السبت، 30 أبريل 2022

مـا أعـز العِـزّة!

 مـا أعـز العِـزّة!


الآن، رأيت رجلاً يبدو عليه الرياش، وطيب المعاش -ريش بلباس التقوى- يقول لآخر: هل تريد زكاة؟!

قال له: لا بأس، جزاك الله خيراً.


قال له: أنت يمني؟!

قال: نعم.


وإني لمن قوم كأن نفوسهم *** بها أنَف أن تسكن اللحم والعظما!


مضى الغني إلى سيارته، وأتى له بقليل من الأرز، ثم قال له: لكن، أمانة، تأكلونها!


فما كان من ذاك الفقير، إلا أن احمر وجهه، وزم شفتيه، وحملق نحوه، ثم قال له: خذ زكاتك، فإني لست بحاجة إليها!


إني أحرِّض أهل البخل كلهم *** لو كان ينفع أهل البخل تحريضي


ما قلّ مالي إلا زادني كرماً *** حتى يكون برزق الله تعويضي


رد الغني -بصَغار؛ لأنه هو من جلبه على نفسه، وقد كان في عزة وفسحة من أمره-: أرجوك، لا تردها، خذها!


رد الفقير -بشموخ-: لا، والله لا آخذها!


قال الغني: طيب، انظر فقيراً آخر، وأعطِها إياه؟!

قال الفقير: لا، لا أعرف، عليّ بإخراج زكاتي وكفى!


لا تطلبن معيشة بمذلةٍ *** واربأ بنفسك عن دنيّ المطلبِ


وإذا افتقرت فداوِ فقرك بالغنى *** عن كل ذي دني كجلد الأجربِ


فليرجعن إليك رزقك كله *** لو كان أبعد من مقام الكوكبِ


هذا ما كان وبان قبل دقائق وثوان..

وقد تمنيت من الغني -هداه الهادي-.. أن لا يستعمل هذا الأسلوب الجلف الجافي؛ وعليه، أن يتحرى لصدقته، دون سؤال أو جرح لمشاعر الناس، ونهنهة لعزتهم؛ لأن غضب الفقير "العزيز"، يقسم ويقصم!


أبلغ سليمان أني عنه في سَعةٍ *** وفي غنى غير أني لست ذا مالِ


شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزلاً، ولا يبقى على حالِ


والفقر في النفس لا في المال نعرفهُ *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالِ


وقد أعجبت بعزة الفقير، الذي أسقط الفاني على الباقي، فحبات أرز تفنى، وذلة النفس، أثرها باق لا يندمل!


فلا ترضى بمنقصة وذل *** وتقنع بالقليل من الحطامِ


فعيشك تحت ظل العز يوم *** ولا تحت المذلة ألف عامِ

 


بغض النظر، عن الأسلوب، إلا أني شعرت بالفقير، وهو يُصفع من هذا الغني، -ربما دون قصد- فثار وفار وطار، ولم يصبر على الخسف، بل رد الصفعة بأصفع وأفظع!


لو رشفة الماء بعض المنِّ كدَّرها *** ماتوا عطاشى على الرمضا وما رَشفُوا


الحلم والنبل والإيثار عن كرمٍ *** والعزم والحزم والإقدام والأنَفُ


وأقول: أيها المزكي والمتصدق: غلّف زكاتك، واكس صدقتك؛ بجمال الكلمة، وحسن النظرة، وطيب الطعمة؛ لأنها واجبة عليك، ليس لك فيها منّة، ولا يجوز أن يكون منك أذية ولا أذى "يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى".


وعجزت عن شكر الذين تجردوا *** للباقيات، وصالح الأعمالِ


لم يخجلوها بالسؤال عن اسمها *** تلك المروءة والشعور العالي


هذا ما أردت سطره؛ علّ فيها عبرة وذكرى، للأغنياء والفقراء، (اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك)


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢٩

الاثنين، 25 أبريل 2022

أداء المناسك من اليمن!

 أداء المناسك من اليمن!


الحاج أو المعتمر اليمني.. ما به؟! كل خلق الله يعتمر ويحج، فما باله اليمني؟!

نعم، الكل يؤدّي المناسك، ويزور البيت، ويقصد الروضة، ويزور بقعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، (وهي أفضل بقعة على وجه الأرض، لا لذاتها، ولكن؛ لاحتوائها ذاته ونفسه الشريفة، ينظر: (نسيم الرياض: ٣/ ٥٣١) و(التحفة اللطيفة: ١٢) و(الفتاوى الكبرى: ٤/ ٤١١) و(مجموع الفتاوى: ٢٧/ ٣٨)) ويسلّم على صاحبيه رضي الله عنهما.. من شتى الخلق والخليقة، ومن شت البلاد والبلدان، لكن مناسك أهل اليمن تختلف، ليست من حيث الصفة والكيفية، فالكل سواسية، ولكن من حيث الحال والوسيلة والأداة والدرب!


فحالته المادية -في الغالب- ضعيفة كليلة، قليل دخله، شحيحة موارده، لا يكاد يسد رمقه وأطفاله وعائلته، إلا أنه متدين بفطرته.. يحب الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الحق!

وهو شديد اللهف والكلف؛ لأداء وبأداء المناسك، فرغم عوزه، إلا أنه لا يصبر على بيت الله وحرمه، بل بعضهم: يبيع بيته، والثاني: يبيع بقرته التي عليها المعول في الحرث والحليب، والآخر: يستلف ويستدين!


هو النفس الصعّاد من كبد حرّى *** إلى أن أرى أم القرى مرة أخرى


وما عذر مطروح بمكة رَحله *** على غير بوس لا يجوع ولا يعرى


يسافر عنها يبتغي بدلاً بها *** وربك لا عذراً .. وربك لا عذرا


ولا غرابة أن ترى نزراً منهم، يؤمّون بيت الله الحرام، وليس لهم زاد ولا مزودة؛ لخلوّ وفاضهم، وبدوّ أنفاضهم، فما إن يتيسر لهم قيمة التأشيرة، إلا ويسرعون ويسارعون، ثم، ناشدين التوكل على الله، طامعين في فضل الله، ظانين أن الناس مثلهم، في الإيواء والإطعام والإكرام!


ولم يعلموا، أن الزمان غير الزمان، والرجال غير الرجال؛ فقد انشغل كل بنفسه، وانزوى في زاويته، وانطوى على بيته، لا يحب زورة ولا دورة، إلا من رحم الرحيم.


ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلْف كجلد الأجربِ


مات الناس، وبقي النسناس، مات الكرام، وبقي اللئام..

مات أهل الفضل لم يبق سوى *** مقرف أو من على الأصل اتّكلْ


وقال عمرو بن معديكرب الزبيدي:

ذهب الذين أحبهم *** وبقيت مثل السيف فردا


وقال مصعب الزبيري يرثي إسحاق الموصلي:

أرى الناس كالنسناس لم يبق منهم *** خلافك إلا حشوة وزعانف!


ومن المعلوم.. أن أهل اليمن، يضيفون الضيف، ويحبون الغريب، ولا يتضيقون من النازل، بل يوسعون له الدار، ويذبحون له الذبائح، ويمنحونه المنائح، وإن كان بينهم وحر وترة!


على أن هذا من الخطأ الغالط، لا ينبغي أن يكون، ولكن بعضهم لا يملك زمام نفسه، ولا يستطيع كبح جماح نفَسه!


يا من يسافر في البلاد منقباً *** إني إلى البلد الحرام مسافر


إن هاجر الإنسان عن أوطانه *** فالله أولى مَن إليه يهاجر


وتجارة الأبرار تلك ومن يبِع *** بالدين دنياه فنعم التاجر


وعليه، فإني أنادي إخواني من الموسرين أو المقيمين في أكناف البيت الحرام وما والاه: أن ارفقوا بإخوانكم، وأطعموهم، وآووهم، وزودوهم، "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"

هذا الأمر الأول..


الأمر الثاني.. بُعد الشقة، وشدة المشقة، في رحلة اليمني إلى بيت الله الحرام، وليس بُعداً فحسب، بل إن الطريق مخدد ومبدد، وصعب ووعر، ومحفر ومطبب، فلا يكاد يسلم كيلو متر من هذه الأوصاف المضة والممرضة.


فالرحلة، تستغرق في العادة من يومين إلى ثلاثة دون وقوف أو توقف، وأحياناً تستمر إلى خمسة أيام، وربما تضاعفت إلى عشرة أيام بلياليها؛ وذلك إذا صادف ازدحاماً في المنفذ، أو عراقل وعقابيل!


تخيلوا، رجال ونساء، وكبار وصغار، ومرضى وزمنى، يطوون هاته المسافات البعيدة، مع طول مكوث، وإطالة انتظار، وتطويل طريق!


طوت بهم المراحل في الفَيافي *** قَلائص تذرع الفلوات كوم


فَلَمسان فسر دد ثم مور *** فَحَيران لهن به رَسيم


إِلى حرض إلى خلب تراث *** إلى جازان جازَت وهيَ هيم


ومرت في ربا ضمد وَصيبا *** ولؤلؤة وَغَوان تهيم


وذهبان وَفي عمق وَحلى *** تساورها المفاوز وَالرسوم


وفي ببة وَفي كنفي قنوتا *** سرت وَاللَيل منعكر بهيم


فَذوقة فالرياضة فاستمرت *** بجنب الحفر يطربها النَسيم


إِلى الميقات ظلت خائضات *** غمار الآل يلحقها السموم


وباتَت عند ما وردت اذا ما *** تحن فَلا تَنام وَلا تنيم


وفي أم القرى قرت عيون *** عشية لاح زمزم وَالحَطيم


أولاك الوفد وفد اللَه لاذوا *** إليه بفقرهم وَهُوَ الكَريم


وطافوا قادمين يبيت رب *** فتم لهم طوافهم القدوم


وبين المروتين سعوا سبوعاً *** لكي يمحوا شقاءهم النَعيم


قلت: آه، يا عبد الرحيم، هيجت الأحزان، وألهبت المشاعر.. فقد كانت هذه هي طريق الحاج والمعتمر اليمني، منذ آماد وآباد، ولكن، قد تغيرت الدروب، وغيرت الطرق، وبوعد بين أسفارنا، فلسنا بالغيه إلا بشق الأنفس، والله وحده المستعان.


إلا أنه، ومع هذه المنكدات والمكدرات.. إلا أن الواحد منهم، يقلب المحن إلى منح، ويحوّل المشاق إلى أشواق، إلى بيت الله العتيق!


أهيم بروحي على الرابيه *** وعند المطاف وفي المروتين


وأهفو إلى ذِكَر غاليه *** لدى البيت والخيف والأخشبين


فيهدر دمعي بمآقيه *** ويجري لظاه على الوجنتين


ويصرخ شوقي بأعماقيه *** فأرسل من مقلتي دمعتين


أمرغ خدي ببطحائه *** وألمس منه الثرى باليدين


ونظرة عجلى إلى قصيدة عبد الرحيم البرعي، في تشوقه للحج، -مع قطع النظر إلى حال القائل-؛ تدرك قدر التلهف، ومقدار التمزق، ومنها:


ضربت سعاد خيامها بفؤادي *** من قبل سفك دمي بسفح الوادي


ما كان حجة من أقام بمكة *** أن لا يحدثني حديث سعاد


بعثت إليََ من الحجاز خيالها *** شتان بين بلادها وبلادي


يا هذه عوّدتني ألم الضنى *** وأراك لست أراك في العواد


فقف المطيّ ولو كلمحة ناظر *** بربا المحصّب أو منى يا حادي


وأعد حديثك عن أباطح مكة *** وعن الفريق أرائح أم غادي


ومسرّةً للناظرين بدت لنا *** ما بين سوق سويقة وجياد


ومن شعره أيضا وهو يخاطب الركاب:


قل للمطي التي قد طال مسراها *** من بعد تقبيل يمناها ويسراها


ما ضرّها يوم جد البين لو وقفت *** تقص في الحي شكوانا وشكواها


لو حملت بعض ما حملت من حرق *** ما استعذبت ماءها الصافي ومرعاها


لكنها علمت وجدي فأوجدها *** شوق إلى الشام أبكاني وأبكاها


ما هب من جبلي نجد نسيم صبا *** للغور إلا وأشجاني وأشجاها


ولا سرى البارق المكي مبتسماً *** إلا وأسهرني وهناً وأسراها


تبادرت من ربا نيّابتَي بُرَع *** كأن صوت رسول الله ناداها


ومنها، وهي مشهورة مجهورة:

يا راحلينَ إلى منىً بقيادي *** هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي


سرتم وسار دليكم يا وحشتي *** والعيس أطربني وصوت الحادي


حرمتمُ جفني المنام لبعدكم *** يا ساكنين المنحنى والوادي


فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا *** منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي


وتذكّروا عند الطواف متيماً *** صبّاً فني بالشوق والإبعادِ


لي من ربا أطلال مكّة مرغبٌ *** فعسى الإلهُ يجودُ لي بمرادي


ويلوحُ لي ما بين زمزم والصفا *** عند المقام سمعت صوت منادي


ويقول لي: يا نائماً جدَّ السُرى *** عرفاتُ تجلو كلّ قلبٍ صادي


تالله ما أحلى المبيت على منى *** في يوم عيد أشرفِ الأعيادِ


الناسُ قد حجّوا وقد بلغوا المنى *** وأنا حججتُ فما بلغتُ مرادي


حجوا وقد غفر الإلهُ ذنوبَهُم *** باتوا بِمُزدَلَفَه بغيرِ تمادِ


ذبحوا ضحاياهُم وسال دماؤُها *** وأنا المتَيَّمُ قد نحرتُ فؤادي


حلقوا رؤوسَهمو وقصّوا ظُفرَهُم *** قَبِلَ المُهَيمنُ توبةَ الأسيادِ


لبسوا ثياب البيض منشور الرّضا *** وأنا المتيم قد لبست سوادي


يا ربِّ أنت وصلتَهُم وقطَعتني *** فبحقِّـ"كـ"ـم يا ربّ حل قيادي


ويقول الشاعر أحمد سالم باعطب: يا مهجةَ الأرضِ يا ريحانةَ العُمرُ *** حبيبتي أنت في حِليِّ وفي سفري


كم بِتُّ أرسمُ أحلامي مطرَّزةً *** إليك بالشوق والتذكارِ والسَّهرِ


يا خير أمِّ رعَى الرحمنُ مولدَها *** ومنيةَ العاشقينِ: السَّمعِ والبَصرِ


طهورُها الحُبُ والإيمانُ حلَّتُها *** وعقدُها دررُ الآياتِ والسُّوَر


أنا سليل العُلى والسادة الغرر *** أنا المناجيكِ في الظلماءِ والسَّحَرِ


أنا الذي أرضعتْني كُلُّ ثانيَةٍ *** قبَّلْتُ فيها يدَيْك الحُبَّ من صِغَري


أنا الذي طَرِبَ العشاقُ من طَربي *** وزاحموا الشُّهْبَ أفواجاً على أثري


حبيبتي أنتِ أزكى حُرَّةٍ حمَلَتْ *** في راحتيها ضياءَ الشَّمْسِ والقمرِ


يا ربَّةَ الخُلُقِ المحمودِ والسِّيَرِ يا *** عَالمَ النور يجلُو ظلمةَ البَشَرِ


يا قلبَ أرضِ بلادِ اللهِ قاطبةً *** يطُوفُ حولَك طُهْرُ الحِجْرِ والحَجَرِ


إنْ كان حُبُّ الفَتَى في عرفهِ *** قَدَراً فإنَّ حُبُّكِ في عُرْفِ الهُدى قدري


لا شيءَ يملاُ أكوابي إذا فَرَغَتْ *** إلاَّ رضابُ المنى من ثغركِ العَطِر


وهذه نفحات من أديب العربية الحضرمي علي أحمد باكثير:


طف بي بمكة إني هدّني تعبي *** واترك عناني فإني هاهنا أربي


ودع فؤادي يمرح في مرابعها *** ففي مرابعها يغدو الفؤاد صبي


هنا أمرغ خدي صبوة وجوىً *** فتهتف الحور بشرى خدك الترب


فإن رأيت دموعي أنبتت حجراً *** فتلك مني دموع الفرحة العجب


هنا بمكة آي الله قد نزلت *** هنا تربى رسول الله خير نبي


هنا الصحابة عاشوا يصنعون لنا *** مجداً فريدا على الأيام لم يشب


كم هزني الشوق يا خير الديار وكم *** عانيت بعدك وجدا دائم السبب


إلا إليك أرى الأشواق تقعد بي *** وعند ذكرك أشواقي تحلق بي


وعند ذكرك أنسى أنني بشر *** وكالملائك أحيا في المدى الرحب


فتبدعين كياني من تقى وهدى *** فلا أحس بما ألقاه من وصب


ما غير زورة بيت الله ترجع لي *** شباب روحي إذا امتدت يد النوب


ربي حنانيك فاكتبها وخذ بيدي *** كي يهتف القلب يا فوزي ويا طربي


ومن أقدم الشعر في التشوق إلى مكة، ما قاله مضاض بن عمرو، يندب حظه وحظ قومه الذين خرجوا أو أخرجوا من مكة، وقد وصل إليها متعقباً إبلاً له، فوقف على جبل أبي قبيس، وأنشد قصيدة طويلة، منها:

وقائلة والدمع سكب مبادرُ *** وقد شرقت بالدمع منها المحاجر


كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** مقام ولم يسمر بمكة سامر


ولم يتربع واسطاً فجنوبه *** إلى المنحنى من ذا الأراكة حاضر


فقلت لها والقلب مني كأنما *** يلجلجه بين الجناحين طائر:


بلى نحن كنا أهلها فأزالنا *** صروف الليالي والجدود العواثر


والأمر الثالث: هو ما تشهده بلاد اليمن، من حرب دامية، وظروف قاسية، وما خلفته من انقطاع للكهرباء، وتقطع في الماء، وتدهور في وسائل تواصل النقل والاتصال.. إلا أنهم دائماً يتغلبون على المصاعب والمتاعب، فتراهم يخرجون من بيوتهم، ولا يملكون قيمة الغداء؛ لكن البسمة تعلو وجوههم، والأمل يداعب قلوبهم، ولا يخلو عملهم من كد ودأب وإدئاب!


تسأل أحدهم: كيف الحال؟ يرفع كفيه إلى السماء، ويقول: له الحمد والشكر، ثم يقبّلهما!


ملحوظة: كلامي هذا لا أعني به الجميع، بل أريد به المجموع، وإلا، فإن هناك شواذ وشذاذ لا يقاسون ولا يقاس بهم.


ملحوظة أخرى: ثنائي على أهلي وأهل بلدي.. لا أقصره عليهم، ولا أنفيه عن غيرهم، بل إن الكرم والكرام في جميع البلاد، ومن مجموع العباد.


هذا إيماض وإلماظ وإحماض عن أداء مناسك الرجل اليمني (وإن شيت، قلت: اليماني؛ فـ(الإيمان يمان، والفقه يمان) وأرجو لبلاد المسلمين- الأمن والأمان والإيمان، والسلم والسلامة والإسلام، والرخاء والرغد- أجمعين اكتعين أبتعين أبصعين، "وعلى الله فليتوكل المتوكلون" "ومن يتوكل على الله فهو حسبه * ويرزقه من حيث لا يحتسب".


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢٤

الأحد، 24 أبريل 2022

ليلة ٢١ من رمضان في المسجد الحرام!

 


ليلة ٢١ من رمضان في المسجد الحرام!


من عادتي أنا.. أن لا أحرص في رمضان، على الصلاة في الحرم؛ للزحام الشديد الذي يفضي إلى بعض المخالفات، من تبرج وتفنن، وتزين وتفتن!


مع ما في ذلك من اختلاط النساء بالرجال، والصغار بالكبار، في المخارج، وعلى الأبواب، وعند السلالم!

والله المستعان.


وصار وضع بعض النساء، كما قال القائل:

‏‎وليست كأخرى أوسعت جيب درعها *** وأبدت بنان الكف بالجمراتِ


وعلَت فتيت المسك وحْفاً مرجلاً *** على مثل بدر لاح في الظلماتِ


وقامت ترائي يوم جمعٍ فأفتنت *** برؤيتها من راح من عرفاتِ!


وكأن أبا حازم المدايني، يتحدث عن عصرنا هذا.. حينما نظر إلى امرأة تطوف بالبيت مُسفرة، وكانت من أحسن خلق الله تعالى وجهاً، فقال: أيتها المرأة، اتقي الله، لقد شغلت الناس عن الطواف! فقالت: أما تعرفني؟ قال: من أنت؟ فقالت:

أماطت رداء الخز عن حر وجهها *** وألقت على المتنين برداً مهلهلا


من اللائي لم يحججن يبغين حسبة *** ولكن ليقتلن البريء المغفلا


وقد كان بعض السلف: يطوف بالبيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:

أهوى هوى الدِّين واللذات تعجبني *** فكيف لي بهوى اللذات والدين؟!

فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.


نعم، صحيح، يجب على الرجل غض البصر، ومراقبة الرقيب، ولكن، يجب على المرأة أيضاً: ستر زينتها، وإخفاء مفاتنها؛ لأن لكل ساقطة لاقطة!



تخيلوا، هذا الموقف العجيب، من هذا الصحابي النجيب..

خطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر، ابنته، وهما في الطواف، فلم يجبه، ثم لقيه بعد ذلك، فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف، نتخايل الله بين أعيننا!


لا إله إلا الله، حقاً، إن من يتخايل الله بين عينيه؛ ينأى عن المآثم والمحارم والمغارم، وينفك عن المفاتن والمزاين!



ولا ينكَر.. أن في النساء بقايا، وفي الزوايا خبايا، وحالهن كما قال النميري:

يخمّرن أطراف البنان من التُّقى *** ويخرجن جنح الليل معتجراتِ


عذراً، أسهبت في هذا الأمر، وقد كتبت فيه مقالاً، عنونته، بـ "ظاهرة تبرج النساء في الحرمين الشرفين!

يا زائرة الحرم اتق الإثم واللمم!"


أقول: علاوة على ضيق النفس، وتضيق النفَس!

وإذا ضاقت النفس، وتأففت الروح؛ تعب الجسد، وتبلبل القلب، وتحير اللب، ولم يذق لذة العبادة، وحلاوة الطاعة!



والليلة، ليلة الواحد والعشرين، جاءني بعضهم، وحضني وحرضني على الصلاة في الحرم.

اعتذرت، فأصر وألح، حتى وقعت تحت إلحاحه وإصراره!


ذهبت، وليتني لم أذهب، ليس زهداً في هاته البقعة الشريفة التي صلاها وفضلها رسول الله عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام، ولكن، للزحام الممض والمقض!


أقول: ذهبنا بعد صلاة المغرب، حتى أذن للعشاء ثم أقيمت صلاته، ولا زلنا نخب ونوضع، ولم نصلْ بعد، حتى فاتتنا الركعة الأولى!


فلما خشينا فواتها.. صففنا في درب هناك، يمشيه الناس بأحذيتهم، دون فرش أو بساط، حاشا عِمّة أحدنا، تطوع بها الحاض!

صلينا مع من صفّ وصلى وافترش، ولا تسلني عن ما يخدش هذه الصلاة، من: تخط، ولغط، وغلط!


وحقيقة، إن قدسية المكان، وشرف الزمان.. أضفت عليه جلالة ومهابة،  فاهتبلناها فرصة، لنصلي بنعالنا، (والصلاة في النعال، سنة، تكاد تهجر، وقد صنف فيها شيخنا المحدث مقبل الوادعي، رسالة، على طريقة المحدثين الأقدمين، أسماها: "شرعية الصلاة في النعال")


انطلقنا بعد الصلاة، نهرول لا نلوي على شيء، سوى نشدان مكان لصلاة التراويح (هكذا تروايح أو قيام، في جميع الشهر، دون تفريق في التسمية والوقت، في العشر) لكن المسجد قد امتلأ عن آخره، حتى الساحات الوسيعة هي الأخرى ضجت واكتضت، ولا زلنا في سعينا حتى لغبنا، ثم منّ الله تعالى بموطئ لأقدامنا، أمام دورة للمياة، في إحدى الساحات، فاصطففنا هناك، فرحين بذلك، والحمد لله على كل حال.


ولا شك.. أن هذه الاجتماعات، تشي بخير، وتنم عن حب، وتدل على مسابقة ومسارعة، ولكن ليت الناس، لا سيما أهل مكة.. يتركون فرصة لغيرهم من البلدان البعيدة، الذين لا يكادون يرونه إلا مرة في العمر، وهم يأتونه كل يوم، بل بعضهم كل فريضة!

حتى أن أحد الإخوة أخبرني، عن أحد الإخوة.. أنه اعتمر في إحدى الرمضانات، ٤٠ عمرة!

فقال له صاحبي -ممازحاً، بلهجته-: أها، يعني: أنت مسبب الزحمة!


ناهيك، عن الحكم الشرعي، في حكم تكرار العمرة.. فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم.. أنهم كرروا العمرة في سفرة واحدة.

ينظر، للتوسع (المغني: ٥/ ١٧) وفعل عائشة، حادثة عين خاصة، كما في (مجموع الفتاوى: ٢٦/ ٢٧٣)


وهذا، وإن كان يدل على الحب، إلا أنه يسبب زحاماً خانقاً، وتدافعاً مؤلماً.. فإذا اجتمع هؤلاء الماكثين، بأولئك الزائرين.. اكتض الحرم بالآمّين، وغض بالمصلين، فلا تكاد تجد لرجلك موطناً وموطئاً.


وقد كان كبار العلماء، كابن إبراهيم، وابن حميد، وابن باز.. إذا أتوا مكة، لا يقصدون الحرم باستمرار، بل يصلون خارجه، كالعزيزية ونحوها من مناطق حدود الحرم -كما أخبر عنهم الشيخ الفوزان-.

والجمهور.. على أن المضاعفة، تعمّ الحرم كله، كما في (المجموع: ٩/ ٣٢٩) و(زاد المعاد: ٣/ ٣٠٣)



على كل، هذه خاطرة سنحت، وذكرى سمحت، فاقتنصتها، علّ فيها تذكرة وذكرى.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٢١




الخميس، 21 أبريل 2022

ظلمات المنظمات!

 


ظلمات المنظمات!


لا زلت أذكر وأتذكر، تلك المحاضرة القيمة، التي ألقاها على مسامعنا- أحد مشايخ أهل السنة والجماعة، في عرصة عريضة، تسَع الآلاف والألاف (وكثيرة ما كانت تقام، أعادها الله في وئام) لكني لا أذكر على وجه اليقين أين كانت.. هل في الجراحي أو حيس أو الحسينية أو بيت الفقيه، وأجزم أنها في واحدة منها، محدساً، أنها في حيس؛ لأن بها منظمة -قمئت وقمعت-.


وأتذكر تماماً.. غيرة الشيخ، وارتفاع صوته، وانتفاخ أوداجه -وإن كنت لم أرها؛ لأني كنت صغيراً وبعيداً- (كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم) وكان مما حذر منه، وأنذر عنه: منظمة أدرى وغيرها من المنظمات التخريبية التغريبية التحريضية!


واترك خلائق قوم لاخلاق لهم *** 

واعمِد لأخلاق أهل الفضل والأدَبِ


حتى أذكر حينها، وأنا صغير، لا أعي معنى المنظمة، وما هي المنظمة، وما تريد المنظمة؟! إلا أني شعرت حينها بالخوف والوجل من الانتقام، ممن حذر منهم، وظلْت طيلة المحاضرة، أحاذر أن يقذفوا علينا بقاذف -قذفوا وحذفوا وخذفوا-!


انتهت المحاضرة، وعاد كل إلى داره، وظلّت "المنظمة" أحمل عنها السوء والشر والضر والمنكر -وهي كذلك- وإن دَسّت السم في الدسم!


وإِذا الفتى عرف الرشاد لنفسهِ *** هانتْ عليه ملامة الجُهّالِ


ولا زالت المنظمات تتوالى، وصوتها يتعالى، وعملها ينتشر، وصيتها يشتهر، في ربوع بلادي الحبيبة الفقيرة؛ زعماً لإطعام وإيواء، لكنها بلواء ولأواء!


وللأسف، لم يسمع بعض قومي لصراح الشيخ الصريح، وصراخه الصريخ، وتحذيره الجلل، حتى مُكن لهذا الخراب والحراب، والفساد والإفساد.


وما كل من مددت ثوبك دونه *** لتستره فيما أتى، أنت ساتره


وإني لأعجب جداً، بل وأسخر، بله أشنأ وأمقت.. من يحسن بهم الظن، ويتوقع منهم الخير الخالص، ويكأنه لم يقرأ قول الله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"؟!


ما قيمة الناس إلا في مبادئهم *** لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرتبُ


فحاشاهم، نعم، حاشاهم.. أن ينفقوا شيئاً من أموالهم، لله خاصة، وللمؤمنين خالصة، إلا أن يشوبوها بشوائبهم المقذية، ويخلطوها بأخلاطهم المعدية؛ لأنهم لا يرجون لله وقاراً، ولا يبتغون عند الله ثواباً، "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".


وإني لأعلم مِن وعَن كثير من بني قومي.. مَن يقول: نصبر على الجوع والعطش، ولا نصبر على وحر العار، وحر النار.


كل المصائبِ إنْ جلّت وإنْ عَظُمَتْ *** إلا المصيبة في دِين الفتى جَلَلُ


ولكن هؤلاء الأتن الأنتان النتنى؛ لا يكشفون عن وجوههم الكالحة، ولا يضِحون عن حقيقتهم الفاضحة، بل يدسون ويدلسون ويموهون، ويظهرون الطيب، ويتظاهرون بالحسن!


وأسفي.. أن يُستعمل بعض بني قومي أداة، ويركب مطية؛ لتمليح صورهم القبيحة، وتلميع أجسامهم القريحة؛ مقابل بعض وبضع دريهمات، فـ (تعس عبد الدينار) "ألا ساء ما يزرون" "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون".


فأنت امرؤ منّا خُلقتَ لغيرنا *** حياتك لا نفعٌ وموتُك "نافعُ"!


ونحمد الله تعالى.. أن قامت أمة بالحق وتقوم؛ فكشفت زيفهم، وأظهرت بهرجهم، وأحبطت سعيهم؛ فاستمع لهم العقلاء، الذين يبغون الله والدار الآخرة، ولا يبتغون الفساد في الأرض.

فالحمد لله رب العالمين.


أما من اتبع هواه، وأذعن للشيطان، وأراد الطريق عوجاً؛ فلا كلام معه؛ لأنه "اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله"؟!


إذا ما الهوى استولى على الرأي لم يَدَع *** لِصاحبه في ما يراه صوابا


آخر:

‏‎والنفس إن صلحت، زكت، وإذا *** خلت من فطنة، لعبت بها الأهواء


آخر:

‏‎إذا أنت لم تعصِ الهوى، قادكَ الهوى *** إلى بعض ما فيه عليك مقالُ


ونأمل من الحكام والمسؤولين، وذوي الحل والعقد.. أن يقطعوا الصلة، ويقطّعوا أوصال هاته المنظمات الفاسدة والمفسدة، التي تصد "عن ذكر الله وعن الصلاة"، وتدعو إلى تحرير المرأة، وتحرر الشاب، ووأد الفضيلة، ونشر الرذيلة، وخلع ربقة الشريعة، ونقض عرى الإسلام، والخروج من الدين بالكلية، والانسلاخ من الأسرة، والسفر إلى ديار الغرب؛ للعمل في السوء والشر والفحشاء والمنكر!


وليس بعامر بنيان قوم *** إذا أخلاقهم كانت خرابا


وقال:

كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم *** ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب


وقال:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن تولت مضوا في إثرها قدما


وقال:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا


ويا أهل اليمن.. إن لم تطرد الحكومات هذه المنظمات ويخرجوها من دياركم؛ فأخرجوها أنتم من قلوبكم، واطردوها من نفوسكم، واحفظوا بناتكم وأهليكم؛ فإنكم عنهن تسألون، إن لم تحوطونهن بنصح! و"فساد النساء سببه الأول؛ تساهل الرجال".

كما قال الشيخ بكر أبو زيد، في رسالته الفذة الفردة "حراسة الفضيلة" فاقرئيه يا كميلة؛ لتدركي خطر الحركات العميلة، حفظك الله في كل صغيرة وجليلة.


وحقيقة، إن البنت اليمنية.. بها يقتدى ويحتذى ويجتدى ويهتدى؛ لأنها أبت إلا التلفع بالخمار، والاعتجار بالجلباب، والتغطي بالحجاب، والحمد لله على أنعامه وإنعامه.


فلا تبالي بما يلقون من شُبهٍ *** وعندك "الدين" إن تدعيه، يستجبِ


وهؤلاء.. أسلافك:

قال ابن عبيد الله السقاف: "وكانت صبيخ -بلدة بحضرموت- مهد علم، ومغرس معارف؛ حتى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن (إرشاد ابن المقري)!


وذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب الأهدل.. أن نساء زبيد خصوصاً الأهدليات؛ كن يحفظن مسائل (المنهاج) ويراجعنها، وهنَّ يطحنَّ الذرة على الرحى!.


والمراكز والمساجد العلمية.. فيها الآلاف من حفظة كتاب الله تعالى، وحافظات سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدرسن ويدرّسن شتى الفنون، ومنهن المؤلفات والمصنفات والمحققات والباحثات والعالمات.. فناشدتكن الله، إلا لحقتن بركب الصالحات، "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" "والآخرة خير وأبقى".


والخير في نساء المسلمين، في أنحاء المعمورة، لا يهي ولا ينتهي، فـ (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله.. لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) رواه البخاري ومسلم، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.


اللهم خذ بأيدينا إليك، واجعل أعمالنا في رضاك، وارفع الغمة عن الأمة، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٢٠


الاثنين، 18 أبريل 2022

اِعمل الذي عليك!

 اِعمل الذي عليك!


التقيت صديقي في سطح المسجد الحرام، بعد انقطاع أعوام.. كان الفرح عارماً، والبهجة مبهجة!


أقيمت الصلاة، وتهيأ المصلون للتكبير، ولا زلت مغتبطاً بمجاورة صديقي؛ إذ أشار إلي أحد من كان أمامي في الصف، بالتقدم إليه، والاصطفاف بجواره!


لم أعبأ لإشارته، فكرر علي، وقال: سدّ الفرجة يا أخي!

رددت: الفُرَج كثيرة في كل مكان! وبالفعل، كان كثير من الصفوف، مفرّجة غير مستوية!


فرد بكلمات لم أتبينها، ثم كبر!

لكن، صاحبي تبينها.. فتقدم إليه.


انتهت الصلاة، وإذا بصاحبي يقول لي: ما أحسن صلاة هذا الرجل! وسبحان الله، بعد التصافف صار بينهما كلام وتعارف، وكان الرجل من تونس المونس.


فقلت لصاحبي: ماذا كان يقول؟

فأخبرني أنه قال: اعمل الذي عليك!


وقفت مشدوهاً أمام جمال هذه العبارة، ومذهولاً من فعلي الخاطئ، وأخذت أكررها: اعمل الذي عليك!


أدركت أني كنت مخطئاً، تحت وطأة الإلحاح، وتشبثي بالصديق الوفيق -وما أقلّهم اليوم-، لكني أُبت وتبت -والحمد لله-.


وحقاً، إن على الإنسان.. أن يعمل الذي عليه من الواجبات والمستحقات والمندوبات والمستحبات، ولا يضره فعل غيره.

وفي حديث ابن مسعود: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) متفق عليه.


إن استطاع النصيحة، فالحمد لله، وإن لم، فليعمل الذي عليه ولا يضيره، "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" "لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين" "إن عليك إلا البلاغ" "فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر"

"يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"

قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين.. أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه: من أصلح أمره، لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً".


بل إن هذا الداء، ربما كان سبباً في ترك الواجبات، وهجر السنن، ونشر النقيصة، وبث التهاون، مع ما فيه من التبعية والتقليد والاتكالية.

قال تعالى مخبراً عن سبب شرك المشركين: "بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"


ولعمري، إن من عمل ما عليه.. عاش في هناء وسعد، ولم يبال بما عملت سعاد أو لم تعمل دعد!

فاعملوا واهنؤوا واسعدوا، بعمل ما عليكم واتركوا الخلق وما عليهم، "إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/١٥





الأربعاء، 13 أبريل 2022

مـع سائـق أُجـرة!


مـع سائـق أجـرة!


من عادتي الغالبة في معاملتي مع الآخرين -سواء كان شراء أو ركوباً أو نحو ذا-.. أن أبدأهم بالسؤال عن الحال والعيال، والبلاد والعباد، وربما مازحت قليلاً، ولكن ليست هذه صفة لازمة لي مع الكل، بل مع من أحدسه يحب ذلك؛ لأن الناس طبائع ومعادن!


وكثيراً ما تنتج الأسئلة، قاسماً مشتركاً بيننا، إما في معرفة رمز أو بلدة أو خُلق أو موهبة -والحمد لله-.


وأحسب فعلي هذا؛ من إدخال السرور على المسلم، فكم يسرّ المسؤول حينما تشاركه أحواله، ثم تتوج ذلك، بالدعاء والثناء.


على حدّ قول الشاعر:

وليس بأوسعهم في الغنى *** ولكن معروفه أوسعُ


وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال.. أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه دَيناً، أو تطعمه خبزاً)

عن أبي هريرة رضي الله عنه، رواه ابن أبي الدنيا، وحسنه الشيخ الألباني.


وكل يعمل بقدر وكده وطاقته، وهذا قدْري وقدَري.


ألا ليقل من شاء ما شاء إنما *** يلام الفتى فيما استطاع من الأمرِ


وسئل الإمام مالك: أي الأعمال تحب؟ فقال: "إدخال السرور على المسلمين، وأنا نذرت نفسي أفرّج كربات المسلمين!


فـ بخ بخ أيها الإمام اليماني، وأين نحن من أخلاقكم العالية، المشابهة لأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وهاكم قصتي مع سائق الأجرة:

ركبت بالأمس سيارة، سألت سائقها، عن الأجرة، فأخبرني بالقيمة، فقلت له ممازحاً: أعطيك نصفها؛ لأن سيارتك بدون مكيف!

ضحك، وقال: ما في مشكلة، أعطيني النصف، وأشغل لك المكيف كمان -أو عبارة نحوها-!


ضحكت، وأخذت في أسئلتي الخفيفة التي لا تضجر؛ -لأن بعض الأسئلة تمغر وتنغر، وتضجر وتسجر-! وأخذ هو في أسئلته البريئة.. حتى وصلنا قاسماً مشتركاً بيننا- في أشخاص نعرفهم، وبلاد نعرفها!


وإنا لنقري الضيف قبل نزوله *** ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك


ثم سألته سؤالاً، كان فيه كلْمه ووجعه وألمه وبثه وشكواه.. سألته عن أهله وولده؟!

فأجاب بتنهد: يا ليت وانا عندهم، نفطر سوى، لكن، ما نسوي، الظروف!


وكل باب وإن طالتْ مغالقهُ *** يوماً له من جميل الصبر مفتاحُ


كانت هذه الكلمة الجارحة لروحه ونفسه وقلبه، هي نهاية وصولنا إلى حيث أريد!


لا يعرف الشوقَ إلا من يكابدهُ *** ولا الصبابةَ إلا من يعانيها!


استأذنته، ودعوت له، وغادرته يفترّ عن بسمة ظاهرة، لكنها تخفي تحتها أواراً وناراً .. إن في قلبه جروحاً غائرة، وقروحاً نائرة .. بل إن روحه ممزعة ومنزعة!


فاصبر على نعمى الحياة وبؤسها *** نعمى الحياة وبؤسها سيانِ


يمسي ويصبح، وينام ويقوم، ويأكل ويشرب.. بمفرده، يعدّ النجوم إن كان يراها .. يبيت على وساوس، ويصحو على هواجس .. يمنّي النفس بالآمال من حين إلى حين .. يؤمل آمالاً ويرجو نتاجها .. يكد ويجد ويجهد من أجل لقمة العيش .. لا يريد غنى وثروة، بل ينشد عفافاً وكفافاً!


والحرب يبعثها القوي تجبراً *** وينوء تحت بلائها الضعفاءُ!



هذه قصة علي، وكم مِن مِثل عَلي هذا.. إنهم كمٌّ كثير كبير وفير، ولكن: لنا ولهم الله، وكفى بالله وكيلاً.


أنا الشقي بأني لا أطيق لكم *** معونة، وصروف الدهر تحتبسُ


ولإخواني: إن استطعتم إدخال سرور، ورسم بسمة، وفتح باب أمل.. فافعلوا، فـ "إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا" و(الراحمون يرحمهم الرحمن)


لا تهين الفقير؛ علّك أن تر *** كع يوماً، والدهر قد رفعهْ!


وإن لم تسطيعوا.. فأسألكم بالله، لا تقلقوا باب فأل، ولا تنكئوا جروحاً كامنة، ولا تنقشوا دمّلاً متورمة، فـ (كما تدين تدان) و(الجزاء من جنس العمل)


وإن عجزت عن الخيرات تفعلها *** فلا يكن دون ترك الشر إعجازُ



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/١١



 

السبت، 9 أبريل 2022

الصـيـام فـي اليـمـن!

الصيام في اليمن!


لا أظن بلداً في الدنيا، يصوم كصيام أهل اليمن.. إنه صوم مختلف لا متخلف .. إنه صوم مليئ بالمتاعب .. إنه صوم مترع بالنواصب .. إنه صوم مكابَد .. إنه صوم شاق، وقد تحمل السالكون المشاق!


الصائمون في اليمن.. تحملوا مشاق الحر، ومحاق الحرب، وغياب الكهرباء المخففة من لفح الهواء، وتغيب الغاز المنضج للطعام، ولا ماء إلا بمتح ونتح، مع الفقر الضارب بطنبه، والجاثم بكلكله!


تخيلوا معي: الكهرباء منقطعة، مع اشتداد الحر المقرّح للأرواح، والمبثر للأجساد، والمخدد للأنفس!

لا أتحدث هنا، عن التكييف، فإنه أعز من عنقاء مغرب، وأبعد من بيض الأنوق!

لا، بل أتحدث عن مجرد المروحة، التي لم يعد لها وجود في بعض ديار الناس، وإن وجدت، فهي للزينة غير المقصودة!


نعم، إن هناك فئاماً من الخلق، لا يملكون حتى المروحة، ناهيك عن المكيف، الذي صار من الضروريات عند العالَم!


لذلك، ترى الناس كأسراب الطير، ينحدرون إلى بعض المساجد المكيفة -وليست بالكثيرة-!

تراهم هناك، وقد ناموا على جنوبهم وبطونهم ووجوههم، والمسجد يضج ويعج عن آخره، حتى -والله- لا تجد لقدمك موطئاً إلا بدعس ودهس!

فاللهم غفراً.


الله أكبر زاد الظلم في اليمن *** من "الجميع وراعي الأمر والزمنِ"


جعلتم كل أصحاب التقى غرضاً *** أفاضل الناس أغراض لذا الزمنِ


تخيلوا معي: انعدام الغاز، فلم يجدوا ما ينضجوا به طعامهم، سوى الحطب "العزيز"، وربما انعدم، فيحرقون الأوراق وما شابهها!

ولم يقفوا مكتوفي الأيدي؛ فقد صنعوا واخترعوا بعض ما اسطاعوا!


ألا ليقل من شاء ما شاء إنما *** يلام الفتى فيما استطاع من الأمرِ



تخيلوا هذا العذاب.. المرأة تقف ربما في الشمس؛ لإيقاد التنور، فإذا ما أرادت الارتياح، لم تجده إلا ما فضل من فيء أو ظل!


فما خضعت ولكن خانني زمني *** ولا ذللت ولكن غاب أنصاري!


لا إله إلا الله.. المرأة في العالَم، تطبخ بغاز وفي ظل، وهي تتأفف وتتجفف، ثم تهرع إلى المكيف؛ لتخفف من تعبها "المزعوم"!


كأن محاسن الدنيا سرابٌ *** وأي يد تناولت السرابا؟!


هذا، لمن لم يكن معها شغالة وخادمة، وإلا، فالجم الغالب، لا يباشرن أعمال الطبخ، ولا يزاولن امتهان الغسيل، بل ربما حتى ولدها، سلّمته إلى خادمتها، فاعجب!


ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها *** سراب تراءى في البسيطة زائلُ


دعنا من هؤلاء ومن خادماتهن، فلكل شأن يعنيه، وأمر يغنيه!

ومع هذا:


كل مَن لاقيت يشكو دهره *** ليت شعري هذه الدنيا لمَنْ؟!



لكن، أين تذهب اليمنية العظيمة -لا تغضبن، فكلكن "عظميات"-.. ولا مكيف عندها، وربما ضنت عليها المروحة أيضاً!

فاللهم جبراً.


طلبت الغنى في كل وجه فلم أجد *** سبيل الغنى إلا سبيل التعففِ


تخيلوا معي: غلاء المعيشة، مع شح الأعمال وربما عدمها بعضهم!


أقسم بالعظيم.. كم من عزيز لا ينهنه جانبه، ولا يدعس له على طرف، يخبرني على استحياء -بدون استجداء-؛ عن حاجته إلى الطعام، نعم الطعام فحسب!


لبست من الحوادث كل ثوبٍ *** سوى ثوب المذلة والهوانِ


تخبرني إحدى قريباتي المقربة جداً جداً، تقول: والله من أول رمضان، لم نذق إلا ربع دجاجة!


إيه يا فخيمة.. إن ربع دجاجة، لا تباع في بلاد الناس، ولن تجدي من يتحدث بها وعنها.. إنهم يعطونها للقطط، وربما كان نصيب براميل المزابل التي تئط وتغط!


أنا الشقي بأني لا أطيق لكم *** معونة، وصروف الدهر تحتبسُ!


دعوني أقف عند هذه التخيلات -التي لا تفيدكم ولن تعود عليكم بطائل، سوى الحزن، ولا أظنكم تحزنون أو حتى تتوجعون:


ولرحمة المتوجعين مرارة *** في القلب مثل شماتة الأعداء


وإن نفسي قد تأذت، وعيني قد تخدت، ولم أكتب هاته الكلمات، إلا للتروح والترويح، والسلو والتسلي، عما أجد من صبابات ومصابات.

فاللهم فرجاً.


يا إخوتي لم تسعكم بالنوال يدي *** والقلب أوسع للعاني وللجهدِ!



ولا أنس، ذلك اليوم، من أحد الرمضانات الرامضة- الذي عملت في صبحه قليلاً.. وإذا بي ألغب وأتعب وأجشب، وكان الجو حاراً، يسف سمومه السامة على جسدي المنهك .. تمنيت نغبة من ماء قراح، لكن صائم .. طلبت جذوة من هواء ندي بَليل؛ فلم أجده .. ذهبت إلى مسجد بجواري؛ فلم أظفر بطائل .. عدت إلى البيت وأنا فاتح فمي، من اللهث!

ولا أدري، كيف قضيت ذلك اليوم، إلا أني قضيته -والحمد لله-.


لكل شيء مدّة وتنقضي *** ما غلَب الأيام إلا من رضي!


وبعد يوم حديد خديد، من الجهد والكد والجد، والحرور والضمور.. لا تكاد الشمس تزيل للغروب، حتى تشرئب الأفئدة، وتلهث الأفواه؛ فرحاً بالإذن الشرعي للإفطار!


ولعل ما قاله صلى الله عليه وسلم، عن فرحة الصائم عند فطره.. يتحقق تمام الفرح عند أهل اليمن! ومعاذ الله.. أن أخصص العام، لكني أقول ذلك؛ لأن سواهم، ربما جاء المغرب ولا زال مرتوٍ؛ لزوال المشقة، ورفع الجهد!


لا بد للمرء من ضيق ومن سعة *** ومن سرور يوافيه ومن حزن


آخر:

ومن عاش في الدنيا؛ فلا بد أن يرى *** من العيش ما يصفو وما يتكدرُ


رب أرنا وأسمعنا وأعلمنا خيرا..



ومما نحمد الله عليه كثيراً.. أننا مع هذه الشدائد.. فلا تكاد تقع عينك، على مفطر مجاهر- فالناس -جميعاً- صائمون: برجالهم ونسائهم، بل حتى صغارهم!

فاللهم حمداً لك.


والنفس إن صلحت زكت وإذا *** خلت من فطنة، لعبت بها الأهواء


يصدّق هذا.. ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيأتي قوم تحقرون أعمالكم إلى أعمالهم. قلنا: يا رسول الله، أقريش؟  قال: لا، ولكن أهل اليمن).

رواه ابن أبي عاصم في (الآحاد والمثاني: ٤/ ٢٥٧) وصححه شيخنا مقبل الوادعي، في (الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين: ١/ ٣٥٦، رقم: ٤٢٦)



يمانيــون غـير أنا حفـاة *** قد روينا الأمجاد جيلاً فجيلا


قد وطئنا تيجان كسرى وقيصر ***   جدنا صاحب الحضارات حمير



هاته وشلة من وبلة.. أردت بها الأنس والإيناس والاستئناس، والنفس والتنفس والتنفيس، والروح والتروح والارتياح، "قل عسى أن يكون قريباً"



وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٩/٨