السبت، 27 نوفمبر 2021

مطاولة أقزام في مصاولة أقرام!

 مطاولة أقزام في مصاولة أقرام!

ما أقبح وأوقح- تطاول بعض المنتسبين إلى العلم= على أهل العلم القناعيس، لا سيما من قضى منهم نحبه!


وليته بيان أخطاء وأغلاط فحسب، بل سباب وشتام، وتجهيل وتضليل!


ولعمري، إن هاته نبتة سوء، وبقلة فساد، وبزرة خراب!


ولله ابن الوزير، في شعره:

فاخسأ فما لك بالعلوم دراية *** القول فيها ما تقول حذام


وقد قدّر لي -والحمد لله على كل حال-.. أن دخلت صفحة تعج بالباطل العاطل، وتمج لعاب الذباب، تجاه قرم قمقام، وسيد سرسور، أضنى حياته، وأسهر ليله، وأجهد لبه، وأتعب قلبه، وأرهق جوارحه، في الذوذ عن حياض السنة المطهرة، والتحذير من الشرك، ومحاربة الرذيلة!


كل هذا.. ثم يأتي لكع خير منه بجع، فيلغ في عرضه، ويلسع ديانته، ويصمه بالجهل والطيش، ونحوها من تيك المقذعات، التي ينأى عنها من علم (أن له رباً، يأخذ بالذنب، ويجازي عليه)!

لا أقول بتعصيم أحد، ولكن لا تكون أعراض العلماء، كلأ مباحاً، لكل سائمة!

ومن أراد الرد والتعقيب، فدونه الطريق، لكن دون سباب وشتام، ممن لا يسواه!


ونظرة عجلى، إلى ردود العلماء بعضهم على بعض.. تدرك سموق الأدب، وبسوق العلم، ومحاولة الاعتذار، وتخريج الأقوال، وذرأ السوء والشر، ومن خير من تنعم فيه نظرك (سير أعلام النبلاء) للإمام الذهبي -رحمه الله- الذي لم يسلم هو الآخر، من نوكى وحمقى، فالله طليبهم.

ونماذج المتأخرين، كثيرة وفيرة، تجدها في تضاعيف سيرهم الذاتية، أو من تواريخ من ورخهم، كالعلامة أحمد شاكر، والعلامة ناصر الألباني ونحوهما من البزل الأقوام.

ولكن، الموعد الله، في كل من تناول أو تطاول، "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله" (ومن قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال)! -عوذاً بالله ولوذاً-.


وكتب: وليد أبو نعيم

١٤٤٣/٤/٢٣


الأحد، 21 نوفمبر 2021

ولَـحِـق لاحـق السـوابـق!

 ولَـحِـق لاحـق السـوابـق! 

#وفاة_علم


بلغني اليوم -وأنا في شغل وحزن، لمرض والدي العزيز -عافاه الله- وفاة العلامة المحقق المتقن محمد أحمد الدالي.. فزاد وجعي وألمي، وازداد حزني وهمي، وعجزت عن كتابة كلمات عنه، أراها واجبة علي، تجاه أمثاله من عماليق التحقيق، ودهاقين التدقيق!

ثم رجعت، إلى كناشتي، فوجدتني كتبت كلمة عنه قبل بره، فشذبتها، ونشرتها.


قلت فيها: العلامة محمد أحمد الدالي.. ربما يكون من أواخر، أو آخر من يتقفى خطا العمالقة الأوائل، من محققي التراث، ومصححي الكتب، وناشري الموات!

أمثال: العلامة عبد السلام محمد هارون، والعلامة محمود محمد شاكر، والعلامة محمود الطناحي، والعلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، والعلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي، والعلامة أحمد راتب النفاخ، والعلامة شاكر الفحام، والعلامة حمد الجاسر، والعلامة عبد الرحمن العثيمين، ولعل آخر هؤلاء الكبار موتاً: العلامة مطاع الطرابيشي -الذي لا زلت أتسنم البحث والفتش والسؤال، عن سيرته العطرة، ومسيرته النضرة، في هذا المهيع اللاحب-.


عذراً، فقد أطلت التمثيل -وهي وشلة من شلال، وقطرة من مطر، وقليل من كثير-.

وإني -والله-، حين أقرأ في تحاقيق أمثال من ذكرت؛ أجد السكينة والطمأنينة، والبهجة والسرور؛ لخبرتهم الطويلة، وحنكتهم الأثيلة، وخطاهم الوئيدة في هذا العلم العقم، الذي دخل فيه الدخلاء؛ فشوهوا جماله، وآذوا قصاده، برداءة ما ينشرون، من التواء في الطريق، وجنوح عن السبيل، ولا غرابة؛ فإن المادة قد طغت وبغت!


ونظرة فاحص، إلى تحقيق الدالي، لـ (جواهر القرآن)؛ تدرك قدر الوكد، الذي ناله في سبيله، وليس وكداً مجرداً، بل وكد، حاديه: العلم والفهم، والسبر والخبر، والخراتة والمهارة، وهكذا بقية أسفاره السفيرة.


رحمك الله أيها المحقق الأشم، وأسكنك فسيح الجنان، وعالي الرضوان.

و"إنا لله وإنا إليه راجعون"


وكتب: وليد أبو نعيم. 

١٤٤٣/٤/١٥

الأربعاء، 10 نوفمبر 2021

وانقطع صوت تحقيق الحديث!

 

وانقطع صوت تحقيق الحديث!


باسم الله، والحمد لله على قضائه وقدره، والصلاة والسلام على رسوله عليه الصلاة والسلام، الذي موته أعظم مصيبة.

وبعد:


فقد وصلني الآن، نبأ وفاة الشيخ الجليل، والمحقق النبيل، مجيزنا: شعيب بن محرم الأرناؤوط.


فهداني ربي، لقوله جل وعز: "إنا لله وإنا إليه راجعون" وهي العلاج للمصائب -وقانا الله المعاطب-.


وأعزي نفسي وإخواني وأبنائه وبناته وأهله جميعاً، قائلاً: أحسن الله عزاءنا، وأعظم أجرنا في فقيدنا العلامة المحدث.


ذاك العَلم العملاق، الذي نذر نفسه للعلم والمعرفة، وتحقيق كتب السنة، ومشرفاً على كمٍّ كبير من الرسائل والمؤلفات والتحاقيق والتخاريج.


كان دمث الخلق، طلق المحيا، نبيل الشيم، لين الجانب، خفض الجناح، لا ينهر أو يقهر أو يدحر.


هاتفته، فهشّ وبشّ، وساءل: الاسم والبلدة والعمل والحال؟

ودعا وبرّك، وختم الحديث بالدعاء والسلام.

رغم، أنه أول تواصل به، ولم يعرفني من قبل، أو يسمع بي! اللهم، إلا: الخلق الكريم، والصدر الرحيب.


وعندما مرض قبل أيام، اتصلت عليه، فأجابني أهله، وطمأنوني على صحته.

ففرحت ونشرت خبره؛ ليفرح المحب.


والآن، ذهلت لخبر وفاته، ولكني تذكرت العلاج الرباني، فاسترجعت مردداً، ودعوت له بالمغفرة والرحمة، ورجاؤنا، أن الله يجزيه خيراً، ويقيه ضيراً؛ كفاء ما ألّف وصنّف، وحقق ودقق.


رحمة الله تغشاك شيخنا الحبيب، ومجيزنا الأديب، ودعاؤنا: أن يسكنك الرحمن في الغرف العالية من الجنان، ونتضرع لربنا سبحانه.. أن يجمعنا في دار كرامته، ومستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

إنا لله وإنا إليه راجعون..


وكتب: وليد بن عبده الوصابي.

١٤٣٨/١/٢٧




الاثنين، 8 نوفمبر 2021

شرح قطعة من "المقامة الكوفية" من "مقامات الحريري"!

 شرح قطعة من "المقامة الكوفية" من "مقامات الحريري"!


غرد الشيخ محمد المهنا:


‏هذه القطعة من ‎مقامات الحريري أتمنّى أن يشترك في شرحها أديبٌ لوذعي، وطبيبٌ ألمعي:

رُبَّ آكلةٍ هاضت الآكل، وحَرَمته مآكِل، وما قيل في المثل الذي سار سائره: (خير العشاء سوافِره)، إلا ليُعَجّل التعشّي، ويُجتنب أكل الليل الذي يُعْشي، اللهمّ إلا أن تَقِد نارُ الجوع، وتحول دون الهُجوع!


فأجبت: لست بأديب لوذعي، ولا طبيب ألمعي، لكني، أردت الإسفار، عن برقع هاته القطعة المنيعة، وصادف رغبة من نفسي وهجسي، فقلت -مستعيناً بالمُعين، ومسترفداً من المَعين-:

‏(رُبّ) من حروف الجر، تقتضي التقليل، مختصة بالنكرة (أكلةٍ) بهمزة قطع، بالفتح: المرة الواحدة، وبالضم: اللقمة، وبالكسر: هيئة الأكل، (هاضت) أي: أضعفت، وسببت قيئاً وإسهالاً، لـ (الآكل) وهو فاعل الأكل، (وحَرَمته مآكِل) جمع مأكلة أو مأكل، وهو الأكل.

وفي المثل: (رب أكلة، تمنع أكلات)

قال ابن العلاف:

كم أكلة خامرت حشا شره *** فأخرجت روحه من الجسد


(وما) والذي (قيل في المثل) العربي (الذي سار سائره) أي: انتشر واشتهر؛ لوجيز عبارته، وبراعة صياغته: (خير العَشاء) أي: طعام العشاء (سوافره)، جمع سافرة، أي: بواكره، وقيل: (خير العشاء، بواصره) أي: ما أبصرته العيون، بضوء النهار، (إلا) أي: سبب تأخير العشاء؛ (ليعجّل) المتعشي (التعشّي)، أي: ليكون العشاء قبل حلول الظلام واحلولاكه (و) يجب عليه.. أن (يجتنب أكل الليل الذي) من صفته، أنه (يُعْشي) أي: يورث العشا والعمش، وهو ضعف البصر، (اللهم) في الأصل: دعاء، وهي هنا: حث للسامع على حفظ القيد المذكور بعدها (إلا) استثناء من منع أكل الليل، في حالة (أن تَقِد) أي: تتقد وتضطرم (نار الجوع) أي: شدته وقوته، وحرارته ومرارته، (و) أن (تحول) نار الجوع (دون) أي: من عدم (الهُجوع) والراحة، فتمنع من النوم.

والمعنى: أن الشره والنهم في المأكل؛ ممنوع في الشرع، ومذموم عند العرب، وربما كان فيه أضرار وأوضار. وعلى ناشد الصحة.. أن يجتنب أكل الليل؛ لأنه يسبب العمش والضعف، إلا إذا آذاه الجوع بقرصاته، ومنعه النوم بزفراته؛ فليأكل، وليخفف.


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤٣/٤/٢

الجمعة، 5 نوفمبر 2021

عـايـش.. الكـتبي المغمـور!

 عايش.. الكتبي المغمور!

#وفاة_علم

"إنا لله وإنا إليه راجعون" لا نقول إلا مايرضي ربنا، وإلا يعلم الله، كم تحسرت وتألمت وتوجعت.

وصلتني الرسالة، وأنا مضطجع، فقمت مستوفزاً، متسائلاً: أحقاً ماتقول أيها المرسل؟

قال: نعم.


لست مكذباً، ولكن: لهول الصدمة، وشدة الفاجعة.. فقد قابلته، قبل أيام قلائل، وهو بكامل صحته، كما أرى، ولكن:

(إذا نزل القضا، ضاق الفضاءُ)


عايش: رجل عجيب، قصير القامة، ضخم الرأس، ممتلئ الجسد، متكفئ الخطى، حاد النظر، حنطي اللون، بشوش الوجه، طيب القلب، منشرح الصدر، أعزب!

نعم، أعزب، وقد تجاوز عمره الأربعين، فسألته مرة: ألا تتزوج؟

قال: لا أستطيع، وليس عندي تكاليف الزواج!

نكست رأسي، حياء وخجلاً؛ إذ كشفت ستراً كان في خفاء!


عايش: رجل نهم بالمطالعة، خبير بالكتب، كثير القراءة، ولا يعرفه إلا من عاشره.

تنظر إليه، فتخال باطنه كظاهره، وهو غير ذلك تماماً، بل يكاد يكون ملماً بكتب مكتبة (الفرقان)، على كثرتها وتشعبها وتنوعها.


لا تسأله عن كتاب، إلا بادرك، باسمه الكامل، واسم مؤلفه، ومحتواه وفحواه، وعن تعلقه بالكتاب الآخر!


حتى كنت مرة أنظر إليه، وأهز رأسي، وأتبسم وأتعجب من استحضاره، قائلاً: ماشاء الله!

فكان يضحك ضحكة المتبسم، إشارة إلى تعجبي منه.


وأذكر مرة، كنت أقرأ في كتاب، وكان متشوقاً لقراءته!

فكنت آتي المكتبة، ويسألني على استحياء -والله- هل انتهيت من الكتاب؟

فأبتسم.

ثم أتيته به، فسألته عنه اليوم الثاني؟

قال لي: لقد أنهيته!

معقول؟

ابتسم، وقال: نعم، سهرت عليه الليل!


عايش: انقطعت أخباره عني، من حين الفتنة التي عصفت باليمن -كشفها الله- لأني جعلت بيتي حلسي، وكتابي جليسي، فلم أذهب المكتبة، ولا إلى غيرها، إلا لما منه بد، من حينها -وكانت قبل جليستي- وهو موظف فيها.


وشاء الله، أن ألتقيه قبل أسبوع، في مكتبة، نعم، في مكتبة (الجيل الجديد) فكان كعادته، هاشاً باشاً، متسائلاً: لماذا لا تأتي المكتبة، يا وليد؟

وصفت له السبب.

ثم سألته عن سبب مجيئه؟

فقال: أنظر الكتب الجديدة، حتى أخبر بها المسؤولين عن المكتبة، لكي يشترونها!

ودعته، وذهبت.


وها أنا اليوم: أفجع بخبر رحيله، وأخبر بنبأ مسيره، فـ لا إله إلا الله "كل شيء هالك إلا وجهه"


رحمك الله يا عايش، أشهد، أنك طيب القلب، نقي الفؤاد، سليم الصدر، خلوقاً، بسوماً، هشوشاً بشوشاً، عفيفاً شريفاً، فقيراً معدماً، غير متكلف ولا مختال.

ليس لديك أصحاب إلا زملاءك، ومن عرفك، من رواد المكتبة:

عشت وحيداً..

ونمت وحيداً..

وها أنت الآن، وحيداً، حاشا عملك الصالح، وهذا ظني بربي الكريم، الرحمن الرحيم، أن يؤنسك في قبرك، ويجعلك في روضة من رياض الجنة، إن ربي على كل شيء قدير.


اعذروني، فقد أطلت، ووالله، لم أنته مما جاش في صدري وحاش، ولكن: ليرحمه ربه،،


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي،،

١٤٣٧/١/٢٢


الخميس، 4 نوفمبر 2021

الدمع السخين على العلامة محمد الأمين! أتكون الذلة والمهانة لذوي العلم والرصانة؟!

 الدمع السخين على العلامة محمد الأمين!

أتكون الذلة والمهانة لذوي العلم والرصانة؟!



جُل ناهلي العلم، وكارعي المعرفة.. يعرف العلامة الكبير، والفهامة الخطير: محمد الأمين الهرري.. بتواليفه وشروحاته، ودروسه وتقريراته، ونكاته وتحريراته، ووشيه وتعليقاته. 


نعم، عرفناه من خلال (تفسير الروح والريحان) الذي جمع فيه أشتاتاً من الفنون، ومكث في سبيله اثنا عشر عاماً!

عرفناه من خلال (مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه) الذي له فيه كرامة!

عرفناه من خلال (الكوكب الوهاج والروض البهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج) الذي سماه به من شرح كتابه!


عرفناه، من خلال تواليفه في شتى فنون العلم والمعرفة، من حديث وعقيدة وفقه ونحو وبلاغة ومنطق إلى غيرها من أفياء العلوم.. التي ناهزت الخمسين أو نافتها، وبلغت أكثر من مائة مجلد!


حياته كلها عمل وجد، ودأب وكد، سواء كان في علم أو عبادة أو تعليم أو تأليف!

تراه بجسده النحيل، وطوله الفارع، وبشرته السمراء، ولكنته الواضحة.. هذا ظاهره.. 

أما باطنه؛ فإنه منطوٍ على روح أبية، ونفس عصامية، وقلب أبيض، وصدر أغيض.. 


ترى الرجل النحيل فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصورُ


ويعجبك الطرير اذا تراه *** ويخلف ظنك الرجل الطريرُ


بغاث الطير أكثرها فراخاً *** وأمُّ الصقر مقلاة نزورُ


فما عظم الرجال لهم بفخرٍ *** ولكن فخره: كرم وخيرُ


هذا عن معرفة الجهبذ النحرير، والمؤلف الكبير، والخريت الخبير، العالم الجبل، والعارف الأمثل، والمدره المفن، والقوي المعن، العابد الزاهد، الورع النفع، الصوام القوام، الباكي من خشية الله، والشاكي إلى مولاه.. 

لا أحب المدح والإطراء، ولكنها حقيقة بجلاء دون مراء:


وليس على الله بمستنكرٍ *** أن يجمع العالم في واحدِ! 


(قال ذلك أبو نواس في مدح الفضل بن ربيع) 


وقال المتنبي -يظهر ابن العميد أنه جمع في علومه علوم أرسطو والإسكندر وبطليموس-:


ولقيتُ كل الفاضلين كأنما *** رد الإله نفوسَهم والأعصُرا


نُسقوا لنا نسقَ الحساب مقدَّما ***

وأتى فذلك إذ أتيت مؤخَّرا


وقال ابن الرومي في ممدوحه:


فلو حلفتُ لما كُذِّبت يومئذٍ *** أني لقيت هناك العُجمَ والعربا! 



وقال أبو مسلم العماني:


عجباً من نفسه تحمله *** فتية وهو على الكون اشتملْ


جمع العالم في حيزومه *** أترى العالمَ في القبر نزلْ! 


وقال الشاعر الدمشقي فتيان الشاغوري في ممدوحه:


يا من هو العالم في دهرنا *** يحويه جسم واحد في مكان



لا أبالغ إن قلت: أن هاته الأوصاف؛ تنطبق على شيخنا العلام؛ فقد كان يدري علوماً لم يسمع بها، ناهيك عن خبرها وسبرها.


ويذكرني بشيخ مشايخنا، بلديي العلامة المتفنن: حسين بن محمد الوصابي، تـ١٣٩٣؛ فقد حدثني شيخي العلامة قاسم البحر -حفظه الله في عافية- بما فحواه-؛ أنه كان يقال عنه، أن عنده ٨٥ علماً، لم يعرف منها علماء عصره، إلا بضع عشر منها!

"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم". 



وبعد؛

ما الذي أبكاني عن الشيخ؟!

الذي أبكاني وأضناني وأشجاني وأصماني؛ هو أني كنت أحسب أن الشيخ الفقيد؛ عاش حياة ملائمة، وحالاً موائمة، لائقة بفضله وعلمه، وسنه وقِدمه!


كنت أظن أن الشيخ كان محترماً ممن حوله!

كنت أحدس أن الشيخ كان يُتفانى في خدمته! 

كنت أخمّن أن الشيخ كان إذا قال سمع له، وإذا أمر أذعن إليه! 


هذا -وايم الله- ما كنت أظن، ولكن "إن بعض الظن إثم" فقد شدهت ودهشت.. حين أن قرأت بالأمس، عن الشيخ ما يشجي ويبكي ويدمي ويحمي، من سوء معاملة، وقسوة عبارة، ورقة حال، ورقيع خلق.. لا أظنني لوحدي الباكي والشاجي، بل كل من سيقرأ، ورزق قلباً على الحقيقة!


ألا يبكيكم.. أن الشيخ المعمر، كان يعامل من بعض مديريه في مدرسته؛ من الفظاظة والجلافة، ما لا يحتملها شاب فتي؟! 


سبحان الله! تذكرت كيف كان الطلاب يخفضون أصواتهم، وينكسون رؤوسهم، تواضعاً لعلمائهم، بين أيديهم! 


ألا يشجيكم.. أن الشيخ المكرم، منع من تدريسه الفجري المجاني، في مسجد المدرسة، فواصَله في حوشها نحو عقد من الزمان! 


سبحان الله! تذكرت قصة جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أنيس، في رحيلهم شهراً كاملاً، من أجل سماع حديث!


ألا يحزنكم.. أن الشيخ المعظم، كاد مرة أن يضرب من أحدهم، وهو يدرس في (فتح القدير) بل رمى -هذا الأصلم- الكتاب إلى الأرض؛ فدخل الشيخ الحمّام، وأخذ يبكي لمدة عشر دقائق أو تزيد! 


سبحان الله! تذكرت قول الشافعي: (كُنت أصفَحُ الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً؛ هيبة له لئلا يسمع وقعها)!

وهذا الأرعن؛ كاد أن يصفع الشيخ! يا رجل، إن لم تعلم قدر العلم، فتقدّر أهله، فلتحترم كِبَر الشيخ وشيخوخته، فلا أظن هذا يحتاج إلى تعليم! 



ألا يشجنكم.. أن الشيخ المفخم، يفصل من المدرسة التي درّس فيها نحواً من اثنين وأربعين سنة!

ثم يرسل إليه بالتهديد بالخروج النهائي إلى بلده؟! 


سبحان الله! تذكرت قول محمد بن واسع: (لا يبلغ العبد مقام الإحسان، حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة)! هذا قوله.

أما فعله: فكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري، ويقول: (قد كان لها معنا صحبة).


صوَّر أحدهم مرارة الجحود والتنكر إلى المحسن الذي يجازى بالحسنة السيئة، فقال:


عجباً لمن ربيته طفلاً *** ألقِّمه بأطراف البنانِ


أعلمه الرماية كل يومٍ *** فلما اشتد ساعده رماني


أعلمه الفتوة كل حينٍ *** فلما طر شاربه جفـاني


أعلمه الرواية كل وقت *** فلما صار شاعرها هجاني



ألا يصميكم.. أن الشيخ الموقر، كان يُبحث عن زلاته العقدية، وهناته العلمية، بل وترصد جائزة لخريت يجوس خلالها؟! 


سبحان الله! تذكرت بعض السلف؛ حينما كان يتصدق بشيء عن شيخه، إذا ذهب إليه، ويقول: (اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تذهب بركة علمه مني)! 



أليس عجيباً أن لا يواسى الشيخ في مرضه الممض، من كثير ممن يعرفه، بل لم يعزِّ أهله -من سلخ شطراً من حياته- في وفاته؟! 


لا أدري ما أقول، سوى ما قاله الشاعر المؤنق أحمد بن الحسين الكندي -وقد كان مُحسّدا-:


حسدوا الفتى؛ إذ لم ينالوا سعيه *** فالكل أعداء له وخصومُ


كضرائر الحسناء قلن لوجهها: *** -كذباً وزوراً- إنه لذميمُ


وقد كان شيخنا الباقعة.. يشعر بهذا، وصرح به أكثر من مرة، في كتاباته لمرؤوسيه؛ رجاء إنصافه! 



وقد اشتكى العلماء قديماً وحديثاً، من هذا الداء العضال، والمرض القتال..


فها هو ابن هشام النحوي، يقول حين تمّ شرح (قطره):

"وهذا آخر ما أردنا إملاءه على هذه المقدمة، وقد جاء بحمد الله مهذّب المباني، مشيّد المعاني، محْكم الأحكام، مستوفى الأنواع والأقسام.. تقر به عين الودود، وتكمد به نفس الجاهل الحسود:


إن يحسدوني فإني غير لائمهم *** 

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا


أنا الذي يجدوني في صدورهم ***

لا أرتقي صدراً منها ولا أَرِدُ


فدام لي ولهم ما بي وما بهم *** 

ومات أكثرنا غيظا بما يجدُ


وقد استشهد بهاته الأبيات؛ الشيخ ابن مهنة، بكتابه في الخطب المنبرية، واعتبره فريداً من نوعه، واعتبر نفسه موضع حسد بسببه!

ينظر: (تاريخ الجزائر الثقافي: ٨/ ١٢١) للمؤرخ أبي القاسم سعد الله. 


والأبيات: نسبها ابن عبد البر في (بهجة المجالس: ١/ ٤١٣) إلى لبيد بن عطار بن حاجب التميمي.


ونسبها الزركلي، في (الأعلام: ٦/ ٢٥٨) إلى محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الحضرمي تـ١٥٥.


وعزاها ابن عاشور، في (التحرير والتنوير: ٣٠/ ٦٣٠) إلى بشار بن برد.


وقال ابن عاشور: "... فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته؛ فيحمله على إيصال الأذى للمحسود؛ بإتلاف أسباب نعمته، أو إهلاكه رأسا". 

(التحرير والتنوير: ٣٠/ ٦٣٠)



وهذا ابن عنقاء اليمني النحوي، يقول -بسبب تعذر وصوله إلى الكتب في مقر إقامته الجديد في "ذي جبلة" وكثرة المعاندین له والحساد-: "هذا ما سنح للخاطر الفاتر، والقريحة القريحة، الجامدة الخامدة في هذا المقام، من غير مراجعة كتاب أصلاً إلا عند التبييض قليلاً، بل تسويداً من رأس القلم، بحسب الفتح الإلهي؛ لتعذر وصولي إلى الكتب، ولو بالعارية، أو الشراء؛ لرقة الحال، وصولة المعاندين على من يواصلني صولة أسد الشرى، ... لأن غالب رجوعي في كل مصنفاتي إلى حفظي، أو ذهني، وما عسى أن يكونا أو يغنيا عني ... ". 


واعجب لبعض من تسمى: طالب العلم، وتزيا بزيهم، وتشبه بسيهم، ولكن أخلاقه في الحضيض، وتعامله بغيض! 


ما وهب الله لامرىء هبة *** أحسن من عقله ومن أدبهْ


هما جمال الفتى، وإن فقدا *** ففقده للحياة أجمل بهْ! 



قال الإمام أحمد بن حنبل: (هم خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا).


وقال أيضاً: (لحوم العلماء مسمومة، من شمّها مرض، ومن أكلها مات). 


وقال ابن المبارك: (من استخف بالعلماء؛ ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء؛ ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان؛ ذهبت مروءته). 


وقال ابن الأذرعي: (الوقيعة في أهل العلم، لا سيما أكابرهم؛ من كبائر الذنوب). 


وقال أبو سنان الأسدي: (إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح). 


وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلم عنده على أحد الناس: (مه.. لا تذكر العلماء بشيء؛ فيميت الله قلبك). 


وقال ابن عساكر: (واعلم -يا أخي- وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب). 


قال ابن القيم: "وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه. وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره.

فما استجلب خير الدنيا والآخرة، بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب".

(مدارج السالكين: ٢/ ٣٦٨)


وأياً كان تذرعهم؛ فإنه ساقط، لا يخرجهم من سوء أدبهم، وبجاحة نفوسهم، وصفاقة وجوههم، وقلة توفيقهم..


وتذكر زوج الشيخ -أم رضوان-: أن فصله من المدرسة -بعد صحبة نصف قرن فيها- كان من أسباب موته؛ إذ أنه تألم غاية منه، وتكدر لبه، وتنكد عيشه؛ فتسارعت إليه العلل، وغادرنا -مؤسوفاً عليه- بعد سنة واحدة من الفصل "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" "يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" والله المرجع والموعد:


وإلى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزانِ



وأخيراً، أدعو بما دعا به بعض النساك: (اللهم صُنْ وجوهنا باليَسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذَمّ من منع، وأنت مِن دونهم وليّ الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء، ياذا الجلال والإكرام). 


وأضيف ما قاله الأديب مصطفى لطفي: (اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك، أمرت فأطعنا، وابتليت فرضينا، فأمطرنا غيث إحسانك، وأذقنا برد رحمتك، وألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين). 


وكتب: أبو نَعيم، وليد بن عبده الوصابي. 

١٤٤١/٤/٢٢

ليلة الجمعة المعظمة، بمكة المكرمة.




ورحل الزاهد العابد .. المكابد المجاهد!

ورحل الزاهد العابد .. المكابد المجاهد!

#وفاة_علم

رحمك الله أيها الفذ الفرد، وأسكنك جنة الخلد.

وكأني بك -بإذن الله- كما قال القائل:

فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قر عيناً بالإياب المسافر


فقد جاهدت نفْسك، وكابدت نفَسك، وأسهرت ليلك، فأنهرت غيلك.

لا أنسى تلك الوقفة التي وقفتها أمامك، وأنت ملقى على فراشك، لا تحيل حراكاً، ولكن كأن عينك لسان ناطق!


لا أنسى تلك الضمة الرفيقة الرقيقة على يدي بيدك المرتعشة، وكأنك تشير لي بالجلوس.. وأنت مضنى الجسد، لكنك مترع القلب، مشرح الفؤاد.


كم تمنيت أني جالستك وثافنتك، ولكن: قبح الله مقطعي الأوصال، ومفرقي الأخلال!


آهٍ شيخي؛ ليهنك العلم، ولتهنك التواليف، ولتهنأ -بإذن الله- بنومة العروس التي -لربما- لم تشغل بها في حياتك!

ولم يشغلك عن العلم أنيق روض، أو متين حوض!


ولم يشغلك عنه أنيق روضٍ *** ولا دنيا بزخرفها كلفتا


وعزائي للعلم وطلابه، وأولاد الشيخ وأحبابه، ولداته وأترابه، والمسجد الحرام ومحرابه، والبيت وترابه.. "إنا لله وإنا إليه راجعون".


أجزم؛ أنك لم تقدر حق قدرك، ولم توفِ حق سعيك؛ لكن: الله خير مكاف ومواف، ومواس ومؤاس، وأما الخلق؛ فهم مصدر الضر والغر والحر والشر "إن شانئك هو الأبتر".


وكتب -الأسف-: أبو نعيم وليد الوصابي

١٤٤١/٣/٧