الاثنين، 19 يونيو 2023

فجيعتي في أحذيتي!

 


فجيعتي في أحذيتي!

عنوان ظريف، استعرته مقتبساً، من الشاعر محمود غنيم، عندما فقد ساعته، فرثاها بقصيدة، سطر كلماتها في ديوانه الأول (صرخة في واد) والذي ضم باباً كاملاً عن دعابات الشاعر، وجاءت القصيدة، تحت عنوان (فجيعة في ساعة)!

رحم الله الشاعر، فقد رثى ساعته رثاء يخال لك؛ أنه يرثي كنزاً كبيرا، أو ثروة كثيرة، ولكنه، الخيال حينما يسرح ويمرح، مع الحنين إلى الإلف والمألوف، إضافة إلى التوجع والتحسر على ما فقد وذهب!

أما أنا، فقد بليت بسرقة أحذيتي، فإنها توأد في مهدها أو حين حبوها، ولا أتذكر حذاء شاخ عندي أو هرم، ناهيك عن هلاكه!
وقد كتبت مقالة قديمة، عنونتها، بـ "سرقت عجلاتي" وافقتْ زفرات وحسرات، فأبديتها، حتى لا توذي!

واليوم، وبعد أن وصل السيل الزبى.. رغبت في تسلية نفسي المكسورة، في رثاء ثلاثة أزواج من جميل أحذيتي.. فمنذ رمضان إلى اليوم، سرق مني ثلاث أزواج حسان، تونقت في شرائها، وتأنقت في انتقائها، مع مماكسة البائع الذي هو أمرس مني وأمكس!

وفي كل مرة أفقدها، أجهد في البحث عنها حتى ألغب، على توكدي من حرزها الآمن المكين، لكنه، الإعذار إلى النفس، وحسن الظن بالسارق السيء، فأعود بعد لهف، بخفي حنين، بل بدونها، "خالي الوفاض، بادي الأنفاض" أوَلول وأململ، وأبدي امتعاضي وامتعاطي من هاته الفعلة الشنعاء، التي لا يقوى على فعلها إلا "الأنجاس المناكيد"!

والعجيب.. أني لا أجرؤ على الدعاء على السارق المنتهب، الذي أسقط حرمات المساجد وأهدرها، بل أدعو له بالهداية، وأن تكون هاته آخر سرقاته المنكرة! (وكل السرقات منكرة)

وحينما يسمعني بعض صحبي، يعجب لي ويتعجب، ويقوم هو -دون وكالة مني-؛ بالدعاء عليه، حتى أشفق على اللص الخبيث!

وسبحان الله، كنت أمس مع بعض الأصحاب.. فأخبرتهم بسرقة زوجين لي من الأحذية.. فتبرعوا بكيل أشد الدعوات المبرحات، ولم أعلم؛ أن السارق يتربص بي؛ لينتهب الثالث!

بل دهش أحدهم لموقفي تجاههم، وساءلني: كيف أسلو وقد أخذ حذائي، ظلماً وهضما؟!
فسألته: ما موقفك أنت، لو مكاني؟!
فجبهني بفعل وقول.. أما الفعل، فقد عبس وجهه، وقطب جبينه، وزم شفتيه، وأما القول، فقد تلعثم لسانه، وأخذ يدعو بدعوات عظيمة متواصلة!

ولم أصنع ما صنع عامر بن عبد الله بن الزبير؛ فإنه حينما سرق نعله، لم يتخذ نعلاً حتى مات!
وقال: أكره أن أتخذ نعلاً، فلعل رجلاً يسرقها فيأثم.
كما في (البيان والتبين: ٢/ ٢٣٦)

وحقيقة، إن هذه ظاهرة شائنة شانئة، لا يتضمخ بها، إلا كل ناقص المروءة، مهترئ الديانة، ضعيف التوكل، مغموص الأصل، منكوس الفطرة!

وقد كنا قديماً.. إذا لم يلق أحدنا حذاءه، وجد مكانها ما يشبهها أو يقاربها، فهو من باب غلط البدل الحسي!
وكنا نجد حرجاً في أخذها؛ إذ قد يكون ليس صاحبها، ومن هنا، قُدمت الأسئلة إلى العلماء والمشايخ؛ في حل أخذها أو حرمتها.

قال الحنابلة: "من أخذ نعله ووجد موضعه غيره، فلُقطة"
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "هذا كلامهم، ولا أعلم أصلاً يعارضه".
(مجموع فتاواه: ٩/ ١٨)

وقال الشيخ ابن باز: "فالحَّل، أن الترك هو الأحوط" كما في (مجموع فتاواه: ٢٢/ ٤٠٧)

ولا زلت أذكر قبل بُرهٍ مديدة.. أن أحدنا، إن لم يجد نعله، قال -تورعاً، أو تهكماً- أُخذت نعالي، ولا يقول: سُرقت!

والعزم.. أنه يجب على مسؤولي المساجد، وضع حلول لهاته الرزية الردية؛ للأخذ على أيدي هؤلاء المخيفين وباعثي الرعب والخوف في نفوس من يتشبش لهم الله، جل الله في عليائه.

على أن تكون طرقاً شرعية موائمة ملائمة، لا نشازاً تقذي العين، وتؤذي النفس!
ومن ذلك، ما نشاهده في بعض مساجدنا، من اتخاذ أماكن مخصصة للأحذية، قد تكون قريبة من القرآن الكريم، أو تكون أمام المصلين، أو بحذائهم وإزائهم، حتى أنك لترى البلا، وتشم الأذى، ناهيك عن المنظر المقزز المزري الذي يبعث في النفس الاشمئزاز، ويعكر صفو الروح!

ومن ذلك: بعض من يضع أحذيته في زنابيل وخِرق، ربما زاحمت المصلين، أو أحدثت صوتاً، أو أوجدت ريحاً!

ويا ليت القائمين على المساجد.. يسعدونا، فيصنعون لنا ما صنعه الأسعد:
فقد كان ابن مكنسة، ينادم الأسعد بن مماتي، فاتفق أن سرقت نعله في بعض الليالي، وكانت حمراء، فكتب إليه:
لالكتي أثمن من عمتي *** وهمتي أكبر من قدرتي
كأنها في قدمي شعلة *** من جهة المريخ قد قدت
وزنتها عندي ورب العلى *** أعز من رأسي ومن قمتي
وأنت يا مولاي يا من به *** ومن نداه أسبغت نعمتي
متى تغافلت على أخذها *** من بعد هذا سرقت لحيتي!
فضحك من الأبيات، وأنفذ له عشرين ديناراً، وعشرين طاق أدم، واستخدم للمجلس فراشاً بثلاثة دنانير في الشهر، وجراية كل يوم لحفظ نعال الندماء.
ينظر: (وفيات الأعيان: ١/ ٤٦٣)

وقد نال الحذاء نصيبه الوافر الساخر، أو الطريف الظريف، سواء أكان شعراً أم نثراً، أو قصة أم حكاية، فللأديب يوسف المحمود، قصيدة شهيرة، في رثاء حذائه القديم، وللكاتب عبد الله الناصر، (سيرة نعل) وللكاتب باسم عبدو، قصة (فردة حذاء) وللشاعر إلياس فرحات، قصة (الحذاء الأحمر) وللشيخ أحمد حسن الباقوري، قصيدة ساخرة، حينما سرق حذاء، الأديب أنيس منصور، سجلها في أحد مقالاته، بجريدة الشرق الأوسط، تحت عنوان (قصيدة الباقوري عن جزمتي!) وللشاعر جابر قميحة، قصيدة رائعة، حينما سرق حذاء الدكتور مصطفى الفقي، وللشاعر أبو سلمى رأفت رجب عبيد، قصيدة يرثي فيه حذاء مصطفى الفقي، أيضا، تحت عنوان (في رثاء حذائي المسروق) وللشاعر هادي محسن مدخلي أبو حذيفة، قصيدة في رثاء حذائه المسروق، تحت عنوان (رثاء الحذاء المسروقة)

ولابن قلاقس، وقد سرقت نعله:
قل لنجم الدين يا من نهتدي *** من محياه بأسنى قبس
ما الذي أوجب عودي راجلاً *** بعد أن وفيتكم ذا فرس
خلعوا نعلي لما علموا *** أنني من ربعكم في قدس

وقبل، فإن ما سبق ذكره، هي طرافة صاحبتها زفرة، وظرافة مازجتها جفرة، ولم تعدم جميل فائدة، وخميل عائدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي
١٤٤٤/١١/٢٨


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق