الاثنين، 5 يوليو 2021

الشاطبي.. حنفياً لا صحفياً!

 الشاطبي.. حنفياً(١) لا صحفياً!


أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بـ الشاطبي، تـ ٧٩٠.


هو الأُمام الكبير، والهمام الخطير، والقرم الأبرع، والنور الألمع، "الإمام العلامة المحقق، القدوة الحافظ الجليل المجتهد. كان أصولياً مفسِّراً فقيهاً محدِّثاً، لغوياً، بيانياً، نظَّاراً، ثبتاً، ورعاً صالحاً زاهداً، سُنِّياً إماماً مطلقاً، بحَّاثاً مدقِّقاً جَدَلياً، بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحقِّقين الأثبات، وأكابر الأئمة المتقنين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون: فقهاً، وأصولاً، وتفسيراً، وحديثاً، وعربية وغيرها".(٢)


هذه أوصاف عَلَم لـ عَلَم، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل! و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".


عاش الشاطبي.. حياته بين العلم والتعليم، والدرس والتفهيم، والمناظرة والحجاج، والكتابة والبحث، والتأليف والتحقيق..

فكان من تواليفه الفخام الجزال:


-(الموافقات) وهو في أصول الفقه، وقد بزّ فيه الأقران، وبدّ به الأعيان، حتى غدا مرجعاً ومصدراً لكل باحث ومحقق في هذا العلم العقيد.


وقد نظم كتاب الموافقات، العلامة ابن عاصم الغرناطي، تـ ٨٢٩، وأسماه: (نيل المنى في نظم موافقات الشاطبي)


ولله در العلامة حبيب بن الزايد، حيث يقول -ملتمساً من العلامة باب بن الشيخ سيدي، أن يُعيره "الموافقات"-:

يا سيداً ألْفى الأصول مَنَالها *** صعباً فذلَّلها، وقال: أنا لها

وإذا المسائل أحجمت وتقاعست *** عنها جحاجِيح الرجال أنالها

بـ "موافقات الشاطبي" النفس قد *** عَنِيَتْ، فهل من حيلة لأنالها؟


رضي الله عنهم، فهؤلاء من يعرف متين العلم ورصينه، من غثيثه ورثيثه!


-وله (الاعتصام) في إنكار البدع والحوادث، وحسبك بهذه المعلمة العالمة في هاته البابة المزلّة المدحضة.

أتى بقواعد وضوابط في هذا الفن العويص، جعلت منه مجدداً في ذلك.

ولكنه لم يكمله، بل مات قبل إتمامه، ولعل النقص، كان قليلاً.


-وله (الإفادات والإنشادات) في باب الملح والنوادر، والفوائد والنكات، وظني، أنه جعله مروحاً ومحمضاً عن نفسه التي ألفت عقيد العلم وعقده -كما يقسّم هو العلوم-.


-وله (عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق) في باب فن من فنون اللغة العربية الكثيرة.


-وله (المجالس) وهو شرح كتاب البيوع من (صحيح البخاري) قال عنه التنبكتي، في (الابتهاج: ٤٩): "فيه من الفوائد والتحقيقات، ما لا يعلمه إلا ﷲ".


-وله فتاو كثيرة، وأجوبة وفيرة، منثورة ومتناثرة، في بعض الدواوين والمجامع، ومنها، في كتاب (المعيار).


كان الشاطبي -رحمه الله- إمام عصره في المغرب، بل يعدّ مجدداً في عصره وبابه.


ولم يكن متعصباً لمذهب الأشاعرة، وإن كان يؤول بعض الصفات، ويفوض البعض، لكنه أثبت البعض أيضاً.


وقد استفاد، من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يكن يصرح باسمه؛ نظراً لما في ذكره في آنه، من الأذى الشديد عليه.

ويدل عليه، قوله: "ليس كل ما يعلم، مما هو حق، يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ... ومن ذلك: تعيين هذه الفرق، فإنه وإن كان حقاً، فقد يثير فتنة، كما تبيّن تقريره، فيكون من تلك الجهة، ممنوعاً بثه"!

(الموافقات: ٥/ ١٦٧)


ويبدو استرفاده، من ابن تيمية.. عند المقارنة بين كتبهما، فقد نقل في بعض المواضع منه بالحرف، وأيضاً: فإن بعضاً من المسائل التي أثارها ابن تيمية في بعض كتبه، أثارها الشاطبي، بأسلوبه البديع، متصرفاً فيها ما شاءت له حكمته وحنكته.


ويعدّ.. منشئ علم أصول البدع ومفترعه، وإن سبقه غيره بالتأليف، إلا أنه قعّد قواعده، وأحكم بنيانه، فغدا ظلالاً وارفاً، يتفيؤه من جاء بعده، ويتقيؤه من انفطر كبده!

دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً *** من مات من غيظه منهم له كفنُ!


وهو ضارب في جميع العلوم، بسهم وافر، وحظ كبير، تدل على ذلك تواليفه وفتاويه.


ولم يشرع في التأليف، إلا بعد أن أحسن الشراعة، وأتقن السباحة، بل ومهر الملاحة.


وبهذه السمات والشيات.. ابتلي كثيراً، وأوذي بسبب تحذيره من الابتداع في الدين، وصرْخه في وجوه المبطلين، وهذه عادة أهل الحق في كل زمان ومكان، فاللهم صبراً وجبراً.


وقد كان حكيماً، فيما يكتب ويؤلف، فلم يكن قصده الكتابة فحسب، بل كان لا يكتب إلا في علم وحلم وسلم، فاسمعه يقول: "ليس كل ما يعلم، مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علما بالأحكام- بل ذلك ينقسم، فمنه: ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه: ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص".

(الموافقات: ٥/ ١٦٧)


رحمه الله، ما أفهمه وأحكمه، ثم يأتي شيخ في قرننا الغابر الغائر؛ ليصف هذا المجتهد المجدد، بـ الصحفي!

اللهم غفراً مما حل بنا ويحل، في كل آونة وآنية، من هراء القول، والإغراء بعلمائنا الأعلام، الذين بذلوا دم المهج، وسكبوا ماء العيون؛ ليرفعوا عنا الجهل العائب، ويكشفوا لنا الطريق اللاحب.. أيكون جزاهم، الطعن والتهوين، اللهم لا، إلا مَن أعمى التعصب عينه، وأصم الصمم أذنه، وأغن الغين قلبه، وأكل الحزاز صدره -عياذاً بالمعيذ-.


ورحمة الله على أبي إسحاق، فقد قال -وكأنه آنس قرب هؤلاء الأدعياء-: "وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين، إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد: غلطاً أو مغالطة".

(الموافقات: ٣/ ٢٨٧)


وقال -برد الله مضجعه-: "ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺒﻠﻎ اﻟﻤﺘﺄﺧﺮﻭﻥ ﺃﺑﺪاً، ﻣﺒﺎﻟﻎ اﻟﻤﺘﻘﺪﻣﻴﻦ؛ ﻓﺨﻴﺮ اﻟﻘﺮﻭﻥ اﻟﻘﺮﻥ- اﻟﺬﻳﻦ ﺭﺃﻭا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﺁﻣﻨﻮا ﺑﻪ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﻭﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮﻥ اﻷﻣﺮ ﺃﺑﺪاً، ﺇﻟﻰ ﻗﻴﺎﻡ اﻟﺴﺎﻋﺔ، ﻓﺄﻗﻮﻯ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻫﻞ اﻹﺳﻼﻡ ﻓﻲ ﺩﻳﻨﻬﻢ ﻭﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﻭﻳﻘﻴﻨﻬﻢ ﻭﺃﺣﻮاﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ اﻹﺳﻼﻡ، ﺛﻢ ﻻ ﻳﺰاﻝ ﻳﻨﻘﺺ ﺷﻴﺌﺎً ﻓﺸﻴﺌﺎً ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ اﻟﺪﻧﻴﺎ"!

(الاعتصام: ٢/ ٩٠)


رحمك الرحيم- أبا إسحاق، فقد نقص العلم والعلماء، وبخس الفقه والفقهاء، ناهيك عن العمل، فذاك أعنق من عنقاء مغرب، وآبق من بيض الأنوق!


يالله، أي زمن نحن فيه.. حين يتطاول الأقزام على الأقرام، نعم أقزام بالنسبة لأولئك الأعلام!


ورحم الله أبا عمرو بن العلاء، تـ ١٥٤، حين قال: (إنما نحن فيمن مضى، كبقل في أصول نخل طوال)!

(فضائل القرآن: ١/ ٣٧٣) للمستغفري 


الله، أي تشبيه هذا، ولم يبعد بعدُ عنهم طويلاً، لكنه العلم والعمل والورع، وإذا ذهب بعضها، فالنقص حيث نقص.


ويقول ابن أبي زيد القيرواني المالكي: "‏‏أيها الرجل المُتجاسر: ارفق في تأملك، وعوّد نفسك أن تظن بها التقصير عن فهم الراسخين من السلف المتقدمين؛ فإن ذلك يثنيك عن الإعجاب بنفسك، والتقصير بسلفك، والله المستعان".

(الذب عن مذهب مالك: ٥٠٧/٢)


غفر الله لك أبا زيد، فقد جاء من توخر وتبختر؛ ليلوك بفمه الأعوج، ذاك الاسم اللامع، بكلمات لا تمتّ للأدب بصلة، ولا للعلم بزنة!

وكأنه يخاطب غمراً أنوكاً، من بني زماننا!

وهذا، آية الخذلان، وسلم الحرمان، ولو صدق؛ لترحم على السابق، وأحسن النقد، إن كان ثَمّ، بعلم وحلم وسلم، بعيداً عن التشغيب والتشعيب والتعييب!

فاللهم بُعداً عن هؤلاء البعداء.


ووفقني الله وإياكم لذكر الأولين بالجميل، وهو الهادي إلى سواء السبيل.


هذه نفثة بثثتها الآن في جلسة هادئة هادية، ولم أقصد لها، لكني لم أتفصى منها.

وإلى هنا، أنكفف عن القول، وأكف الشباة عن الصول، فقد كانت ساعة صفاء -كثرها الله- أزعم أني غضبت لله، وذدت عن أولياء الله.

وأرجو الله سبحانه.. أن يوفقني لصالح القول والعمل، ومعرفة الفضل لأولي الفضل "والله يختص برحمته من يشاء".


"وأسأل الله ذا الحول والقوة؛ أن يزيننا بلباس التقوى، وصدق اللسان، وأن يعيذنا من العجب ودواعيه، ويعيننا على ما نويناه وتوخيناه؛ ويجعلنا ممن توكل عليه فكفاه، وحسبنا هو ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عليه نتوكل وإليه ننيب".(٣)


و(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)


وكتب: أبو نعيم وليد الوصابي.

١٤٤٢/١١/٢٦


ح...........

(١)حنفياً، نسبة إلى ملة إبراهيم عليه السلام، وليس إلى مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، فلم يكن حنفياً، بل كان مالكياً -كما سبق-.

والحنفية والحنيفية: الميل عن الباطل والفساد والزيف والشر، إلى الخير والرشاد والهدى والاستقامة، قال 

تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفاً".


(٢) (نيل الابتهاج: ٤٦) للتنبكتي.


(٣) (تهذيب اللغة: ١/ ٣٤- ٤٥)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق