الخميس، 29 يونيو 2023

في صلاة العيد اليوم!

 في صلاة العيد اليوم!

صليت العيد، في مسجد مجاور! (والسنة، الصلاة في المصلى) وكان الجو ساخناً، والهواء ساكناً، والسَّموم في جده وحده وعلى شده وأشده، ولا ضير، فإنه تنفُّس جهنم -أعاذنا الله منها-.


وكانت المكيفات "الشباكية" القديمة، منطفئة، حاشا ثلاثة أو أربعة.. وماذا تصنع ثلاثة أو أربعة في مسجد كبير، وفي يوم عيد، قصاده كثير؟!


شاهدت بعض الناس، -على حرارة المسجد- خافقة رؤوسهم، مغمضة عيونهم، ذابلة أجسادهم، لم يستطيعوا المدافعة، بعد ليل طويل، وبلاء وبيل، من اشتداد الحر، وحمارة القيظ:

إني لَأكتُم حزناً قد برَى  كبِدي *** وكاتمُ الحزنِ مثل الطفلِ مفضوحُ!


ولا ملطفات عند الأكثرين، وإن وُجدت، فـ:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ *** والماء فوق ظهورها محمولُ!


وأثناء خروجي.. رأيت الناس مبللة ثيابهم، لاصقة بأجسادهم، ولا تعجب، إن رأيت أحدهم، قد فك أزرار قميصه، ونفخ داخلة ثيابه.. لعل نفحة هواء عليلة، تلامس أجسامهم العليلة، التي أمضها الضنى، وأقضها القيظ!


ولسان حالهم:

ولي زفرة لا يوسع القلب ردّها *** وكيف وتيّار الأسى يتدفعُ


أغرّك مني في الرّزايا تجلُّدي *** ولم تدرِ ما يخفي الفؤاد الملوّع!



فيا رب، طال بنا البلاء، حتى صرنا هزأة للأعداء، ففرَج وخرج وفرح ولطف وعطف من عندك، تشفي به جروحنا، وتداوي قروحنا، لك العتبى حتى ترضى، ولا قوة إلا بك.


وكتب: وليد أبو نعيم

عيد الأضحى من عام ١٤٤٤


السبت، 24 يونيو 2023

محتاجون أم محتالون؟!

 


محتاجون أم محتالون؟!

شاب طوال، أسمر اللون، مكتنز اللحم.. جاءني وأنا في المسجد، قبيل صلاة المغرب، سلّم بتلعثم .. سألني عن اسمي .. صرف من كان حولي!


ثم أخبرني بحاله، وأنه يريد العودة إلى بلدته، وسماها لي، وأنه لا يملك نقوداً تحمله إلى قريته!

اعتذرت إليه خجلاً، لكنه أصر وألح، مقسماً، أنه صادق!


قلت له: اذهب توضأ وصل، وأكثر من الحوقلة، وأبشر بالفرج!

قال لي: طيب، لكن، تضمن لي أن تقضي حاجتي؟!

قلت: أنا لا أضمن لك، لكن، ظني في ربي سبحانه؛ أن يقضي حوائجك!


لما ذهب، تشاورت مع صاحبي في أمره، فقال لي: عجيب، لا أظن أصحاب السيارات يردونه إذا أخبرهم بحاجته وفاقته، وإن رفضوا -تنزلاً- يركب إلى قريته، وهناك يستطيع محاسبتهم!


اتفقت وإياه.. أن نذهب به إلى فرزة (مواقف) السيارات، ونركبه على حسابنا!


ظل الشاب، يقرأ القرآن ويذكر الله تعالى، حتى أذان المغرب!


بعد الصلاة، أشرت إليه، فلم يهش ولم يبش، بل تحرك ببطء وثقل، ولا زلت به حتى اقترب مني؛ بحيث أسمعه ويسمعني.. قلت له: أبشر، سنذهب بعد العشاء -إن شاء الله- إلى فرزة السيارات، ونركبك على حسابنا!

فلم يسر ولم يستسر ولم يستبشر، بل ظل واجماً في مكانه، يهز رأسه، ويحرك أصابعه!


ولم تمض إلا هنيهة، حتى خرج من المسجد!


لم أصدّق ما رأيت، بل كنت أحدس؛ أن سيعود ولا بد!


صلينا العشاء، ولم نجد له أثراً لكنه ترك تأثيرا!


لا أدري عذره على وجه التحقيق، لكنّ، صاحبي أخبرني بقصص كثيرة مشابهة له، وأن بعضهم -هداه الله- امتهن هاته المهنة الشينة المشينة، وعند المحاققة، يلجأ للهرب والهروب!

والله المستعان.


وأخبرني آخرون.. بقصص مشابهة لمثلها، بل أذكى منها وأنكى!


وفي البيوت عفيفون وعفائف، يربطون الحجر، ويشدون الحُزم، ويمصون التمرة، يسكتون جوعهم، ويسكنون ظمأهم، "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا" وهم مع ذلك، صالحون مصلحون، حامدون مسبحون.

وتالله، إن هناك من الأخبار والقصص، ما تقض مضجع الشَّعور، وتحمي قلب الغيور.


فمثل هؤلاء، تجب عليهم الزكاة، وتستوجب لهم الصدقة، وهم جديرون أن ينظر إليهم، ويعطف عليهم.


وحقيقة، إن السؤال والمسألة، صفة رذيلة، وسمة رديئة، يجب التنزه عنها، والنأي بالنفس عن مستنقعها الآسن.

وفيها من الوعيد ما فيها، وقد ألف شيخنا العلامة مقبل الوادعي، جزءاً في الباب، سماه: ذم المسألة.


وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تُلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتُخرج له مسألتُه مني شيئاً وأنا له كارهٌ فيُبارَك له فيما أعطيته).



ومن وصية قيس بن عاصم لبنيه: "وإياكم والمسألة، فإنها أخِرُ كسب الرجل"

أي: أدنى وأرذل.


وهي محرمة، إلا للضرورة وبقدرها، قال شيخ الإسلام: "ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة"

ينظر (العبودية: ٦٦)


ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه، قال لهم: (ولا تسألوا الناس شيئا)

قال راوي الحديث:

"فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه"


وقد ذكر النووي.. اتفاق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم تكن ضرورة، ثم قال: «واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهية بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول؛ فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق".

(شرح مسلم: ٧/‏١٢٧)


ومن دعاء أحد الصالحين:

"اللهم لا تجعل لمخلوق عليّ مِنّه؛ فإنّي أستحي من سؤال غيرك"

والله الوافي والكافي.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٤/١٢/٢




الجمعة، 23 يونيو 2023

سَيْر الدُّلْجة في عشر ذي الحجة!

 سَيْر الدُّلْجة في عشر ذي الحجة!



الأيام العشر الأولى، من شهر ذي الحجة.. أيام عظيمة معظمة، أقسم الله بها في كتابه الكريم، والإقسام بالشيء، دليل تعظيمه وتفخيمه.


قال تعالى: "والفجر وليالٍ عشر".

قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة.

قال ابن كثير: "وهو الصحيح"

(تفسير ابن كثير: ٨/ ٤١٣)

بل ذهب جمهور أهل العلم، إلى ذلك، بل نقل ابن جرير، الإجماع عليه، فقال : "هي ليالي عشر ذي الحجة؛ لإجماع الحُجة من أهل التأويل عليه".

(تفسير ابن جرير: ٧/ ٥١٤)


تنبيه: أطلق على الأيام (ليالي)؛ لأن له وجهاً في اللغة العربية، فقد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي.

وكان من كلام السلف: (صمنا خمساً) يريدون: الليالي.

ينظر: (أحكام القرآن: ٤/ ٣٣٤) لابن العربي المالكي، و(لطائف المعارف: ٤٧٠)


والعمل في هذه الأيام.. محبوب إلى الله سبحانه وتعالى، مرغب فيه.. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح، فيهن أحب إلى الله، من هذه الأيام العشر. فقالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)

رواه البخاري.


وقد كان السلف رضوان الله عليهم.. يجتهدون اجتهاداً عظيماً في هذه العشر.. حتى أن سعيد بن جبير: يبلغ به اجتهاده، حتى ما يكاد يقدر.

أي: أنه يتكلف العبادة فيها؛ خشية الفوات!


وإنما بالغوا في اجتهادها؛ لعلمهم: أن العمل في هذه الأيام، أحب إلى الله من العمل في غيرها.


قال ‎شيخ الإسلام ابن تيمية: "واستيعاب ‎عشر ذي الحجة بالعبادة، ليلاً ونهاراً، أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره، تعدل الجهاد؛ للأخبار الصحيحة المشهورة، وقد رواها أحمد وغيره".

(الفتاوى الكبرى: ٥/ ٣٤٢)


والأعمال الصالحة، في هذه العشر، عامة مطلقة، في شتى الأنحاء والأشياء، ولكن جاء تخصيص بعضها.


فمن ذلك:

-الصيام، وقد اختلف العلماء في استحباب صيامها.. ففي سنن أبي داود، والنسائي وغيرهما، عن بعض أزواج النبي صلى الله ‏عليه وسلم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصوم تسع ذي الحجة، ويوم ‏عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر).


هذا، ولكن جاء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما رأيت رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم، صائماً في العشر قط).

وفي رواية: (لم يصم العشر).

رواه مسلم. ‏


فعلى من قال بصحتهما.. يترجح الجمع بينهما، وهو أن حديث عائشة، يحمل على أنها لم تره هي صائماً، أو لم يصمه لعارض مرض أو سفر.

ويحمل حديث هنيدة، على أنه عليه الصلاة والسلام، صامها، ولم تعلم بذلك عائشة، وهذا إثبات "والمثبت مقدم على النافي"؛ لأن عنده زيادة علم.


قال النووي: "قال العلماء: هذا الحديث، مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد ‏بالعشر هنا: الأيام التسعة من ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه ‏التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً، لا سيما التاسع منها ‎... فيتأول قولها: (لم ‏يصم العشر)، أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا ‏يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر"

(شرح صحيح مسلم: ٤/ ٣٢٨)


وعلى من قال بضعف حديث هنيدة.. فيندرج الصيام تحت الأعمال الصالحة؛ إذ هو من أفضل الأعمال، ولا مخرج له من جملة صالح الأعمال.


وعلى فرض عدم صيام الرسول عليه الصلاة والسلام، لها؛ فلا يدل على عدم شرعية صيامها؛ إذ أنه عليه الصلاة والسلام، حثّ على صيام المحرم كاملاً، ولم يصمه صلى الله عليه وسلم.


زد على ذلك: صيام بعض الصحابة لها، كابن عمر، وبعض التابعين كالحسن وغيره، كما في (مصنف عبدالرزاق)


وصرح المالكية والشافعية: بأنه يسن صوم هذه الأيام للحاج أيضاً، واستثنى المالكية من ذلك، صيام يوم التروية للحاج.


فيترجح: أن صيام التسع، سنّة، ولا حجة -حسب علمي- لمن قال بعدم مشروعية صومها، أو ببدعيتها، بل لقد أبعد النجعة.


ومنها: ذكر الله بالتكبير والتهليل ونحوه.

قال تعالى: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات".

والأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة.

وقال تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات".

والأيام المعدودات: هي أيام التشريق.


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق.. أيام أكل، وشرب، وذكر الله عز وجل).

رواه مسلم.


قال ميمون بن مهران: "أدركت الناس، وإنهم ليكبِّرون في العشر، حتى كنت أُشبِّهُه بالأمواج من كثرتها".

(فتح الباري: ٩/ ٩) لابن رجب.


وقال ‏ابن القيم: "والأفضل في أيام عشر ذي الحجة.. الإكثار من التعبد، لا سيّما التكبير والتهليل والتحميد، ‏فهو أفضل من الجهاد غير المتعين".

(مدارج السالكين: ١/ ١١٠)


والتكبير: مطلق، ومقيد..

فالمطلق: هو الذي لا يتقيد بوقت أو زمن معين، بل يُسن دائماً دون تحديد أو تعيين أو تخصيص.

فيُستحب التكبير المطلق في عشر ذي الحجة، وسائر أيام التشريق، وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة، إلى آخر يوم من أيام التشريق، وهو الثالث عشر.

والمقيد: وهو المقيد بأدبار الصلوات.

فإنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.

هذا لغير الحاج.


أما الحاج: فيبدأ التكبير المقيد في حقه، من ظهر يوم النحر.

ويجوز أن يذكر الله بأي صيغة تعظيم، وإن اقتصر على الوارد عن بعض الصحابة، كان أفضل، ومما ورد:

-(الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)


-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)


-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد)


-(الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر كبيرا)


والأمر واسع في هذا؛ لعدم وجود نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد صيغة معينة.

ينظر: (مجموع فتاوى ابن باز: ١٧/ ١٣) و(الشرح الممتع: ٥/ ٢٢٠)


ومنها: الحج.

فتبدأ أعمال الحج، من اليوم الثامن، وهو يوم التروية، إلى آخر أعمال الحج.


ومنها: الأضحية.

وهي: ما يذبح من بهيمة الأنعام، في أيام الأضحى، من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، تقرباً إلى الله عز وجل.

والجمهور.. أنها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا واجبة، والأدلة على ذلك، يجدها من أرادها، أقرب من فتر.


قلت: ولا يقتصر العمل في العشر، على ما ذكر من أعمال، بل على الإنسان، أن يكثر من الأعمال الصالحة، فإن الأجر عظيم، والجزاء جزيل.


ومن الأعمال الصالحة المطلقة، التي يحسن بالمسلم، الاستزادة منها في هذه العشر؛ لشرف الزمان:

قراءة القرآن وتعلمه ـ والصلاة  - والبر ـ وحفظ اللسان ـ والإحسان ـ والإكرام ـ والإنفاق ـ وقضاء الحوائج ـ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ـ والدعاء ـ وإغاثة الملهوف ـ وغض البصر عن المحارم ـ وإدخال السرور على المسلمين ـ والشفقة بالضعفاء ـ واصطناع المعروف - والدلالة على الخير ـ وسلامة الصدر - وترك الشحناء ـ والرفق بالبنين والبنات ـ والتعاون مع المسلمين فيما فيه خير الأولى والأخرى.. إلى غيرها من أعمال البر والتقوى.


قال الحافظ ابن رجب: "وأما نوافل عشر ذي الحجة؛ فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة، تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره". 

(فتح الباري: ١٦/٩) 


وقال ابن رجب: "لما كان الله سبحانه وتعالى، قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته في كل عام؛ فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين؛ فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".

(لطائف المعارف: ٣٨١)


وإنما مازت هذه العشر غيرها؛ لاجتماع الطاعات فيها.

قال ابن حجر: "والذي يظهر: أن السبب بامتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره".

(فتح الباري: ٢/ ٤٦٠)


وقد اجتمع في هذه العشر، أيام فضائل، لم تجتمع في غيرها، وهي:

-يوم عرفة، وهو اليوم التاسع، وهو يوم عظيم، به يكمل الحج، فإن الوقوف بعرفة، ركن الحج الأعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).

رواه الترمذي.


ولا يقتصر فضل هذا اليوم على الحاج، بل جعل الله فضله عاماً على الجميع، فكما أن الحاج، يقف فيه بجبل عرفات، لم يستحب له صيامه؛ ليتقوى على العبادة فيه، ولكن يستحب صومه لغير الحاج، استحباباً شديداً، بل فيه الأجر العظيم.. فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن صيام يوم عرفة، فقال: (يكفر السنة الماضية، والسنة القابلة)

رواه مسلم.


قال النووي: "ﻓﻬﺬا اﻟﻴﻮﻡ، ﺃﻓﻀﻞ ﺃﻳﺎﻡ اﻟﺴﻨﺔ ﻟﻠﺪﻋﺎء، ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﺞ ﻭﻣﻘﺼﻮﺩﻩ ﻭاﻟﻤﻌﻮّﻝ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻔﺮﻍ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺳﻌﻪ ﻓﻲ اﻟﺬﻛﺮ، ﻭاﻟﺪﻋﺎء، ﻭﻓﻲ ﻗﺮاءﺓ اﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺃﻥ ﻳﺪﻋﻮ ﺑﺄﻧﻮاﻉ اﻷﺩﻋﻴﺔ، ﻭﻳﺄﺗﻲ ﺑﺄﻧﻮاﻉ اﻷﺫﻛﺎﺭ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻳﺬﻛﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻣﻨﻔﺮﺩاً، ﻭﻣﻊ ﺟﻤﺎﻋﺔ، ﻭﻳﺪﻋﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻭاﻟﺪﻳﻪ، ﻭﺃﻗﺎﺭﺑﻪ، ﻭﻣﺸﺎﻳﺨﻪ، ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﻭﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻪ، ﻭﺃﺣﺒﺎﺑﻪ، ﻭﺳﺎﺋﺮ ﻣﻦ ﺃﺣﺴﻦ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻭﻟﻴﺤﺬﺭ ﻛﻞ اﻟﺤﺬﺭ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺼﻴﺮ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻛﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﻫﺬا اﻟﻴﻮﻡ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺪاﺭﻛﻪ، ﺑﺨﻼﻑ ﻏﻴﺮﻩ".

(كتاب الأذكار: ٣٤٢)


-يوم النحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو العاشر من ذي الحجة.

قال ابن القيم: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، كما في سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله.. يوم النحر)".

(زاد المعاد: ١/ ٥٤)


وذلك؛ لأن معظم أعمال الحج تكون في هذا اليوم، ففيه:

-رمي جمرة العقبة.

-النحر.

-الحلق أو التقصير.

-الطواف.

-السعي.

-يوم عيد المسلمين.


قال صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.. عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)

رواه الترمذي.


-يوم القر، وهو اليوم الأول من أيام التشريق، وسمي يوم القر؛ لأن الناس يقرون -أي يستقرون- فيه بمنى، بعد أن يفرغوا من طواف الإفاضة والنحر.

والقرّ: بفتح القاف وتشديد الراء.


عن عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى، يوم النحر، ثم يوم القر).

رواه أبو داود.


-يوم النفر الأول، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي ينفر الناس فيه من منى، ويجوز النفر لمن أراد التعجيل؛ بشرط أن ينفر قبل الغروب.


-يوم النفر الثاني، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وفيه ينفر الناس لطواف الوداع.

والتعجل أو التأخر.. مجمع عليه؛ لقوله تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه".


هذه بعض الأحكام، عن هذه العشر المباركة.. أرجو أن يكون فيها سِداداً وسَدادا، والله الموفق والمرشد.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

٢ ذو الحجة ١٤٣٥


الاثنين، 19 يونيو 2023

فجيعتي في أحذيتي!

 


فجيعتي في أحذيتي!

عنوان ظريف، استعرته مقتبساً، من الشاعر محمود غنيم، عندما فقد ساعته، فرثاها بقصيدة، سطر كلماتها في ديوانه الأول (صرخة في واد) والذي ضم باباً كاملاً عن دعابات الشاعر، وجاءت القصيدة، تحت عنوان (فجيعة في ساعة)!

رحم الله الشاعر، فقد رثى ساعته رثاء يخال لك؛ أنه يرثي كنزاً كبيرا، أو ثروة كثيرة، ولكنه، الخيال حينما يسرح ويمرح، مع الحنين إلى الإلف والمألوف، إضافة إلى التوجع والتحسر على ما فقد وذهب!

أما أنا، فقد بليت بسرقة أحذيتي، فإنها توأد في مهدها أو حين حبوها، ولا أتذكر حذاء شاخ عندي أو هرم، ناهيك عن هلاكه!
وقد كتبت مقالة قديمة، عنونتها، بـ "سرقت عجلاتي" وافقتْ زفرات وحسرات، فأبديتها، حتى لا توذي!

واليوم، وبعد أن وصل السيل الزبى.. رغبت في تسلية نفسي المكسورة، في رثاء ثلاثة أزواج من جميل أحذيتي.. فمنذ رمضان إلى اليوم، سرق مني ثلاث أزواج حسان، تونقت في شرائها، وتأنقت في انتقائها، مع مماكسة البائع الذي هو أمرس مني وأمكس!

وفي كل مرة أفقدها، أجهد في البحث عنها حتى ألغب، على توكدي من حرزها الآمن المكين، لكنه، الإعذار إلى النفس، وحسن الظن بالسارق السيء، فأعود بعد لهف، بخفي حنين، بل بدونها، "خالي الوفاض، بادي الأنفاض" أوَلول وأململ، وأبدي امتعاضي وامتعاطي من هاته الفعلة الشنعاء، التي لا يقوى على فعلها إلا "الأنجاس المناكيد"!

والعجيب.. أني لا أجرؤ على الدعاء على السارق المنتهب، الذي أسقط حرمات المساجد وأهدرها، بل أدعو له بالهداية، وأن تكون هاته آخر سرقاته المنكرة! (وكل السرقات منكرة)

وحينما يسمعني بعض صحبي، يعجب لي ويتعجب، ويقوم هو -دون وكالة مني-؛ بالدعاء عليه، حتى أشفق على اللص الخبيث!

وسبحان الله، كنت أمس مع بعض الأصحاب.. فأخبرتهم بسرقة زوجين لي من الأحذية.. فتبرعوا بكيل أشد الدعوات المبرحات، ولم أعلم؛ أن السارق يتربص بي؛ لينتهب الثالث!

بل دهش أحدهم لموقفي تجاههم، وساءلني: كيف أسلو وقد أخذ حذائي، ظلماً وهضما؟!
فسألته: ما موقفك أنت، لو مكاني؟!
فجبهني بفعل وقول.. أما الفعل، فقد عبس وجهه، وقطب جبينه، وزم شفتيه، وأما القول، فقد تلعثم لسانه، وأخذ يدعو بدعوات عظيمة متواصلة!

ولم أصنع ما صنع عامر بن عبد الله بن الزبير؛ فإنه حينما سرق نعله، لم يتخذ نعلاً حتى مات!
وقال: أكره أن أتخذ نعلاً، فلعل رجلاً يسرقها فيأثم.
كما في (البيان والتبين: ٢/ ٢٣٦)

وحقيقة، إن هذه ظاهرة شائنة شانئة، لا يتضمخ بها، إلا كل ناقص المروءة، مهترئ الديانة، ضعيف التوكل، مغموص الأصل، منكوس الفطرة!

وقد كنا قديماً.. إذا لم يلق أحدنا حذاءه، وجد مكانها ما يشبهها أو يقاربها، فهو من باب غلط البدل الحسي!
وكنا نجد حرجاً في أخذها؛ إذ قد يكون ليس صاحبها، ومن هنا، قُدمت الأسئلة إلى العلماء والمشايخ؛ في حل أخذها أو حرمتها.

قال الحنابلة: "من أخذ نعله ووجد موضعه غيره، فلُقطة"
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "هذا كلامهم، ولا أعلم أصلاً يعارضه".
(مجموع فتاواه: ٩/ ١٨)

وقال الشيخ ابن باز: "فالحَّل، أن الترك هو الأحوط" كما في (مجموع فتاواه: ٢٢/ ٤٠٧)

ولا زلت أذكر قبل بُرهٍ مديدة.. أن أحدنا، إن لم يجد نعله، قال -تورعاً، أو تهكماً- أُخذت نعالي، ولا يقول: سُرقت!

والعزم.. أنه يجب على مسؤولي المساجد، وضع حلول لهاته الرزية الردية؛ للأخذ على أيدي هؤلاء المخيفين وباعثي الرعب والخوف في نفوس من يتشبش لهم الله، جل الله في عليائه.

على أن تكون طرقاً شرعية موائمة ملائمة، لا نشازاً تقذي العين، وتؤذي النفس!
ومن ذلك، ما نشاهده في بعض مساجدنا، من اتخاذ أماكن مخصصة للأحذية، قد تكون قريبة من القرآن الكريم، أو تكون أمام المصلين، أو بحذائهم وإزائهم، حتى أنك لترى البلا، وتشم الأذى، ناهيك عن المنظر المقزز المزري الذي يبعث في النفس الاشمئزاز، ويعكر صفو الروح!

ومن ذلك: بعض من يضع أحذيته في زنابيل وخِرق، ربما زاحمت المصلين، أو أحدثت صوتاً، أو أوجدت ريحاً!

ويا ليت القائمين على المساجد.. يسعدونا، فيصنعون لنا ما صنعه الأسعد:
فقد كان ابن مكنسة، ينادم الأسعد بن مماتي، فاتفق أن سرقت نعله في بعض الليالي، وكانت حمراء، فكتب إليه:
لالكتي أثمن من عمتي *** وهمتي أكبر من قدرتي
كأنها في قدمي شعلة *** من جهة المريخ قد قدت
وزنتها عندي ورب العلى *** أعز من رأسي ومن قمتي
وأنت يا مولاي يا من به *** ومن نداه أسبغت نعمتي
متى تغافلت على أخذها *** من بعد هذا سرقت لحيتي!
فضحك من الأبيات، وأنفذ له عشرين ديناراً، وعشرين طاق أدم، واستخدم للمجلس فراشاً بثلاثة دنانير في الشهر، وجراية كل يوم لحفظ نعال الندماء.
ينظر: (وفيات الأعيان: ١/ ٤٦٣)

وقد نال الحذاء نصيبه الوافر الساخر، أو الطريف الظريف، سواء أكان شعراً أم نثراً، أو قصة أم حكاية، فللأديب يوسف المحمود، قصيدة شهيرة، في رثاء حذائه القديم، وللكاتب عبد الله الناصر، (سيرة نعل) وللكاتب باسم عبدو، قصة (فردة حذاء) وللشاعر إلياس فرحات، قصة (الحذاء الأحمر) وللشيخ أحمد حسن الباقوري، قصيدة ساخرة، حينما سرق حذاء، الأديب أنيس منصور، سجلها في أحد مقالاته، بجريدة الشرق الأوسط، تحت عنوان (قصيدة الباقوري عن جزمتي!) وللشاعر جابر قميحة، قصيدة رائعة، حينما سرق حذاء الدكتور مصطفى الفقي، وللشاعر أبو سلمى رأفت رجب عبيد، قصيدة يرثي فيه حذاء مصطفى الفقي، أيضا، تحت عنوان (في رثاء حذائي المسروق) وللشاعر هادي محسن مدخلي أبو حذيفة، قصيدة في رثاء حذائه المسروق، تحت عنوان (رثاء الحذاء المسروقة)

ولابن قلاقس، وقد سرقت نعله:
قل لنجم الدين يا من نهتدي *** من محياه بأسنى قبس
ما الذي أوجب عودي راجلاً *** بعد أن وفيتكم ذا فرس
خلعوا نعلي لما علموا *** أنني من ربعكم في قدس

وقبل، فإن ما سبق ذكره، هي طرافة صاحبتها زفرة، وظرافة مازجتها جفرة، ولم تعدم جميل فائدة، وخميل عائدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي
١٤٤٤/١١/٢٨


السبت، 17 يونيو 2023

هل تزوّج البخاري .. وكم مرة .. وهل أعقب وترك ذرية؟

 هل تزوّج البخاري .. وكم مرة .. وهل أعقب وترك ذرية؟


سؤال ربما يكون من باب الترف العلمي، لطالما بحثت عنه، ولم أجد ما يشفي ويكفي، إلا نتفاً من هنا وهناك.


وبعد بحث وفتش؛ وجدت أن العلماء في ذلك على أصناف:


الأول: يثبت زواجه وجواريه، لا ذريته:


أورد محمد بن أحمد الذهبي في (سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٥١) وفي (تاريخ الإسلام: ١٩/ ١٨٧) قصة عن ورّاقه محمد بن أبي حاتم، وفيها: أن البخاري، قال له: لي جَوارٍ وامرأة، وأنت عزب.


وقال ورّاقه أيضاً: وقال لي أبو عبد الله يوماً بفربر: بلغني أن نخاساً قدِم بجواري؛ فتصير معي؟

قلت: نعم، فصِرنا إليه، فأخرج جواري حِساناً صِباحا.

ثم خرّج من خلالهن؛ جارية خزرية ذميمة، عليها شحم، فنظر إليها؛ فمسّ ذقنها، فقال: اشترِ هذه لنا منه.

فقلت: هذه ذميمة قبيحة؛ لا تصلح، واللاتي نظرنا إليهن؛ يمكن شراؤهن بثمنِ هذه؟

فقال: اشتر هذه؛ فإني قد مسستُ ذقنها، ولا أحب أن أمسّ جارية، ثم لا أشتريها!

فاشتراها بغلاء خمس مائة درهم على ما قال أهل المعرفة.

ثم لم تزل عنده حتى أخرجها معه إلى نيسابور.

(سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٤٧).


وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت عبد الله بن محمد الصارفي يقول: كنت عند أبي عبد الله فى منزله، فجاءته جارية، وأرادت دخول المنزل؛ فعثرت على محبرة بين يديه.

فقال لها: كيف تمشين؟!

قالت: إذا لم يكن طريق، كيف أمشي؟

فبسط يديه، وقال لها: اذهبي؛ فقد أعتقتك.

قال: فقيل له فيما بعد: يا أبا عبد الله؛ أغضبتك الجارية؟

قال: إن كانت أغضبتني، فإني أرضيت نفسي بما فعلت.

(سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٥٢) و (هُدى الساري: ٤٨٠)


ففي هذا؛ التصريح الصريح، الذي يدل على زواجه وملكه للجواري -رحمه الله- والراوي: عنه هو خادمه ووراقه، والناقل: حافظ صيراف، والمثبت عنده مزيد علم.



الثاني: يثبت ذريته الذكور لا الإناث:


جاء من كلام بكر بن منير، ومحمد بن أبي حاتم، واللفظ لبكر، قال: حمل إلى البخاري بضاعة؛ أنفذها إليه ابنه أحمد أبو حفص؛ فاجتمع به بعض التجار إليه بالعشية، وطلبوها بربح خمسة آلاف درهم.

فقال: انصرفوا الليلة؛ فجاءه من الغد تجار آخرون؛ فطلبوها منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم؛ فردّهم، وقال: إني نويت البارحة بيعها للذين أتوا البارحة، وقال: لا أحب أن أنقض نيتي!

(تاريخ بغداد: ٢/ ١١) و(تاريخ دمشق: ٥٣/ ٨١) و(سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٤٤٧) و(طبقات السبكي: ٢/ ٢٢٧) و(الهدى الساري: ٤٨٠) و(تغليق التعليق: ٥/ ٣٩٥)


ففي هذا النص؛ التصريح بأن له ولداً، اسمه أحمد، وكنيته: أبو حفص، ولكن قال بعضهم: أن قائل "أنفذها إليه ابنه أحمد أبو حفص" يعني: ابن القائل، وهو بكر بن منير، أو محمد بن أبي حاتم.


ولكن، هذا بعيد؛ إذ لو كان هذا الابن؛ ابن المتكلم؛ لكان السياق، هكذا "أنفذها إليه؛ ابني أحمد"؛ إذ لا يستقيم لغوياً؛ أن يخاطبه خطاب الغائب.



ثالثاً: يثبت ذريته الإناث لا الذكور:


قال محمد بن عبد الله ابن البيّع الحاكم، في كتابه (معرفة علوم الحديث: ٥٢) "وأما البخاري ومسلم؛ فإنهما لم يعقِّبا ذكراً".


وقال الحافظ عبد الرحمن بن علي ابن الديبع الشيباني: "توفي، ولم يعقب ولداً ذكراً".

نقله صديق حسن خان، في (الحطة: ١/ ٢٤٦).


وقال سراج الدين عمر بن علي ابن الملقن، في (المقنع في علوم الحديث: ٢/ ٥١٧): "ولم يعقب البخاري ومسلم ذكراً، أيضا".


وقال صاحب (الإكمال: ١٤٩): "ولم يعقب ولداً ذكراً".


وقال ملا علي سلطان قاري، في (مرقاة المفاتيح: ١/ ١٧): "فمات عن غير ولد ذكر".


وقال محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، في (التحبير لإيضاح معاني التيسير: ١/ ٩٧): "ولم يعقب ولداً ذكراً".


وقال محمد بن علي الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار: ١/ ٢١): "ولم يعقب ولداً ذكراً".


وقال عبد الحق البخاري الدهلوي الحنفي، في كتابه: (لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح: ١٠/ ٢٦١): "ولم يعقب ولداً ذكرا".


وقال أحد الباحثين: "وقد عثرت أخيراً؛ على أنه تزوج وولد بنتاً أو بنتين، ولا زلت أواصل البحث راجياً أن أعثر في هذا الموضوع على ما يشفي الغليل، وينير السبيل.

من مقال (ساعة مع الإمام البخاري) في مجلة "دعوة الحق".

ولا أدري، ما مرجعه في هذا؟!


رابعاً: ينفي زواجه:


قال العجلوني في (إضاءة البدرين: ٣): "ولم أقف على أن البخاري تزوج، فضلاً عن وجود ولد له".


وقال محقق (التاريخ الأوسط) للإمام البخاري -تيسير بن سعد أبو حيمد-: "لم تذكر كتب التراجم -فيما وقفت عليه- شيئاً عن زواج البخاري، أو عن ذريته؛ سوى قول الحاكم: "وأما البخاري ومسلم؛ فإنهما لم يعقبا ذكرا".



خامساً: ينفي ذريته مطلقاً:


نقل الشيخ عبد السلام المباركفوري، عن "العلامة ولي الدين الخطيب صاحب، (مشكاة المصابيح) والملا علي القاري في (شرح المشكاة): أن الإمام البخاري، لم يترك وراءه ذرية من بعده".


وقال الحسين بن محمد اللاعي المغربي اليمني، في (البدر التمام: ١/ ٢٨): "ولم يعقب البخاري أحداً من الأولاد، وقد رزقه الله ما هو أعظم وأجل من تخليف الولد الصالح من شهرة صحيحه، وانتفاع الأمة به في جميع أقطار الإسلام".


قلت: ولفظ الولد؛ يتناول الذكر والأنثى، كما قال تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" وقال صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.


وقال إسماعيل بن عمر ابن كثير: "وقد ترك -رحمه الله- بعده علماً نافعاً لجميع المسلمين، فعمله فيه لم ينقطع، بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، من علم ينتفع به) الحديث. رواه مسلم".

(البداية والنهاية: ١٤/ ٥٣٣)


وأحسب؛ أن هذه إشارة من ابن كثير؛ إلى أن البخاري لم يولد له، والله أعلم.



سادساً: التردد في ذلك:


نقل الشيخ المباركفوري: أن العلامة العجلوني؛ تساءل عن سبب تكنيته بأبي عبد الله إذن؟

ثم أجاب على هذا السوال بنفسه: "بأنه لا يشترط للتكنية؛ أن يكون الرجل له أولاد، وقد جرت عادة العرب؛ بأنهم كانوا يكنون أولادهم وبناتهم وهم صغار، دون أن يولد لهم، وله أمثلة لا تعد ولا تحصى، والإمام البخاري -وإن كان عجمي النسل-؛ لكن بلاد خراسان کان فيها أثر كبير لعادات العرب، ولا سيما في أهل العلم.

ولكن الأسف: أننا لم نجد في هذا الباب قولاً أقدم من قول ولي الدين الخطيب التبريزي وهو من المتأخرين جداً.

أما العجلوني: فإنه شك حتى في زواجه، فقد قال: إن الإمام لو كان تزوج؛ لوجدنا له ذِکراً!

ولكن الأسف أن المؤرخين؛ لا يذكرون عادة أحوال الزواج والنكاح، فهناك مئات من الأسماء في كتب التاريخ؛ لا يذكر شيئاً عن زواجهم أو عدمه، فكيف يسوغ لنا؛ أن نظن لأجل هذه الاحتمالات الضعيفة؛ أن الإمام البخاري حُرم من سنة مؤكدة حتى يثبت لنا بسند صحيح أنه ترك ذلك.

ولو فرضنا أن الإمام البخاري؛ لم يترك ذرية من صلبه؛ فذريته الروحية تتجاوز مائتي مليون ومائتين وأربعة آلاف نسمة، (قال المعلق: هذا هو عدد المسلمين حسب إحصائيات عام ۱۸۹۷م (جريدة المؤيد) بغض النظر عن أولئك المساكين الذين يشكّون حتى في صحة القرآن لمجرد أن الذي جمعه هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويزعمون أن القرآن الصحيح مخفي ومدفون في أحد المغارات أو السرادیب، فإن هذا لا يغض شيئاً من أولاد الإمام الروحانيين، والحمد لله فإن عدد أولئك الذين يؤمنون بكونه أصح الكتب بعد كتاب الله يزداد يوماً فيوماً".

(سيرة البخاري: ١/ ١٩٧)


وقال الدكتور وليد المنيسي، في (ملتقى أهل الحديث): التقيت بأحد الإخوة الفضلاء في مدينة سكرامنتو بولاية كاليفورنيا -وأصوله بخارية-؛ وأخبرني أنه من ذرية الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وأن ذرية الإمام البخاري؛ لا تزال موجودة في إحدى تلك الجمهوريات الإسلامية -أظنها أوزبكستان-.


وإثبات هذا الانتساب؛ يحتاج إلى إفاضة واستفاضة، و(الناس مؤتمنون على أنسابهم) إذا كانت هناك استفاضة.



قال أبو نعيم: هذا ما وجدته في أمر زواج البخاري وإنجابه.

وقد تبين لك من إيراد ما أوردت؛ أن البخاري تزوج، وملك الجَواري، واشترى وأعتق، وذرّى.

ومن نفى؛ فلأنه لم يجد نصاً في ذلك، (والمثبت مقدم على النافي).


ولعل هذا هو الراجح -والله أعلم- ولكن ليس عندنا؛ عدد زوجاته وجواريه، ولا عدد بناته وبنيه؛ ولكن عدم الذكر؛ لا يعني النفي؛ خاصة إذا علمنا: أن أمر المرأة مبني على الستر والخفاء، وعدم الإظهار والجلاء.


والشاهد على ذلك: أن ذكر النساء في كتب السير والتراجم؛ نزر يسير، وليس ذلك راجع إلى قلّتهن، بل إلى ما ذكرت لك من السبب.

وما اشتهر منهن؛ فإنه قليل جداً بالنسبة لأعدادهن الكبيرة الكثيرة..


فهذا المؤرخ عبد القادر بن محمد القرشي، يقول في كتابه (الجواهر المضية: ٤/ ١٢٢): "وقد بلغنا عن بلاد ما وراء النهر وغيرها من البلاد؛ أنه في الغالب لا تخرج فتوى من بيت إلا وعليها خط صاحب البيت، وابنته، أو امرأته، أو أخته".


وهذا العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، يقول في (إدام القوت: ٣٧٣). "وكانت صُبيخ -بلدة بحضرموت- مهْد علم، ومغرس معارف؛ حتى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن (إرشاد ابن المقري)"!


رحم الله أبا عبد الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري تحتها الأنهار، فقد خلّف تراثاً لن يموت، وإن حوول إماتته "والله متم نوره ولو كره الكافرون" والمشركون والمنافقون والعلمانيون وأعداء الدين أجمعين.

والله تعالى أعلى وأعلم، وأعز وأكرم.


وكتب: أبو نعيم وليد بن عبده الوصابي

١٤٤٠/١٠/١٥


الأحد، 4 يونيو 2023

رحل بصمت كما عاش!

 رحل بصمت كما عاش!

اليوم، وبين أذان وإقامة صلاة الفجر، رأيت شاباً في مقتبل عمره، يقوم ويقعد -وكثيراً ما يفعل، وكأن في عقله لوث، ولعله لوث الفقر المذقع، عافاه الله- أشرت إليه، أن اجلس مكانك في الصف الأول!


امتثل وجلس، ثم سألته: هل تدرس في حلقات التحفيظ؟

فأجاب بالنفي، وأشار إلي صديقي، يخبرني عن مرضه!

قلت في نفسي، أقتنص الفرصة؛ لأعلمه سورة الفاتحة!

قلت له: اقرأ الفاتحة، فأخذ يرتلها ترتيلاً حسناً، دون أخطاء جلية.

قلت له: ما شاء الله، صوتك جميل، فيا ليتك تلتحق بحلقات التحفيظ.

فشكا إلي؛ أنهم لم يقبلوه!


قال لي صديقي: صوته بالأذان أجمل!

قلت: ما شاء الله، مثل والده!

فنكس الشاب رأسه، وقال: الله يرحمه!

ذهلت ودلهت، وتلعثمت!


قال لي صديقي: سبحان الله، ما عرفت .. عجيب، ما كلمتك .. كأني أخبرتك؟

قلت: والله لم أعلم إلا الساعة!

استرجعت ودعوت له بالرحمة، وعزيت المسكين، وإن تأخر الوقت!


ثم قال لي صاحبي: هنيئاً له، مات موتة يتمناها العلماء.. مات وهو صائم، بعد أن صلى فجر ذلك اليوم معنا في المسجد!


كان صائماً الست من شوال، صلى معنا الفجر، ثم رجع إلى بيته ونام، ولما جاء أهله ليوقظوه؛ إذا به قد فارق دنيا البلاء والابتلاء!

قال لي: صلينا عليه صلاة العصر من ذلك اليوم، وشيعناه، وكان جمعاً مهيباً.


قلت: وقد كنت أعرف هذا الرجل الفاضل، بصوته قبل شخصه، وأنا صغير مناهز؛ وذلك أنه كان يؤذن الأذان الأول في مسجد حيه، وكان صوته شجياً ندياً غاية!


وحين سماعي أذانه، كنت أهبّ من نومي، منصتاً لهذا الصوت الخاشع الرائع، ولم يكدر علي صفوي، إلا اختلاط صوته بغيره من المؤذنين، فكنت أقوم وأجلس إلى جهته، وأضع يدي على أذني، وأقول: صه، أتسمعه!


وكنت أخبر بعض صحبي، عن هذا الصوت المعجب المطرب، من يكون؟ فلم أظفر بجواب!


حتى كنت ذات يوم في محاضرة، في ذاك المسجد؛ وإذ بي أسمع هذا الصوت الندي، ورأيت صاحبه عن كثب!

ستيني طوال، أسمر اللون، خفيف اللحية، تراه وقد تخلى عن كل كلفة وتكلف، ولبس ثوب التواضع والفقر، وقد كان الفقر ضارباً عنده أطنابه، حتى أضر به جداً في أواخر أيامه، حتى أوشك على فقدان بصره!


فرحت جداً، وحمدت الله؛ أن ظفرت بصاحبي الذي لم أعرفه!

لكن، للأسف، لم يدُم فرحي، فقد توقف أو وقّف عن الأذان بعدها، وجهدت أن أسمعه أخرى، ولكن ذلك لم يكن!


وكم تمنيت أن يكون هذا الرجل مؤذناً رسمياً في مسجد من المساجد، وأبحتُ هذا لبعض صحبي، فشاركوني الرأي، ولكنها أمنية لم تتحقق!

ولو كان في غير بلدي؛ لدُفعت له الأموال، حتى يؤذن، فاعجب!


وكنت أرى هذا الرجل الصالح -أحسبه- دوماً في المسجد، لا يحتك بأحد، ولا يشتكي منه أحد، يصلي ثم يلفّ عمامته ويضعها تحت رأسه، ويذهب في نوم عميق، هارباً من حر البيت اللاهب!


رحمك الله يا عم قاسم، عشت وحيداً صامتاً، ومتّ كذلك، وحسبك هذه الخاتمة الحسنة.

إنا لله وإنا إليه راجعون.


وكتب: وليد الوصابي

١٤٤٤/١١/١٦