السبت، 17 يونيو 2023

هل تزوّج البخاري .. وكم مرة .. وهل أعقب وترك ذرية؟

 هل تزوّج البخاري .. وكم مرة .. وهل أعقب وترك ذرية؟


سؤال ربما يكون من باب الترف العلمي، لطالما بحثت عنه، ولم أجد ما يشفي ويكفي، إلا نتفاً من هنا وهناك.


وبعد بحث وفتش؛ وجدت أن العلماء في ذلك على أصناف:


الأول: يثبت زواجه وجواريه، لا ذريته:


أورد محمد بن أحمد الذهبي في (سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٥١) وفي (تاريخ الإسلام: ١٩/ ١٨٧) قصة عن ورّاقه محمد بن أبي حاتم، وفيها: أن البخاري، قال له: لي جَوارٍ وامرأة، وأنت عزب.


وقال ورّاقه أيضاً: وقال لي أبو عبد الله يوماً بفربر: بلغني أن نخاساً قدِم بجواري؛ فتصير معي؟

قلت: نعم، فصِرنا إليه، فأخرج جواري حِساناً صِباحا.

ثم خرّج من خلالهن؛ جارية خزرية ذميمة، عليها شحم، فنظر إليها؛ فمسّ ذقنها، فقال: اشترِ هذه لنا منه.

فقلت: هذه ذميمة قبيحة؛ لا تصلح، واللاتي نظرنا إليهن؛ يمكن شراؤهن بثمنِ هذه؟

فقال: اشتر هذه؛ فإني قد مسستُ ذقنها، ولا أحب أن أمسّ جارية، ثم لا أشتريها!

فاشتراها بغلاء خمس مائة درهم على ما قال أهل المعرفة.

ثم لم تزل عنده حتى أخرجها معه إلى نيسابور.

(سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٤٧).


وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت عبد الله بن محمد الصارفي يقول: كنت عند أبي عبد الله فى منزله، فجاءته جارية، وأرادت دخول المنزل؛ فعثرت على محبرة بين يديه.

فقال لها: كيف تمشين؟!

قالت: إذا لم يكن طريق، كيف أمشي؟

فبسط يديه، وقال لها: اذهبي؛ فقد أعتقتك.

قال: فقيل له فيما بعد: يا أبا عبد الله؛ أغضبتك الجارية؟

قال: إن كانت أغضبتني، فإني أرضيت نفسي بما فعلت.

(سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٥٢) و (هُدى الساري: ٤٨٠)


ففي هذا؛ التصريح الصريح، الذي يدل على زواجه وملكه للجواري -رحمه الله- والراوي: عنه هو خادمه ووراقه، والناقل: حافظ صيراف، والمثبت عنده مزيد علم.



الثاني: يثبت ذريته الذكور لا الإناث:


جاء من كلام بكر بن منير، ومحمد بن أبي حاتم، واللفظ لبكر، قال: حمل إلى البخاري بضاعة؛ أنفذها إليه ابنه أحمد أبو حفص؛ فاجتمع به بعض التجار إليه بالعشية، وطلبوها بربح خمسة آلاف درهم.

فقال: انصرفوا الليلة؛ فجاءه من الغد تجار آخرون؛ فطلبوها منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم؛ فردّهم، وقال: إني نويت البارحة بيعها للذين أتوا البارحة، وقال: لا أحب أن أنقض نيتي!

(تاريخ بغداد: ٢/ ١١) و(تاريخ دمشق: ٥٣/ ٨١) و(سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٤٧) و(طبقات السبكي: ٢/ ٢٢٧) و(الهدى الساري: ٤٨٠) و(تغليق التعليق: ٥/ ٣٩٥)


ففي هذا النص؛ التصريح بأن له ولداً، اسمه أحمد، وكنيته: أبو حفص، ولكن قال بعضهم: أن قائل "أنفذها إليه ابنه أحمد أبو حفص" يعني: ابن القائل، وهو بكر بن منير، أو محمد بن أبي حاتم.


ولكن، هذا بعيد؛ إذ لو كان هذا الابن؛ ابن المتكلم؛ لكان السياق، هكذا "أنفذها إليه؛ ابني أحمد"؛ إذ لا يستقيم لغوياً؛ أن يخاطبه خطاب الغائب.



ثالثاً: يثبت ذريته الإناث لا الذكور:


قال محمد بن عبد الله ابن البيّع الحاكم، في كتابه (معرفة علوم الحديث: ٥٢) "وأما البخاري ومسلم؛ فإنهما لم يعقِّبا ذكراً".


وقال الحافظ عبد الرحمن بن علي ابن الديبع الشيباني: "توفي، ولم يعقب ولداً ذكراً".

نقله صديق حسن خان، في (الحطة: ١/ ٢٤٦).


وقال سراج الدين عمر بن علي ابن الملقن، في (المقنع في علوم الحديث: ٢/ ٥١٧): "ولم يعقب البخاري ومسلم ذكراً، أيضا".


وقال صاحب (الإكمال: ١٤٩): "ولم يعقب ولداً ذكراً".


وقال ملا علي سلطان قاري، في (مرقاة المفاتيح: ١/ ١٧): "فمات عن غير ولد ذكر".


وقال محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، في (التحبير لإيضاح معاني التيسير: ١/ ٩٧): "ولم يعقب ولداً ذكراً".


وقال محمد بن علي الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار: ١/ ٢١): "ولم يعقب ولداً ذكراً".


وقال عبد الحق البخاري الدهلوي الحنفي، في كتابه: (لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح: ١٠/ ٢٦١): "ولم يعقب ولداً ذكرا".


وقال أحد الباحثين: "وقد عثرت أخيراً؛ على أنه تزوج وولد بنتاً أو بنتين، ولا زلت أواصل البحث راجياً أن أعثر في هذا الموضوع على ما يشفي الغليل، وينير السبيل.

من مقال (ساعة مع الإمام البخاري) في مجلة "دعوة الحق".

ولا أدري، ما مرجعه في هذا؟!


رابعاً: ينفي زواجه:


قال العجلوني في (إضاءة البدرين: ٣): "ولم أقف على أن البخاري تزوج، فضلاً عن وجود ولد له".


وقال محقق (التاريخ الأوسط) للإمام البخاري -تيسير بن سعد أبو حيمد-: "لم تذكر كتب التراجم -فيما وقفت عليه- شيئاً عن زواج البخاري، أو عن ذريته؛ سوى قول الحاكم: "وأما البخاري ومسلم؛ فإنهما لم يعقبا ذكرا".



خامساً: ينفي ذريته مطلقاً:


نقل الشيخ عبد السلام المباركفوري، عن "العلامة ولي الدين الخطيب صاحب، (مشكاة المصابيح) والملا علي القاري في (شرح المشكاة): أن الإمام البخاري، لم يترك وراءه ذرية من بعده".


وقال الحسين بن محمد اللاعي المغربي اليمني، في (البدر التمام: ١/ ٢٨): "ولم يعقب البخاري أحداً من الأولاد، وقد رزقه الله ما هو أعظم وأجل من تخليف الولد الصالح من شهرة صحيحه، وانتفاع الأمة به في جميع أقطار الإسلام".


قلت: ولفظ الولد؛ يتناول الذكر والأنثى، كما قال تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" وقال صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.


وقال إسماعيل بن عمر ابن كثير: "وقد ترك -رحمه الله- بعده علماً نافعاً لجميع المسلمين، فعمله فيه لم ينقطع، بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، من علم ينتفع به) الحديث. رواه مسلم".

(البداية والنهاية: ١٤/ ٥٣٣)


وأحسب؛ أن هذه إشارة من ابن كثير؛ إلى أن البخاري لم يولد له، والله أعلم.



سادساً: التردد في ذلك:


نقل الشيخ المباركفوري: أن العلامة العجلوني؛ تساءل عن سبب تكنيته بأبي عبد الله إذن؟

ثم أجاب على هذا السوال بنفسه: "بأنه لا يشترط للتكنية؛ أن يكون الرجل له أولاد، وقد جرت عادة العرب؛ بأنهم كانوا يكنون أولادهم وبناتهم وهم صغار، دون أن يولد لهم، وله أمثلة لا تعد ولا تحصى، والإمام البخاري -وإن كان عجمي النسل-؛ لكن بلاد خراسان کان فيها أثر كبير لعادات العرب، ولا سيما في أهل العلم.

ولكن الأسف: أننا لم نجد في هذا الباب قولاً أقدم من قول ولي الدين الخطيب التبريزي وهو من المتأخرين جداً.

أما العجلوني: فإنه شك حتى في زواجه، فقد قال: إن الإمام لو كان تزوج؛ لوجدنا له ذِکراً!

ولكن الأسف أن المؤرخين؛ لا يذكرون عادة أحوال الزواج والنكاح، فهناك مئات من الأسماء في كتب التاريخ؛ لا يذكر شيئاً عن زواجهم أو عدمه، فكيف يسوغ لنا؛ أن نظن لأجل هذه الاحتمالات الضعيفة؛ أن الإمام البخاري حُرم من سنة مؤكدة حتى يثبت لنا بسند صحيح أنه ترك ذلك.

ولو فرضنا أن الإمام البخاري؛ لم يترك ذرية من صلبه؛ فذريته الروحية تتجاوز مائتي مليون ومائتين وأربعة آلاف نسمة، (قال المعلق: هذا هو عدد المسلمين حسب إحصائيات عام ۱۸۹۷م (جريدة المؤيد) بغض النظر عن أولئك المساكين الذين يشكّون حتى في صحة القرآن لمجرد أن الذي جمعه هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويزعمون أن القرآن الصحيح مخفي ومدفون في أحد المغارات أو السرادیب، فإن هذا لا يغض شيئاً من أولاد الإمام الروحانيين، والحمد لله فإن عدد أولئك الذين يؤمنون بكونه أصح الكتب بعد كتاب الله يزداد يوماً فيوماً".

(سيرة البخاري: ١/ ١٩٧)


وقال الدكتور وليد المنيسي، في (ملتقى أهل الحديث): التقيت بأحد الإخوة الفضلاء في مدينة سكرامنتو بولاية كاليفورنيا -وأصوله بخارية-؛ وأخبرني أنه من ذرية الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وأن ذرية الإمام البخاري؛ لا تزال موجودة في إحدى تلك الجمهوريات الإسلامية -أظنها أوزبكستان-.


وإثبات هذا الانتساب؛ يحتاج إلى إفاضة واستفاضة، و(الناس مؤتمنون على أنسابهم) إذا كانت هناك استفاضة.



قال أبو نعيم: هذا ما وجدته في أمر زواج البخاري وإنجابه.

وقد تبين لك من إيراد ما أوردت؛ أن البخاري تزوج، وملك الجَواري، واشترى وأعتق، وذرّى.

ومن نفى؛ فلأنه لم يجد نصاً في ذلك، (والمثبت مقدم على النافي).


ولعل هذا هو الراجح -والله أعلم- ولكن ليس عندنا؛ عدد زوجاته وجواريه، ولا عدد بناته وبنيه؛ ولكن عدم الذكر؛ لا يعني النفي؛ خاصة إذا علمنا: أن أمر المرأة مبني على الستر والخفاء، وعدم الإظهار والجلاء.


والشاهد على ذلك: أن ذكر النساء في كتب السير والتراجم؛ نزر يسير، وليس ذلك راجع إلى قلّتهن، بل إلى ما ذكرت لك من السبب.

وما اشتهر منهن؛ فإنه قليل جداً بالنسبة لأعدادهن الكبيرة الكثيرة..


فهذا المؤرخ عبد القادر بن محمد القرشي، يقول في كتابه (الجواهر المضية: ٤/ ١٢٢): "وقد بلغنا عن بلاد ما وراء النهر وغيرها من البلاد؛ أنه في الغالب لا تخرج فتوى من بيت إلا وعليها خط صاحب البيت، وابنته، أو امرأته، أو أخته".


وهذا العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، يقول في (إدام القوت: ٣٧٣). "وكانت صُبيخ -بلدة بحضرموت- مهْد علم، ومغرس معارف؛ حتى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن (إرشاد ابن المقري)"!


رحم الله أبا عبد الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، فقد خلّف تراثاً لن يموت، وإن حوول إماتته "والله متم نوره ولو كره الكافرون" والمشركون والمنافقون والعلمانيون وأعداء الدين أجمعين.

والله تعالى أعلى وأعلم، وأعز وأكرم.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي

١٤٤٠/١٠/١٥


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق