدتهم متنسماً، فعبّوا منه، وكرعوا، ونهلوا حتى علّوا، مع حسرة بادية؛ إذ (استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو أولى) ولكن (ما لا يدرك كله، لا يترك جله) (ولله في خلقه شؤون) والحديث ذو شجون، "ولكن أكثر الناس لا يشكرون"! 

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.
١٤٤٠/٣/١٧
١٤٤١/٧/١


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق